(1) بقلم الكاتب والباحث: محمد السني
منذ اللحظة الأولى للثورة المصرية (25-30)، خلت ميادين مصر من كل رموز الحركات المجتمعية، والأحزاب السياسية، وبدون ترتيب
مسبق بقيت صور عبدالناصر، بطل التحرر الوطني وزعيم الاستقلال الوطني في أروع صوره، منفردة ومتفردة، تلازم شعار الثورة العبقري في معناه ومدلوله (عيش – حرية – عدالة اجتماعية)، لتصنع الهدف الثالث للثورة المصرية وهو استعادة “الاستقلال الوطني” بمفهومه التقدمي، الذي يربط الاستقلال الوطني بالعدالة
الاجتماعية، والحرية، والكرامة الإنسانية، ويرتكز على الدوائر الثلاثة التي شكلها تاريخ مصر وحددتها جغرافيتها، وهي الدائرة العربية وفي قلبها فلسطسن، والدائرة الأفريقية حيث منابع النيل العظيم، ثم الدائرة الإسلامية. حيث ظل مفتاح الأمن القومي المصري على مر العصور خارج حدودها، وهذا ما وعاه مبكرًا، وتصرف على أساسه، كل من صلاح الدين الذي وحد مصر وسورية قبل خوض معركة حطين الحاسمة مع الصليبيين، والظاهر بيبرس الذي استبق وصول التتار إلى مصر بالزحف لمواجهتهم في بلاد الشام في معركة عين جالوت الفاصلة، ومحمد علي الذي رأى المجال الحيوي للدولة المصرية في بلاد الشام وفي الوصول إلى منابع النيل عبر ضم السودان لسلطته، وصولًا إلى عبد الناصر الذي وعى كل هذا التاريخ، وشكلت نظرية الدوائر الثلاثة هذه مقرونة بخيار مشروع باندونغ “عدم الانحياز” مفهومه للاستقلال الوطني. وبقراءة موضوعية لتلك الثوابت للأمن القومي المصري نجد أن المشرق العربي جزءً من الأمن القومي المصري، وعروبة مصر ليست مجرد بحث في الأصول، بل مُعطى موضوعي وناتج حالة تفاعل تاريخي طويل، وبها تحمي مصر نفسها وتقود أمتها العربية، ما يعني أن تركيز عبد الناصر على أولوية الدائرة العربية، دون إغفال الدائرتين الأفريقية والإسلامية، في بناء أعمدة السياسة الخارجية المصرية، لم يكن ناتج شعور قومي فقط، بل كان ناتج وعي موضوعي للتاريخ المصري، أيضاً لقد ضعفت مصر عندما فكت نفسها عن المشروع القومي العام وكفت عن قيادته. وبرفع شعار الاستقلال الوطني أوصل الشعب المصري رسالة قوية لكل المتربصين بالثورة في الداخل، والخارج القريب والبعيد، أن الاقتراب من سيادة الوطن والصدام المباشر مستحيل في الحالة المصرية، وأنه كارثة على من يحاول المساس بأرض مصر أو سماءها أو مياهها، بسبب ما ينطوي عليه مثل هذا الصدام من تداعيات على مجمل مصالحهم، وعلى كامل نفوذهم، عربيًا وإقليميًا، ومن جانبها كانت القوى المعادية للثورة المصرية تدرك حقيقة أن الشعب المصري أعظم شعوب الأرض وطنية، وأكثرهم توحدًا ضد أعداء الوطن، وانسجامًا وتلاحمًا ضد الأخطار التي تهدد الوحدة الوطنية، وذلك رغم البؤس والخراب الذي جلبه المخلوع مبارك وسلفه السادات. فكانت الحيلة هي تحقيق مآربهم باستخدام تيار التأسلم السياسي، باعتباره أحد مستجدات الداخل المصري المجتمعية السلبية والخطيرة التي أفرزتها الحركة الوهابية الظلامية والعنصرية واللاوطنية، والتي تسللت إلى مصر عبر عقود من الزمن، في غياب مشروعها النهضوي والتحرري والتنويري.
