بقلم الكاتب والباحث: محمد السني
ألقينا الضوء سابقًا على “بريق شعار الحرية” إبان الثورة المصرية (25-30)، ثم تطرقنا إلى ولادة مصطلح الحرية، وتطور مفهوم
الحرية خلال الحضارة الإغريقية، والحضارة الرومانية، والمفهوم المسيحي للحرية، وعصور الظلام الأوروبية، والحضارة الإسلامية، والحضارة المصرية القديمة، والعصور الوسطى المصرية، وعصري النهضة والتنوير الأوروبيين، وكل من الليبرالية الكلاسيكية، والليبرالية الاجتماعية، والليبرالية الجديدة، وحقوق الإنسان، والاشتراكية العلمية، والاشتراكية الديمقراطية، وما بعد الحداثة، والعثمانيين، والحملة الفرنسية، ولحظة الوعي المصرية الأولى، ومرحلة التأصيل الفكري للحرية، ومرحلة الزخم التنويري، والتيار الاشتراكي العلمي،والإسلام السياسي، ومقالتي هذه عن “التجربة الناصرية”.
كما أسلفنا سابقًا، كانت المحاولة الأولى لإنضمام مصر إلى مجموعة الديمقراطيات الحديثة متزامنة مع نشأة البرجوازية المصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر،وتحديدًا في الثورة العرابية عام 1881م، بمشاركة كافة فئات المجتمع،إحتجاجًا على سوء الأحوال المعيشية وتنديدًا بالتدخل الأجنبي، وطرحت تلك الثورة على الخديوي توفيق مطالب محددة من بينها مطالب ديمقراطية صريحة، كان أهمها تشكيل مجلس شورى للنواب على غرار الديمقراطيات الأوروبية، لكن سرعان ما جثم الإحتلال البريطاني على مصر بعد أقل من عام ليفرض على المصريين الإهتمام لفترة طويلة بقضية الاستقلال وتقديمها على قضية الإصلاح السياسي، ورغم ذلك شهدت مصر ميلاد عدة أحزاب كانت طليعة التنظيمات السياسية في مصر في العصر الحديث، وكان “حزب الأمة” باكورة تلك الأحزاب السياسية في مصر وأُنشأ عام 1907م بقيادة أحمد لطفي السيد وكان يمثل طبقة كبار الملاك، ثم “الحزب الوطني” بقيادة مصطفي كامل، وهذان الحزبان كانا أكبر حزبين من حيث الشعبية،ثم تلاهما عدة أحزاب مثل حزبالإصلاح علي المبادئ الدستورية الذي أسسه الشيخ علي يوسف الذي قام بتأييد الخديو عباس حلمي، ثم الحزب الدستوري بقيادة إدريس بك راغب، وحزب النبلاء بقيادة حسن حلمي زاده، والحزب المصري بقيادة لويس أخنوخ، والحزب الجمهوري بقيادة محمد غانم، ثم تكونت أحزاب ذات توجه اشتراكي مثل الحزب الاشتراكي المباركي، وحزب العمال، ثم جاءت ثورة 1919 لتتصدى للاحتلال، وأسفرت جهودها بعد ثلاث سنوات عن إلغاء الحماية البريطانية، وولادة حزب الوفد وهو حزب الوطنية المصرية آنذاكبلا منازع، الأمر الذي شجع المصريين على الضغط من أجل بناء دولة ديمقراطية حديثة، وهو ما تجسد في وضع دستور 1923 الذي دشن حتى 1952 أكثر مراحل مصر الحديثة اقترابًا من الممارسة الديمقراطية، إلا أن الظروف الاجتماعية والسياسية التي سادت مصر ما قبل ثورة 1952 شابها عيوب كثيرة، كان أبرزها تفشي مظاهر الظلم الاجتماعي،وعجز النظام السياسي قبل الثورة من تحقيق المطلب الرئيسي للمصريين وهو الاستقلال الوطني،والسيطرة المطلقة لتحالف الاستعمار والإقطاع والرأسمالية على مقدرات الشعب المصري وثرواته، مما أعاقالممارسة الديمقراطية من أن تتعمق وتنمو إلى الحد الذي تستطيع فيه الجماهير امتلاك المقدرة الشعبية على فرض إرادتها، وقد وفرت هذه الظروف الشروط الموضوعية للتغيير، ومهدت الطريق لحركة الضباط الأحرار عام 1952 للإضطلاعبمهمتي الاستقلال والتغيير.
