عندما ينشب صراع بين أطراف دولية ويتطور صعودا في حدته ليصل إلي اللجوء والاحتكام إلي السلاح، فإن حالة الصراع ذاتها تنشئ وبصورة مبرمجة مراحل وأدوار ومهام يشارك فيها جميع أطياف المجتمع من الفرد/ والجماعة/ والنخب/ ومؤسسات الحكم بوصف هؤلاء جميعا يمثلون مكونات البنية الاجتماعية، والتي سيدور الصراع على أرضها وبها مباشرة، وهم أول من سيقع عليهم كل تبعات الصراع ونتائجه سلبا.
المرحلة الأولي للصراع:
وتبدأ أولي مراحل الصراع بالمرحلة التمهيدية والتي تعرف بالحرب النفسية حيث تشهد هذه المرحلة استدعاء لنوعين من النخب، أولهما وأهمهما نخب من الباحثين والمحققين الاستراتيجيين وهم أقلية، يلتزمون بقواعد ومبادئ تٌخْرِجْهٌمْ من دائرة الانحياز إلي دائرة الحياد، احتراما لذاتهم ولواجبهم تجاه الرأي العام أينما كان. وهم أفضل النخب التي يمكن الأخذ منها وعنها في التحليل والتفسير، في مرحلة الحرب النفسية وما بعدها.
يوازي الاستدعاء المرتبط بنخب المفكرين والمحققين الاستراتيجيين القادرين على التفسير والتحليل، استدعاء نخب أخري تضم النخب الدينية/ والسياسية/ والدعائية، ودور هؤلاء ينحصر في الترويج للقرار السيادي الصادر بشأن السلم والحرب في الدول المتصارعة أمام الرأي العام المحلي، وبغرض كسب تعاطفه وتأييده للسلطة السياسية أو الدينية.
وتبدأ مرحلة الحرب النفسية حيث يستعرض اطراف الصراع عن جهوزيتهم وقدراتهم واستعدادهم لخوض الصراع بكل مراحله ومستوياته، معززين ذلك بأحقيتهم فيما هو متنازع عليه من مصالح وأمن، مدعمين موقفهم _بحق أو بغير حق_ بتبريرات واسانيد تستند إلي الحقوق الوطنية والقومية والدينية والأخلاقية، ولا تصطدم مطالبهم وحقوقهم مع قواعد ومبادئ الشرعية الدولية.
وما نشاهده الآن من صراع بين أمريكا وتوابعها، وإيران وتوابعها، في أغني منطقة نفطية في العالم، وأكثر المناطق في العالم ازدحاما وتكدسا بالسلاح، هو أن قرار الحرب بالسلاح لم تعد السيطرة عليه بالكامل في يد كلا من الإدارة الأمريكية أو الإيرانية، وهنا مكمن الخطر، حيث أصبح في مقدور توابع الإدارة الأمريكية والادارة الإيرانية المنتشرة في المنطقة، في دفع أو محاولة دفع الصراع والانتقال به من الحرب النفسية إلي الحرب بالسلاح، بمعني الانتقال بالحرب المعمدة بالدعاية، إلي الحرب المعمدة بالدم.
كيف؟ سأصرب أمثلة على ذلك:
إسرائيل:
نفترض أن من مصلحة الكيان العنصري الصهيوني إرغام ودفع الإدارة الأمريكية في شن حرب مسلحة ومباشرة ضد إيران في الوقت والظرف الملائم لها، وهي تري أن المناخ العام الحالي خاصة بعد هذا الحشد والتواجد العسكري الأمريكي في منطقة الخليج فرصة تحقق من خلالها تدمير جميع الفرص التي تمكن إيران من صنع سلاح نووي، وتخشي إسرائيل أن تنتهي حالة الصراع والإعدادات العسكرية الحالية إلي حلول سياسية تضع بعض العراقيل الشكلية أمام إيران يمكن تخطيها، لكن تظل فرصة طهران في امتلاك سلاح نووي قائمة.
أمر آخر .. وهو أن تضع إيران في إطار مفاوضات تجري بغرض الخروج من الأزمة شرطا في مقابل تخليها عن حقها في امتلاك سلاحا نوويا هو أن يكون هذا المنع قاعدة عامة تطبق على جميع دول المنطقة، بما فيها الكيان الصهيوني، وأن تصبح منطقة الصراع بجغرافيتها كاملة خالية من أسلحة دمار شامل، وعندئذ سيحظى مطلب إيران بالتأييد الدولي، وبالتأييد الشعبي على مستوي العالم.
وهذا لا يمكن أن توافق عليه إسرائيل ولا تسمح بمناقشته اصلا أو التفاوض عليه.
