
تشير البيانات الحديثة المتوافرة إلى ارتفاع استيراد مصر للغاز «الإسرائيلي» خلال كانون الثاني الماضي (من الويب)
القاهرة | تتعمّق أزمة الطاقة في مصر يوماً بعد يوم؛ فبينما تصدّرت البلاد قائمة الاكتشافات العالمية في كانون الثاني/ يناير الماضي، مع اكتشاف الغاز في بئر «نفرتاري-1» غرب البحر المتوسط، يفرض التراجع في الإنتاج المحلي نفسه كعامل ضاغط على المشهد. وبعدما عقدت القاهرة آمالاً كبيرة على أن تتحوّل إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة بفضل تعاظم إنتاج حقل «ظهر» الضخم والمشاريع الأخرى، وعقدت اتفاقية مع «تل أبيب» لاستيراد الغاز الطبيعي في عام 2018 بقيمة 15 مليار دولار (زادت لاحقاً إلى أكثر من 21 مليار دولار)، من أجل تصديره - بعد إسالته - إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، تدحرجت القاهرة نفسها نحو مصيدة الغاز الإسرائيلي بسبب احتياجاتها المتزايدة، والتي لا تقدر على تلبيتها ذاتياً، مع تراجع إنتاج الغاز الطبيعي في «ظهر»، إثر مشكلات عديدة طرأت عليه.
وتجلّى هذا التراجع بوضوح في كانون الثاني/ يناير الماضي، حين انخفض إنتاج مصر من الغاز الطبيعي إلى 3.69 مليارات متر مكعب، مقابل 4.65 مليارات في الشهر نفسه من العام الماضي، في وقت تصاعد فيه الطلب المحلي عليه بوتيرة سريعة، ما أجبر القاهرة على إيقاف أي تصدير للغاز وتوجيهه لكفاية الاستهلاك المحلي، وسط الاعتماد على تخفيف الأحمال عبر قطع التيار الكهربائي عن المواطنين. وفي تموز/ يوليو الماضي، أكّدت الحكومة المصرية أنها لن تعود مجدداً إلى «تخفيف الأحمال»، وسط تخصيصها 2.5 مليار دولار وحزمة من الخطط، لحلّ أزمة الفجوة بين إنتاجها من الغاز الطبيعي الذي بلغ في نهاية العام الماضي نحو 4.3 مليارات قدم مكعبة يومياً، والطلب المحلي المتزايد الذي بلغ في الوقت نفسه نحو 6.3 مليارات.
وفي غضون ذلك، ترافق التحول المفاجئ من التصدير إلى الاستيراد، مع ميل إلى اعتماد القاهرة على الغاز الطبيعي المستورد من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي صعّدت القاهرة وارداته إلى مستوى غير مسبوق، في وقت بات يشكّل فيه الغاز الإسرائيلي حالياً نحو 30% من احتياجات الطاقة في مصر، إذ ارتفعت واردات مصر من هذا الغاز، خلال عام 2023، لتبلغ نحو 8.57 مليارات متر مكعب، وارتفعت مرة أخرى في العام الماضي لتبلغ أكثر من 10.16 مليارات، في وقت تشير فيه البيانات الحديثة المتوافرة إلى ازديادها خلال كانون الثاني/ يناير الماضي إلى نحو 1.1 مليار قدم مكعبة على أساس يومي.
وأخيراً، تحدّثت وسائل إعلام متعددة عن محاولة «إسرائيل» الضغط على مصر عبر ملف الغاز الطبيعي؛ إذ طالب ممثّلو «تل أبيب»، خلال اجتماع عُقد الشهر الماضي في القاهرة لمناقشة التعاون في ملف الغاز، برفع سعر الغاز بنسبة 40%، وهو ما رفضته القاهرة وأجّلت التفاوض عليه إلى حين آخر، على رغم استجابة الأولى لطلب الأخيرة زيادة واردات الغاز لتلبية الطلب المحلي خلال الصيف المقبل. وهذه ليست المرة الأولى التي تستخدم فيها إسرائيل ملف الغاز للضغط على مصر؛ إذ كان العام الماضي قد شهد توقيف صادراتها من الغاز إلى مصر بحجّة حدوث أعطال؛ وعلى رغم وقوع هذه الأعطال فعلاً آنذاك، إلا أن وقف الصادرات ظل مستمراً لفترة للضغط على القاهرة، أقدمت «تل أبيب» خلالها على توجيه إنتاجها المُستأنف بعد الصيانة نحو الاستهلاك المحلي، بسبب الإجهاد المتواصل لشبكة الطاقة المحلية والذي سبّبته ضربات المقاومة.
يُرجّح أن ترتفع أسعار الوقود 3 مرات خلال العام الجاري بداية من نيسان المقبل
وبعدما بدأ قطاع الطاقة في إسرائيل يتعافى خلال تشرين الثاني / نوفمبر الماضي من عواقب الحرب، انخرطت «تل أبيب»، منذ بداية العام الجاري، في تنفيذ خطط لتطوير القطاع، أبرزها خطتا تطوير حقلَي «تمار» و«ليفياثان». وبُدئ بعمليات تطوير الحقل الأول خلال الشهر الجاري، لزيادة الإنتاج من نحو 10 مليارات متر مكعب سنوياً حالياً إلى 16.5 ملياراً، بعد تأجيله من آب/ أغسطس إلى تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وفي الوقت نفسه، استؤنفت أيضاً خطة تطوير «ليفياثان» والتي تعطّلت لشهور، وتشمل مرحلتين: الأولى، تستهدف زيادة الإنتاج من حوالي 12 مليار متر مكعب سنوياً حالياً إلى نحو 21 ملياراً بتكلفة 2.4 مليار دولار، فيما تستهدف الثانية إنتاج 23 مليار متر مكعب سنوياً. ومن الجَليّ أن السبب وراء هذه التطورات إنما هو زيادة صادرات «تل أبيب» من الغاز الطبيعي إلى عدة بلدان، من بينها مصر.
وبصرف النظر عن الضغوط الحالية التي تسلّطها إسرائيل على مصر، فإن صادراتها من الغاز إلى الأخيرة قد تواجه حداً أقصى بحلول نهاية العام الجاري، وذلك بسبب قيود البنية التحتية المصرية؛ إذ تبلغ سعة خط أنابيب «العريش - بورسعيد» نحو 1.4 مليار قدم مكعبة فقط يومياً. وعلى رغم خطط إضافة خط ثانٍ موازٍ لمضاعفة السعة، فلن يبدأ تشغيله قبل حلول عام 2027. والجدير ذكره، هنا، أن «تل أبيب» وافقت في كانون الأول/ ديسمبر الماضي على إنشاء خط أنابيب جديد يربطها بمصر - بتكلفة تُقدّر بنحو 200 مليون دولار -، بهدف زيادة الحد الأقصى لتوريد الغاز من حقل «ليفياثان»، بالإضافة إلى خطة لبناء خط أنابيب بحري آخر مع مصر خلال السنوات المقبلة.
ويأتي الضغط الإسرائيلي الأحدث على مصر في ملف الغاز، في وقت تتزايد فيه توترات العلاقة بين الجانبين، ولا سيما مع خرق إسرائيل الهدنة في غزة وعودتها إلى حرب الإبادة، إلى جانب ما سبق ذلك من مواقف مصرية أزعجت «تل أبيب»، ومن بينها حشود الجيش المصري في شمال سيناء ورفض خطة ترامب لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، بالإضافة إلى رفضها استمرار سيطرة إسرائيل على معبر رفح وممر «صلاح الدين»، وإصرارها على إدارة المعابر مع قطاع غزة، وفقاً للسيادة المصرية.
وفي هذا الوقت، تحاول القاهرة التخفّف من حدّة الضغوط الإسرائيلية عبر البحث عن بدائل لتوريد الغاز الطبيعي، من بينها دول عربية؛ إذ ناقش الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خلال اجتماعه الشهر الماضي مع ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تلك الضغوط، في خطوة قد تُمهّد لتدخل سعودي مباشر في ملف الغاز المصري. وفي الوقت نفسه، وسّعت القاهرة من تحركاتها الدولية، حيث دخلت قبل أسبوعين في مفاوضات لتصدير الغاز القبرصي إلى ألمانيا، وبحثت استئجار سفينة «تغويز» ألمانية خلال لقاء جمع وزير البترول المصري، كريم بدوي، بمسؤول ألماني رفيع على هامش مؤتمر «سيراويك 2025» في هيوستن.
وفي إطار محاولات الحكومة تحفيز الإنتاج المحلي، رفعت القاهرة سعر شراء الغاز المُنتج حديثاً من ثلاثة حقول تابعة لشركات «أباتشي» و«آي بي آر» الأميركيتين، و«كايرون بتروليوم» البريطانية، بنحو 61%، على أن يُطبق السعر الجديد على الإمدادات الإضافية فقط، ومن دون المساس بالعقود الأساسية. ويأتي ذلك بالتزامن مع تفعيل الخطط الحكومية لاستيراد ما بين 155 و160 شحنة غاز مسال هذا العام، لسدّ الفجوة المتزايدة بين الطلب المحلي المتصاعد والإنتاج المتراجع، في خطوة تتماشى مع ارتفاع تكاليف إنتاج الغاز في مصر.
وعلى رغم المساعي المصرية الحثيثة لمواجهة الأزمة، يظلّ تراجع الإنتاج العقبة الأبرز أمام تجاوز الوضع الحالي، وخصوصاً مع اقتراب ذروة الطلب خلال فصل الصيف المقبل. وعليه، تجد مصر نفسها أمام مفترق طرق حرج: إما نحو تعميق انزلاقها في مصيدة الغاز الإسرائيلي، أو الاستمرار في البحث عن حلول بديلة لتأمين احتياجاتها من الغاز الطبيعي، مع احتمال العودة مجدداً إلى سياسة «تخفيف الأحمال». وفي كلتا الحالتين، ستحمّل الحكومة المصرية الكلفة للمواطنين، فيما يُرجّح أن ترتفع أسعار الوقود 3 مرات خلال العام الجاري بداية من نيسان/ أبريل المقبل.
مجلة الوعي العربي