بدأت حركة الضباط الأحرار منذ البداية بانحيازها للفقراء وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق الإصلاح الزراعي، وقوانين حماية العمال من الفصل التعسفي والبرنامج العاجل لمعالجة قضية البطالة وغيره،وحاولت القيادة الثورية الجديدة التخطيط للقضاء على أسس النظام القائم من خلال مواجهة الأحزاب التي كانت موجودة، فألغى مجلس قيادة الثورة التعددية الحزبية وصادر أموال الأحزاب وممتلكاتها ومقراتها، باستثناء جماعة الإخوان المسلمين التي تحالفت معها في البداية، ولكنها سرعان ما اصطدمت مع السلطة الجديدة فتم حلها في عام 1954 بعد محاولتهم الفاشلة لاغتيال الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، وتم محاكمة قياداتها،ونشب صراع شديد داخل مجلس قيادة الثورة حول خارطة طريق الثورة، فقد كان هناك جناح يقوده بعض الضباط مثل خالد محي الدين ويوسف صديق بتأييد ومشاركة محمد نجيب،دعوا إلى عودة القوات المسلحة إلى ثكناتها بعد إزاحة الملك والدعوة لإصلاح الحياة السياسية،وكان هناك تيار آخر رفض هذه الدعوات وسعى إلى المضي قدمًا في الإجراءات الثورية وعدم العودة إلى الآليات السابقة على الثورة ومن ضمنها الديمقراطية الليبرالية، مما يعنى مصادرة الحياة السياسية والحزبية بالكامل، وانتصر الفريق الثاني بزعامة جمال عبدالناصر،والتي انتهت أيضًابتحديد إقامة محمد نجيب، وإبعاد الجناح الذي انحاز إلى عودة الحياة النيابية وعودة الجيش إلى ثكناته، ليسدل مجلس قيادة الثورة بقيادة عبدالناصر الستار على الصراع على السلطة ويحسم المعركة لصالحه، وتدخل مصر مرحلة جديدة من مراحل الحكم والحياة السياسية عبر (التنظيم الواحد) الذى بدأ بهيئة التحرير ثم الاتحاد القومى ثم الاتحاد الاشتراكى، وتميزت تلك المرحلة بأنها مرحلة تحرر قومي من الاستعمار، ومنها استمد جمال عبد الناصر أوضح مميزاته، كان فيها قائد معارك التحرر الوطنيوالعربي ضد الاستعمار القديم والجديد والاستيطاني والتبعية بكل أنواعها، وقد استغرقت تلك المعارك حياته كلها، فكان نتيجة لذلك إصرار عبدالناصر على الوحدة التنظيمية للتنظيم السياسي، الذي أثر في موقفه من الأحزاب التي لم يسمح بتعددها أبدًا، ثم تدعم هذا الإتجاه مع استمرار فرض حالة الطوارئ بما يستدعي ذلك من تركيز للسلطة، وكذا صعود القوات المسلحة إلى المراكز الأولى من مراكز القوى في الدولة، على أساس أنها المسؤولة عن سلامة الوطن، وتضخمت أجهزة الأمن الداخلي (أمن الدولة)، والخارجي (المخابرات العامة)، وخضع الإعلام ووسائله لمقتضيات معارك التحرر.
يُعتبر تنظيم الضباط الأحرار التنظيم الأول للثورة، وتمثلت أهدافة في المباديء الست المعروفة، وهي القضاء على الاستعمار، والقضاء على سيطرة رأس المال على الحكم، وإقامة حياة ديمقراطية سليمة، وإقامة جيش وطني قوي، وإقامة عدالة اجتماعية. وتقدمت الثورة بكل ثبات وتحدي لتحقيق تلك الأهداف بشكل أقرب إلى الإعجاز، ولكنها ظلت مترددة ثم رافضة لمبدأ إقامة حياة ديمقراطية وحزبية، بذرائع وتبريرات كثيرة ومتعددة، ولكن كان عبدالناصر دائما يملك ما يقوله، والذي يجب علينا أن نطلع عليه ونفسره (دون تبرير) بل ونعايشه حتى نصل إلى رؤية موضوعية للحكم على أعظم تجربة مصريةبقيادة أعظم من أنجبت الطبقة الوسطى المصرية وهو جمال عبدالناصر، ومحاولته المخلصة والجادة للتقدم والتطور والنهوض بمصر.. وكان التنظيم الثاني للثورة”هيئة التحرير” التي قامت كأول مشروع للثورة لحل مشكلة الديمقراطية في مصر، كما رآها عبدالناصر، والتي ترفض التعدد التنظيمي بشكل مطلق، وإن كانت لا ترفضتعدد الأفكار ووجهات النظر بل وتحميها أحيانًا كثيرة طالما ظلت في حدود الرأي والفكر، ثم تحول تنظيم هيئة التحرير إلى “الإتحاد القومي” الذي يعتبر التنظيم الثالث للثورة،ومنح سلطات دستورية، ويُعرف عبد الناصر الإتحاد القومي بقوله “وهذا الإتحاد القومي عبارة عن جبهة وطنية تجمع بين أبناء هذا الشعب، الناس حرموا من حريتهم أيام كانت هناك برلمانات زائفة، كنا كلنا نشكو منها، ونعرف أنها لا تحقق رغباتنا، ولا تعمل لصالحنا، ولكنها تعمل لصالح فئة قليلة من المستغلين أو من الإقطاعيين، أو من الحاكمين الذين يريدون حكمًا وشهرة وسلطانًا، ولن تكون هناك حرية سياسية للانتهازيين أو الرجعيين أو أعوان الاستعمار، إذن الإتحاد القومي يشمل أبناء هذه الأمة”،ولكن ظل هذا التنظيم فضفاضًا أو “مهلهلًا” حسب تعبير عبدالناصر، حيث جمع في طياته الكثير من العناصر اليمينية والرجعية، وبعد وصول عبدالناصر إلى نتيجة نهائية بعدم جدوى التعاون مع الرأسمالية المحلية، ناهيك عن الرأسمالية الأجنبية، أصدر “ميثاق العمل الوطني” ثم أصدر قرارات التأميم وإقامة التنظيم السياسي الرابع للثورة وهو “الاتحاد الاشتراكي العربي” الذي أُطلق عليه في حينه تعبير “ثورة التصحيح”، ويصفه عبدالناصر بقوله “سنعمل اشتراكية، والاشتراكية حياة، الاشتراكية عدالة اجتماعية، والعدالة الاجتماعية معناها أني… أعدت توزيع الثروة، في إعادتي لتوزيع الثروة، من هو الشعب؟ هو جميع الفئات التي تساند الثورة الاشتراكية، وتساعد الثورة الاجتماعية والبناء الاشتراكي… أعداء الشعب هم جميع القوى والجماعات التي تناقض هذه الثورة الاشتراكية والثورة الاجتماعية، واللي هدفها طبعًا القضاء على هذا النظام الاشتراكي، والعودة إلى نظام رأسمالي أو مستغل، أو نظام مبني على أساس ديكتاتورية رأس المال”، ويعتبر هذا الكلام موقف واضح من مسألة الديمقراطية حسب مفهوم عبدالناصر، فهو يوحد بين الديمقراطية والاشتراكية، ويأخذ من المضمون الاشتراكي مقياسًا موضوعيًا لفرز الشعب وهم كل من له مصلحة في الاشتراكية، من أعداء الشعب وهم أعداء الاشتراكية، فتكون كل الحرية والديمقراطية للشعب، ولا حرية ولا ديمقراطية لأعداء الشعب.
