تلك “الانتفاضة” وصفها الشاعر الكبير الراحل أحمد فؤاد نجم، في قصيدة شهيرة له، بـ”البشاير”، حين قال: “كل ما تهل البشاير.. يوم تمنتاشر يناير.. لما قامت مصر قومة بعد ما ظنوها نومه.. تلعن الجوع والمذلة والمظالم والحكومة؟”.. “حد فيهم كان يصدق.. بعد جهل وبعد نوم.. إن حس الشعب يسبق أي فكر وأي صوت.. هي دي مصر العظيمة”.
كانت “مصر العظيمة” مع بدايات عهد السادات على أعتاب تحول كبير في سياساتها وتوجهاتها الاقتصادية والاجتماعية التي كانت سائدة خلال عهد سلفه جمال عبد الناصر؛ من توجهات منحازة للغالبية العظمى من الشعب والفقراء، تعتمد على التخطيط والقطاع العام، إلى ما سمي بالانفتاح الذي وصفه لاحقا “أحمد بهاء الدين” بأنه “انفتاح السداح المداح” الذي استفاد منه، في المقام الأول، الرأسمالية الطفيلية والمضاربون والفاسدون.
“وقد ترافق مع ذلك سلسلة من الارتفاعات في أسعار المواد الأساسية جعلت الحياة “مغامرة صعبة”، وطبقا للإحصاءات الرسمية، فقد ارتفع رقم تكاليف المعيشة من عام 1973 إلى عام 1976 بنسبة 42% خلال 3 سنوات. وبينما الحال كذلك، والصحف الرسمية تخرج على الناس، قبيل أيام من 18 و19 يناير، بمانشيتات من نوع “تثبيت أسعار جميع السلع عام 1977، وتحسين أوضاع العاملين في الدولة”، و”السادات يطلب ألا يتحمل هذا الجيل كل التضحيات”، أعلن الدكتور عبد المنعم القيسوني، نائب رئيس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية، في 17 يناير، زيادة مباشرة في أسعار البنزين والبوتجاز والسكر والسجائر، وإلغاء الدعم بما يوفر للدولة 277 مليون جنيه يتحملها المستهلك في شكل زيادة في الأسعار، ابتداء من أسعار الدقيق الفاخر والذرة والسمسم والحلاوة الطحينية والفاصوليا واللحوم والشاي والأرز وصولا للمنسوجات والملبوسات.
وعلى سبيل المثال فقد جاء في المحضر الذي حرره العقيد منير محيسن بإدارة مباحث أمن الدولة في القاهرة في الساعة الواحدة فجر يوم 19 أنه “بالنسبة لأحداث الشغب والمظاهرات التي حدثت بالمدينة، صباح أمس، ثبت من التحريات والمعلومات المتوفرة لدى الفرع أن المتزعمين والمحركين لتلك الأحداث من العناصر الماركسية ومدعي الناصرية”، لتبدأ واحدة من أكبر حملات الاعتقالات لليساريين، وكان بين المطلوبين من توفي قبل الأحداث بفترة ومنهم من سافر خارج البلاد منذ سنوات.
ولاحقا في خطاب رئيس الوزراء آنذاك، ممدوح سالم، أمام مجلس الشعب، ردا على عدد من طلبات الإحاطة حول انتفاضة 18 و19 يناير، تكررت كلمات التآمر والمؤامرة عشرات المرات، ربما أكثر من أي كلمة أخرى، إذا يقول على سبيل المثال: “إن أخطر ما نتعرض له الآن، أن يتوه عن وعينا القومي الصلة العضوية الوثيقة بين هذا التآمر التخريبي، وصلته بالتيارات السياسية العالمية والداخلية، التي لا تريد لقضيتنا القومية الرئيسية حلا”، مضيفا في موضع آخر: “إن كل من يهدف عن عمد أو غير عمد إلى حصر هذه الأحداث وهذا التآمر في نطاق القرارات الاقتصادية لن يحقق إلا عزلته عن الفكر العالمي الإجماعي”.
غير أن أحكام القضاء، التي هي “عنوان الحقيقية”، كما يقولون، جاءت لتنسف الادعاءات السابقة، إذ قالت محكمة أمن الدولة العليا برئاسة المستشار محمود رياض الزيدي في حيثيات حكمها ببراءة 43 متهما: “كان لإذاعة بيان الموازنة بما حواه من رفع الأسعار في الوقت الذي كانت تنتظر فيه جماهير الشعب من الحكومة عكس ذلك، رد فعل قوي على مختلف طوائف الشعب أثارت أعصابه، فبدأت مجموعات من الطلبة والعمال منذ صباح 18 يناير تنتظم في مسيرات تعبر عن اعتراضها على سياسة رفع الأسعار، وكانت تردد بعض الهتافات المعادية للحكومة احتجاجا على سياستها في هذا الصدد. وكانت هذه الوسيلة للتعبير عن رأيهم، إنما دفعهم إليها ما عانوه خلال الفترة الطويلة الماضية وتلك الصدمة التي أحدثتها رفع الأسعار، ولم يكن هدفهم التخريب أو التدمير بدليل أنهم، وحلوان إحدى قلاع الصناعة في مصر وبها العديد من المصانع، لم يحاولوا المساس بأي من هذه المصانع أو الماكينات الموجودة بها وهي تساوي الملايين من الجنيهات بل كان لهم من وطنيتهم ما جعلهم يحولون بين وصول أي يد مخربة أو منحرفة داخل مصانع”.
_______________________________________________________________________________
انتفاضة 18 و 19 يناير - 1977
والله لبكرة يطلع النهار ياخال
والله لبكرة يطلع النهار ياخال
وتبقي الدنيا عال
والشمس تيجي تيجي من ورا الجبال
قبل إنتفاضة الخبز عام 1977، قامت قطاعات عمالية كثيرة بإضرابات وانتفاضات في 75 و 76 فقد كان شعب مصر يحلم بالرخاء الاقتصادي الذي وعد به أنور السادات بعد حرب 73 وتحوله من الاشتراكية للراسمالية وتقربة من الولايات المتحدة الأمريكية الا انة في يوم 17 يناير 1977 اعلن نائب رئيس الوزراء للشئون المالية والاقتصادية الدكتور عبدالمنعم القيسونى في بيان له أمام مجلس الشعب مجموعة من القرارات الاقتصادية منها رفع الدعم عن مجموعة من السلع الأساسية وبذلك رفع أسعار الخبز والسكر والشاى والأرز والزيت والبنزين و25 سلعة أخرى من السلع الهامة في حياة المواطن البسيط، وكانت الإجراءات تشتمل على تخفيض الدعم للحاجات الأساسية بصورة ترفع سعر الخبز بنسبة 50% والسكر 25% والشاي 35% وكذلك بعض السلع الأخرى ومنها الأرز وزيت الطهي والبنزين والسجائر.
بدأت الانتفاضة بعدد من التجمعات العمالية الكبيرة في منطقة حلوان بالقاهرة في شركة مصر حلوان للغزل والنسيج والمصانع الحربية وفي مصانع الغزل والنسيج في شبرا الخيمة وعمال شركة الترسانة البحرية في منطقة المكس بالأسكندرية وبدأ العمال يتجمعون ويعلنون رفضهم للقرارات الاقتصادية وخرجوا إلى الشوارع في مظاهرات حاشدة تهتف ضد الجوع والفقر وبسقوط الحكومة والنظام رافعة شعارات منها:
«ياساكنين القصور الفقرا عايشين في قبور
ياحاكمنا في عابدين فين الحق وفين الدين
عبد الناصر ياما قال خللوا بالكم م العمال
سيد مرعى يا سيد بيه كيلو اللحمة بقى بجنيه
هو بيلبس آخر موضة واحنا بنسكن عشرة ف أوضة
بالطول بالعرض حنجيب ممدوح الأرض
لا اله الا الله السادات عدو الله»
تطورات الانتفاضة الشعبية
بدات نفس المظاهرات في الجامعات وانضم الطلاب للعمال ومعهم الموظفين والكثير من فئات الشعب المصري في الشوارع والميادين القاهرة والمحافظات يهتفون ضد النظام والقرارات الاقتصادية وحدثت مظاهر عنف منها حرق اقسام الشرطة وابنية الخدمات العامة ومنها أقسام الشرطة (الأزبكية والسيدة زينب والدرب الأحمر وقسم شرطة إمبابة والساحل وحتى مديرية أمن القاهرة)، واستراحات الرئاسة بطول مصر من أسوان حتى مرسى مطروح واستراحة الرئيس بأسوان، ووصل الهجوم إلى بيت المحافظ بالمنصورة وتم نهب أثاثه وحرقه، ونزل إلى الشارع عناصر اليسار بكافة أطيافه رافعين شعارات الحركة الطلابية، واستمرت هذه المظاهرات حتى وقت متأخر من الليل مع عنف شديد من قوات الأمن وتم القبض على مئات المتظاهرين وعشرات النشطاء اليساريين.
إخماد الانتفاضة
استمرت الانتفاضة يومي 18 و 19 يناير وفي 19 يناير خرجت الصحف الثلاثة الكبري في مصر تتحدث عن مخطط شيوعي لاحداث بلبلة واضطرابات في مصر وقلب نظام الحكم وقامت الشرطة بالقاء القبض علي الكثير من النشطاء وزاد العنف في ذلك اليوم ثم اعلن في نشرة أخبار الثانية والنصف عن الغاء القرارات الاقتصادية ونزل الجيش المصري لمنع المظاهرات واعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول من السادسة مساء حتي السادسة صباحا[2]. وتم زج الآلاف في السجون المصرية بتهم المشاركة بأحداث الشغب أو الإنتماء لتنظيم شيوعي (ضمت القائمة أربعة تنظيمات)، وكان من ضمن المعتقلين عددا كبيرا من رجال القانون والمحاماة والكتاب والفنانين، وتوزعو على سجون طرة وسجن الإستئناف (باب الخلق) وسجن أبو زعبل.
مجلة الوعي العربي