كان مشروع الاستقلال الوطني الذي عبر عنه عبدالناصر، امتدادًا موضوعيًا واستكمالًا لحركة وطنية ممتدة منذ مطلع القرن العشرين، وذلك منذ فشل الثورة العرابية، ووقوع البلاد في براثن الاحتلال البريطاني، وظهور الزعيم الوطني مصطفى كامل (1874-1908)، الذي أحيا مسيرة النضال الوطني، وأسهم بشكل كبير هو وخليفته محمد فريد، في استنهاض همم المصريين، لمواجهة الاحتلال البريطاني، وكان التحرر الوطني محور برنامج الحزب الوطني الذي قام بتأسيسة مصطفى كامل عام 1907، وكان للمسيرة النضالية لمصطفى كامل أكبر الأثر في تهيئة الأجواء، وتمهيد الطريق أمام اندلاع ثورة 1919، والتي تُعد أفضل الثورات في تاريخ مصر الحديث، فقد قدمت نموذجًا رائعًا للثورة الشعبية التي جمعت كافة المصريين، الذين اجتمعوا خلف مطلبين رئيسيين، هما الاستقلال والدستور، وتمخض عن ثورة 1919 قيادة ثورية وزعامة شعبية حقيقية، ممثلة في سعد زغلول الذي أنشأ حزب “الوفد”، ليكون تنظيم الحركة الوطنية الديمقراطية المصرية لثورة 1919، الذي استطاع أن يجمع المصريين على اختلاف عقائهم وطبقاتهم وفئاتهم وأجيالهم، ويستوعب نشاطهم وطموحهم الوطني والحضاري، وحقق بذلك أسمى ما يمكن تحقيقه في إطار ما تتيحه الظروف التاريخية. وهو أنجح تنظيم سياسي عرفته مصر طوال تاريخها، حيث استطاع أن يتمدد ويتشعب في طول البلاد وعرضها، بحضرها وريفها، عبر لجانه الرئيسية والفرعية. وتمثلت نقطة قوة “الوفد” الرئيسية في أن تأسيسه وجاء استجابة لرغبة شعبية ووطنية جارفة وكان ذلك مصدر قوة حقيقية لحزب للوفد، كما كان حزب الوفد “جبهة وطنية”، ضمت شتى القوى السياسية
والاجتماعية التي شاركت في ثورة 1919، وحققت ثورة 1919 نجاحًا جزئيًا بصدور دستور 1923، وبالحصول على استقلال شكلي منقوص، بصدور تصريح 28 فبراير 1922 الذي رفضه سعد زغلول رفضًا قاطعًا، وفي عام 1924، أُجريت أول انتخابات برلمانية، بعد صدور دستور 1923، والتي اتسمت بقدر كبير من النزاهة، وقد اكتسحها الوفد، كما كانت الفترة من 1924 وحتى قيام حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 حافلة بالصراع بين “الوفد”، ممثل الحركة الوطنية المصرية والسلطتين، الشرعية ممثلة في القصر، والفعلية ممثلة في الاحتلال، فلم يحكم “الوفد”، وكان حزب الأغلبية آنذاك، خلال تلك الفترة سوى سبع سنوات متفرقات، كما لم يُطبق دستور 1923 في الفترة نفسها سوى عشر سنوات فقط، فكثيرًا ما كانت حكومات الأقلية تقوم بتعطيله، بإيعاز من القصر والاحتلال، وعلى الرغم من قصر المدة التي تولى فيها “الوفد” السلطة، إلا أنها كانت حافلة بالإنجازات، وأبرزها معاهدة 1936 التي حققت استقلالًا مبدئيًا لمصر، وأخرجت قوات الإنجليز إلى قناة السويس، وحققت الاستقلال للجيش المصري، وإلغاء الامتيازات الأجنبية لـ12 دولة، كما أطلق مصطفى النحاس وحكومة الوفد، شرارة الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني، بعد إلغائه معاهدة 36 في عام 1951، وبدء معارك الفدائيين ضد الاحتلال في القناة، ولكن قيادة الوفد عجزت عن تحقيق الهدف الأساسي للثورة وهو الاستقلال التام، بالإضافة إلى إغفالها لمعالجة الأزمة الاجتماعية، وعدم اتخاذها إجراءات حاسمة، من أجل تفكيك بنية النظام الاجتماعي الطبقي، وقصرها مفهوم تمثيل الأمة سياسيًا على طبقة بعينها من كبار الملاك. فجاءت ثورة 1952م، لتحدث نقلة نوعية ثورية وتستكمل ما أنجزته ثورة 1919م، باجراءات وسياسات أكثر ثورية، وأكثر انتماءً للطبقات الكادحة.
ظل اليسار المصري منذ نشأته، القلب النابض للحركة الوطنية المصرية، وكان شعار “الاستقلال الوطني التام” ركيزة كل برامجه السياسية، وأساس حركته النضالية، كما كان نقطة الاتفاق دوما بين كافة فصائله ومدارسه من ناحية، وبينه وبين القوى الوطنية المدنية من جهة أخرى، واستمد اليسار صلابة موقفه وصحة توجهه من الربط بين العدالة الاجتماعية والحرية والاستقلال الوطني بشكل واضح وقاطع، مما عرضه للكثير من الصدامات والاضطهادات من الحكومات المتعاقبة التابعة للقصر والاحتلال معًا، وكذا الصدام المبكر مع القوى الرجعية والظلامية، وذلك رغم ضعف وتخلف البنية الاجتماعية، وتشوه الرأسمالية المصرية، والنشأة الأجنبية للحركة العمالية المصرية الصناعية، وتأخر انجاز قضية التنوير وتعثرها، عجز الأنظمة المتعاقبة منذ محمد على على انجاز الثورة الثقافية، وهي مهام تاريخية للبرجوازية المصرية فشلت في إنجازها بسبب تشوهها النيوي، وبالتالي أصبحت ضمن مهام اليسار، وعوائق لها في آن واحد. وبدورها كانت حركة اليسار المصري الثرية، ودورها الهام في الحركة الوطنية المصرية، مكونًا أساسيًا من مكونات حركة الضباط الأحرار، عبر عنها ومثلها كل من خالد محي الدين ويوسف صديق وكانا عضوين بارزين في مجلس قيادة ثورة 1952، كما كان الفكر اليساري ملهما لقادة الثورة وخاصة الزعيم الراحل جمال عبدالناصر الذي آل به المطاف إلى نظريته الخاصة والفريدة للاشتراكية، الذي سماها “التطبيق العربي للاشتراكية العلمية”.