بعد السنوات العشرة الأولى من عمر الثورة، والتي أنتجت حصيلة هائلة من التجربة والخطأوالتصحيح، تبلورت رؤية عبدالناصر عن الديمقراطية الاجتماعية كما ورد في “الميثاق” في 21مايو عام 1962،بإقرار أن الديمقراطية إذا كانت هي الحرية السياسية، فإن الاشتراكية هي الحرية الاجتماعية.. وأن هناك ضرورات لا محيص عنها كقواعد انطلاق للمرحلة المقبلة، وهي:أولا فتح المجال للتفاعل الديمقراطي بين قوى الشعب العاملة وهم الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية، في مقابل تحالف رأس المال المستغل لتحقيق الديمقراطية السليمة محل الديمقراطية الرجعية.. وثانيًا إن الوحدة الوطنية التي تصنعها تحالف هذه القوى هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لإمكانيات الثورة والحارسة على قيم الديمقراطية السليمة.. وثالثًا إن الحاجة ماسة إلى خلق جهاز سياسي جديد داخل الاتحاد الاشتراكي العربي، يجند العناصر الصالحة للقيادة وينظم جهودهاويبلور الحوافز الثورية للجماهير، ويتحسس احتياجاتها، ويساعد على إيجاد الحلول الصحيحة لهذه الاحتياجات، وفي هذا السياق بدء عبدالناصر عام 1965 يمهد لإنشاء “منظمة الشباب الاشتراكي العربي” بقوله “إن المهمة الأساسية التي يجب أن نضعها نصب عيوننا في المرحلة القادمة، هي أن نمهد الطريق لجيل يقود الثورة في جميع مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أكثر وعيًا من جيل سبق، أكثر صلابة من جيل سبق، أكثر طموحًا من جيل سبق”.. ورابعًا إن سلطة المجالس الشعبية المنتخبة يجب أن تتأكد باستمرار فوق سلطة أجهزة الدولة التنفيذية، فذلك هو الوضع الطبيعي الذي ينظم سيادة الشعب، وفق ذلك نص الميثاق على إنه نتيجة لظروف تاريخية طال فيها استغلال الفلاحين والعمال، كما طال حرمانهم من الممارسة الديمقراطية، وتعبيرًا عن ظروف واقعية هيإنهم يمثلون الأغلبية الساحقة للشعب، فلابد من ضمان 50% على الأقل من مقاعد المنظمات المنتخبة للفلاحين والعمال، وبذلك أقر الميثاق بوحدة “الديمقراطية والاشتراكية”حيث لا ديمقراطية بدون اشتراكية ولا اشتراكية بدون ديمقراطية، وبذلك يعد الميثاق وثيقة فكرية انتقل بها عبدالناصر خطوة كبيرة بعيدًا عن النهج التجريبي، وأصبح الميثاق بمثابة نظرية الثورة ابتداءً من تاريخ صدوره، ويؤكد ذلك قول عبد الناصر يوم 7إبريل عام 1963 “لم يكن عندنا منهج، لم يكن عندنا نظرية، ولم يكن عندنا منظمة شعبية، ولكن كان عندنا المباديء الست”، وحدد الميثاق معالم العطاء الفكري الثوري الاجتماعي “الثورة العربية وهي تواجه هذا العالم لابد لها من أن تواجه بفكر جديد لا يحبس نفسه في نظريات مغلقة يقيد بها طاقته، وإن كان في نفس الوقت لا ينعزل عن التجارب الغنية التي حصلت عليها الشعوب المناضلة بكفاحها… إن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعي، ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة، والاستغناء بها عن التجربة الوطنية”.
إذا كانت الديمقراطية في الفكر الليبرالي (حسبتقدير عبدالناصر) تعني تزييف إرادة الشعب عبر شراء الأصوات، حيث باستطاعة الطبقات الرجعية المستغلة والمتحكمة في رأس المال استعمال النفوذ المادي والسياسي لجلب الأصوات، فإن الديمقراطية في فكر عبد الناصر تعني تجسيد فعلي للعدالة الاجتماعية في مضمونها الاشتراكي وبالتالي تأمين قوت الشعب وحمايته من الاستغلال الطبقي وتأكيد سيادته الوطنية، فيقول عبد الناصر في هذا الصدد “إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية وإن المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توفرت له ضمانات ثلاثة، وهي أن يتحرر الإنسان من الاستغلال في جميع صوره، وأن تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية، أن يتخلص من كل قلق يهدد أمن المستقبل في حياته، بهذه الضمانات الثلاثة يملك المواطن حريته السياسية ويقدر أن يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي يرتضي حكمها، إن الديمقراطية ليست قالبًا محددًا، وإنما هي معني شامل عميق، وأي نظام من الأنظمة الديمقراطية لابد أن يتصل إتصالًا مباشرًا بمرحلة التطور الاجتماعي إلي العدل. ولو كانت المسألة مسألة الشكل الخارجي فلقد أخذنا في مصر مثلًا بنظام الديمقراطية الغربي منذ سنة 1923 في ذلك الوقت كانت هناك