الرئيسية / حوارات ناصرية / د.صفوت حاتم يكتب :على ذكر ما جرى فاروق يهدد بضرب حركة الجيش: المقال الثاني ( 2-4 )

د.صفوت حاتم يكتب :على ذكر ما جرى فاروق يهدد بضرب حركة الجيش: المقال الثاني ( 2-4 )

 

 

المقال الثاني ( 2-4 )

على ذكر ما جرى

فاروق يهدد بضرب حركة الجيش

مثلت وثيقة تنازل الملك فاروق عن العرش باكورة العمل القانوني للثنائي القانوني ( السنهوري وحافظ ) .. وهي الوثيقة التي صاغاها سويا .. وقدمها للملك ” سليمان حافظ ” بنفسه .

عن وقائع تنازل الملك عن العرش يقول الأستاذ ” سليمان حافظ ” :

” … اجتمع رئيس الحكومة علي ماهر عقب وصوله باللواء ” محمد نجيب ” فترة .. ثم غادر مقر الوزارة في ” بولكلي ” متجها إلى قصر رأس التين .. حيث انتقل الملك .. بعد أن طلب مني عدم مبارحة مكاني حتى يعود … ولما عاد رئيس الوزراء استدعاني لغرفته حيث فاجأني بسؤال أدركت منه ما سوف يتمخض عنه اليوم من أحداث جسام .. قال : أعندكم في مجلس الدولة شخص كعبد الحميد بدوي ؟؟!!

قلت : بل من هو خير منه .

قال : من هو ؟؟ !!

قلت : الدكتور السنهوري .

قال : أريدكما الى جانبي .. ومعكما .. شخص ثالث .. فهل ترى الدكتور وحيد رأفت ملائم ؟

قلت : بل الأستاذ عبده محرم . قال : أعدوا لي وثيقة بتنازل الملك فاروق عن العرش لإبنه أحمد فؤاد .. على أن تكون معدة للتوقيع ظهر اليوم !!

ويكمل المستشار ” سليمان حافظ ” قائلا في مذكراته :

” اتصلت تليفونيا بالأستاذ عبده محرم في مصيفه بالأسكندرية .. فقيل لي إنه في القاهرة .

وأسرعت إلى الدكتور السنهوري بمنزله فأبلغته الأمر . وأخذ في إرتداء ملابسه للتوجه معي إلى بولكلي . بينما كنت أنا ألقي نظرة عاجلة على نسخة من الدستور كان قد وافاني بها من عنده …

وفي دقائق معدودات , كنا قد أعددنا مسودة وثيقة تنازل فاروق عن العرش , بعدما أتفق رأينا على أن تكون في صيغة أمر ملكي , استلهمنا ديباجته من مقدمة الدستور ذاته , وفيها رددنا سبب النزول عن العرش الي ما تقتضيه مصلحة البلاد …

وقبل أن أتخذ طريقي إلى القصر , طلبت من اللواء محمد نجيب وصاحبيّه أن يتصلوا بالقوات التي تحاصر القصر لتمكيني من دخوله …

وفي طريقي إلي قصر رأس التين , رأيت وحدة من مدفعية الميدان تحتل رأس الأنفوشي مصوبة مدافعها إلى القصر . ولما وصلت للقصر وجدته محاصرا بوحدات من مدفعية الميدان الخفيفة والمصفحات . وقد قابلت قائد القوة المحاصرة للقصر , وطلبت منه السماح لي بدخول القصر لمقابلة الملك في مأمورية عاجلة عُهد إليّ بها. وأبلغته بأن تعليمات له بذلك هي في طريقها إليه من القيادة العامة للقوات المسلحة بثكنات مصطفى كامل باشا.

فأخبرني أنه يأسف لأنها لم تصل فعلا .. وبدونها لا يستطيع إجابة مطالبي .

وكان لابد لكلينا من الانتظار .. فأخرجت علبة سجائري لأدخن .. فإذا بها خاوية .. وأسرع الضابط وقدم لي علبته .. فلم أجد فيها سوى لفافة واحدة أبيت أن أختص بها نفسي دونه .. ثم اصطلحنا على أن نشترك في تدخينها .. ففعلنا .. وما ذقت في حياتي من لذة التدخين ما ذقته يومئذ .