كانت جذور التخلي عن ثوابت الأمن القومي المصري بمفهومه الشامل كما خطها تاريخ الشعب المصري، عندما ارتد السادات على الدور الوطني للزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ورغم مقاومة شعبية عارمة لم تنقطع، أبرم نظام السادات صفقة كامب ديفيد المشؤومة، وتوجه صوب التبعية الاقتصادية لدول مركز الرأسمالية العالمية، فاعتمد ما سماه “الانفتاح الاقتصادي”، وضرب السياسة القائمة على الاستقلال الوطني والتوجهات القومية والانحياز للطبقات الشعبية، أما امتداده نظام مبارك فعمق الارتداد، وأدرج مصر كليًا في دواليب اقتصاديات “الليبرالية الجديدة” المعولمة خدمة لمصالح شرائح رأس المال المالي والتجاري والعقاري، وحول مصر إلى مجرد رديف سياسي ولوجستي للسياسة الأمريكية في المنطقة، وأفقدها موقعها المركزي عربيًا، ودورها المحوري أفريقيًا وشرق أوسطيًا، وتأثيرها الفاعل في منظومة دول “عدم الانحياز” عمومًا، هنا تداخل الخارجي والداخلي من التحديات المصرية، وصار من غير الممكن استعادة الحق في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية من دون استعادة مصر لدورها المركزي، حيث صار التصدي للتحدي الخارجي ممرًا إجباريًا، وليس مجرد خيار، لتذليل التحدي الداخلي، وظلت نظرية أعمدة الدوائر الثلاثة للاستقلال الوطني التي اكملها عبدالناصر بدائرة “الدول النامية” أي دول عدم الانحياز وقتها، مصدر إلهام للشعب المصري في رفض ارتداد نظامي السادات ومبارك عليها.
رفض الشعب المصري ما اعتمدته سلطة “الإخوان” من سياسة خارجية سارت على خطى سياسة نظام مبارك ذاتها، بل ودخلت في انحيازات جديدة أوقعت السياسة الخارجية المصرية في سقطات المذهبية والفئوية وانعدام الخبرة وغياب الرؤية الاستراتيجية للتعامل مع قضايا الأمن القومي المصري، لقد وجد الشعب المصري نفسه في حالة تناقض موضوعي مع السياسة الداخلية لسلطة الإخوان، ومع السياسة الأميركية الداعمة لها بغرض استمرار حبس مصر في دور اللاعب “الصغير” خارجيًا، ذلك علاوة على أن دخول الشعب المصري على الخط في 30 يونيو جاء مشحونًا بشعور من الزهو لشعب نجح في اطلاق ثورة أطاحت بسرعة قياسية رأس نظام سياسي استبدادي تابع، واكتشف في خضمها مقدار ما عنده من طاقات هائلة مختزنة لا يليق بها التوقف في منتصف الطريق، سواء لجهة مطالبه الداخلية، أو لجهة توقه الوطني لاستعادة مصر لدورها المركزي خارجيًا. وبالمثل، وجدت الحوامل السياسية والاجتماعية الفعلية لثورة 25 يناير نفسها أمام تداخل المطلبين لدرجة أن يصبح التحدي الخارجي محركًا أساسيًا من محركات خروج عشرات ملايين المصريين إلى الميادين في 30 يونيو، بخطاب أكثر وضوحاً في الربط بين الداخلي والخارجي من مهام الثورة، تجلى ذلك في ما ساد هذه الموجة من هتافات ضد الولايات المتحدة وتدخلاتها وابتزازاتها، كان ذلك تعبيرًا عن شعور وطني غاضب امتزج بشعور اليأس من قدرة سلطة “الإخوان” على إحداث تغيير يعتد به داخليًا، ناهيك عن عدم تجرئها على اجراء أي تعديل على معاهدة كامب ديفيد أو حتى على ملاحقها الأمنية المذلة.
لم يتأخر الشعب المصري كثيرًا في اثبات إصراره على استقلال قراره، أو تحقيق وعوده بسحق المتهاون في استقلال بلاده، فرفض فكر تيار التأسلم السياسي باعتباره تيارًا إرهابيًا أمميًا عابرًا للوطنية والقومية، وكان له بالمرصاد في كل تجاوزاته فيما يخص الاستقلال الوطني، وسيادة شعبة على أراضيه، وتصدى عند الضرورة لتلك التجاوزات، وقبل التحدي رغم الانهاك والاخفاقات، فرفض تحالفاته مع أعداء الثورة في الداخل والخارج، ورفض انحيازه للتنظيمات الإرهابية التي أفشلت الثورات في باقي الدول التي أرادت التخلص من الاستبداد والطغيان، وذلك بمحاولة الإرهابيين استبدال تلك الأنظمة المستبدة بأنظمة أكثر استبدادية وطغيانًا وظلامية، كما تبين في انحيازه للجماعات الإرهابية في سوريا والعراق وليبيا، وداخل الوطن في سيناء وبعض المناطق الحدودية، وعندما تأكد الشعب المصري أنهم لا يختلفون عن نظامي السادات ومبارك سوى في الأسلوب فقط، كانت موجته الثانية الكبرى للثورة المصرية في 30 يونيو 2016م، والتي استطاع بها اسقاط أكبر عصابة عنصرية في تاريخه منذ الهكسوس، وشرع في بناء دولته على أسس وطنية وديمقراطية، تمثلت في خارطة طريق وضعها بنفسه، وظل حارسًا لهذا المبدأ ولم يقلل من أهميته وحيويته بجانب باقي أهداف الثورة، وظل الاستقلال مقومًا من مقومات تقييمه لنظام النسخة الحالية من تطورات الثورة، فرغم تطور علاقات مصر الخارجية للأفضل بعد 30 يونيو، وتنوع وتوازن التحالفات الدولية ومصادر السلاح، والمحاولات الدؤوبة لوضع ثوابت الأمن القومي المصري على المسار الصحيح، فلم يتوقف الانتقاد الشديد للرئيس السيسي وسلتطه لتفريطهم في جزيرتين مصريتين أزليتين، بل لا نبالغ إذا قلنا إنه فقد الكثير من شعبيته بسبب تلك التفريط، وتصاعد الرفض والاستهجان إلى حركة وطنية جماهيرية ضمت العديد من خيرة شباب مصر ورجالها ونساءها، تنوعت أساليب مقاومتهم، من تظاهرات وإضرابات واعتصامات، وكذلك المواجهة القانونية والدستورية داخل قاعة المحكمة الإدارية العليا، التي حكمت حكمها التاريخي ببطلان تنفيذ اتفاقية تيران وصنافير بين مصر والسعودية، كما رفضت الاستشكال المقدم من الحكومة على الحكم، فرجحت كفة انتصار صوت الحرية الكامن في وجدان الشعب المصري.