انتخابات وكان هناك برلمان وكانت هناك حكومة برلمانية، كانت هناك الديمقراطية التي نص عليها الدستور وكانت هناك المساواة التي تحدث عنها الدستور، وكانت هناك الحريات التي وردت بالدستور وفي مقدمتها حرية الرأي.. لكن تلك كلها نصوص مكتوبة، ذلك إن الاقطاع وسيطرة رأس المال علي الحكم استطاعا أن يمحوا ما جاء في الدستور… كانت لنا إذن في ذلك الوقت تجربة مشابهة في الشكل للديمقراطيات الغربية، ولكن هذه التجربة لم تكن ناجحة لإنها لم تكن تضع السلطة في يد الشعب، وإنما كانت في يد الأغلبية البرلمانية: أغلبية تمثلها أحزاب الاقطاعيين وكبار الملاك ويسندها رأس المال الذي كان يريد بهذا الطريق أن يسيطر علي موارد البلاد، وفي عمليات الانتخاب كان كبار الملاك يجمعون الفلاحين في لوريات تحملهم الي مراكز التصويت ليعطوا أصواتهم، لا وفق إرادتهم الحرة، ولكن وفق إرادة هؤلاء الملاك الكبار، وكان الذي يجرؤ علي التردد عن إعطاء صوته للمالك الكبير يواجه المصير المظلم ويطرد من قريته بل ومن بيته دون أن تكون له الفرصة للحصول علي عمل أو أية فرصة للحياة… ونؤمن الآن إن الديمقراطية هي انعكاس طبيعي للحالة الاجتماعية للشعب. ونحن الآن نريد أن تكون العدالة الاجتماعية ملك كل فرد، نريد أن يكون لهذا الفرد حقه في الحرية ليقول لا أو نعم وفق إرادته ودون أن يساوره الخوف علي رزقه اليومي أو علي عمله في الغد، وهذا يعني إنه يجب علينا أن نطور ديمقراطيتنا مع تطور العدل الاجتماعي في بلادنا… نحن نحاول الآن إزالة التناقض بين الطبقات بما يحقق المساواة ليكون لنا في النهاية وطن متحد، لهذا فإن الأحزاب في المستقبل كما أتصورها لن تكون أحزاب الإقطاعيين أو أحزاب الرأسماليين أو أحزاب العمال بل ستوجد أحزاب من نوع جديد أحزاب تسعي إلي خلق المجتمع الذي ترفرف عليه الرفاهية وتطويره… قالوا نريد عودة الديمقراطية بعد شهرين من الثورة، فهل كانت هناك ديمقراطية لتعود، هل يمكن أن نسمي حكومة الإقطاع أو حكومة الطبقة الإقطاعية أو الطبقة الرأسمالية المستقلة ديمقراطية، هل يمكن أن نسمي ملكية 5% من الناس لكل موارد البلاد ديمقراطية، هل يمكن أن نسمي سيادة طبقة قليلة علي الشعب كله تنهب موارده ديمقراطية؟ إن الاسم الوحيد لهذا هو دكتاتورية الإقطاع ورأس المال وهي التي استغلت كل الوسائل كي تبقى الطبقة السائدة، وهل يمكن وجود ديمقراطية بدون عدالة اجتماعية، هل توجد ديمقراطية مع الظلم الاجتماعي. إن الديمقراطية أساسا هي إقامة عدالة إجتماعية وإنصاف الطبقات المظلومة من الطبقة الظالمة، الديمقراطية ألا يكون الحكم احتكارًا للإقطاع ورأس المال”.
لذا ابتكر عبدالناصر صيغة ديمقراطية خاصة بنظامه، فالتيار الذي يمثله هو “الأساس” ولا مانع لديه من أن تكون هناك “هوامش” صغيرة على هذا الأساس،سواء كانتليبراليةأو ثيوقراطيةأو ماركسية، وليس لديه مشكلة في أن يكفل لها بعضًا من حرية النقد، في إطار التأييد، من دون أن يكون لها الحق في الإتصال المباشر بالجماهير أو في التنظيم، لأن التنظيم يعني سلطة، ولأن عبدالناصر لم يكن مستعدًا لأن يترك أحد يسعى إلى السلطة، ذلك كلام لم يخفه عبدالناصر لكنه قاله علنًا لأسرة تحرير مجلة “الطليعة” التي رأس تحريرها لطفي الخولي بتشجيع عبدالناصر، عندما التقى بها عام 1969 بمناسبة افتتاح مبنى الأهرام الجديد، إذ نصحهم بأن يقوموا بدور التبشير والتثقيف الثوري فقط، أما العمل السياسي المباشر أو إنشاء تنظيم مستقل فكلا والف كلا، وكانت “الطليعة” التي صدرت أساسًا،كمجلة فكرية لـ “التنظيم الطليعي”، “قد أوكل أمرهاإلي قطاع محدد من الماركسيين المستقلين(الغير منظمين داخل التنظيمات الماركسية)، وهو مايعني أنعبد الناصركانيريد منح الماركسيين دورًاثقافيًامعينًافي بناء تنظيمه السياسي،في إطار رؤيتهلاستيعابطاقاتهم الكبيرة وما يملكونه من قاموس نظري متكامل،في بناء شرعية أيدلوجية للنظام، بعيدًاعن الاحتكاك المباشر بالجماهير، وكان ذلك في اطار صفقة متبادلة إضطر إليها بعض الماركسيين، بعد أن تبين لهم بعد خروجهم من السجون عام1964،إنهم كانوايعارضون نظامًاتجاوزت إنجازاته،وما أعطاه من مكاسب للناس،برنامجهم ذاته،وهكذا أصبح قطاع منهم أكثر ميلًا إلي بث أفكارهم النقدية من الداخل، وفي إطار التأييد، استنادًا إلى الأمل في أن يصحح النظام سلبيات تجربته.
