بقلــم: د. محمد فؤاد المغازي
مقدمة:
أعود إلي نشر الدراسة المتعلقة بالصراع العربي / الإسرائيلي من منظور ناصري. دفعني إلي ذلك ما يجري من عدوان نازي عنصري على غزة بين أطراف جماعات الاتجار بالأديان. طرف صهيوني تحققت هويته الصهيونية النازية ومتاجرته بالدين اليهودي، وطرف ثاني لا هوية له ولكن له بضاعته الاتجار بالدين الإسلامي، والاتجار بالقضية الفلسطينية العادلة للشعب العربي الفلسطيني.
الأمر الثاني هو مرور 63 عاما على انطلاقة ثورة يوليو بقيادة القائد التاريخي لأمة العرب جمال عبد الناصر. ومنذ رحيل القائد التاريخي تحولت القضية الفلسطينية من قضية شعب له وطن، وقضية وطن له شعب كما قال جمال عبد الناصر، إلي قضية وطن له ثمن تتقاسمه جماعات الاتجار بالدين، وجماعات الاتجار بالسياسة، ومن خلال آلية التوريط التي يتبناها الآن الجميع.
آلية توريط تجرى على منوال قواعد بورصة الأوراق المالية. فتحول شعار تحرير فلسطين من النهر إلي البحر إلي شعار له ثمن يقدر بعمولات الممولين لتفريغ الصراع من مضمونه، وبالتالي تصفية قضية فلسطين لينتهي بنا الأمر للقبول بما يفرض على العرب من قبل أعدائهم صاغرين.
وسيتكشف ويتحقق للعرب يوما أن التعامل بالقضية الفلسطينية وبقضية العرب عموما في الأمن والتطور بعد رحيل جمال عبد الناصر جرى التعامل معها بآلية وطن له ثمن تتحدد أسعاره بين مشتري وبائع.
وسيظهر هذا جليا عندما يفتح الملف المالي للقضية الفلسطينية. وبفتح الملف المالي للقضية الفلسطينية ستظهر من خلاله حجم العمولات، وجميع الأسماء التي تاجرت بفلسطين وحجم أرصدتهم.
المؤلم والغير انساني هو حجم المعاناة .. التي تحملها الشعب العربي الفلسطيني وما يزال، جعلته نموذج في المقاومة والتضحية بما لم يتحمله شعب آخر ناضل من أجل حريته.
الأمر الآخر سيستبين للأجيال التي لم تعاصر عصر جمال عبد الناصر أن النموذج الذي طرحه وطبقه في إدارة الصراع العربي / الإسرائيلي كان النموذج الأمثل منذ وصول الصهاينة أرض فلسطين وحتى اليوم.
*****
عبد الناصر الرؤية والدور في إطار الصراع العربي / الإسرائيلي:
قبل ثورة يوليو 1952 كان الموقف الرسمي المصري والقوي السياسية المصرية من قضيتي الصراع العربي / الإسرائيلي، والانتماء العربي لمصر، على النحو الذي ذكره د. محمد حسين هيكل باشا، بأنه موقف لم يتجاوز حدود العطف علي عرب فلسطين. لكن حكومات هذه البلاد كانت تقف من هذه المشكلة الدولية موقفا سلبيا بحتا، وكان ساسة مصر على اختلاف أحزابهم يرون في هذا الموقف السلبي حكمة غاية الحكمة.
فمشكلة العلاقات المصرية البريطانية وتنظيمها كانت تحتاج إلي كل جهد تستطيع مصر بذله، فإذا وجهت الجهود إلي فلسطين أو غير فلسطين أضعف ذلك نشاطها في المسعى لاستقلالها وسيادتها. كان سعد زغلول باشا وغير سعد زغلول من ساسة مصر يقولون هذا بصراحة، وإن لم يمنعهم قولهم من العطف على فلسطين والأسف للسياسة المتبعة فيها. ()
لقد ظلت مصر قبل ثورة يوليو بعيدة عن قضايا العرب ومشكلاتهم، حتى وإن بدا ظهور جامعة الدول العربية يوحي بالرغبة في التضامن أو حتى بالتنسيق بين الحكومات العربية في القضايا المصيرية، كقضية الأمن القومي، أو الوصول إلي الاستقلال السياسي خاصة وأن دولها كانت جميعها محتلة.