وفي هذه الأثناء كنت قد طلبت من الضابط الإتصال بثكنة مصطفى باشا عن طريق اللاسلكي لتلقي تعليمات منها بالترخيص لي في دخول القصر .

وعاد رسوله إلينا ليقول أن عطلا طرأ على جهاز الإرسال فتعذر الإتصال !!

وبينما كنت أفكر في وسيلة أخرى , فإذا بأنور السادات يصل فيفسح لي الطريق إلى باب القصر الخارجي , فأجده مغلقا وأضغط على زر الجرس فتفتح منه كوة يطل منها حارس أبلغه أني قادم من رياسة مجلس الوزراء لمهمة خاصة …

دخلت إلى مبنى في الجهة الغربية من الديوان , واستقبلني على بابه الخارجي رجل قصير القامة متوسط البنية أسمر اللون في ملابس مدنية . وقدم لي نفسه , فإذا به الأميرلاي ” أحمد كامل ” ياور الملك فاروق .

ثم دلج بي إلى صالة متسعة مستديرة صفت إلى جانب حوائطها مقاعد كبيرة تتخللها أخرى صغيرة وفي وسطها منضدة مستديرة من الرخام الداكن اللون , وفي الناحية اليمنى من مدخل الصالة باب لرواق احتشد إلى جواره عدد قليل من ضباط الحرس الملكي بملابسهم العسكرية ومن ضباط الحرس الخاص بملابسهم المدنية .

أجلسني الأميرلاي ” أحمد كامل في ” على أحد المقاعد الكبيرة , ووقف هو إلى جانبي يحادثني في رغبة للملك , ويرجو في هذا الظرف الدقيق الذي يمر به أن أعمل على تحقيقها .

وكانت تلك الرغبة هي الإفراج عن ” أنطون بوللي ” الذي كانت القوات المحاصرة قد أعتقلته في اليوم ذاته مع الإميرالاي ” حلمي حسين ” أثناء تسللهما من القصر إلى خارجه .. وأخبرني أن الملك سيصطحبه معه إلى خارج البلاد لغير رجعة .

وأضاف الأميرلاي ” أحمد كامل ” : ويا حبذا لو أمكن كذلك الإفراج عن ” حلمي حسين ” .. ولكن أمر ” بوللي ” هو الأهم عند الملك .. إذ توثقت صلته به منذ كان طفلا صغيرا !!

ويضيف المستشار ” سليمان حافظ ” :

” ونسى الأميرالاي “أحمد كامل ” نفسه في حرارة حديثه هذا وجلس القرفصاء إلى جانبي .. فإنتفضت واقفا .. قاطعا حديثه هذا حتى يجلس في أحد المقاعد .. وبعد تمنع قرّب مني أحد المقاعد الصغيرة وجلس عليه يكمل الحديث .. ولما أطمأن إلى وعدي بأن أبذل جهدي في تحقيق رغبة الملك السابق .. انصرف عني إلى داخل الرواق ” . ( المستشار سليمان حافظ .. ذكرياتي عن الثورة .. دار الشروق .. ص 45 )

هذا الجزأ من ذكريات المستشار ” سليمان حافظ ” ملفتة للنظر . فالملك فاروق .. كان يتعرض لأكبر أزمة في حياته .. فالجيش يطلب منه مغادرة البلاد والتنازل عن العرش .. بينما هو شخصيا لم يكن مهتما بشيء قدر اهتمامه بمصير ” بوللي ” و ” أحمد حلمي حسين ” . والأول منهما على وجه الخصوص !!

ويبدو أن ذلك كان مطلبه الأول الذي حمله ياوره الخاص للمستشار ” سليمان حافظ ” .. وألح عليه قبل مقابلة الملك .

لكن كيف كانت المقابلة مع الملك نفسه .. وماذا حدث في هذه المقابلة ؟

على هذا السؤال .. يجيب المستشار ” سليمان حافظ ” قائلا :

” .. لم يمض غير قليل حتى رأيت فاروق يخرج من الرواق متجها إلى المنضدة القائمة في وسط الصالة .. وهو عاري الرأس في حلة أميرال صيفية .. وكان يسير مسرع الخطى , تأخذ بخناقه سعلة عصبية متواصلة . فإتجهت بدوري إلى المنضدة .. وإلتقينا عندها .. حيث مدّ إلي يده فصافحته .. ثم أخرجت الوثيقة التي كنت أحملها إليه من مظروفها .. وقدمتها إليه .. فقرأها .. وسألني عن ديباجتها .. فأخبرته أنها مستمدة من مقدمة الدستور .