ظل الفكر الناصري يحتل مساحة كبيرة في الساحة السياسية المصرية، ففي كتابه ” الاستبداد الديمقراطى”يقسم الدكتور عصمت سيف الدولة (1923-1996) المفكر القومي الناصري، الاستبداد إلى ثلاثة أنواع،الاستبداد المتخلف والاستبداد المتحضر والاستبداد الديمقراطى، ومن خلال رؤيته الاشتراكية للديمقراطية يرى فى تحرير الفلاحين والعمال من سيطرة الإقطاعيين عبر الإصلاح الزراعى وحماية العمال بالقوانين من الفصل التعسفى والأجور غير المجزية ضربًا من ضروب الديمقراطية هى أولى بالتحقيق من مجرد إطلاق الحريات التى لا تعالج الأمراض الاجتماعية، ثم تطرق إلى ما أسماه الاستبداد المتخلف ويشمل أنواع الاستبداد المطلق مثلاستبداد الملوك والأباطرة ثم سيطرة البابوية الكاثوليكية باسم الحق الإلهى، وبعد سرده الموسع لنشأة الطبقة البرجوازيةالأوروبية التي لعبت دورًا كبيرًا فى تطور الديمقراطية، واستطاعت عبر نضالها التجارى، التخلص من قيود الحكام متحالفة تارة مع النبلاء والإقطاعيين ضد الملك أو مع الملك ضد أولئك، حتى تمكنت فى العصور الحديثة من إقامة الديمقراطية النيابية وهوما اسماه الاستبداد المتحضر، وأوضح كيف أن الطبقة البرجوازية قد استحدثت من الكوابح للحد من قدرة الشعب على الحكم، وكيف أن شروط الترشح والانتخاب كانت مكفولة فقط لمن يملكون قدرًا معينًا من الثروات والأصول، ثم استعرض ما تم فى فرنسا من تطورات أدت إلى قيام الثورة الفرنسية التى احتوتها فى نهاية المطاف الطبقة البرجوازية خدمة لمصالحها، وتحدث عن استبداد البرجوازية المصرية مستشهدًا بدستور عام 1923 الذى كانت نصوصه للترشح للبرلمان تجعل القدرة على ذلك وقفًا على الأثرياء، ثم تطرق إلى الاستبداد الديمقراطى، الذي يوافق قناعاته الفكرية التى تربط بين الحرية من الفقر والبطالة وبين الحقوق السياسية مستشهدًا بالفيلسوف السويسرى جان جاك روسو صاحب نظرية “العقد الاجتماعى”والذى اعتبره فيلسوف الحرية الحقة الذى سبق عصره، وأورد مقالة روسو فى المساواة فى الثروة ” أما فيما يتعلق بالثروة فإن المساواة تعنى ألا يبلغ أى مواطن من الثراء ما يجعله قادرًا على شراء مواطن آخر وألا يبلغ مواطن من الفقر ما يدفعه إلى بيع نفسه.” ويقول روسو أيضًا “إذا أردت أن تضفي على الدولة ثباتًا قرب بين الحدود القصوى بقدر الإمكان فلا يبقى فيها غنى فاحش ولا فقر مدقع.” ويعتبر الدكتور عصمت النظام النيابى استبدادًا لأن النواب يأخذون بمجرد انتخابهم شيكًا على بياض حيث لا يرجعون لأخذ رأى ناخبيهم، وهو يتفق مع روسوفى أن سيادة الناخب على أمر نفسه لا تلغيها نيابة فهى حق أصيل لأن الحرية ليست إرادة متحررة من القهر وحسب كما تقول الفلسفات الليبرالية التى تستند إليها البرجوازية بل هى أيضاً مقدرة فعلية على تحقيق تلك الإرادة، فكأن النيابة عن الناخب تسلب الناخب حق الفعل وتمنحه لمن يمثله فى البرلمانوهو ما لايجوز بل هو ما يجعل الديمقراطية النيابية استبدادًا وفق هذا المنظور، ويرى الدكتور عصمت أن نظام “الاستفتاء” أقرب إلى الديمقراطية الحقيقية المباشرة، لكنه فى نفس الوقت يسوق العديد من الشواهد التى أفسدت هذا النظام وجعلتهتدميرًالأسس الديمقراطية فى مصر تحديدًا، ويشير بين السطور إلى معالجة خلل النظم النيابية بإحالة القضايا المصيرية إلى الاستفتاء للحصول على رأى الشعب فيها كما يشير إلى أن الرأى العام المتمثل فى وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدنى يمكن أن تعمل ككوابح لطغيان النواب فى البرلمان.. وعلى جانب آخر وصف الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري جمال عبدالناصر بأنه “عظيم المجد والأخطاء”.. كما أشار الأديب الكبير نجيب محفوظ إلى تجربة عبد الناصر على إنها “إنجازات عملاقة مقابل أخطاء وخطايا تتعلق بالحريات وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان.
ليس من شك أن ما قام به وصنعه جمال عبد الناصر في مصر قد مثل في حينه إنجازاً هائلًا، ونقلة نوعية على صعيد التفكير وفتح آفاق العمل الجدي بغية تحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي، وفك التبعية الكولونيالية لبلد متخلف، ودفعه نحو إحداث تحولات اقتصادية واجتماعية كبرى، بهدف إنجاز التنمية المستقلة، والتي تمثلت في قرارات التأميم، بما فيها تأميم قناة السويس، وإطلاق عملية الإصلاح الزراعي وبناء السد العالي، والبدء بسياسة التعليم الإلزامي والمجاني، والشروع بتوطين العديد من الصناعات.. والكثير غيرها، وتزامن ذلك مع سعيه المخلص لتجسيد معنى الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية والانتصار للكادحين، كما أن الكثير من المثقفين يتفقون على أن العصر الذهبي لوزارة الثقافة المصرية وأروع إنجازاتها كان في ستينيات القرن العشرين وبقيادة أحد رفاق جمال عبد الناصر وهو الدكتور ثروت عكاشة، فيما بلغت القوة الناعمة المصرية حينئذ ذروتها وازدهرت المجلات الثقافية وفنون السينما والمسرح كأحد أضلاع مشروع نهضة مصر الناصرية.