ولأن قيادات تلك المرحلة السياسية كانت تقليدية بحكم مصالحها، وبرجماتية بحكم الحفاظ على تلك المصالح. فجميع النخب الحاكمة لها مصالح واسعة، والصدام مع المحتل قد يكلفها خسارة ثرواتها وموقعها السياسي والاجتماعي. فكان تبرير عدم التدخل في الشأن الفلسطيني هو أن مصر لا تقدر على حل مشاكلها.
وظهر في رد سعد زغلول عندما سعي الفلسطينيون للحصول على تأييد مصر في موقفهم ضد هجرة أعداد غفيرة من اليهود الأوربيون إلي بلادهم. أشار عليهم سعد زغلول صراحة بالعودة والصلح مع المستوطنين الجدد من اليهود متسائلا: ألم تؤكد لهم الحكومة البريطانية أن الوطن القومي لليهود لن يصبح دولة قومية، وأنه ستتم حماية الحقوق المدنية والدينية للغالبية العربية البالغة 92 % من عدد السكان؟ ثم أردف قائلا: أليس اليهودي والعربي، على أية حال، من نفس السلالة السامية؟ ألم يعش العرب قرونا في انسجام مع اليهود، سواء الذين ولدوا في العالم العربي أو الذين التجئوا إليهم من محاكم التفتيش الإسبانية ومن مذابح روسيا القيصرية؟()
مع ظهور عبد الناصر شهدت المنطقة العربية عامة ومصر خاصة، انتعاشه للدعوة القومية العربية، وموقفا مغايرا تماما بالنسبة للقضية الفلسطينية يصاحبه تنامي دور مصر إقليميا ودوليا. وقد حددت الدوائر الثلاثة العربية، والإسلامية، والإفريقية فكانت الدائرة العربية الأولي هي أهم دوائرها كهوية، وحدود، وحركة، ومتطلبات أمن.
لم يعتنق عبد الناصر الفكرة العربية إلا بعد أن اختبرها ولمس مدي صلاحياتها لأن تكون عقيدة مصر. فنظرته للتاريخ المصري لم تكن منفصلة عن تاريخ المنطقة، وبالتالي فقضية فلسطين جزء من كل. أدرك عبد الناصر أن مصر بحاجة إلي عقيدة، بعد أن شوه الصراع والجدل العقيم الدائر بين المنتمين للجامعة المصرية، والمنتمين للجامعة الإسلامية، والمنتمين لثقافة وحضارة حوض البحر الأبيض المتوسط.
فانحاز عبد الناصر للانتماء العربي لأنه الأهم رغم أهمية البعد الإسلامي، والجغرافي. وبهذا تكون الدائرة العربية هي أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا. فلقد امتزجت معنا بالتاريخ، وعانينا معها نفس المحن، وعشنا نفس الأزمات وامتزجت هذه الدائرة معنا بالدين. ثم جمعها الجوار في إطار ربطته كل هذه العوامل التاريخية المادية والروحية. ()
بعدها أصبح الحديث عن فلسطين والفلسطينيين يشغل مساحة كبيرة في مفردات الخطاب الناصري، وهناك شبه إجماع بين المفكرين والباحثين الذين تناولوا دراسة البعد القومي عند عبد الناصر إلي أن أهم المؤثرات في تشكيل الوعي القومي عنده كانت القضية الفلسطينية. وساعد في ترسيخ هذا البعد عوامل مكملة من بينها التحاقه بالكلية الحربية واهتماماته بدراسة الأمن المصري الذي قاده في النهاية إلي وحدة الأمن العربي. وكانت فلسطين هي مفتاح أمن المنطقة العربية وأمن مصر بصفة خاصة. وأصبحت فلسطين هي موضوع رسالته لامتحان كلية أركان الحرب عن خطة اللنبي في فلسطين. وكان ناصر مقتنعا بهذا الاتجاه وقد اختبره بنفسه في فلسطين، أي أنه توصل إليه دارسا وتأكد منه محاربا. ()
ولا ينفي عبد الناصر دور فلسطين في تشكيل وعيه القومي بل يؤكده. وأنا أذكر فيما يتعلق بنفسي أن طلائع الوعي العربي بدأت تتسلل إلى تفكيري وأنا طالب في المدرسة الثانوية أخرج مع زملائي في إضراب عام في الثاني من نوفمبر من كل سنة احتجاجا على وعد بلفور الذي منحته بريطانيا لليهود ومنحتهم به وطنا قوميا في فلسطين، اغتصبته ظلما من أصحابه الشرعيين.
