محمد عبد الحكم دياب
30, Aug 2019
يشيع القول بأن الشباب هم عقدة النظم السياسية التي حكمت مصر منذ تموز/يوليو 1952 وحتى مؤتمرات الشباب التي يتولاها «المشيرالسيسي»، وهي إشكالية وليست عقدة.. ومن يدعي أن مصر حُكِمت بنظام واحد مستقر من 1952 حتى الآن فهذا لغو ممن يتعاملون مع مصر وكأنها ليست وطنا وأهلها ليسوا بشرا؛ ديدنهم الجمود وإرجاع عقارب الساعة إلى الوراء.. والحديث عن العقود التي مرت منذ 1952 وحتى الآن، وكأنها نسق واحد في المحتوى والشكل؛ هو حديث المصابين بـ«العشى العقلي»؛ على غرار العشى الليلي الذي يصيب البعض..
عند قيام ثورة 1952 كنت بين سن الحادية عشرة والثانية عشرة من العمر، ونشأت على وعي بها وبتأثيرها على ما يحيطني من بشر وحجر، ورغم مرحلة الطفولة أتيحت لي فرصة الاطلاع على الجرائد مبكرا، وكان ما يصل منها إلى الريف محدودا والنسخة الواحدة تمر على عدد لا بأس به من قلة تعرف القراءة.. وكانت الصحف تصل للقرية بالقطار، وتطورت الأمور فأضحى هناك بائع صحف يمر على البيوت صباحا، ويستمر باقي النهار على فرشته في زاوية من زوايا القرية. وكان الوالد رحمه الله يواظب على قراءة الصحف اليومية، ويبدو أنني ورثت ذلك عنه..
وعام ثورة 1952 كان عاما مهما في عالم الأطفال المصريين؛ فقد شهد مولد مجلة «سندباد»، وشعارها «من الثامنة حتى الثامنة والثمانين»، وتصدر كل خميس من كل أسبوع؛ وصدر عددها الأول في الثالث من كانون الثاني/يناير 1952، ورأس تحريرها أديب ورائد من رواد التعليم هو محمد سعيد العريان، واستمرت لأكثر من ثمان سنوات، إلى أن توقفت 1960؛ في وقت لم يكن فيه عدد الصحف والإذاعات بالكثرة التي عليها الآن.. فقرية عدد سكانها ثلاثة آلاف نسمة كان بها عدد محدود من الراديو، لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، وكانت الإذاعة متقطعة؛ في الصباح من السادسة حتى التاسعة، وعند الظهيرة من الواحدة ظهرا للثالثة عصرا، والمساء والسهرة من الخامسة مساء للحادية عشرة ليلا.. وكان عدد تلاميذ مدارس ما بعد الإلزامي ممن تركوا القرية والتحقوا بمدارس المدن القريبة لا يتعدى أصابع اليدين..
ومن طرائف ذلك الزمن أن البعض كان يخجل من اقتناء مذياع في منزله؛ بسبب الأغاني والموسيقى، وعند السؤال يرد أنه اشتراه للاستماع لتلاوة القرآن الكريم، والاستمتاع بالتواشيح والإنشاد الديني، وكان كثيرون يتطلعون لسماع أخبار الحكام الجدد الذين يجوبون القرى والنجوع. وكانت الأغاني الجديدة تشجع على سماع الأخبار ومتابعتها؛ رغم نسبة الأمية العالية.. ومن أشهرها «أغنية «ع الدوار ع الدوار راديو بلدنا فيه أخبار»..
بدأت الثورة وكان الوفد قد ألغى معاهدة 1936 عام 1951، وسرعان ما تأكدت صفة الثورة بصدور قانون الإصلاح الزراعي، وتوزيع الأراضي على الفلاحين، ولم يكن مر على قيامها ستة أسابيع، وخيمت مذبحة الشرطة في يناير 1952 على المشهد العام، وتصاعد معها العمل الفدائي ضد الاحتلال البريطاني وقواعده على امتداد قناة السويس، وعدد العاملين فيها 85 ألف جندي وضابط..
وتكبدت قوات الاحتلال خسائر فادحة، وفاقمت استجابة العمال المصريين لنداء الانسحاب من العمل مع الاحتلال من سوء أوضاع القواعد البريطانية. وتم الرد على ذلك بعنف مفرط، وكان القائد العسكري البريطاني بمنطقة القناة البريغادير أكسهام؛ قد وجه إنذارا صباح الجمعة 25 يناير 1952 بتسليم «قوات البوليس» بالإسماعيلية أسلحتها للقوات البريطانية، وتم رفض الإنذار وأبلاغ ذلك لوزير الداخلية وقتها فؤاد سراج الدين، الذي أقر موقفها وطلب منها الصمود وعدم الاستسلام، واقتحمت قوات الاحتلال مدينة الإسماعيلية وحاصرت مبنى المحافظة بسبعة آلاف جندي مزودين بالأسلحة ومدافع الميدان، يواجههم جنود مصريون محاصرون لا يزيدون عن 800 داخل الثكنات و80 لحراسة مبنى المحافظة، ولا يحملون غير البنادق، واستخدمت قوات الاحتلال كل ما لديها من عتاد في قصف مبنى المحافظة، وقاوم الجنود المصريون حتى نفدت ذخيرتهم بعد ساعتين من القتال المستمر، وسقط في هذه المعركة خمسون شهيدًا، وأصيب نحو ثمانين، وأُسِر آخرون، وفي اليوم التالي احترقت القاهرة!!
في تلك الفترة كان الشباب يحتلون المشهد الوطني؛ وكان شاغلهم جلاء المحتل، وبدأ الاهتمام بالشباب عام 1953 لكن المحاولات الأولى فشلت، وتعددت تنظيمات الشباب في السنوات العشر الأولى للثورة.. بدأت بمنظمة للشباب رعاها وحيد رمضان عام 1953، واستخدمها لمواجهة الإخوان المسلمين والشيوعيين في أزمة مارس 1954، وشباب الاتحاد القومي 1958، وتنظيمات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بقيادة محمد توفيق عويضة؛ مثل اتحاد الشباب العربي 1958، وأسر ناصر في الجامعات عام 1960، ومكتب شؤون الطلاب في الاتحاد الاشتراكي العربي عام 1962، وتشكيلات المجلس الأعلى لرعاية الشباب ومسؤولية عادل طاهر..
وتحت الأرض تأسست جماعات ماركسية وشيوعية وبعثية وقومية عربية، ومع إقرار «ميثاق العمل الوطني» في 30 حزيران/يونيو 1962، وما أعقبه من انفراج، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين؛ تقرر تأسيس منظمة الشباب الاشتراكي نهايات عام 1963، وكُلِّف نائب رئيس الجمهورية زكريا محيي الدين بتشكيلها.. واستعان بمفكرين من شتى الاتجاهات؛ أعدوا برنامجا أوليا لها، وبدأ بإعداد «رواد الشباب» لقيادة المنظمة، وأقيمت لإعدادهم معسكرات تربوية في مواقع بعيدة، وإقامة دائمة، وتفرغ كامل، في مرسى مطروح ووادي النطرون وحلوان..
وتم تحديد معالم بناء المنظمة اعتمادا على عاملين؛ الأول هو توفير بناء فكري محدد المعالم.. والثاني الاعتماد على منهج علمي في التكوين.. وبدأت الخطوة الأولى بتشكيل «سكرتارية مؤقتة» بإشراف زكريا محيي الدين، ووضعت برنامجا فكريا وشكلت لنفسها كيانا منظما للإشراف، وجابت المحافظات والتقت بالشباب المرشح.. وتعرفت على العناصر الصالحة من حيث الاستعداد للنشاط السياسي، وتم اختيار «رواد الشباب» من بين 900 مرشح موزعين على ثلاثة أفواج بمعسكر «مرسي مطروح» واستمرت لثلاثة أشهر؛ درسوا خلالها؛ ضرورة الثورة، وتاريخ النضال العربي، والديمقراطية، والحل الاشتراكي، وفلسطين، والوحدة العربية، ومحاضرات عن مهارات العمل في مجال الشباب والتنظيمات الشبابية..
وخضع الدارسون للتقييم الفكري والسلوكي، وتم اختيار الأصلح للمرحلة الثانية في وادي النطرون، وفيها يقود المرشح مجموعة من المتطوعين بمعسكر عمل في إصلاح الأراضي، ويعايشهم خلال العمل، وفي فترات الراحة، وأثناء الأنشطة، وينقل إليهم ما درسه في مرسى مطروح، وينتهى معسكر وادي النطرون بمرحلة تقييم أخرى كأساس لاختيار العناصر الناجحة من المرحلة الثانية للمرحلة الثالثة في حلوان؛ مدتها خمس أسابيع بنظام التفرغ الكامل والإقامة الدائمة، وتقوم بدراسة موضوعات بشكل أعمق؛ تتعلق بقضايا الاشتراكية، ومشاكل تطبيقها والديمقراطية ونماذجها، والأسلوب العلمي في العمل والتنفيذ، وتحليل قوى الثورة والثورة المضادة، وتطور مصر من الإقطاع والرأسمالية، والصراع العربي الصهيوني، بجانب موضوعات سياسية وفكرية أخرى،.
وانتهت غربلة الـ900 عنصر إلى 109 «رائد للشباب»؛ تكونت منهم النواة الأولى للمنظمة؛ بـ20 موجها سياسيا؛ في اكتوبر 1965 وإعداد وتوجيه الدارسين بالمعهد الاشتراكي في حلوان، وتولى الباقون العمل النظيمي والجماهيري والسياسي وبناء المنظمة مركزيا، وفي المحافظات والأقسام والمراكز، وواصلت عملها في الإعداد الفكري والسياسي للأعضاء الجدد، وتسكينهم بالمواقع الجماهيرية والسكنية.. واستمر ذلك من اكتوبر 1965 حتى يوليو 1966؛ تاريخ الإعلان الرسمي عن منظمة الشباب الاشتراكي، وكان عدد أعضائها قد وصل إلى 30 ألف شاب وفتاة موزعين على المحافظات، ويمثلون فئات وقوى اجتماعية متنوعة ومتعددة…
وهذه لمحة ضرورية إذا ما أردنا فتح ملف الشباب الذي انتقل من الاستقلال إلى التبعية، وهي مرحلة لازمة لمخطط الصهينة الذي يجري على قدم وساق!!..
مجلة الوعي العربي