لكن ظلتناول الناصرية وكذلك أغلب فصائل اليسار الماركسي للتوجه السياسي للفلسفة الليبرالية، يقدم نصف الحقيقة، فقد أوضحواإن ابرز ما في التوجه السياسي للفلسفة الليبرالية هو إعطاء الحريات السياسية أي الحريات الأساسية للمواطن والجمعيات والأحزاب كحرية التعبير والصحافة والتنظيم والتظاهر وغيرها، وهي جميعها شروط الاستثمار والسوق من اجل مناخ اجتماعي يسود فيه السلم والوفاق الطبقي والاستقرار، وخلق مناخ ملائم ينتعش فيه رأس المال وينمو وبالتالي لابد من توفير الظروف السياسية والاجتماعية التي تؤمن الاستقرار، وهذا لا يتأتى إلا بتوفير الحريات الديمقراطية…وهذا الموقف علاوة على إنه يعبر عن نصف الحقيقة، فهو أيضًا يقود إلى مفهوم سياسة “حرق المراحل” التي سادت بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تغفل ضرورة توافر الظروف الموضوعية لنجاح الاشتراكية، مما تسبب في فشل أغلب تلك التجارب حتى التجربة الأم في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وهي رؤية تناقض مفهوم التطور التاريخي وقوانين المادية الجدلية، لإن الديمقراطية السياسية الحالية هي على الجانب الآخر هامة جدًا للقوى الاجتماعية الكادحة، للعيش في ظروف أكثر ملائمة لنضالهم الفئوي والسياسي التي تناسب المرحلة التاريخية ما قبل الاشتراكية، التي تتطلب مجتمعات متحضرة وتحقق فائضًا كافيًا من الإنتاج وأكثر تطورًا وتقدمًا لدرجة تسمح لها بنجاح التجارب الاقتصادية والاجتماعية الأكثر تقدمية مثل الاشتراكية، وهي النقطة الغائبة دوما عن القوى السياسية اليسارية وخاصة في بلدان دول العالم الثالث وبعض التنظيمات الراديكالية الأممية، فرغم تفهمنا للملابسات التي مرت به تلك التجارب ورغبتها الصادقة في تحقيق التقدم والتطور والعدالة الاجتماعية، إلا إنهلا ينبغي أن نعتبر الحملة الدعائية التي تروج لها أمريكا والدول الغربية في رفع شعار الديمقراطية هي من اجل توفير مناخ للربح الرأسمالي بعيدا عن حالة الفوضى والتوتر الاجتماعي، دون النظر إلى إن هذه الحريات أتت بنضال وتضحيات بل ودماء الطبقات الكادحة حول العالم، وإن المطلوب هو توسيع نطاقها الاجتماعي والسياسي، وتطوير مفهومها دومًا حتى تصبح الأداة الرئيسية في تحقيق البديل الإنساني العالمي للرأسمالية المتوحشة.
رغم تفهمنا للسياق التاريخي لهذه التجربة العظيمة في تاريخ الشعب المصري، وحجم التحديات التي جابهتها، وبصرف النظر عن التقديرات والرؤى الشخصية التي قد تختلف وتتباين حولها، فنموذج ناصر يتعلق برجال آمنوا بعدالة قضاياهم ولم يساوموا عليها، إلا إنها أكدت على عدة أمور هامة.. الأمر الأول إنها أكدت على إنه مهما عظمت شخصية القائد، فإن ذلك كله لا يحول دون احتمال تعرض كافة خطواته وإنجازاته إلى الانتكاس أو الهدر والضياع، وإن ما يحمي تلك المنجزات والمكتسبات من التبدد والاندثار هو وجود دولة المؤسسات والحق والقانون، التي ترتكز إلى النظام الديمقراطي وتأخذ به وترسي وجودها وقوتها إلى وجود قوة المجتمع المدني وتمثيلاته المختلفة، فتطلق الحريات،وتفجر طاقات الجماهير، وتساوي بين المواطنين كافة في الحقوق والواجبات،ويمكننا هنا تسجيل ذلك التعارض الجلي بين فهمين وثقافتين، ثقافة الدولة والمؤسسات التي تتطلب عملًا منظمًا وجماعيًا بمشاركة الجميع ولصالح الجميع، وثقافة البطولات الفردية الخارقة، حيث ينتظر الجميع مجيء ذلك المخلص والمنقذ الذي سيقيم العدل ويرفع الجور والظلم عن العباد والبلاد دفعة واحدة، كصورة “المسيح المخلص” أو “المهدي المنتظر” في معتقداتنا الشعبية، أو فكرة “المستبد العادل” في تراثنا الثقافي، أو نموزج المثقف الأممي المناضل الذي ازدهر في ستينيات القرن العشرين مع حالة العنفوان الثورى في العالم حينئذ.. والأمر الثاني يتمثل في التناقض المتواصل والمتجدد بين الالتزام القومي العروبي، وبين الأخذ بمفهوم ومبدأ المواطنة، واعتماد الديمقراطية والتعددية الثقافية والسياسية، واحترام حقوق الإنسان والإقرار بتداول السلطة وليس احتكارها وتوريثها، هذا التناقض مع المفاهيم العصرية والحداثية، أدى إلى عرقلة وإعاقة انتقال مجتمعاتنا إلى الاندماج مع العصر الراهن وتلبية متطلبات واستحقاقات هذا الانتقال، كما هدد السلم الاجتماعي في أعلب البلاد العربية، حيث برز وشاع الاقتتال الأهلي لأسباب إثنية أو دينية أو طائفية في ظل العديد من تلك الأنظمة.. والأمر الثالث، إنه تحت تلك الشعارات نشأت أنظمة فاقت كل الوصف في استبدادها وسطوتها، حتى حولت بلدانهم إلى ما يشبه المزارع الخاصة، بل وأورثوا سلطاتهم لأبنائهم، أو إعدادهم لذلك..