ثم أعاد قراءتها متسائلا عما إذا كانت الصياغة على ما يجب أن يكون .. فأكدت له ذلك .

فأخرج قلمه .. وقرأها مرة ثالثة كلمة كلمة .. ثم قال : ألا يمكن أن تضاف بعد عبارة ” بناء على إرادة الأمة ” كلمة ” وإرادتنا ” ؟؟

فقلت له أن صياغة الوثيقة في صورة أمر ملكي تنطوي على هذا المعنى .

قال : فما الضرر إذن من الإضافة ؟

قلت له : اننا لم ننته من صياغة الوثيقة على صورتها هذه إلا بصعوبة لا تسمح بإدخال أي تعديلات .

قال : إذن كانت هناك وثيقة أخرى ؟

قلت : نعم . فسألني عنها . فأجبته بأنني لم أطلع عليها . قال : لعلك لا تريد ذكر شيء عنها لما قد يكون فيها من معان تجرح شعوري ؟ فأكدت له بشرفي أنني لم أطلع عليها .

وعندئذ ذيل فاروق الوثيقة بتوقيعها .

وكانت عينّاي لا تفارق يده وهو يوقع .

ولعله لاحظ أنني أدركت من حركة اليد مبلغ انفعاله الذي كان يجالد للسيطرة عليه .. فقال : أنه لا يشك في أني ألتمس له العذر في أن توقيعه لم يكن في الظرف الذي يلابسه منضبطا .. على أنه سيمهر الوثيقة بتوقيع ثان . وقرن قوله بالفعل .. فوقع مرة أخرى في أعلى الوثيقة .

ورددت عليه بأنه ليس من فرد في هذه الأمة كان يّود أن يبلغ الأمر إلى هذه النهاية . ولكن هكذا أراد الله , ومن الخير الخضوع لإرادته .

فلم يعلق على ردي بقول .. وانما لاحت على وجهه ابتسامة حزينة وهو يرد قلمه إلى جيبه .

ولعله تذكر وقتئذ أن شعبا لم يوّل ملكه من الحب ما أولاه الشعب المصري له في السنين الأولى من ملكه . وأن ملكا لم يبدد مثل هذه الثروة في أقصر مدة مثلما بدّدها هو .. ثم استبدل الشعب بعد ذلك بالحب بغضا وبالولاء سخطا ومقتا .

فاروق يهدد بضرب حركة الجيش

نصل الآن للواقعة هدف هذا الدراسة , والخاصة بما كتبه الدكتور ” ناجح إبراهيم ” في مقاله بأخبار اليوم .. والذي ذكرناه في مقالنا .

فقد زعم الدكتور ” ناجح إبراهيم ” أنه بعد البحث والتقصي وجد أن الملك فاروق رفض أن يستجيب لنداءات بعض ضباط الحرس الملكي بالإشتباك مع الضباط الأحرار .. وأنهم قادرون على هزيمة الضباط الثائرين ..

ولكن الملك فاروق – كما يقول الدكتور ناجح إبراهيم .. أبى أن يتجاوب مع رغبة هؤلاء وقال لهم حرفيا : أنا لا أريد أن أريق دماء أولادي أو أن أقسم الشعب المصري إلى نصفين ” .. ثم تنازل عن العرش في صمت .. ثم ركب يخت المحروسة مغادرا مصر .. ثم بكى بكاء مريرا في طريقه إلى أوروبا “. ( الدكتور ناجح ابراهيم .. ثورة يوليو .. والربيع العربي .. أخبار اليوم ..25 يوليو 2015 ) .