وحين كنت أسائل نفسي لماذا أخرج في حماسة ولماذا أغضب لهذه الأرض التي لم أراها؟ لم أكن أجد في نفسي سوى أصداء العاطفة. ثم بدأ نوع من الفهم يخالج تفكيري حول هذا الموضوع لما أصبحت طالبا في الكلية الحربية أدرس تاريخ حملات فلسطين بصفة خاصة وأدرس بصفة عامة تاريخ المنطقة وظروفها التي جعلت منها في القرن الأخير فريسة سهلة تختطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة!
ثم بدأ الفهم يتضح لما بدأت أدرس وأنا في كلية أركان الحرب حملة فلسطين ومشاكل البحر الأبيض المتوسط بالتفصيل. ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعا في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالا في أرض غريبة وهو ليس انسياقا وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس.
ولما انتهى الحصار وانتهت المعارك في فلسطين وعدت إلى الوطن، كانت المنطقة كلها في تصوري قد أصبحت كلا واحدا. ولقد بدأت بعد أن استقرت كل هذه الحقائق في نفسي أومن بكفاح واحد مشترك وأقول لنفسي: مادامت المنطقة واحدة وأحوالها واحدة، ومشاكلها واحدة، ومستقبلها واحدا، والعدو واحدا مهما حاول أن يضع على وجهه من أقنعة مختلفة، فلماذا تتشتت جهودنا. ()
إسرائيل كيان عنصري وأداة لفرض التجزئة والتخلف:
أصبح وجود إسرائيل يمثل في فكر عبد الناصر وجودا فرضته سياسات عنصرية واستعمارية، وأن إسرائيل لا تخرج عن كونها تكرار لتجربة جري تطبيقها في روديسيا. فمشكلة روديسيا هي مؤامرة إسرائيلية بحذافيرها. حيث فرضت أقلية غريبة تدعى لنفسها عنصريا حقا في وطن شعب آخر. ثم تفرض بالقوة سيطرتها، إلى حد إعلان استقلال مزعوم، ويتظاهر الاستعمار بعدم الرضا، مع أنه يملك فرصة التغيير ووسائله، ولكنه في الواقع شريك لنفس المخطط العدواني مهما تظاهر، ومهما كان التنويع في الأدوار. ()
ويرفض عبد الناصر المقارنة بين القضية الفلسطينية وقضية برلين. فمشكلة فلسطين تختلف عن جميع المشاكل الموجودة في العالم. فهي تختلف مثلا عن مشكلة برلين. فهل برلين مقسمة أم غير مقسمة. هل هي محتلة أم غير محتلة أما مشكلة فلسطين فهي مشكلة فريدة في نوعها في العالم. شعب طرد من أرضه اغتصبت أملاكه وحل محله شعب آخر. أما مشكلة برلين فشعبها موجود فيها. جزء منه في ألمانيا الشرقية والآخر في ألمانيا الغربية، لكن الشعب هو الشعب الألماني. ولسوف يجئ يوم من الأيام تنتهي المشكلة العارضة ولا يبقى في ألمانيا غير الشعب الألماني.” ()
ويضيف غياب خريطة تحدد حدود الدولة الإسرائيلية عاملا في تثبيت ما توصل إليه عبد الناصر من أن إسرائيل كيان توسعي عنصري فإسرائيل لم تتقيد بالخرائط المرفقة بقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في نوفمبر عام 1947، باعتباره أحد الشروط الثلاثة التي على أساسها قبلت عضوا في الأمم المتحدة.