والأمر الرابعإن غياب الحريات السياسية وحرية تكوين الأحزاب والمنظمات والنقابات والاتحادات المستقلة سواء العمالية أوالفلاحية أو المهنية أو الطلابية، وكذلك غياب المشاركة الشعبية الفعلية في السلطة، وغياب الرقابة الشعبية، أدى إلى فساد وتغول الجهاز البيروقراطي الإداري والأمني بكافة فرعه، وتصدره لمركز الصدارة في السلطة، وأتيح لهم ان يقوموا بممارسات فظة لحقوق الإنسان وغيره، ونمت ثرواتهم وامتيازاتهم وزاد فسادهم واستحكمت قبضتهم وانفرادهم بالسلطة، فتقلص دور المجتمع وهيمنت السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضاء وفرضت رقابة صارمة على الصحف ووسائل الإعلام، ووصفوا في ما بعد بـ “قوى الردة” لإنهم سرعان ما انقضوا على عبد الناصر وعهده وعملوا فيهما شطبًا وتمزيقًا بمجرد وصول السادات لرأس السلطة السياسية وانقلابه على كافة مبادي الثورة..والأمر الخامس هو ميل أصحاب تلك التجارب إلى تضخيم دور الخارج والمبالغة به من جهة، واستخدامه كمشجب تعلق عليه كافة الأخطاء والقصورات الذاتية والداخلية، وتجاهل تحصين الداخل وزيادة مناعته وفعاليته بواسطة مشاركته في الحياة السياسية والعامة، ثم إن الخارج لا يقتصر على الغرب الاستعماري، كما إن الخارج ليس معاديا بشكل مطلق فهناك دول كثيرة يمكن الاعتماد عليها في أمور كثيرة وهو ما فطنت إليه مصر الناصرية، وخاصة تجربة التعاون مع الاتحاد السوفيتي السابق وأوروبا الشرقية ودول عدم الانحياز، وثمة دول كبيرة ومؤثرة، ما زال بإمكانها أن تكون سندًا وظهيرًا لنافي نزاعاتنا مع الغرب، الذي لا يشكل هو الآخر كتلة واحدة متماسكة وصماء ومعادية لنا، بل يمكن الاستفادة من كثير من الخلافات والتباينات بين دوله، وهذا يتطلب منا تحديد ما نريد وتحديد المشاريع والبرامج اللازمة لتحقيق ذلك.
رغم عظمة منجزات التجربة الناصرية مقارنة مع دولة تزامنت نهضتها معنا مثل الهند، التي كانت مستعمرة بريطانية، وأصبحت الآن من أكبر الديمقراطيات في العالم،نتيجة للاختيارات الإستراتيجية التي وضعتها النخبة السياسية في بداية مرحلة الاستقلال، فقد تم انتخاب أول جمعية تأسيسية لصياغة الدستور في الهند في عام 1946، وهو تاريخ متأخر لعدة عقود عن التجربة الديمقراطية المصرية،وقد استغرقت كتابة الدستور الهندي أربع سنوات (1946-1950)، بما جعل المشرع الهندي يلم بكل حيثيات مجتمعه، والذي يعتبر الوثيقة الأطول في العالم من حيث مواده الدستورية، وقد ركز على إن الهند الجمهورية الاتحادية ” فيدرالية ” وهي دولة علمانية وستكون أرضا للأديان المتعددة، وهو بذلك عبر بشكل مباشر وكبير عن المجتمع الهندي المتعدد الأديان واللغات والأقاليم،وفي نيسان 1952 أجريت أول انتخابات للبرلمان الهندي بعد الاستقلال،وفاز حزب المؤتمر بأكثر من 70 % من المقاعد، من هنا ندرك إن الديمقراطية الهندية كان بنائها صحيحا حيث تلازمت الاصلاحات السياسية مع الاصلاحات الاقتصادية، ورغم الصعوبات والتحديات الكبيرة التي واجهتها الهند كالحرب مع الصين وهزيمتها فيها وتخصيص مبالغ طائلة للدفاع والتسلح إضافة إلى المشاكل في البنجاب والصراعات في كشمير،إلا إن التجربة الديمقراطية لم تتعرض لسلبيات حادة وتجلت بشكل واضح إمكانات النخبة الهندية وقدرتها على إجادة فن إدارة الصراع وترشيده، ولقد أثبتت هذه النخبة جدارة فائقة في ذلك خاصة من خلال حزب المؤتمر الوطني الهندي بزعامة نهرو،الذي توفي عام 1964 وشكلت وفاته تحديًا كبيرًا لمسيرة الديمقراطية الهندية، الا إن انتخاب السيدة أنديرا غاندي بعد عامين من وفاة نهرو حسن من أداء حزب المؤتمر الذي تمحور حوله العمل السياسي في الهند، لقد عاد هذا الحزب بزعامة السيدة أنديرا وحصل على الأغلبية المطلقة بانتخابات عام 1971، ونجد إن حزب المؤتمر بزعامة غاندي آنذاك اتجه صوب النهج الاشتراكي في تسيير أمور البلاد استجابة لمتطلبات المرحلة في حينها وهذا ما يؤكد النهج الهندي الصحيح في التكييف مع العالم بما يحقق مصالح الشعب الهندي كافة، وما يمكن استنتاجه من التجربة الديمقراطية في الهند هو إدارتها المتوازنة بين التنمية الاقتصادية والسياسية بعدم تعليق واحدة منها على حساب الأخرى حيث سارت الإصلاحات الاقتصادية والسياسية جنبا الى جنب وبتوقت ووتيرة واحدة، والانتباه النسبي الى دور سياسات الرفاه والدعم الاجتماعي التي ساهمت في ضمان ديمومة تفاعل الشعب مع الإصلاح في الاتجاهين السياسي والاقتصادي، لإن التنمية الاقتصادية بحاجة إلى تكريس الشفافية والمساءلة والمحاسبة، والديمقراطية هي التي يمكنها أن تزرع ذلك وتنشره إلى حد كبير، وعملت الهند في الفترة