وفي شهادة المستشار ” سليمان حافظ ” .. شاهد العيان الذي عاصر وقائع تنازل فاروق عن العرش من أول لحظة .. وهو من صاغ وثيقة التنازل مع الدكتور السنهوري .. وكان هو من قدمها لفاروق .. نراه يقول :

” لم أجد صعوبة في أداء مأموريتي لدى فاروق , لأن الرئيس ( يقصد رئيس الوزراء علي ماهر ) كان قد اتفق معه على النزول عن العرش عند مقابلته له في صباح هذا اليوم للمرة الثانية . وقد سمعت منه قصة ذلك الإتفاق فيما بعد …

قال لي ( يقصد علي ماهر ) إن اللواء نجيب سلمه إنذاراّ من القوات الثائرة بطلب نزول فاروق عن العرش ظهر ذلك اليوم .. ومغادرته مصر قبل الساعة السادسة من مساء نفس اليوم .. وكان الإنذار محررا بلهجة

بالغة منتهى الشدة . أحصت عباراته على فاروق في صراحة جارحة أوزاره ومساوئه . وقد خشى رئيس الوزراء “علي ماهر ” أن يطلع فاروق على نص الوثيقة فيركب رأسه .. فأبلغه مضمونه فحسب .. مشفوعا برأيه أن يقبله وينزل عن العرش لأبنه الطفل أحمد فؤاد .. وبذلك يستبقي الملك في ذريته .

وهنا قال فاروق لعلي ماهر إنه ليس جبانا .. وإن في وسعه أن يقاوم .. وإن لديه من القوات الموالية له أكثر مما لدى الثائرين .. فقاطعه علي ماهر بقوله : إنه لا يرضيه أن يعرّض بلاده لحرب أهلية لا يعلم الله ماذا ستجر على الوطن من ويلات ..

ثم انتقل – علي ماهر - بالحديث فجأة .. وقبل أن يتيح لفاروق الرد .. إلى موضوع آخر .. وسأله عما إذا كان يريد مغادرة مصر بالجو أو بالبحر ؟ فاختار الملك السفر ” بالمحروسة ” مشترطا أن يصحب معه زوجته ” ناريمان ” وولده منها ” أحمد فؤاد ” مع سائر أولاده .. وأن يودع على النحو الذي يليق بملك نزل عن عرشه بإختياره .. وأن تشترك الحكومة برئيسها والقوات المسلحة بقائدها في وداعه .

فأجابه علي ماهر إلى شروطه هذه دون تردد .. وهو لا يعلم أتقرّه عليها القوات الثائرة أم لا تقرّه عليها .

كما طلب فاروق - من علي ماهر - أن يُمّكن من مقابلة المستر ” كافري ” سفير أمريكا قبل سفره .. فوعده علي ماهر بذلك .

ثم طلب فاروق أن تحرسه في طريقه إلى إيطاليا إحدى قطع البحرية المصرية .. ولكن رئيس الحكومة “علي ماهر” أبى أن تتعدى الحراسة المياه الأقليمية .

وقد علمت فيما بعد أن فاروق طلب من السفير الأمريكي عندما قابله أن يكون اليخت ” المحروسة ” في حراسة بعض وحدات الإسطول الأمريكي .. الذي كان وقتئذ في مياه اليونان .. ولكن السفير الأمريكي اعتذر بوجوب استشارة حكومته وعدم اتساع الوقت للأتصال بها ” ( ذكرياتي عن الثورة , سليمان حافظ دار الشروق , الطبعة الأولى 2010 , صفحة 45 )

ويبقى سؤال : لماذا استسلم فاروق لقدره بهذه السهولة ؟

عن admin

شاهد أيضاً

وصية عبدالناصر ليلة الثورة.. وحكاية الـ200 جنيه

23 يوليو 2019 - 14 : 18   كتب - عادل عبدالمحسن “أنا ذاهب إلى …

تعليق واحد

  1. 🔹✌🏼✍️
    ” الزعيم عبدالناصر يتذكر بعد عشرة سنوات ليلة قيام ثورة ٢٣ يوليو ”

    مقدمة من أحد أبناء جيل عاش في عصر عبدالناصر.
    حَسن بُوحجي - البحرين.