أولا: لكون طبيعة إسرائيل كيانا توسعيا.
والأمر الثاني: أن التوازن النووي يحول بينها وبين تمددها الاستعماري، ونزع السلاح النووي من يد إسرائيل، أو تحييده بفعل توازن نووي مع إيران أو مع أي دولة عربية تقدر على انتاجه أو شرائه يسقط من أيدي إسرائيل ضمانة أمنها التي تلوح وتهدد بها الجميع.
ولهذا فقد أعطت إسرائيل لنفسها الحق المطلق في تدمير أي محاولة تقوم بها أي دولة في المنطقة تسعي لتوازن نووي معها، بدءا باغتيالات العلماء وصولا إلي نسف المنشآت النووية، المهم بالنسبة لإسرائيل هي تدمير أي محاولة حتي عندما تبدأ كفكرة أو مشروع ينشئ توازن نووي بينها وبين أي دولة من دول المنطقة.
نأتي لنصل إلي طرح السؤال: ماذا ستفعل إسرائيل في مواجهة الحل السياسي للصراع القائم الآن؟ هل تقدر إسرائيل في الدخول في مواجهة مباشرة مع إيران؟
إن دخول إسرائيل في مواجهة مباشرة مع إيران يتطلب الإذن بالموافقة من قبل الإدارة الأمريكية. ولكي تتخطي إسرائيل مطلب الإذن لها، وتلتف حول الموقف والقرار الأمريكي في الدخول في حرب مباشرة مع إيران، هو أن تستبدل المواجهة المباشرة مع إيران بعدوان مسلح مباشر على حزب الله في لبنان تحت أي دعاوي، علما أن إسرائيل تدرك وعن يقين بأنها سوف تتلقي رد عسكري مباشر من قبل حزب الله، وبذلك تكون إسرائيل قد استطاعت الالتفاف والخروج من دائرة الشريك التابع والخاضع عسكريا للموقف الأمريكي، إلي الشريك المورط للموقف الأمريكي في حرب مباشرة مع إيران.
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة من سيتكبد خسائر أكثر، ولكن ما يهمنا هنا أن نسجل أن طرف تابع للإدارة الأمريكية عسكريا وهو إسرائيل _تحديدا_ أصبح في مقدورها تغيير مسارات الصراع سلما أو حربا دون الرجوع بطلب الإذن لها من القطب الأمريكي التابعة له، بل وتوريطه في حرب مباشرة مع إيران.
الأسرات النفطية:
بداية .. إن ما يهم العائلات النفطية في المقام الأول والأخير هو تحقيق وتأكيد امـــنها، لا شيء أهم من هذا الهدف. الأمــن يعني استمرار وجودها أو زوال هذا الوجود، أما ما تواجهه مجتمعات تلك العائلات النفطية من مشاكل خارج نطاق الأمـــن فهي لا تصل إلي مستوي يهدد وجودها بالزوال، فالأمـــن يمثل الهدف الاستراتيجي لتلك العائلات، وما عداه من مشكلات داخلية يتولى النفط تغطية نفقات حلها وتأمينها.
ودعونا نتساءل…هل يمكن أن يكون للعائلات النفطية دورا وقرارا سياديا موازيا للدور والقرار السيادي الإسرائيلي في توجيه مسارات الصراع سلما أو حربا…بدون الدخول في حرب مباشرة مع إيران؟ أو بشن حرب مباشرة مع توابعها؟
إذا سلمنا بحقيقة التوافق والتطابق الاستراتيجي بين إسرائيل والعائلات النفطية في قضايا الأمـــن، فالحقيقة الأخرى هي أن تلك العائلات النفطية لا تمتلك من القدرات الذاتية ما يوفر لها ان تصبح قوة تمكنها من الخروج عن طاعة الإدارة الأمريكية كما هو متاحا بالنسبة لإسرائيل. فليس في مقدورها أن تدخل في حرب مباشرة مع إيران، بما يحقق لها دفع الثور الأمريكي للدخول في مواجهة مباشرة مع إيران.
وكل ما تستطيع القيام به تلك العائلات النفطية في مسارات الصراع:
_ هو أن تقوم العائلات النفطية بالدفع والتحريض بمجموعات من أبناء الأحواز العربية التي يحتلها المستعمر الإيراني منذ عام 1929 وحتى الآن، في القيام بأعمال داخل إيران لكن هذه المحاولات بما لها من تأثير يقلق (نعم) لكنها لا تؤثر في موازين القوة والدفع نحو الحرب المباشرة.