وحتى الآن ظلت حدود الدولة الإسرائيلية مجهولة، وتمثل تكرارا لنموذج سبق أن تعامل به الأمريكيون في القضاء على الهنود الحمر، فقد حرص الأمريكيون على أن تبقي حدود الدولة الأمريكية مفتوحة وبغير تحديد حتى يصلوا إلي المحيط الهادي، وهناك أعلن قفل الحدود بعد نجاح الأمريكيين في طرد الهنود وقتلهم، والاستيلاء على أراضيهم.
تحول النموذج الأمريكي إلي نموذج يمكن تطبيقه على الأرض الفلسطينية، لأنه يمنح الإسرائيليين فرصة بعدم التقيد بتقديم خرائط قبل الوصول إلي الحدود المجهولة والتي يقبل بها الإسرائيليون. فظل التوسع هو جوهر استراتيجية إسرائيل. فالقضية لا تتعلق بالإبقاء على الوضع الحالي. إن علينا أن نخلق دولة ديناميكية، تتجه إلى التوسع. ()
وهنا نشير للمرة الثانية إلي تعبير الأرض كلها الذي ورد على لسان مناحم بيجين. والسؤال: ما هي تلك الأرض؟ وما هي حدودها؟ الإجابة غير معلنة. لقد تناول كتاب وباحثين عرب استخدام غياب تلك الخريطة، وما ورد على لسان الزعماء الإسرائيليون في إيجاد مقارنة بين الفكر النازي والفكر الصهيوني حول النظرة لقضية الحدود. بن جوريون قد ربط بين حدود الدولة ومصطلح الديناميكية وهذا ما استخدمه الفكر النازي حول رؤيته لحدود الدولة الألمانية، ثم جاء مناحم بيجين ليضيف هو الآخر مصطلحا غامضا الأرض كلها بغير تحديد لحدود تلك الأرض.
لقد ظل العنصر المركزي في مشاريع السيطرة الغربية على المنطقة العربية يعتمد على إبقاء حالة التمزق السائدة بين العرب، وكان العرب وما زالوا ينظرون إلي وجود إسرائيل بأنها أداة تكرس التجزئة بين العرب، وتحرص على أن تظل حاجزا يفصل بين العرب في المشرق والمغرب، بما يمنع تحقيق أي مشروع يحقق للعرب مشروعهم الوحدوي، حتى تظل أسباب الضعف العربي قائمة ومتصلة.
ففي أوائل عام 1954 وضعت أمريكا بالاشتراك مع بريطانيا خطة باسم ( ألفا ) لترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، تقوم على فرض تسوية للصراع العربي / الإسرائيلي، وإقامة حلف عسكري شرق أوسطي يشترك فيه العرب والإسرائيليين. غير أن المشكلة التي واجهت الأمريكيين في وضع الخطة ( ألفا ) موضع التنفيذ وجود جمال عبد الناصر. ()
توصل الخطاب الناصري في استنتاجاته أن السيطرة على المنطقة تبدأ بإضعاف مصر وصولا إلي إضعاف العرب جميعا فوجود مصر ضعيفة ضعف للنضال العربي كله، ووجود مصر مغلولة شلل للنضال العربي كله، وليست هذه هي حقيقة جديدة، وإنما هي استقراء التاريخ والطبيعة، ولعل ذلك من وجهة نظر الاستراتيجية الاستعمارية التي فضحها العدوان الإسرائيلي المتواصل، بغرض عزل مصر وراء حاجز الصحراء في سيناء عن الشرق العربي كله، ليمنعوا اتصالها به. وليسهل على إسرائيل أن تواجه جبهات عربية ممزقة ومتباعدة، ليسهل عليهم أن يتعاملوا مع عالم عربي مشطور في منتصفه. ()
كانت توجهات عبد الناصر نحو العروبة والعمل القومي النشط موازية في زمانها لأنشطة التغيير الثوري في مصر. فبعد أن استقرت الأوضاع في مصر بعد قيام الثورة بقليل، جري وفي وقت مبكر من عمر الثورة وضع خطة تسهم في تحرير كافة أجزاء الوطن العربي انطلاقا من أن حرية مصر تظل قاصرة عن تحقيق أهدافها ما بقيت أي ساحة عربية لم تتحرر. ()
منح الانتماء القومي لعبد الناصر اعتقاد جازما سيطر على تفكيره هو إمكانية تحرير فلسطين إذا ما تحقق الشرط الوحدوي للأمة العربية. وأعتمد هذا التحليل على التنبؤ بالنمط التاريخي في حياة الأمة العربية فحينما يتحد الجيشان المصري والسوري تستطيع الأمة العربية أن تهزم أعداءها. وطبقا للمنطق التاريخي المتتابع في نتائجه، استنتج عبد الناصر أن فلسطين ستتحرر. وكان الاعتقاد عند عبد الناصر جازما بأن التاريخ سوف يعيد نفسه، وسيجري تفعيل قوانين التطور للمنطقة العربية، وأولها قوانين الوحدة العربية وانتصار القوى التقدمية العربية على الاستعمار وأعوانه.
بيد أن الاعتقاد الناصري في حتمية التطور التاريخي لا يعن أن تلك الحتمية هي حتمية آلية. فالحتمية التاريخية تتطلب تدخل العنصر البشرى لتحريك تلك الحتمية. وقد أكد ناصر هذا المعنى في خطابه 1/5/1966 :” لا يكفى القوى الثورية أن تطمئن إلى أن حركة التاريخ معها، لابد من أن تتجمع كل القوى الثورية في العالم العربي لتتصدى لمواجهة الرجعية والاستعمار.” ()
إذا كان عبد الناصر قد ربط بين وجود إسرائيل بهدف تكريس التجزئة وتبديد الأمن القومي، فإنه اعتمد نفس الاستنتاج المنطقي في الربط بين وجود إسرائيل وتكريس التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي. فلا يعقل أن يستمر الوجود الإسرائيلي ويطمئن إلي على بقائه إلا في وجود واقع عربي متخلف، وأسماه استعمار التخلف. وأن الخطر الإسرائيلي يتلاشى حتى قبل المعركة الفاصلة. إذا تمكنت الأمة العربية أن تخلص نفسها من التخلف الذي فرضه الاستعمار عليها. والذي تحاول الرجعية أن تفرضه الآن. ()
وكانت النتيجة التي توصل إليها عبد الناصر من خلال المعادلة التي تحكم العلاقة بين الأطراف الثلاثة التي لها مصلحة متبادلة فيما بينهم. فالاستعمار يدعم الرجعية والاستعمار يسلح الرجعية. والاستعمار يدعم ويسلح إسرائيل. ولما كان الاستعمار هو الأصل. وهو مصدر التخطيط بين الجانبين اللذين يحصلان على الدعم والسلاح. فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكونا جانبين متصادمين. وإنما جانبين متعاونين، ولو حتى بالوساطة. ()
وكان جمال عبد الناصر يتولى تفنيد ما يوجه له ولنظامه من نقد واتهامات بغرض إضعافه أو القضاء عليه، فنجده يرفض التفسير الذي يصف الحلم القومي في وحدة الأمة العربية بالتعصب، فالقومية العربية تعني أملا عربيا. وهي ليست طيفا أو خيالا يداعب أحلام النائمين. وإنما الوحدة العربية علم التاريخ على الأرض العربية ودرسه، وعلم الواقع المعاصر كله ومقتضياته، وعلم البناء الشامل للمستقبل ومتطلباته، بل على النطاق الدولي الأوسع. ()
تحولت وبلورت مفردات الخطاب الناصري إلي الأساس العقائدي الذي حدد رؤية الحركة الناصرية، وحدد موقفها من الوجود الإسرائيلي في فلسطين. رؤية حددها البعد القومي بمفرده، وبدون إقحام العامل الديني في الصراع. فعبد الناصر ينطلق أن الأديان السماوية مصدرها واحد وهو الله وحده، وهي رسالات جاءت لهداية البشر بغير تعصب يسيء إلي جوهرها الصافي. لقد كانت جميع الأديان ذات رسالة تقدمية. إن جوهر الأديان يؤكد حق الإنسان في الحياة وفى الحرية، بل إن أساس الثواب والعقاب في الدين هو فرصة متكافئة لكل إنسان. إن كل بشر يبدأ حياته أمام خالقه الأعظم بصفحة بيضاء يخط فيها أعماله باختياره الحر. ()