    إن يوم ٢٣من شهر يوليو لعام ١٩٥٢م. كان يعني الكثير، بالنسبة للعديد من أبناء جيلي، ممن ولدوا عاشوا في عصر ثورة يوليو المجيدة، بقيادة اليوزباشي جمال عبدالناصر، العقل المفكر والقائد الفعلي لتنظيم الضباط الأحرار، الذى تولى القيام بإعلان التحرك الثوري بالإطاحة بالملك وحاشيته وأعوانهم من تحالف الرجعية والرأسمالية المستغلة؛ المتحالفة مع المستعمر الأجنبي لمصر ونيلها العظيم وقناتها الكبرا،،،
    إن يوم ٢٣ يوليو من عام ٥٢، كان موعد مع القدر حيث تحركت طلائع من الجيش المصري، تسقط النظام الملكي، وتعلن المبادئ السته المشهورة للثورة المجيدة.
    ***********************
    ذكريات الثورة بلسان صانع الثورة وزعيمها جمال عبدالناصر.
    نجحنا في خلع الملك .. قبل أن يقضي علينا
    في نحو الساعة العاشرة من مساء 22 يوليو.. جاء إلي بيتي ضابط المخابرات وعضو في جماعتنا.. وإن كنا لم نخطره بما اعتزمنا القيام به، يحذرني بأن القصر قد تسرب إليه نبأ استعداد الضباط الأحرار للتحرك.. وأن الملك اتصل برئيس أركان حرب الجيش الذي دعا إلي عقد اجتماع عاجل في الساعة الحادية عشرة لاتخاذ الإجراءات ضدنا..

    وكان لابد من اتخاذ قرار فوري، فلو أننا تركنا كل شيء ليتم في ساعة الصفر المتفق عليها وهي الواحدة صباحا فقد يدركوننا قبل أن ندركهم ومن ناحية أخري كانت الأوامر قد وزعت وكان من أصعب الأمور الاتصال بكل من له صلة بالموضوع..

    ***
    وانضم إلينا أيضا ضابط المخابرات وخرجت مع عبدالحكيم عامر لنجمع بعض القوات من ثكنات العباسية ووصلنا متأخرين، فقد وجدنا أن البوليس الحربي قد أغلق الثكنات.. فمضينا إلي ثكنات الفرسان فوجدنا أيضا أنهم سبقونا، وكان البوليس الحربي يحرس كل المداخل وبدا للحظات أن خطتنا كلها في خطر ولم يبق علي ساعة الصفر إلا تسعون دقيقة وبدا أن خطة الثورة كلها تدخل في مرحلة من تلك المراحل الخطيرة في التاريخ عندما تتدخل قوي أكبر منا لتوجيه الحوادث، ولقد تأكد لي من تطورات الأمور أن عناية ا

    كانت في تلك الليلة معنا..

    فقد انطلقنا لنتوجه إلي ثكنات ألماظة كحل أخير وكنت أسير بسيارتي الأوستين الصغيرة ومعي عبدالحكيم.. وفي طريقنا التقينا بطابور من الجنود قادمين من نفس الطريق تحت الظلام، وخرج الجنود من السيارة وألقوا القبض علينا.. لكن الجنود كانوا في الحقيقة من قوات الثورة، وكانوا ينفذون أوامري بإلقاء القبض علي كل الضباط فوق رتبة القائمقام دون مناقشة، ولم يكن الجنود يعرفون من أكون، فتجاهلوا كل كلامنا لمدة عشرين دقيقة تقريبا.. كل دقيقة منها أثمن ما يكون، ولم تصدر الأوامر فورا بإطلاق سراحي وسراح عبدالحكيم عامر إلا حين تقدم البكباشي يوسف صديق قائد المجموعة وأحد زملائي المقربين ليستطلع سر الضجة..

    لم أسعد في رؤية أحد في حياتي كما سعدت حين رأيت يوسف صديق يخرج من الظلام، فقد تحرك قبل الوقت المحدد له، وكان ينتظر حتي تحل ساعة الصفر المعنية ليبدأ الهجوم، وانضممنا إلي الطابور، وقررت ألا ننتظر واتجهنا فورا إلي القيادة وكانت قواتنا لا تزيد علي قوة سرية لكن عنصر المفاجأة كان في جانبنا..

    لقد اعتقلنا في الطريق عددا من قادة الجيش الذين كانوا يحضرون الاجتماع في القيادة لتوجيه الضربة ضدنا..
    وحدثت مقاومة قصيرة خارج القيادة، ثم اقتحمنا مبني القيادة نفسه ووجدنا رئيس هيئة أركان الحرب، وكان علي رأس المائدة يضع مع مساعديه خطة الإجراءات التي ستتخذ ضد الضباط الأحرار وقبضنا عليهم جميعا..

