المقال الثالث (3 – 4 )
استعرضنا في الأسبوعين الماضيين شهادات حيّة لشخصيات التي عاصرت عن قرب شديد اللحظات الأخيرة لنهاية الحكم الملكي .. وأسرة محمد علي في مصر .. بعد نحو 147 عاما على تولي ” محمد علي ” ولاية مصر وحكمها عام 1805 .
وكانت الشهادة الأولى لأحد ضباط الحرس الملكي .. هو المرحوم ” محمد وفاء حجازي ” .. الضابط في الحرس الملكي .. والذي كان مناوبا في قصر رأس التين لحظة اندلاع حركة الضباط الأحرار .. وكان شاهدا على على توقيع فاروق لوثيقة التنازل عن العرش لإبنه .. ثم مغادرته البلاد على متن اليخت المحروسة .
واستعرضنا كذلك شهادة المستشار ” سليمان حافظ ” .. الرجل الذي صاغ وثيقة التنازل .. والذي قدمها بنفسه لفاروق لتوقيعها .
لماذا إستسلم فاروق ؟
للأجابة عن هذا السؤال نعود لمذكرات المستشار سليمان حافظ .. الرجل الذي قدم وثيقة التنازل عن العرش للملك السابق فاروق .
يجيب ” سليمان حافظ ” على هذا السؤال قائلا :
“.. وإذا كان نزول الملك عن عرشه قد تم بهذه السهولة دون سفك دماء ولا متاعب , فإنما يرجع الفضل في ذلك , بعد الله , وما ألقاه الله في قلبه من رعب نتيجة مباغتة القوات الثائرة له , وإدراكه ألا ملجأ له منها , أن الشعب كان أشد سخطا عليه منها , ويرجع الفضل بعد هذا كله إلى ما أبداه ” علي ماهر ” من مهارة وحزم وحضور ذهن وسرعة خاطر في إقناعه بذلك .. وهي صفات كان يمتاز بها ” علي ماهر ” على سائر أقرانه من السياسيين القدامى في مواجهة الأحداث المفاجئة ” ( سليمان حافظ , مصدر سابق , صفحة 45 ) .
وهكذا نرى من شهادة المستشار ” سليمان حافظ ” أن فاروق طاف بذهنه خاطر مقاومة الضباط الثائرين .. وصورت له ظنونه أن لديه من قوات الجيش الموالية له , ما يمكنه من هزيمة الضباط الثائرين .. كما فعل جده الخديوي توفيق مع عرابي وصحبه .
وهنا يثور سؤال : هل كان الإشتباك الذي حدث بين الضباط المحيطين بفاروق والقوات المحاصرة لقصر رأس التين بناء على مبادرة من ضباط الحرس الملكي أم بناء على أوامر من فاروق نفسه ؟؟
شهادة الضابط والمؤرخ أحمد حمروش
للأجابة على هذا السؤال , من المهم الإستماع لشهادة المرحوم ” أحمد حمروش ” .. أحد الضباط الأحرار الذي شاركوا عن قرب في وقائع تلك الأيام .. وكان مسؤولا عن القوات التي تحركت إلى الأسكندرية لمحاصرة فاروق في الأسكندرية .. وهو في الوقت ذاته أحد المؤرخين الجادين لوقائع ثورة يوليو ..
يقول أحمد حمروش :
” .. ولما كان الملك في الأسكندرية , فقد أخذت الأنظار تتجه إليها , وخاصة بعد أن استتب الأمن في القاهرة , وحوصر قصر عابدين , , وتم أعتقال كبار ضباط الجيش , والقلم السياسي , ومدير الأمن . . ولم تكد تهدأ أنفاس الضباط الأحرار في القاهرة , حتى كان الأمر قد استقر على إرسال وحدات إلى الأسكندرية تمهيدا لعزل الملك . بناء على تكليف لزكريا محيي الدين بوضعها , كما وضع من قبل خطة تحريك القوات يوم 22\ 23 يوليو . لم يكن تحريك القوات إلى السكندرية مجرد مظاهرة عسكرية , ولكنه كان ضرورة تقتضيها ظروف الحيطة والحذر من تصرفات الملك , الذي كان مجرد وجوده يمثل خطرا حتى اللحظة الأخيرة . فالبحرية .. مثلا .. كانت خاضعة له خضوعا كاملا ولم تسهم بأي دور في الحركة .. وقوات الجيش هناك كانت محدودة .
لم يكن الملك يائسا .. كان يبحث عن طريقة للخروج من هذا المأزق .. كانت كلماته التي حملها مرتضي المراغي إلى محمد نجيب تحمل تلميحا باحتمال تدخل القوات البريطانية في الموقف كما حدث في أيام أحمد عرابي . ( أحمد حمروش , قصة ثورة يوليو , ص 227 )
فاروق يطلب حماية السفارة البريطانية
وقبل أن ننتقل إلى موضع آخر .. يهمنا أن نذكر ما كتبه ” مرتضى المراغي ” آخر وزير للداخلية في عهد فاروق بصدد الإتصالات الأخيرة للملك فاروق بالإنجليز والأمريكان ..
ومذكرات الأستاذ ” مرتضي المراغي ” تكتسب أهميتها من كونها صادرة من رجل كانت تصب في مكتبه كل التقارير السرية لجهاز الأمن المصري عن الأحداث والشخصيات والأحزاب السياسية والمنظمات السرية .. ومنها تنظيم الضباط الأحرار .
ورغم الإحتراز الواجب في النقل عن ” مرتضى المراغي ” .. الذي حاول في مذكراته غسل سمعته عن الفساد الذي لحق بدوائر الحكم .. وخصوصا الفساد المتعلق بالملك وحاشيته .
الإتصال بالإنجليز
يقول الأستاذ ” مرتضى المراغي ” عن واقعة الإتصال بالسفارة البريطانية ما يلي :
” .. لقد أراد الملك فاروق فعلا أن يستعين بالإنجليز في اليوم التالي لقيام الثورة . فأرسل مبعوثا إلى السفارة البريطانية قابل فيها الوزير المفوض مستر ” كرسويل ” الذي كان قائما بأعمال السفير . ودار بينهما هذا الحوار :
- المبعوث : أنا موفد من الملك فاروق برسالة إليك .
- المستر ” كرسويل ” ( بسخرية ) : وما هي الرسالة ؟
- المبعوث : إنه يود معرفة ما إذا كنتم تستطيعون مساعدته ؟
- كرسويل : وهل تظن أننا نساعد مجنونا ملعونا( Dam fool) ؟
وهكذا ترك الإنجليز فاروق لقدره !! ( مرتضى المراغي .. شاهد على حكم فاروق . ص 290 )
اللجوء للأمريكان
كان فاروق يحاول بكل الطرق انقاذ عرشه . فلما يئس من البريطانيين , فكر في اللجوء للأمريكان لإقناعهم بالتدخل لدى البريطانيين وانقاذه من حركة الضباط . وهكذا استدعى الملك فاروق ” جيفرسون كافري ” سفير أمريكا لمقابلته في سراي المنتزة يوم 23 يوليو . وطلب منه فاروق أن يطلب من حكومته اقناع الحكومة البريطانية بحاجة الملك الشديدة لتدخل قواتها .
ويقول ” ايدن ” في مذكراته أنه قد أوضح للسفارة البريطانية في القاهرة ان القوات البريطانية لا يجوز أن تتدخل لإبقاء فاروق على العرش . ولذا فإن السفارة البريطانية لم ترد على السفير الأمريكي ” كافري ” ردا مشجعا بعد اتصالات عاجلة تمت بين لندن وواشنطن ؟؟ كما يقول الوزير البريطاني ” أنتوني ناتنج ” في كتابه المهم ” ناصر ” .
ويعقب ” أحمد حمروش ” على هذه الوقائع بجملة واحدة موحية : ” وهكذا لم تثمر جهود ” الملك ” في استجلاب تدخل بريطاني أو أمريكي لحماية عرشه ” . ( قصة ثورة يوليو … , صفحة 227 ) .
يذكر ” أحمد حمروش ” في كتابه ” قصة ثورة يوليو ” ما يلي :
” …وكان الملك قد جمع حوله ” أنطون بوللي ” , ” كافتسي ” ( مدرب الكلاب ) , ” جارو ” ( الحلاق ) , والقائمقام ” حلمي حسين ” ( السائق ) , و ” محمد حسن ” ( الشماشرجي ) , والأميرلاي ” محمد أبو النصر ” ( مدير مشاة الحرس الملكي ) , والياور ” علي مقلد ” والياور الجوي ” حسن عاكف ” .. وطلب منهم صد الهجوم عن القصر بتوجيه نيران الهجانة ومدافع الماكينة على الدبابات الرابضة خارج الأسوار .. وبدأت الطلقات المتبادلة .. ثم أمر الملك بوقف الضرب عندما أبلغ أن مدفعا كبيرا مصوبا فوهته على صالة القصر ” . ( أحمد حمروش , قصة الثورة , ص 228 ).