لقد ظل جمال عبد الناصر يرفض استخدام الدين في السياسة، فنراه يهاجم الأحلاف القائمة على رابطة الدين كالحلف الإسلامي الذي حاول تأسيسه النظام السعودي بدعم وبتحريض من الولايات المتحدة الأمريكية. كما هاجم الاستعمار التركي الذي ارتدي عباءة الخلافة الإسلامية وسيلة لفرض السيطرة والاستغلال.
توصل عبد الناصر إلي طرح مقولة تحدد طبيعة الصراع العربي / الإسرائيلي، تتطابق في جوهرها مع ما طرحه بن جوريون، وإن اختلفت في تحديد من هو صاحب الأرض، فبينما ذهب بن جوريون أن صاحب الأرض هو الشعب الإسرائيلي، ذهب عبد الناصر إلي أن صاحب الأرض الوحيد هو الشعب الفلسطيني:
” أن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربي / الإسرائيلي هي في الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة في التحرر السياسي والاجتماعي وبين الاستعمار الراغب في السيطرة وفى مواصلة الاستغلال.
وفيما مضى كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزيق، وبعد حربين عالميتين، ومع تعاظم الأيمان بالوحدة العربية، لجأ الاستعمار إلى إضافة سلاح التخويف إلى سلاح التمزيق، وكان أن أستغل في ذلك الدعاوى الأسطورية للحركة العنصرية.
وهكذا سلم جزء من وطن الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح لكي يتم تكريس تمزيق الأمة العربية وليتحقق تخويفها باستمرار عن طريق إيجاد قاعدة في قلبها لتهديدها، فضلا عما يتبع ذلك من استنزاف كل إمكانيات القوة العربية في صراع محكوم فيه تاريخيا.” ()
ويذكر كاتب غربي أن القضية الفلسطينية في وجود عبد الناصر تلقت دعما غير في جوهر الصراع العربي / الغربي / الإسرائيلي، وفي أساليبه التعامل معه. فلم يكن من بين الحكام العرب من عمل للقضية الفلسطينية بمثل جمال عبد الناصر. ولولا جهوده لظلت القضية الفلسطينية مشكلة لاجئين. ()
إن استعراض رؤية عبد الناصر للمحطات الرئيسية للصراع العربي / الإسرائيلي تمثل التوجيه الاستراتيجي للتيار الناصري في الوطن العربي، ومجمل الحركة الناصرية في أرجاءه.
فعقيدة التيار الناصري المرتبطة بالصراع العربي / الإسرائيلي والتعامل معه قائمة على قاعدة تصادم تحقيق أهداف الصراع بين طرف يسعي لتحرير أرضه، وطرف يفرض وجوده بمنطق القوة وبدعوة دينية مزيفة.
إن عقيدة إسرائيل الأمنية تتمثل في أن زعزعة الأوضاع العربية وتضاربها أهم لسلامة إسرائيل من قواتها المسلحة. إن خبراء الأمن القومي يصفون هذا السعي الإسرائيلي بأنه محاولة لتحقيق الأمن المطلق لإسرائيل. ()
وللتدليل على صحة ذلك هي الحالة التي وصلت إليها مصر فغدت من حيث هي جسد ومركز، جثة هامدة في ظل سيطرة الثورة المضادة التي قادها السادات، وإذا ما تفككت مصر، على هذا النحو، وحرمت من سلطتها المركزية، فسوف تعرف نظم الحكم في المنطقة العربية نفس حالة الانحلال ذاته.