تعتبر العدالة الاجتماعية بمفهومها الشامل، أحد أهم دعائم الاستقلال الوطني، فهي تؤدي إلى خلق المواطن المشارك، وتعزز انتمائه الحقيقي للوطن، حيث يشعر المواطن بأن له نصيبًا من خيرات بلاده، وأن عائد التنمية يعود عليه بالنفع المادي والمعنوي، وأن له دورًا في حماية هذا الوطن بالسعي دومًا للنهوض بالوطن بغرض التقدم والتطور، كما أن العدالة الاجتماعية تعزز مناعة الداخل ضد الاطماع الاستعمارية الحديثة القائمة على هيمنة دول مركز الرأسمالية العالمية على الدول النامية والمتخلفة، والساعية دومًا إلى الانفراد بالسلطات الحاكمة والمدجنة، والتي يسهل السيطرة عليها بمعزل عن التلاحم الوطني، وهذا ما فطن له عبدالناصر في صراعه مع الإمبريالية العالمية في غضون بناء مشروعة النهضوي الكبير، فكانت العدالة الاجتماعية، إبتداءً من قوانين حماية العمال، والتأمين الاجتماعي، وقوانين الإصلاح الزراعي، والنهوض بقطاعي الصحة والتعليم وتجويدهما وتوسيع نطاق المجانية فيهما بإضطراد، والانحياز باضطراد للفقراء طيلة مسيرة مصر الناصرية وبشكل يصعب حصرة في مقالتنا هذه، والتي كانت أحد أهم ركائز مشروع عبدالناصر للاستقلال الوطني، وكانت الجماهير بدورها عونًا له في كل معاركه من أجل التحرر والاستقلال الوطني.
وعلى عكس ما يروج له أنصار الاستبداد وأرباب التبعية، فإن الحرية بمفهومها التقدمي الإنساني، وفي مقدمتها الديمقراطية باعتبارها تمثل الحرية السياسية، تعتبر الركيزة الأولى للسيادة الوطنية في عصرنا الحديث، فهي تحد من قدرة الحكام بشكل عام والمستبدين بشكل خاص على الانفراد بقرارات سيادية تنقص أو تجرح السيادة الوطنية، أو التفريط في أجزاء من الوطن، من أجل كسب حماية خارجية إقليمية أو دولية لدعم استمرارهم في السلطة التي يرغبون الاستمرار بها حتى الموت، وربما يورثونها أو يسعون لذلك، أو الرضوخ لهيمنة القوى الاستعمارية الجديدة بما ينقص من استقلال القرار الوطني وخاصة في القرارات المصيرية للبلاد، وعلى عكس ذلك تؤدي الحرية إلى تفعيل دور الشعوب للنهوض بمهامها الأصيلة بحماية مصالح الأمة، وحماية مصالح الوطن العليا التي يقدرها بشكل جمعي، ويمارسها بطرق ديمقراطية وفي جو من الشفافية والمكاشفة، وتمكن الحرية الشعوب من المحاسبة الآنية والدئوبة للحكام، ومراقبة الأجهزة التنفيذية ومراقبة آدائها، ومنها بالطبع الأجهزة المنوط بها حماية الأمن القومي، أو التعبير عن سيادة الدولة، كما أن الحرية تزيد من قدرة الحكام على المناورة أمام ضغوط الخارج بإسناد القرارات الحاسمة لإرادة الأمة من خلال مؤسسات شعبية فاعلة مثل البرلمانات والمؤسسات التشريعية المنتخبة بحرية ونزاهة، كما تحد الحرية والتداول السلمي للسلطة من التقاطعات المفاجئة لمسارات التنمية والتقدم، وتثري ثقافة التواصل والمثابرة في انجاز المشروعات النهضوية وتطويرها واستكمال مراحلها على جميع الأصعدة، بعيدًا عن شطحات وأهواء الحكام المستبدين والمرضى النفسيين، وبذلك تضع المجتمع والدولة في مصاف الدول المشاركة بندية في بناء مستقبل العالم وتشكيل حضارة العصر، وتقلص الفجوة الحضارية بين الأمم وتخلق الندية في التعامل والعلاقات الدولية، أي تخلق الحالة الموضوعية للندية في العلاقات الدولية وهي نقيض التبعية، وتقلص الفجوة بين الحكام والشعوب، هذه الفجوة التي تعتمد عليها الدول الكبرى في تمرير أطماعها، عن طريق أدواتها الاستعمارية الجديدة مثل الصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية التي نعتبرها طليعة الاستعمار الحديث (سنأتي إليه لاحقًا)، حيث تتمثل شروطهم دائما بمطالب لا تحظى بأي تأييد شعبي، ويتم الإصرار على تنفيذها عن طريق حكام مستبدين لا يحد من سلطانهم أي سلطات شعبية أو جماهيرية أو حتى جماعات الضغط المختلفة، وهو الأمر الذي يمكن تلافي حدوثة إذا أمكن خلق مؤسسات تشريعية منتخبة بطريقة ديمقراطية، وإفساح المجال للمشاركة الشعبية الحقيقية عن طريق المجتمع المدني وفي مقدمته النقابات العمالية والمهنية والفلاحية المستقلة، والكثير من مقومات المجتمع الديمقراطي الحر.