_ أن تكثف العائلات النفطية من حملاتها العسكرية ضد الحوثيون في اليمن، وهذا لن يحقق للعائلات النفطية جر إيران للدخول في حرب مباشرة معهم، تأييدا ودعما لأتباعهم من الحوثيون، وسيظل ينظر للحرب الدائرة بين العائلات النفطية والحوثيون في اليمن بأنها حرب إقليمية لا يمكن أن تكون سببا في مواجهة شاملة بين الولايات المتحدة وإيران.
_ أن توظف العائلات النفطية اتباعها في أجهزة الدعاية (مدفوعة الأجر) في المنطقة العربية وغيرها في العالم بتصعيد الحملات الدعائية ضد إيران وتوابعها.
_ أن ما جري من مسرحيات التأييد والتضامن عبر مؤتمرات القمة الثلاث في مكة، فأغلب من حضروها من رؤساء وملوك، لا يملكون أصلا ضمانات أمن شعبية تحميهم وتبقيهم في السلطة، وأكثر ما يستطيعون تقديمه للعائلات النفطية من تأييد وتضامن مقابل هبات مالية، هو أن يكونوا موردين لمرتزقة بزي عسكري، وتحت أعلام دولهم، على غرار ما كانت تقوم به منظمة (بلاك ووتر الأمريكية) في توريد مرتزقة للحرب في العراق، أما الموقف العربي الشعبي فأعتقد أنه موقف أقرب إلي التشفي فيهم وابعد ما يكون عن الدعم والتأييد لتلك العائلات النفطية.
نخلص إلي .. أن كل ما في أيدي العائلات النفطية من إمكانيات لا يمنحها الفرصة في توريط أمريكا في الدخول في حرب مباشرة مع إيران إلا إذا رغبت وقررت الإدارة الأمريكية ذلك، وعليه ستظل العائلات النفطية سجينة لدورها التابع لقوي خارجية منذ نشأتها على يد (الداية البريطانية) حتى تنتهي مدة صلاحيتها المرتبطة بعمر آبار النفط.
وستظل العائلات النفطية كيانات مفككة داخليا بفعل الصراعات العائلية فيما بينها، وبفعل تأثيرات عوائد النفط على التركيبة الاجتماعية في السلوك والتربية السياسية والأخلاقية، فجزء منهم يعيشون في أحضان ثقافات غربية تأنف أن ينسبون إليها. كل هذه الأسباب وغيرها تجرد العائلات النفطية من امتلاكها لقرارا سياديا يتعلق بقضايا وطنية أو قومية.
وهكذا…سينحصر دور تلك العائلات النفطية بين المطرقة والسندان أي بين السيادة الأمريكية وهم أصحاب آبار النفط الحقيقيين بعد تصريحات (ترامب) الساخرة والمعلنة، وبين الأطماع الإيرانية في دور إقليمي يصل بهم إلي الضفة الأخرى من الخليج.
من سيربح الحرب بمقاييس…الخسارة؟
وهنا نرصد عدد من النقاط نظن أنها تمثل علامات كاشفة، على سبيل المثال:
_ إن زوال النظام الإيراني لن يوفر للجبهة الأمريكية وتوابعها الاستقرار والأمن المنشود داخليا وإقليميا ودوليا بصورة تلقائية ومستمرة. هذا إذا كان في مقدور القوات المسلحة الأمريكية وتوابعها أن تزيل بالقوة العسكرية ما عجزت عن تحقيقه الإدارة الأمريكية بالسياسة.
_ في حالة صمود الجبهة الإيرانية في الحرب المباشرة والخروج منها بخسائر توجع، لكنها لا تدمر، عندها يصبح الطريق أمام إيران مفتوحا لتصبح قوة عظمي في المنطقة، ومعها يصبح الخليج النفطي (قاب قوسين…أو أدني) فارسي الضفتين ومحققا للشعار الاستعماري الذي رفعه شاه إيران من قبل، و هو نفس الشعار الذي تتبناه الثورة الإيرانية على حد سواء.
_ أن حجم الخسائر مهما كانت آثارها التدميرية على الجبهات المتحاربة بصورة مباشرة، لن تصل بالمتحاربين إلي العودة للصيغة الكلاسيكية حيث يفرض المنتصر عسكريا شروطه على الطرف المهزوم وينتهي الأمر، وإنما سينتقل الصراع ليأخذ أشكالا جديدة، فمن حرب تدميرية بين قوات عسكرية، إلي حرب استنزافية مستمرة زمنيا ومتوسعة جغرافيا، وهذه النماذج من الحروب لا يوائم كلا من الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل تحديدا، فجميع الحروب التي دخلتها أمريكا كانت حروبا بدأتها بفتح نار جهنم على الدول والشعوب، وانتهت بإرغام الولايات المتحدة الأمريكية على الدخول في حروب استنزافية انهكتها عسكريا/ وبشريا/ وماليا/ وأخلاقيا، ووضعت النموذج الأمريكي العدواني والبربري موازيا للنماذج النازية والفاشية.
_ أن من بين نتائج المواجهة العسكرية مأساوية هي الخسائر البشرية من المدنيين، وما ينتظرهم أثناء وبعد الحرب العسكرية، صحيح إن الخسائر البشرية على الجبهة الإيرانية وتوابعها ستكون عالية في أعدادها مقارنة بالأعداد البشرية في الجانب الأمريكي والإسرائيلي وتوابعهم، وهذا في حد ذاته سوف يزيد ويرسخ ويوسع رقعة الكراهية للأمريكيين ولإسرائيل والعائلات النفطية.
_ لقد تأكد الان أن نتائج الحروب والصراعات التي أشعلتها العائلات النفطية في المنطقة العربية وتدمير دول عربية حتى وإن كانت على خلاف أو خصومة سياسية معها، لم تحقق لها ضمانات امن، وكشفت الأحداث عن عَــوَرْ في الفكر والسلوك المتخلف لقيادات تلك العائلات الخليجية، فلم يحسنوا فهم وهضم التطور التاريخي لحركة الصراعات الدولية، وأن ما يشعرون به الآن لدليل أنهم كانوا خارج مفاهيم العصر، وأنهم كانوا مشدودين في تعاملهم مع المعاصرة والتحديث بشعارات جرت صياغتها بأشعار الهجاء والمديح، وأن واقعهم ومن ثم مستقبلهم أصبح غائرا في رمال الربع الخراب، وأصبح الخروج والنجاة من دوامات الرمال سلما أو حربا يتوقف على دعم قوي خارجية بتكاليف باهظة تبدأ بضياع أغلب عوائد النفط، والمتبقي منه سيوظف في خدمة ديون ونفقات الحرب، ولا نستبعد أن تقرر الإدارة الأمريكية تحديد نسبة لها في ملكية مخزون النفط، أو احتمال آخر هو زوال ملكهم والعيش كلاجئين في دول البنوك التي تحتفظ لهم بما نهبوه من ثروات.
_أن ما توجهه العائلات النفطية وينتظر مجتمعاتها من مصير أقرب مما جري في كل من العراق/ سوريا/ لبنان/ ليبيا/ اليمن/ تونس/ مصر/ فلسطين، وقد يكون أسوأ، فعلى الباغي تدور الدوائر، وقد لا تملك عوائد النفط تجنيبهم هذا المصير، فلا يتبقى غير تصفيتهم وزوال ملكهم.
_ أن منطقة الصراع سوف تشهد طفرة ذاتية في انتاج السلاح وتحديثه تشمل الدول والجماعات المسلحة مع ما يلائم طبيعة المنطقة جغرافيا وسياسيا، وهذا في حد ذاته لن يمنح شعوب المنطقة أي إمكانية للنهوض الاقتصادي والاجتماعي والفكري.
_ وإذا سلمنا بأن النفط لقيمته ولدوره في الحياة الاقتصادية والمالية على مستوي العالم كله، يمتلك قيمة وميزة تحريضية على إشعال الحروب، وقدرة على اقحام وجذب أطراف دولية إلي حلبة المواجهة بفعل ارتفاع أسعاره، فإن التدخل الخارجي قد ينتهي بفرض تقسيمات تطول الخريطة السياسية والجغرافية للمنطقة، وما عليها من ثروات لصالح دول وكيانات خارج المنطقة.
_ في النهاية فإن النصر والهزيمة في حرب (خليج النفط) تقاس _وهذا هو الأهم_ بما تحققه أطراف الصراع من أهداف استراتيجية.
هل تحقق الهدف الاستراتيجي للإدارة الأمريكية والإسرائيلية وتوابعهم بزوال النظام الإيراني، وبقاء إسرائيل كقطب متفردا في المنطقة في حيازته سلاحا نوويا؟
أم تحقق الهدف الاستراتيجي لإيران وتوابعها بزوال النفوذ الأمريكي أو بإضعافه وكسره على الأقل، وظهور إيران كقطب موازي لإسرائيل نوويا؟
_وأخيرا أن الصراع الدائر الآن بين الإدارة الأمريكية وإيران واقتراب موعد مهرجانات الانتخابات الأمريكية، قد وضع مستقبل (ترامب) السياسي في قبضة المرشد الإيراني.
د. محمد فؤاد المغازي
برلين في 23/6/2019
مجلة الوعي العربي