بعد أكثر من ربع قرن على عقد اتفاقية كامب ديفيد عاد المشير عبد الغني الجمسي الذي شارك في تطبيقها في جانبها العسكري يحذر العرب، ويعيد ما سبق لناصر وحذر منه حول أهداف إسرائيل التوسعية :” علينا نحن العرب أن ندرس الصراع العربي / الإسرائيلي بأعماقه منذ بدايته وحتى الآن وقد مر عليه 100 سنة، خمسين سنة منذ مؤتمر بال 1897 بعد50 سنة أنشئوا الدولة سنة 1948، ومنذ عام 1948 وحتى الآن قد توسعوا وسياستهم التوسع. ونظرية الأمن الإسرائيلي خطيرة جدا جدا لأن هدفها التوسع التدريجي على حساب الدول العربية”. ()
كانت عوامل حسم الصراع العربي / الإسرائيلي من وجهة نظر جمال عبد الناصر سوف تخضع في النهاية إلي موازين القوة بعناصرها المعقدة. وكان إدراكه لعنصر الزمن مرتبطا بمقولته بأنه ليس في مقدور جيل واحد أن يحسم الصراع العربي / الإسرائيلي، ولكنه صراع سيمتد للأجيال القادمة، فمن غير الحكمة تجاهل حقائق القوة والتي هي في صالح إسرائيل مرحليا، لهذا امتنع عن قبول أي شكل من أشكال الاتصال، لأن القبول بالاتصال، أو بالتفاوض في ظل الخلل في موازين القوة، يعني قبول العرب بشروط إسرائيل. فالصراع مع إسرائيل لا يجب أن لا يغفل ثلاث حقائق:
1_ أن القضاء على الاستعمار في العالم العربي يترك إسرائيل بقواها الذاتية ومهما كانت الظروف، مهما طال المدى، فإن القوى الذاتية العربية أكبر وأقدر على الفعل.
2_ إن إعادة توجيه المصالح العربية في خدمة الحق العربي ضمانة أولى، فإن الأسطول السادس كان يتحرك ببترول عربي، وهناك قواعد عربية وضعت قسرا وبرغم إرادة الشعوب في خدمة العدوان.
3_ أن الأمر الآن اقتضى كلمة موحدة تسمع من الأمة العربية كلها، وذلك ضمان لا بديل له في هذه الظروف.” ( )
وتوصلت استنتاجات عبد الناصر إلي أنه حتى في حالة قبول الإسرائيليين بالحل السلمي، فإن هذا القبول سوف يكون خاضعا في النهاية إلى مقاييس وموازين القوة، وليس راجعا إلى وضوح حقوقنا أو مهارة المتفاوضين. إن الحجج والبراهين الوحيدة ذات الفعالية في الاقتناع على مائدة المفاوضات هي قوة الجيش واستعداده للقتال. وأن مائدة المفاوضات هي في الحقيقة ميدان القتال نفسه، وأن التعنت الإسرائيلي لا يستند إلا على واقع الغزو وقوة الجيش الإسرائيلي. ( )
والباحث يتوجه لكل من يقرأ الدراسة أن يحاول الربط بين ما طرحه القائد التاريخي لأمة العرب جمال عبد الناصري في إدارة الصراع العربي / الإسرائيلي، مقارنة بما يجري الآن من فوضي لا منهج لها، وبلا عقيدة لا هدف لها يبرر شعارات المتاجرة ليس فقط بالمتاجرة بفلسطين، وإنما المتاجرة الشاملة بقضية العرب أمنا وتطورا.
د. محمد فؤاد المغازي
برلين في 23 يوليو 2014“
مجلة الوعي العربي