وهكذا أدرك فاروق أن توازن القوى ليس في صالحه .. وأن قوات الحركة سيطرت على الموقف .. ونجحت في حصاره مع أسرته .
وقرر الإستسلام .. ومغادرة البلاد .
فاروق : أنتم سبقتوني !!
تبقى في إطار هذه الدراسة .. واقعة تستحق الذكر .. فيما يخص نيّة فاروق مقاومة حركة الضباط .. وقد ذكرتها معظم المراجع والشهادات القريبة من الأحداث . وهذه الواقعة حدثت أثناء توديع محمد نجيب وضباط الحركة لفاروق على اليخت المحروسة ..
ربما كان هذا الحوار الأخير , سببا فيما شاع عن عدم نية فاروق استخدام القوة ومقاومة حركة الضباط .
يقول أحمد حمروش في كتابه قصة ثورة يوليو :
” … وصعد محمد نجيب إلى المحروسة ومعه زملاؤه .. ثم أدى التحية العسكرية للملك المعزول .. وتصافحا باليد .. ومضت فترة سكون .. يقول عنها محمد نجيب ( الملك يتوقع أن أتحدث .. والقدرة على التعبير ضاعت من رهبة الموقف ) .
وأخيرا إنطلق نجيب يتحدث قائلا :
” أنني أريد أن أقول لك شيئا .. عندما اقتحمت الدبابات البريطانية قصرك في 4 فبراير 1942 .. كنت أنا الضابط الوحيد الذي قدم استقالته احتجاجا على هذا الإعتداء الشنيع على استقلال البلاد . فعلت هذا بإسم الجيش كله .. وعبرت به عن شعور هؤلاء الضباط الذين قاموا بالحركة اليوم .. وفي هذا ما يدل على مبلغ ما كان من ولائنا نحن رجال الحركة لك .. أما الآن فقد تطورت الأحوال .. وانقلبنا نحن حماتك إلى ثوار عليك نتيجة أعمالك وتصرفات من حولك ” .
وفوجيء فاروق بهذا الحديث فقال : على كل حال أنني أتمنى للجيش كل الخير ..وأني أوصيك خيرا بالجيش المصري .. فهو جيش أبائي وأجدادي .. أن مأموريتك شاقة وصعبة .
وقال له نجيب : اني أعرف أن الكولونيل باشا الفرنساوي هو الذي بدأ تكوين الجيش المصري .
وكان فاروق قد لاحظ أن ” جمال سالم ” يحمل عصاه وهو في حضرته .. فتوقف عن الحديث .. واشار له قائلا : أرم عصاك !!!
وحاول جمال سالم أن يعترض .. ولكن ” محمد نجيب ” نهره عن ذلك .. فألقى عصاه .. وووقف وقفة فيها شيء من اللامبالاة .
وقال الملك بعد أن صافحهم مودعا .. بعد أن أدى لهم التحية العسكرية .. أنتم سبقتوني في اللي عملتوه .. اللي عملتوه دلوقتى كنت راح أعمله ؟؟!!
وطلب الملك تأجيل رحيل المحروسة نصف ساعة حتى تحضر بقية حقائبه .. ووافق نجيب بلا تردد . وخرج وفي ذهنه كلمات الملك .
ويعقب ” أحمد حمروش ” على هذا الحوار قائلا :
” … كان سباقا مع الزمن بين الملك وبين الضباط الأحرار . لو كانت الحركة قد تأخرت أياما , ربما كان بعضهم قد أصبح خلف قضبان السجون .. والملك في حياته اللاهية . ولكن أحداث التاريخ شاءت أن يخرج الملك معزولا من مصر , وأن يصبح ” محمد نجيب ” قائدا لحركة الجيش ” . ( ثورة 23 يوليو , أحمد حمروش , صفحة 232- 233 , طبعة الهيئة المصرية للكتاب ) .
ونستكمل في المقال القادم الشهادات الحية عن ظروف وملابسات موت الملك فاروق والتي دارت حولها اشاعات وأقاويل كثيرة .
مجلة الوعي العربي