يعتبر النهوض اقتصاديا بالمجتمع والسير في تحقيق معدلات تنمية حقيقية، وتحقيق تنمية مستدامة تُبنى على أساس اقتصاد منتج صناعي وزراعي وتكنولوجي، تعتبر ركيزة أساسية للتطور والتقدم وتحقيق أكبر قدر من الاستقلالية والندية في المجتمع الدولي، والخروج من أسر التبعية الاقتصادية ومن ثم السياسية، فبدون اقتصاد قوي وبدون اللحاق بالثورة العلمية والصناعية والتكنولوجية والقيام بدور فاعل فيها، لا يمكن الحديث عن استقلال تام أو شبه تام، لأن غياب ذلك يخلق الحالة الموضوعية للتبعة، وهي العلاقات بين دولة كبيرة ومتقدمة وقوية وغنية ودولة متخلفة وضعيفة وفقيرة، وهنا تنتفي الندية ومن ثم تنتفي الاستقالية والاستقلال، وهذا ما فطن له محمد علي عندما أراد وأن يكون لمصر مركزًا مرموقًا بين الأمم، فرغم استبداده وأخطائة الكثيرة إلا أنه استطاع أن يبني نهضة كبرى وأن يؤسس “مصر الحديثة”، وكذلك فعل عبدالناصر عندما أراد النهوض بالبلاد والخروج من أسر التبعية، فأحدث طفرة اقتصادية كبرى، فكانت مشروعاته القومية الكبرى التي مازالت تتحدث عن نفسها حتى الآن، وكان مشروعه أكثر تطورا وتقدما عن مشروع محمدد علي، وإن خلا من الحريات السياسية والنقابية التي نعتبرها سببًا رئيسيًا في تبخر انجازات تجربته العظيمة، بل وضياع التجربة الناصرية نفسها، وكذا كان النهوض والتقدم والحضارة الخالدة للفراعنة ومسيرتهم في الاستقلالية والاستقلال الوطني التي امتدت لأكثر من ألف عام قبل أن تتعرض مصر لسلسلة غزوات متتالية كانت نتيجة موضوعية لتطورات تاريخية كبرى سنأتي إليها لاحقًا.
“الاستقلال الوطني” رديف الحرية والسيادة والكبرياء والكرامة، وطالما أحاطت به جاذبية من نوع خاص، وسُفكت دماء وفُتحت معتقلات للتعامل مع من يرفع شعارات تطالب بتحقيق الاستقلال الوطني في العديد من مناطق العالم خاصة في الشرق الأوسط، ولكن مفهوم الاستقلال الوطني هذا ينبغي أن لا تُضفى عليه خصائص “المُطلق”، فسياسات هذه الدول ليست من دون قيود والتزامات، فلأنها أعضاء في الأسرة الدولية عليها مراعاة ما يعني ذلك لها ولبقية أعضاء الأسرة، فقد ضمنت القوانين الدولية احترام “الاستقلال الوطني” حين ضمنت حق تقرير المصير للشعوب، إلا أن ما يجري ضمن حدودها الجغرافية ليس شأنًا داخليًا بحتًا لا يخص الأسرة الدولية، فالاستقلال الوطني للدولة وحق السيادة داخل حدودها الجغرافية لا يعني منح الحاكم حق الانفراد بشعبه وفعل ما يشاء، كما حصل ويحصل في دول عديدة في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وُضعت، على مستويات دولية وإقليمية، العديد من التشريعات الهامة عززت مفهوم “الاستقلال الوطني” حين جعلت الفرد وحقوقه وليس الحاكم وحاشيته محورًا لذلك، فهذه التشريعات في مواد كثيرة فيها تلزم الحكومات على احترام الإنسان وحريته في الاختيار وحريته في الانتماء وحريته في التعبير عن آرائه في شتى المجالات، وأهمها المادة (19) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، والمادة (10) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان عام 1950، والمادة (13) من الاتفاقية الأمريكية لحماية حقوق الإنسان عام 1969، والمادة (9) من الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب عام 1981، وقد أسهمت بعض القرارات الدولية الصادرة عن الجمعية العامة في الحقبة الذهبية لنهوض العالم الثالث وفي أوج فترة قيام حركات التحرر الوطني في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية في ممارسة الكفاح لتثبيت الشخصية القانونية لحركات التحرر، لعل من أهم تلك القرارات وبمقدمتها إعلان تصفية الاستعمار وفق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 لعام 1960 والذي فتح الباب أمام استقلال العديد من الدول وخاصة في القارة الأفريقية وانضمامها لمنظمة الأمم المتحدة، والذي جعل منها قوة دعم وتوازن لقوى التصويت داخل المنظمة لصالح حركات التحرر الوطني، وكذا العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1966 على أن يبدأ العمل به في مارس 1976. إن تلك القرارات استندت مباشرة إلى الشخصية الدولية لحركات التحرر الوطني عبر الإقرار لها بمباشرة الحقوق ذات الطابع الدولي بما فيها تلك الحقوق المنشأة لعلاقات دولية مع الدول وحركات التحرر الوطني الأخرى والمنظمات الدولية، وهذا مهد لتلك الحركات إمكانية المشاركة في وضع القواعد الدولية بطريق غير مباشر من خلال الرد على من يرى نقصًا في الشخصية القانونية لتلك الكيانات الدولية، ويتبع إمكانية مشاركة الحركات التحريرية ووضع القواعد القانونية والالتزام بها واقعًا قانونيًا آخر يتجلى من خلال اعتبار الحركة ممثلة لكيان دولي له حقوق وواجبات هو الشعب الذي يتمتع بشخصية دولية دائمة، وإذا كانت المنظمات الدولية أول من استفاد من الإقرار بالشخصية الدولية فإن حركات التحرر الوطني تسير بنفس السياق واعتبرت بحكم وجودها الدولي وتمكنها الفعلي على أرض الواقع من انتزاع الاعتراف لتصبح بنظر البعض شخصًا دوليًا معنويًا، إلا أن اعتماد المعايير المزدوجة التي لاحقت الغرب والإدارات الأمريكية المتعاقبة على مدى العقود الماضية لم تُسقط عنهما بعد، ولم تُفعل هذه التشريعات إلا في ظروف خاصة، فلطالما أعارت الأسرة الدولية ومنظماتها آذانًا صماء لشكاوى الأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية المضطهدة، وطالما تجاهلت معاناة الحركات السياسية المعارضة المطاردة في هذه الدولة أو تلك، وغضت الطرف عن انتهاكات كثيرة تعرضت لها بعض الدول سواء عن طريق الاحتلال المباشر أو عن طريق ربطها باتفاقيات أو إلزامها بالدخول في أحلاف قد لا تخدم مصالحها، ووقفت لا حول ولا قوة لها متفرجة على مجازر رهيبة ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر في آسيا وأفريقيا، وقد بدأت الإرهاصات الأولى لتفعيل هذه التشريعات مع نهاية الحرب الباردة واختلال التوازن الدولي لصالح الغرب بقيادة الولايات المتحدة، فقد أصبح تخطي السيادة الوطنية للدول أكثر سهولة عن ذي قبل وهو ما شهدناه حين أعيد رسم خرائط منطقة البلقان إثر الحروب التي شنها حلف الأطلسي هناك، وشهدناه بعد ذلك في كل من أفغانستان والعراق وليبيا.
تزامن ظهور مبدأ “السيادة” في قانون الأمم (القانون الدولي العام) مع إنبثاق الدولة القومية الحديثة في أوروبا بعد معاهدة “وستفاليا” عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عامًا الدينية في القارة الأوروبية، فهذه المعاهدة أقرت مبدأ “سيادة الدولة” باعتبار هذه السيادة هي سلطة الدولة العليا والمطلقة على إقليمها، أي حق الدولة في ممارسة وظائفها وصلاحياتها وإختصاصاتها داخل إقليمها القومي دون تدخل من أي دولة آخرى، وهذا المفهوم لمبدأ السيادة كما أقرته معاهدة وستفاليا جاء متأثرًا بمفهوم مبدأ السيادة كما بلوره الفيلسوف الفرنسي جان بودان، الذي يعتبر أول من بلور نظرية متكاملة لمبدأ السيادة. ففي مؤلفه الشهير الذي حمل عنوان “الكتب الست في الجمهورية” الذي نشر في عام 1576، عرف بودان السيادة بأنها سلطة الجمهورية العليا والمطلقة والأبدية، فهي عليا لأن لا سلطة تعلوها، وهي مطلقة لأنها كلية لا تتجزأ، تكون أو لا تكون، غير أنها ليست دون قيود أوحدود، وهي أبدية لأنها لا تزول مع زوال حاملها. وحامل السيادة هو الحاكم الذي لا يخضع لأي قانون سوى القانون الإلهي أوالقانون الطبيعي وقانون الأمم، وقد أقرت معاهدة وستفاليا مبدأ السيادة في العلاقات الدولية كمبدأ يكفل المساواة والتكافؤ بين الدول ويمنع تدخل دول في شؤون دول أخرى، وعليه اُعتبر أي تدخل من قبل دولة ما في شؤون أي دولة أخرى عملًا غير مشروع. هذا المفهوم لمبدأ السيادة، الذي أقرته معاهدة وستفاليا والذي حكم وهيمن على العلاقات بين دول القارة الاوروبية خلال القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، سرعان ما انتشر ليشمل العلاقات بين دول العالم جميعًا في المرحلة التي تلت. وجاءت معاهدة “مونتافيديو” في عام 1933، المتعلقة بحقوق وواجبات الدول، لتأكد على هذا المفهوم عندما أعتبرت أن جميع الدول متساوية وتتمتع بنفس الحقوق وبنفس الأهلية لممارستها، وبأنه لا حق لأي دولة بالتدخل في الشؤون الداخلية لدولة أخرى، وتبنى ميثاق الامم المتحدة الموقع في عام 1945 هذا المفهوم، وحدد المبادئ التي على منظمة الأمم المتحدة والدول الأعضاء العمل بموجبها لتحقيق مقاصد المنظمة، وهي مبدأ المساواة في السيادة، ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة، ومبدأ الامتناع عن التهديد أو إستخدام القوة ضد وحدة أو سلامة أراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة، وبمقتضى هذا الميثاق فإن جميع الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة متساوون في الحقوق والواجبات، ولهم الحق في المشاركة والتصويت في أعمال المنظمة وفقًا لقاعدة أن لكل دولة صوت واحد. وعلى الرغم من أن جوهر مفهوم السيادة كما أقرته معاهدة وستفاليا لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر منذ هذه المعاهدة، إلا أن مجال ومدى وحدود السيادة هي التي خضعت للتطور والتغييرعبرالزمن. فخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عصر إنبعاث الدولة القومية، لم تقبل الدول بأي قيد على سيادتها، فمارست سلطة مطلقة دون أي قيد أو حدود داخل إقليمها الوطني، غير أن هذا الموقف بدأ يتغير بعد النصف الثاني من القرن العشرين. فالدول بدأت تقبل، من أجل صالح المجتمع الدولي، بعض القيود والحدود على تصرفاتها الداخلية والخارجية، فأخضعت بعض صلاحياتها السيادية لبعض القيود، وتم ذلك إما بحكم المعاهدات أو الاتفاقات الدولية، أو بحكم قرارات المنظمات الدولية (العالمية أو الأقليمية)، أوبمقتضى قرار ذاتي منها. كما تثيرالمتغيرات الراهنة في النظام الدولي التساؤلات حول مصير السيادة الوطنية للدولة، هذه السيادة التي تعتبر إحدى أهم المقومات الأساسية التي تبنى عليها نظرية الدولة في الفكر السياسي والقانوني، وإحدى أهم أسس التنظيم الدولي التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوقها وواجباتها، فهناك من يبشر بنهاية السيادة، ومن ينظر بتقليص السيادة أو بنسبيتها، ومن يدافع عن استمرارية السيادة، وبعيداً عن النظريات والآراء المختلفة التي تتناول مصيرالسيادة، والتي سنأتي إليها بشيء من التفصيل، فإن السيادة مفهوم (قانوني – سياسي) يتعلق بالدولة باعتباره أحد أهم خصائصها وسماتها الرئيسية، وهي شرط من الشروط الأساسية لاعتبار أي كيان سياسي دولة، أي عضوًا في المجتمع الدولي، ويرتبط مفهوم السيادة بمفهوم الاستقلال، فالدولة المستقلة هي الدولة السيدة القادرة على ممارسة مظاهر سيادتها على الصعيدين الداخلي والخارجي بحرية دون تدخل من أحد، على هذا فإن مفهوم السيادة ينطوي على معنيين، من جهة أولى، السيادة تعني السلطة العليا والمطلقة التي تتمتع بها الدولة لمزاولة وظائفها وممارسة صلاحياتها داخل إقليمها الوطني دون أن تنازعها أو تتد خل فيها أي دولة أخرى، وهذا هو المعنى الأساسي والمركزي لمفهوم السيادة، وهو ما يطلق عليه تسمية السيادة الإقليمية، ومن جهة ثانية، فإن السيادة تعني الأهلية، التي تتمتع بها الدولة للدخول في علاقات والتعامل على قدم المساواة، بندية وتكافؤ مع الدول الأخرى على الصعيد الدولي، وهذا المعنى يرتبط بمفهوم الشخصية الدولية، السيادة هي التي تخول الدولة الحق بالتشريع وتطبيق قوانينها ومحاكمة الأشخاص والأفعال داخل إقليمها الوطني، والحق بالدخول بعلاقات مع الدول الأخرى وعقد الاتفاقات والمعاهدات الدولية وإرسال ممثلين ودبلوماسيين يمثلونها في الدول الأخرى، والحق بالتمتع بالحصانات والامتيازات في الدول الأخرى وأمام محاكمها، وهذه هي الحقوق التي يشملها مفهوم السيادة في القانون الدولي. والسيادة هي التي تكفل المساواة والتكافؤ بين الدول واحترام الاستقلال السياسي والسلامة الاقليمية للدولة، وتوجب عدم تدخل أي دولة في شؤون دولة أخرى، فالسيادة بكلمة مختصرة، هي التي تضمن لكيان سياسي ما وجوده واستقلاله ومساواته ونديته مع الكيانات السياسية الأخرى المكونة لمجتمع الأمم، وهي بهذا المعنى تتماهى مع مفهوم الاستقلال. ونتيجة لذلك لم تعد السيادة التي تتمتع بها الدولة مطلقة، فنشوء المنظمات الدولية بجميع أنواعها (العالمية والاقليمية، السياسية والامنية والمتخصصة) وتطورالعلاقات بين الدول والمتغيرات المصاحبة للعولمة وثورة التكنولوجيا هي التي حتمت تكييف مبدأ السيادة وبالتالي