    وفي الساعة الثالثة صباحا كانوا قد التقوا قبل ذلك بعدة أيام من جديد، لكن التقاءهم هذه المرة كان في حجرة الاجتماعات بالقيادة العامة، وأوفدت من يجيء باللواء محمد نجيب الذي كنا قد فاتحناه قبلها بيومين في احتمال انضمامه إلينا إذا ما نجحت المحاولة، ولم نكن قد أطلعناه علي أحداث الليلة، ولكن تبين لنا أنه كان له علم مسبق بما حدث..

    فقد اتصل به وزير داخلية الملك تليفونيا من الاسكندرية، قبل ذلك بنصف ساعة ليستفسر منه عما يجري، وأمكنه أن يجيبه بأنه لا علم له بشيء دون أن يكون كاذبا في كلامه..

    كان نجاحنا تاما في الخطوات الأولي وبقي أن نستوثق تماما من أن الملك لن يتمكن من تنظيم هجوم مضاد..
    وفي الصباح أجرينا اتصالا بالسفارة الأمريكية أولا ثم السفارة البريطانية لإبلاغها أن الضباط الأحرار استولوا علي السلطة.. وأن كل شيء يجري في نظام تام.. وأن حياة الأجانب وممتلكاتهم ستؤمن ما لم يحدث تدخل خارجي..
    وفي الساعة السابعة صباحا، أعلنا علي الشعب المصري من محطة الإذاعة نبأ عزل الوزارة المصرية، وأن البلاد أصبحت أمانة في يد الجيش، وأن الجيش أصبح الآن تحت إشراف رجال يستطيع الشعب أن يثق ثقة تامة في كفاءتهم ونزاهتهم ووطنيتهم وكان الملك قبل ذلك بنصف ساعة قد سأل قائد جيشه عما يجري من أمور مفاجئة فأجابه قائلا: إنها مجرد عاصفة في فنجان يا صاحب الجلالة..

    والآن واجهتنا مشكلة كيف سيتصرف الملك؟.. وكان من رأي بعضنا محاكمته وإعدامه، وكنت لا أزال علي تصميمي أن تكون الثورة بيضاءما أمكن ذلك، وقد كنت أري إخراج الملك علي وجه السرعة..

    ولجأ الملك إلي السفير الأمريكي وطلب منه أن يتدخل مع الوزارة التي تألفت بعد الثورة لإنقاذ حياته. ولم نكن نريد حياته وإنما نريد خلعه من علي العرش.. ووقع الملك علي وثيقة التنازل عن العرش مرتين.. بعد أن قرأها وقعها أول مرة ويده ترتعش فاضطر إلي توقيعها من جديد. وكان في حالة شبه هيستيرية، وسمحنا له أن يأخذ معه ما بدا له ولم نشترط إلا أن يكون علي ظهر اليخت الملكي في ميناء الاسكندرية قبل السادسة مساء، وقد سمح للملك برغم خوفه أن يجهز 273 حقيبة وصندوقا..

    وأعلن نبأ تنازله عن العرش في السادسة مساء من محطة الإذاعة في الوقت نفسه الذي أبحر فيه الملك علي ظهر اليخت الملكي من ميناء الاسكندرية، وهو يلبس الزي الرسمي الأبيض، زي القائد الأعلي للبحرية.. وكان اللواء محمد نجيب يودعه علي ظهر اليخت، فكانت آخر كلمات الملك.. لقد كنت أستعد لأفعل بكم ما فعلتم بي..
    لقد نجحت العملية الأولي للثورة، وبقي علينا أن نجعل المستقبل يستحق كل هذا العناء..
    =====================
    ذلك ما رواه الرئيس جمال عبدالناصر.. عن ليلة ثورة 23 يوليو ..1952 بعد عشر سنوات كاملة من نجاحها.. في حديث صحفي لمجلة الصنداي تايمز البريطانية وهي كبري جرائد الأحد البريطانية.. أجراه معه الصحفي الانجليزي دافيد واين مورجان ونشر في 19 يونيو ..1962 في الاستعدادات لعيد الثورة العاشر..

    آخر ساعة

    ===============
    المصدر

    http://hakaek-misr.com/showthread.php?37721-%CC%E3%C7%E1-%DA%C8%CF-%C7%E1%E4%C7%D5%D1-%ED%D1%E6%ED-%E1%ED%E1%C9-%C7%E1%CB%E6%D1%C9

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *