أخبار عاجلة
الرئيسية / أخــبار / العرب في زمن اعادة تشكيل النظام العالمي - بقلم: د.كمال خلف الطويل

العرب في زمن اعادة تشكيل النظام العالمي - بقلم: د.كمال خلف الطويل


ليس من قبيل المبالغة القول أننا والعالم وسط انعطافات مؤثّرة في مسارات وتدافعات القوى الكونية، وفي أوزان وتجاذبات القوى الاقليمية، تجد طريقها الى النور، وتقوم بإعادة تشكيل حاسمة للنظام الدولي، تشبه في أهميتها سابقتي ١٩٤٤ و١٩٨٩. ولعل واحداً من أهم دوافعها غلبةُ قراءة شعبو - قومية لدور الولايات المتحدة الكوني، لحظَت جملة متغيّرات حاكمة، وخطّت سبل التكيّف معها وتثميرها لصالحه.
نقطة البدء فهمُ التحول التركيبي والنسيجي لبنيان الرأسمالية الأمريكية الجاري الآن، فمن تعولمها مطلع التسعينات مصحوباً بصعود شريحتها المالية السريع صوب ذروتها، عبوراً بتسبّبها – الرأسمالية الأمريكية - بأزمة كادت تودي بها في ٢٠٠٨، وبخسارة ٢٢ تريليون دولار، لولا إنقاذ دولتها لها بحُقن دَين متعاظم ارتفعت من حجم ٩ تريليون في ٢٠٠٨ إلى ٣٧ تريليون الآن، ووصولاً إلى تسيّد الرأسمالية المالية تلك قمة المنظومة عبر تملّكها أنصبةً في شركات كل قطاعات الاقتصاد الأخرى، بالتوازي مع ارتفاع مقام رأسمالية التقانة الفائقة عمّن سواها من شرائح المنظومة، ومع نزول نصاب المجمّع الصناعي العسكري عن سابق شاهقه.


ما معنى هذا التحول البنيوي جيوستراتيجياً؟..
أن اعتبارات الوطنية الاقتصادية الحمائية متلازمةٌ، وبالتوازي، مع احتياجات العولمة المالية، برغم بعض تناقض بيني؛ فمثلاً، وبما خصّ المنطقة، نجد بيوتات الاستثمار الأمريكية الكبرى، وعلى رأسها BLACK ROCK (كمثال، تملك أنصبة ب١١ تريليون دولار وتدير محفظة استثمارية من ٢٢ تريليون دولار).. STATE STREET ..VANGUARD، تفتح أذرعها لانضمام الرساميل الخليجية، اليها؛ ما جعل من الأخيرة شريكةً جونيور للكبير الأمريكي. وفي السياق، اجتاح النسق الغالب في المنظومة الرأسمالية تلك بنيان الدولة الإدارية - لا الأمنية فحسب – فخرجت فيه الدولة من قطاعات رئيسة كالاعلام والتعليم والمعونات الخارجية وحفظ البيئة ورقابة الشركات ورعاية محدودي الدخل الصحية وهلم جرا. في المقابل، فقوة الدولة، قبالة رأسمال الخاص، راسية في كل من الصين وروسيا.
أن حاجات رأسمالية التقانة الفائقة، بل والإنتاجية العسكرية، فضلاً عن استفحال الدَين العام، تستلزم وضع اليد على موارد طبيعية، وفي الصدارة منها المعادن الثمينة؛ ومن ثم نوايا وضع اليد على غرينلاند، وطلب نيل حصص منها - المعادن - في القطب الشمالي والجنوب الأفريقي وأوكرانيا.


أن ما كان وصفُه الغرب الجماعي قد تحلّل، وباتت أوروبا، برسمياتها التقليدية، في أمسّ الحاجة لبناء عسكرياتها، مادام الغطاء الأمريكي التقليدي لها على طريق التقلّص، إن لم يكُن التبخّر. ولمّا كانت قاعدة انتاجها العسكري ضعيفة بالمقارنة فهي ملزمة بشراءٍ كثيف للسلاح الأمريكي يعوّض منتجيه عن خسارتهم في بلادهم. الأهم، أن التحلّل واصلٌ إلى بنيانها؛ لتغدو أوروبات عدّة بأجندات متنافرة.
أن تخفّف الولايات المتحدة من أثقال الحماية الأوروبية يشمل سحب معظم قواتها من المسرح الأوروبي، باستثناء مقتربات الشمال الإسكندنافي، وتركيز قواتها في الداخل الأمريكي وفي الغلاف الفضائي. يعني ذلك إحكام السيطرة على نصف الكرة الغربي برمّته، بما تضمّن إخراج الصين وروسيا منه.. وبالأخصّ من أمريكا اللاتينية. هو “مبدأ مونرو” مكبّر، تزاول به الولايات المتحدة، من البحر والجو والفضاء، تفوّقها الكوني، مركِّزة، من خلال تلك الأقانيم الثلاثة، جهدها الميداني نحو أية بقعة رأت له ضرورة. ضِف أن سعي واشنطن محموم كي تحوز على تفوّق راجح في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، والعام منه، بل ولاحقتها الكوانتومية الحسابية، لِما لهم من دور حاسم في التفوّق العسكري.
أن ذلك لا يعني انسحاب الولايات المتحدة من قلب العالم وملتقى قاراته وحوضه اللاهوتي؛ أي ما سمّي “الشرق الأوسط”، بل توضيبه كي يكون ركيزة الاستناد، من جهة، والتوجّه حيثما وحينما شاءت، من جهة أخرى. عنى ذلك تمكين اسرائيل، القائم بأعمال الاقليم، من فرض استتباع “الشام” التام لها بالجملة والمفرّق؛ أي فرض الصلح بالقوة على مكوّناته، بما هو من تطبيع، وخسران أرض، ونزع سلاح، وضمّ لفلسطين المحتلة- ٦٧ من دون ثقلها الديموغرافي … والحقّ أن ما كان من ناظمٍ لتفكيري في المسألة الأمريكو-اسرائيلية، ولزهاء عقود خمسة تلت هزيمة ٦٧، ومفاده أن واشنطن هي سيدة اللعبة في “الشرق الأوسط”

، وأن تل أبيب ما هي سوى ربيبتها التابعة، قد ارتجّ حتى الأعماق منذ ٧ أكتوبر، بتبيين زلزاله الحقيقة الغائبة، وهي أن الحال معكوس، ولحدّ أن سيدة قرارها في سائر أرجاء المعمورة تقف عند تخوم عالم العرب/اسلامدار لتُسلّم اللوبي الاسرائيلي العتيد زمام أمره .. وهو من بلغ شأوه في زمان “ماجا” الترامبية الذرى، سطوةً وغلوّاً وتوحّشاً.
أن مقصد واشنطن التاريخي في غرب آسيا هو استرداد ايران، سلماً أو حرباً.. أي اختراقآً بالضغوط القصوى و/أو إخضاعاًٍ بالقوة. فيصلُ الأمرْ قدرة ايران على الدفاع عن نفسها بالقوة من عدمها، طالما المراد قسرُ نظامها على تغيير نهجه جذرياً، أكان نووياً أم صاروخياً أم فضائياً أم نفوذياً، وإلّا فتليين إرادة ثباته عنده بالقوة العارية، حتى لو استدعى ذلك قبول مخاطرة إيذائه مصالح أمريكية أو صديقة في الاقليم؛ بحسبانها محسوبة، أي محدودة. الانصياع للمراد، أكان تحت الضغط أم لاستعمال القوة، يعني تغيير النظام حتى لو لم يسقط، لِكم هناك من تعويل على غياب الوداد بينه وبين قرابة نصف المجتمع؛ ما يفتح على فرصة نفاذ إلى حشايا الداخل. والحاصل أن سؤال القدرة من عدمها عسير الإجابة، سيما في ضوء ضعف الدفاع الجوي الإيراني وجسامة فعالية تطبيقات الذكاء الاصطناعي، العادي منه والعام، الميدانية.
(أفتح هنا قوساً لأنوّه أن سبب لهاث ترامب وراء سرعة إبرام تسوية للحرب الأوكرانية لصالح روسيا - لا التسوية بذاتها - هو مقايضتها بامتناع الأخيرة عن إسناد ايران بالسلاح والخبرة والاستخبار في حال ذهبت واشنطن إلى امتشاق السلاح في وجهها. عندي أن روسيا والصين تريدان ايران عفيّة، ولكن غير نووية، ثم أن الأخيرة بالذات ترى في سقوط ايران توطئةً للتثنية بها)
وعليه، فاحتمال توفّرها - القدرة - يفتح على امكانية قيامها بردود مكلفةٍ بالقياس لمردود العنف ضدها؛ ضف أن رغبة الخليج بالتوصّل إلى صفقة كبرى قد تعزّزت بتضاؤل مخاوفه من ايران، على وقع مفاعيل ٧ أكتوبر.
أن استسلام عبدالله أوجلان الذكيّ فتح السبيل أمام إمكانية تصدّع نسخته السورية، وبعلم أن الهيمنة الكردستانية على شرق سوريا, بغالبيته العربية, من أفعال اللامعقول. من هنا سعي الولايات المتحدة لتسوية كردية تُبقي “قسد”، ركيزةً “سورية” لها. قبالة ذلك، هناك، وبمنطق الجيوستراتيجيا، استحالة رضا تركيا بهيمنة اسرائيلية على سوريا, ولا بتأثير عرطلي للكردستانية السياسية فيها. تلك نقطة حرجة في ميزان واشنطن: هي من جهة, راغبةٌ في تمكين هيمنة اسرائيل على “الشام”، ومن جهة أخرى, مضطرة لمراعاة مصالح تركيا الجيوستراتيجية فيه، سيما وحاجتها للاتّكاء عليها ضامنةً للجم قيامة داعش في الداخل السوري، وضابطةً لإيقاع اسلاميي دمشق الحاكمين، ودارئةً لنكس إيراني، بارزة. عندي أن الـتدافع التركي - الاسرائيلي, في وعلى “الشام”، بات أمر اليوم.
أن زلزال ٧ أكتوبر لم يصل إلى خواتيم مفاعيله؛ ترنّح محور الممانعة بشدة، بل لم يعد محوراً – هذا إن كان في الأساس – لا فحسب بسبب النجاحات الإسرائيلية في الشمال ونحو ايران، فضلاً عن ابادية مفاعيلها في غزة، بل أيضاً بسبب تهاوي نظام الأسد وما خلّفه من احتراب قديم - جديد انضاف على كومة النزاع المذهبي عبر عقدين.. لذا، تحتاج مكوّناته الباقية إلى صوغ علاقة صحية، ولو غير تحالفية، مع سوريا الحاضر.
أن مقاربة منظومة “ماجا”* الترامبية للشأن الروسي متعدّدة المناحي: اليقين باستحالة هزيمة غربية لروسيا في أوكرانيا، تواضع القوة الروسية عن أن تكون مهدّدة جدّياً - أكان في أوروبا أم في آسيا -، توافر فرص تعاون هائلة في مواضع عدة؛ من أول مكتنزات الشرق الروسي البعيد إلى جوائز القطب الشمالي إلى انسيال الغاز الأوروبي [ملكية واشنطن للأنابيب الناقلة للغاز الروسي]. في الخلفية تلمّظ واشنطن لفكّ أواصر الشراكة الروسية مع الصين. عندي أن ليس لذلك من سبيل، فقد ضربت تلك الشراكة المتنامية جذورها في الأرض عبر ثلث قرن، وبالأخصّ عشرِه الأخير. ثم إن القياس على نيكسون/٧٢ غير دقيق؛ فالشقاق الصيني-السوفييتي بدأ منذ عام ٦٠، وليس بفعل نيكسون، فضلاً عن أنْ ليس من ضمان لدوامية الانفراج الأمريكي. ولعل من آثار الانفراج الأمريكي – الروسي الجانبية وقف مسيرة نزع الدولرة، على خلفية رفع العقوبات.
أن “ماجا” الترامبية في مقاربتها للشأن الصيني ترنو الى مزاوجة الوصول إلى صفقة اقتصادية كبرى مع الصين تحت سيف الحواجز الجمركية المصلّت، وخانوق “ملقا” الملتفّ حول عنقها، وضغوط تعويق حزام وطريق الحرير الممارسة على مشتركيه.. وكلّه مع تخفيض، إن لم يكن سحب، القوات الأمريكية من الشرق البعيد. لقد غدا سمت عالم الشمال ثلاثي الأقطاب: هو تقاسمٌ غير متساو لمناطق النفوذ في العالم بين أمريكا والصين وروسيا؛ فيه الأولى الأقوى بين متساوين.
أن سمت المرحلة، لجهة عالم الجنوب، هو تعدد الانحياز لا عدم الانحياز؛ أي أن تستطيع مصادقة أضداد في آن دون تعريض صلتك بأي منها، أو صلة طرف فيها بآخر، بسببك؛ تركيا مثال. إن الانتقال من عالم ثلاثي الأقطاب إلى متعدد الأقطاب أمرٌ في وسع عالم العرب/اسلامدار، من نيجيريا إلى أندونيسيا، احرازه؛ سيما في لحظة اعادة التموضعات الكونية تلك. هنا جدلية التحدي والفرصة شاخصة.
أن الترامبية ترى في تنظيم تراجع مضطر، بصخب ظاهري القوة HUBRIS، واجب اليوم.. تناقضُ الهدف والأسلوب يبعث على فوضى السلوك وما يبدو من عبثيته.. لكن لبّ المسألة عندها هو: كيف نحدّد خسائر التراجع، وكيف نبدو للآخرين أشدّاء بما يردع ويُهاب؛ في آن.
مطلع أيلول الفائت كتبتُ أن الشهور الممتدة مذّاك وحتى آخر مايو القادم ستشهد انقلاب أحوال منطقتنا عاليها سافلها، ولعلّي لم أجانب الواقع.

_______________________________________________________________________________________________________________

  • شعار «ماجا» (MAGA) الذي انتقده الرئيس بايدن، ويعني «لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى»، محور الآيديولوجيا التي يدعو إليها الرئيس ترمب

عن admin

شاهد أيضاً

عندما تتحول الصهيونية إلى نكتة… بقلم:د.عبد الوهاب المسيري

7/4/2009 الصهيونية في جوهرها هي حركة لتخليص أوروبا من الفائض البشري اليهودي (Jewish surplus ) …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *