نصر محمد عارف
كان أبي رحمة الله عليه حريصاً على تعليمي، بل إنه استبق المدرسة، وعلمني بنفسه حين عمري أربع سنوات الأبجدية العربية، والإنجليزية، وعلمني الحساب، وعواصم أفريقيا، وكنت اضحك كثيراً من جمال ونغم عاصمة إثيوبيا “أديس ابابا”، وكان ينتظر بشوق ولهفة إرسالي إلى المدرسة، ولكن ناظر المدرسة كان له رأي آخر، فقد كان على خلاف مع والدي، فلم يسجل إسمي في المقبولين عند سن السادسة، وانتظر أبي على مضض، وجاءت السنة التالية، وعمري وصل السابعة، وأصر حضرة الناظر، ولم يسجلني في هذه السنة ايضا، وبذلك اصبح مصيري الذهاب إلى فصول محو الأمية، لأن القانون في ذلك الوقت كان يسمح بالدخول إلى التعليم الإلزامي حتى قبل الثامنة، أما من تجاوز الثامنة فمصيره محو الأمية، وهكذا كانت خطة حضرة الناظر أن يكون مصيري.
حينها أدرك أبي المؤامرة، واشتكى للمنطقة التعليمية، ثم لمديرية التربية والتعليم، ثم للمحافظ، ولم يحصل على أية نتيجة، فكان الملاذ الأخير أن يرسل رسالة إلى جمال عبدالناصر، وكتب رسالة مؤثرة بخطه الرائع الجمال.
وبعد شهرين جاء البوسطجي راكبا “جحش” بلجام أنيق يصرخ من أول “نجع الدقيشي” - حيث تسكن أسرتي، وهو أحد توابع قرية أولاد عزاز - محمد احمد عارف له جواب من جمال عبدالناصر.
واجتمع أهل النجع، وقرأ ابي الخطاب، وفيه رد على شكواه موجه للمحافظ، ومدير التربية والتعليم في سوهاج؛ بأن أحصل على حقي في التعليم بشرط عدم تجاوز القانون، الذي ينص على أن يكون عمري دون الثامنة؛ حينها كنت قد تجاوزت السابعة والنصف، والعام الدراسي قارب على الانتهاء، وفي العام القادم سأكون قد تجاوزت الثامنة، ذهبت مع أبي إلى المنطقة التعليمية، ومديرية التربية والتعليم، ومكتب محافظ سوهاج، وكان القرار أن يتم إتلاف شهادة ميلادي الحقيقية، وأن يتم كذلك عمل “تسنين” أي تقدير عمر بمعرفة الطبيب، وتم وضع تاريخ ميلاد جديد لي، حتى أتمكن من دخول المدرسة في العام التالي.
هذه القصة حكيتها منذ سنوات للمدير الأكاديمي الجامعة التي كنت اعمل فيها وهو أمريكي، ونائبة البريطاني حين تركتهما وحيدين في حفل زواج الشيخ محمد ابن معالي الشيخ نهيان مبارك آل نهيان وزير التعليم العالي والرئيس المؤسس لجامعة زايد، لأقدم واجب الاحترام والضيافة للأستاذ عبد الحميد جمال عبد الناصر، الذي كان ضيفا على سعادة الدكتور سليمان الجاسم نائب رئس الجامعة…. وأثار استغرابهما أن أتركهما من أجل هذا الانسان البسيط، فقلت لهما: هذا ابن الزعيم جمال عبد الناصر، فرد على البريطاني، قائلا: هذا ابن عدونا اللدود….. فكان ردي السريع عليه…هذا ابن زعيمنا العظيم، لولا والده لكنت أرعى الغنم… وأحمل الفأس في نجع الدقيشي…. ولم أكن معكما الأن…. وتركتهما واصطحبت الكريم ابن الكريم عبد الحميد جمال عبد الناصر وابنه عبد الناصر…….
جمال عبد الناصر وثورة يوليو جزء أصيل في التكوين الوجداني للجيل الذي أنتمي اليه، هو وهي؛ أي ناصر والثورة؛ ذاتنا، ووجودنا، ورمزنا الوراثي، وجيناتنا التي تميزنا عن باقي الأجيال السابقة واللاحقة، علاقتنا بهذه الثورة وقائدها علاقة عاطفية مغرقة في الرومانسية، لذلك نبتعد كثيرا عن الموضوعية في تناول الثورة وقائدها، وإن فعلنا يغضب منا أبناء وبنات جيلنا.
جمال عبد الناصر غير العالم بثورته، كان نموذجا لحركات التحرير في إفريقيا وآسيا، استعاد الكرامة من سالبيها، وأذاقهم مرارة الذل والهوان، تغيرت حكومات وسقط رؤساء وزراء في بريطانيا وغيرها بسببه، أقيل وزير خارجية أستراليا وهو في الطائرة لأن عبد الناصر قال له ” أنت صبي مستعمر صغير” حين جاء يطلب من مصر إلغاء قرار تأميم قناة السويس، عبد الناصر وثورته كانا نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم الثالث. هذه حقيقة لا يُجادل فيها أي باحث على قدر من الموضوعية والحياد.
كذلك عبدالناصر وثورته غيرا مصر تغييرا جذريا، انتصرت الثورة للفقراء والمطحونين، ورفعت شأن أبناء الريف الذين كانوا في طي النسيان في ذلك الزمان، وحققت أعلى درجات العدالة الاجتماعية، ولكن كان ذلك على حساب تقاليد المجتمع المصري، ومؤسساته ونظمه، فقد أحدثت الثورة ارتباكا اجتماعيا من خلال الانتقام من الطبقات الغنية التي لم تكن كلها فاسدة كما تعلمنا، وهذا أفقد مصر الكثر من قيم التماسك، والانضباط الاجتماعي، وأدخلها في حالة فوضى قيمية ظهرت أثارها في عهد السادات الذي أطلق كل طاقات الأنانية في المصريين، وأخرج من المصري كل مشاعر الحرمان، فانطلق يسعى وراء الثراء بأي ثمن.
الثورة كذلك أربكت الحياة السياسية في مصر، وضيقت على الحريات، وأخذت إجراءات لم تكن ضرورية بهذا الحجم، وتلك القسوة، فضاعت تقاليد العمل السياسي الى اليوم، وترسخت تقاليد الحزب الواحد، والرأي الواحد، حتى جاء التغيير الجذري في 2011، و2013 وأعادا الأمل الى الإنسان المصري في مستقبل سياسي مختلف عن نصف القرن الماضي.
للأسف الشديد لم تتم حتى الآن مقاربة موضوعية لتجربة عبد الناصر، وثورة يوليو، تلك التجربة التي لم يشهد العالم العربي، بل العالم الثالث مثلها، نحتاج أن ندرس هذه التجربة ليس بصفتها عبقرية فذة، وفيها من هذه العبقرية، وليس على أنها كارثة تاريخية، وفيها من الأخطاء ما لا يصل الى هذا الحد، وإنما بصفتها، تجربة تاريخية رائدة لها ما لها، وعليها ما عليها، والمهم أن نستقي منها الدروس للمستقبل.
رحم الله عبد الناصر ورفاقه، ويظل هو وثورته في أعماق جيلي رغم كل ما تعلمناه من قيم الموضوعية والحياد.
مجلة الوعي العربي