تقييد الحقوق والصلاحيات والوظائف السيادية للدولة بما يكفل مصالح المجتمع الدولي، وبذلك لم يعد التدخل في الشؤن الداخلية للدولة أمرًا غير مشروع، كما كان في الماضي، بل أمرًا جائزًا تبرره الحقائق الراهنة، ومن أبرز نواحي الشؤون الداخلية للدولة التي طالها التدخل الدولي هي علاقة الدولة مع رعاياها خاصة في مجال حقوق الانسان والحريات العامة، والسياسات المالية والاقتصادية والإدارية للدولة، وطال التدخل أيضًا جميع نواحي العلاقات الاقتصادية بين الدول، وأبرز مظاهر التدخل في شؤون الدول والتي تحد من السلطات والصلاحيات السيادية للدول نجدها في ميثاق الأمم المتحدة الذي جعل صلاحيات واختصاصات هذه المنظمة تشمل بالإضافة للنواحي السياسية والأمنية المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها التي كانت تعتبر تقليديًا من صميم الاختصاص الداخلي للدول، ونجدها أيضًا في معاهدة ماسترخت الموقعة في عام 1991 والمنشئة للاتحاد الأوروبي، والمعاهدات المعدلة لها، والتي أنشأت مؤسسات اتحادية فوق المؤسسات الوطنية للدول الأعضاء، وكذلك نجدها في نظام المحكمة الجنائية الدولية الذي جعل أصحاب السيادة في الدول المصدقة لهذا النظام، من رؤساء الدول ورؤساء الحكومات والوزراء والنواب والموظفيين الرسميين، خاضعين لاختصاص المحكمة في حال ارتكابهم جرائم دولية. وبذلك نجد أن التطورات الراهنة في النظام الدولي على الرغم من أنها قد قلصت من السلطات والوظائف التقليدية للدولة، إلا أنها لم تأت على السيادة. صحيح أن السيادة تواجه في الوقت الحاضر وضعًا صعبًا بسبب القيود والضوابط والشروط التي تفرض على الدول في ممارسة سيادتها، إلا أنها بقيت على اعتبار أنها أداة ضرورية لتنظيم العلاقات بين الدول، وهي ستبقى ما بقيت الدولة القومية. وجل ما في الأمرأن الدولة لم تعد مطلقة اليد في شؤونها الداخلية كما كانت في الماضي، بل أصبحت محكومة ومقيدة بضوابط وشروط تضمن عدم تعارض إدارتها لشؤونها الداخلية مع التزاماتها ومسؤولياتها الدولية، وعدم المس بحقوق ومصالح الدول الأخرى والأشخاص الدوليين الآخرين.
كانت مصر نموذجًا فريدًا في الاستقلال الوطني، فهي أول أمة في التاريخ القديم، نمت في نفسها عناصر الأمة بمعناها الكامل الصحيح، وذلك من حيث التجانس البشري والوحدة الطبيعية والسياسية، فكانت أول دولة بالمعنى السياسي المنظم تظهر على مسرح العالم القديم، ولم يمض قليل حتى كانت أعظم قوة سياسية فيه، ثم أول امبراطورية في التاريخ حققت لنفسها نطاقًا ممتدًا من السيطرة والنفوذ وصل بسرعة شمالًا على سوريا وإلى مشارف النهرين وميديا، ووصل غربًا إلى برقة وتخوم نوميديا، وجنوبا إلى أثيوبيا بمعناها الواسع القديم. فكونت أول حضارة في الكون، وأول سلطة، وأول جيش، وأول حكومة مركزية، وأول أسرة، واستطاعت لفترة تقارب الألف عام أن تحتفظ بهذه الحضارة، وتحتفظ بخصوصيتا أي التجانس التام الجنسي والعرقي، وارتبطت الحضارة المصرية القديمة بالاستقلالية في المقام الأول الذي اوجدت هذه الحضارة المبكرة في تاريخ البشرية، حتى جاءت حقبة الامبراطوريات التي أوجدتها تغيرات تاريخية واقتصادية كبرى وعديدة، فأخذت تذبل وتتحطم تحت طرقات الغزو الفارسي والآشوري والليبي والنوبي، على أن كانت الضربة القاضية على يد الإسكندر الأكبر حين تحولت مصر إلى ولاية إغريقية بطلمية، فمنذ ذلك الحين فقدت مصر استقلالها بلا انقطاع تقريبا، فتوالت عليها فتوحات الرومان والعرب والعثمانيين لتختتم بالاستعمار الأجنبي الأوروبي الحديث، فكان بالمثل أن انتهت تلك الحضارة المبهرة قبل الأوان، ورغم ذلك احتفظت مصر بحدودها وجغرافيتها وخصوصيتها الحضارية، واستطاعت رغم الاستعمار السياسي الفوقي أن تحتفط بالاستقلالية والتمايز بل وابتلاع الغزاة، وهضمهم وتمصيرهم، لتبقى مصر بتميزها وتفردها عبر التاريخ، وكان أهم مايميزها هو الاستقلالية الموضوعية، أي المتناغمة مع التاريخ والجغراقيا والاستقلالية الاقتصادية التي أوجدها نهر ووادي النيل. وسوف نلقي الضوء تباعًا في سلسلة مقالاتي هذه على أهم محطات مسيرة الاستقلال الوطني المصري عبر التاريخ وحتى وقتنا الحالي.
مجلة الوعي العربي