د.اشرف الصباغ
صورة لمسرح البالون
لماذا تُجَرِّفون ثقافتنا واقتصادنا وخيرات بلادنا؟!
لقد مرت جرائم رملة بولاق في وسط مِحَنٍ أخرى، وتم تشويه المنطقة فوق تشويه العشوائيات، فنبتت هناك أشكال مرعبة هندسيا وجماليا. أشكال وبنايات مثل الوحوش الخرافية تطل على النيل وتتحداه وتقمعه. بل وتُخْرِج لسانها لبنايات ومعمار الزمالك وما تبقى من مساحات خضراء في هذا الحي العريق والجميل والذي نتمنى أن تكون مصر كلها مثله، وليس القاهرة فقط.
دمرتم رملة بولاق مرتين. الأولى عندما أغمضتم عيونكم وتركتم العشوائيات تتكاثر وتشكل الذوق العام والنسق الطبيعي للحياة وطريقة التفكير. لقد كانت مؤامرة طويلة الأمد تواصلت في هدوء مع توالي الأنظمة السياسية المنحطة والعيقة والمسبدة والقمعية. والمرة الثانية عندما أردتم إزالة العشوائيات لصالح عشوئيات أخطر وأحقر وأشد انحطاطا لتظهر تلك الوحوش الخرافية التي تضلل العالم، وتضلل الوعي العام الداخلي، بأن القاهرة عاصمة مالية وأن اقتصاد البلاد على ما يرام.
بعد رملة بولاق، تسللتم (سلطة ورجال أعمال وموظفون مرتشون ومؤسسات وهمية، ومستثمرون جهلة منحطون) إلى مثلث ماسبيرو من جهة، وجزيرة الوراق من جهة أخرى. وفي الوقت نفسه تتركون مصر الفاطمية للمجاري والعشوائيات، تمهيدا لتطبيق سيناريو رملة بولاق فيها لاحقا.
سأقول لكم، يا حثالة البشر، يا أوسخ مَن شهدت مصر في تاريخها، يا أجهل من الدواب وأحقر وأحط من الوحوش الكاسرة، في اليونان ستجدون مساحات ضخمة بها بعض الأحجار وعامود بقى منه صفان من الأحجار، وعشرة أماكن افتراضية عليها أوراق تحكي قصتها، كلها متجاورة يلفها سور، ولها باب عليه كشك صغير لبيع بطاقات الدخول. هذا موقع أثري أغلبه في الكتالوج الذي يباع مع التذكرة. نفس المشهد يمكن أن يتكرر في أسبانيا وفي إيطاليا وفرنسا بدرجات مختلفة ومتفاوتة. فهل تعرفون عدد السائحين في تلك البلاد سنويا؟! بين ٧٠ و١٠٠ مليون شخص لكل دولة على حدة!!!!
إسبانيا حافظت على كل حارة وزقاق وبيت منذ أيام الاحتلال العربي - الإسلامي، وتقوم بترميمها والاهتمام بها سنويا. إيطاليا وفرنسا تحافظان على الأحياء والمناطق والمباني القديمة وتنفق عشرات الملايين من اليوروهات والدولارات، لأنهما تعرفان جيدا أن السياحة ستعوض هذا الجانب المالي - المادي، بينما ستتأكد القوة الناعمة لهما في العالم، وستسكن الثقة والقوة الروحية أرواح مواطنيهما. ورغم كل ذلك، تتوسع هذه الدول في بناء مساحات أخرى وفق أحدث الطرق والأساليب والنماذج وبما يتوافق مع علم الجمال والذوق الإنساني، وبما لا يشكل أي خطر على التاريخ أو الجغرافيا أو أحوال الناس وأوضاعهم، وعقولهم وأرواحهم بالدرجة الأولى!!
هل تعرفون، يا جهلة يا أعداء مصر والمصريين، كم عدد الذين يقومون بالسياحة الثقافية في روسيا والنرويج وألمانيا وأمريكا وفرنسا والهند؟! إن روسيا التي تمر بتسعة أشهر جليد وثلاثة أشهر مطر وقرف في العام، يأتيها ما يقرب من ٣٠ - ٤٠ مليون سائح ثقافي سنويا؟! فهل تعرفون كم هو عمر روسيا؟! بالقطع ليس ٧ آلاف عام، يا جهلة، يا حثالة البشر، يا جراد الصحاري! هل أحدثكم عن ألمانيا والهند وفرنسا وتركيا، أم أنكم تعرفون وتدفنون رؤوسكم في الوحل، وتدفنوننا نحن وأولادنا وأحلامنا وثقافتنا وتاريخنا وبلادنا؟!
نعود إلى موضوعنا الأصلي… هل جاء الدور على المسارح والمباني التاريخية القريبة من كورنيش النيل، أو التي تطل عليه مباشرة؟! ما ذنب مسرح البالون والسيرك القومي ومسرح السامر، وما خفي كان أعظم!!! هل تستطيعون، يا حثالة البشر، أن تشيِّدوا مثل هذه المباني؟! أم تفتقت أذهانكم العرجاء الغبية على حيل جديدة بنقل هذه المباني بتاريخها وجغرافيتها وحضورها الروحي والإنساني والثقافي عبر أجيال عديدة، بنقلها إلى أحياء شعبية وعشوائيات بحجة نشر الثقافة؟!!! أ ليس لديكم طرق أخرى لنشر الثقافة سوى هدم المباني التاريخية والمسارح وتدمير المعمار والصروح الثقافية والفنية من أجل نشر الثقافة؟!!! ألا تخجلون من أنفسكم ومن حيلكم المفضوحة ومن انحطاطكم وتشويهكم لنا ولثقافتنا ولتاريخنا؟!
هل تعرفون، أيها الجهلة، تاريخ مسرح البالون وماذا قدم من أعمال؟! هل تعرفون قيمة المبنى نفسه؟! هل تعرفون، يا حثالة البشر، ما هو السيرك القومي المصري في مكانه هذا تحديدا، وما هي قيمة هذا الصرح في نفوس وأرواح أجيال مصرية عديدة؟! وماذا عن مسرح السامر! أين وعودكم بافتتاحه، ولماذا أجلتم ذلك شهر وراء شهر وسنة وراء أخرى؟! وما الذي يمنعكم من بناء مسارح وبيوت ثقافة في الأحياء الشعبية؟! ما الذي يمنعكم من إيقاف امتداد العشوائياتت ومنعها؟! أم أنه من أجل ذلك يجب هدم المسارح والمباني التاريخية وتدمير المعمار والتراث الثقافي، وبالذات ذلك الذي على كورنيش النيل وفي المناطق التي تغري جراد الصحاري والجهلة حاملي أجولة الأموال والحمقى من مسؤولين وموظفين مرتشين؟!!
أنتم جهلة ومنحطون، تدمرون تاريخنا، وتهدرون طاقاتنا، وتدفنون قوانا الناعمة، وتسلمون عقولنا للتجريف والتصحر. أنتم تمارسون الفساد والإجرام بالسليقة، وتتحدون المسارات الطبيعية للتاريخ، وتحتقرون المصريين وثقافتهم وطموحاتهم وأحلامهم وآمالهم بحياة كريمة يستحقونها هم وأولادهم. فمن الذي سلَّطكم علينا، ولماذا كل هذه القسوة، وكل هذا الفساد والإجرام والجبروت، ولماذا تنتقمون بكل هذه القسوة والوحشية منا ومن أولادنا وثقافنا وتاريخنا؟!
مجلة الوعي العربي