الأخيرة وفق نظام الحزبين، كما إن نسبة مشاركة الناخبين في الاقتراعات عالية وخاصة بين الفئات الكادحة، وقدمت دليلًا علىإان الديمقراطية ليست امتيازا غربيا، بل يمكننا أن نؤكد بأن رقي الشعب الهندي ودستوره الحضاري وقياداته الواعية بنت هذا الصرح الشامل في منتصف القرن العشرين ولا زال يؤدي دوره المطلوب، في حين خسرت مصر كل منجزات التجربة الناصرية العظيمة لغياب الحريات السياسية في الأساس،ويشكل القضاء والاعلام الهندي إحدى المداخل الحيوية لتحقيق التنمية، إذ يتمتع القضاء بالاستقلالية، وعلى مدى العقود الماضية، شهدت الهند عددًا من الأحكام القضائية ذات التأثير المصيري، ففي عام 1975 تجرأت المحكمة العليا في مدينة “جلال أباد” وأبطلت انتخاب رئيسة وزراء البلاد “أنديرا غاندي”، كما يعكس الإعلام القوي الذي تمتع به الهند، سواء المكتوب أو البصري أو الإلكتروني، مختلف الآراء السياسية سواء المعارضة أو المؤيدة، كما تعزز قوة الديمقراطية الهندية بوجود أحزاب قوية وهيئات مجتمع مدني فاعلة في المجتمع، إذ تتم المداولات الديمقراطية في الهند عبر تركيبات سياسية متشعبة، تضم الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، ووسائل الإعلام، والمسؤولين المنتخبين محليًا، والعديد منهم من النساء، وتساعد هذه العملية في تحديد المشكلات، وتحاط الدولة علما كي تجد لها حلًا، ولعل في ذلك دلالة واضحة على ديمقراطية الهند، ففي واقع الأمر يعد العامل الديمقراطي أكثر من أي عامل آخر، المسؤول عن لم شمل تلك الدولة ذات الأطراف الشاسعة، والتنوع الشديد، كما ساهمت الحياة الديمقراطية في الهند في حماية منجزات الشعب الهندي وتواصل تقدمه رغم بطئه،فحمت الاقلاع الاقتصادي، والذي قام أساسًا على قدرات ذاتية وعلى إبداع العلماء الهنديين، كما صانت المرونة والاستقلالية اللتين يتمتع بهما صانع القرار الهندي في السياسية الخارجية.
يتضح مما تقدم إن انحياز القائد السياسي أو الزعيم إلى الجماهير العريضة من الشعب تضمن له مكانة لا تضاهى في الذاكرة الجمعية لأبناء شعبه وأمته حتى بعد مماته،وهو ما تجلى في رفع صور جمال عبدالناصر ومقتطفات من كلماته وشعاراته في كافة ميادين ثورات الربيع العربي في مصر وخارجها، من أجيال لم تعاصره،ذلك لإنهم رأوا فيه من حقق لآبائهم وأجدادهم العزة والكرامة والفخار القومي والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني.. وثانيا إن الأساس لشعبية القيادة السياسية هو دائماً ما يكون من خلال تبني مواقف من شأنها مراعاة الأبعاد والمطالب الاجتماعية والاقتصادية للسواد الأعظم من الشعب وليس لأبناء النخبة أو الصفوة فقط، بإقرار نظام اقتصادي واجتماعي يمنح تكافؤًا للفرص فيما بين المواطنين، والخضوع المتساوي أمام القانون، وتوزيع أكثر عدالة وإنصافًا للدخل والثروة والموارد فيما بين المواطنين، وتوفير المخصصات المالية والفنية والبشرية المدربة والمؤهلة بما يحقق تقديم الخدمات الاجتماعية الأساسية للمواطنين مثل التعليم والرعاية الصحية والمسكن الملائم والملبس المناسب ووسيلة النقل العامة الكريمة وغيرها، إما بلا مقابل أو بتكلفة تكون في متناول أيديهم.. وثالثًا إن المدخل للعب دور نشيط وفاعل وقيادي على الصعيدين الإقليمي والدولي لأي دولة يرتهن بمدى ودرجة الاستقلال الوطني، أي استقلال القرار السياسي واستقلال الإرادة الوطنية معًا، فبدونهما يستحيل من الناحية العملية أن تسعى الدولة إلى أو تدعي لعب دور رياديًا، سواء إقليميًا أو عالميًا،وبهما تستطيع القيادة السياسية تحقق المصالح الوطنية للدولة وتلبي متطلبات أمنها القومي، وما يترتب على ذلك تلقائيًا من تعاظم الدور الوطني في الدوائر الإقليمية المحيطة على تعددها، ومن ثم تتصاعد قيمة الدولة ووزنها وتأثيرها وتصبح رقمًا صعبًا على الصعيد الدولي تسعى الاطراف الأخرى إلى التحالف معها أو على الأقل تجنب عدائها..ورابعًا إنه من المستحيل حماية المكتسبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تتحقق بنضال الشعوب تحت قيادة زعامة ذات رؤية وطنية واجتماعية شاملة دون وجود مشاركة سياسية حقيقية للمواطنين ومؤسسات سياسية لكل منها شخصيتها المستقلة وينظم القانون، برضاء الشعب، وجودها واختصاصاتها والعلاقات فيما بينها ويضمن عدم طغيان أي منها على المؤسسات الأخرى في الدولة، وذلك كله في ظل نظام سياسي ديمقراطي يقوم على أسس احترام الحريات والحقوق الأساسية الفردية والجماعية للمواطنين وسيادة القانون واستقلال القضاء والفصل بين السلطات.. وباختصار فلا حرية لوطن بدون حرية مواطنيه.
مجلة الوعي العربي