مقالات بصراحة - الأهرام-
فجأة هبطت فى مطار المزّة طائرة ونزل منها جمال عبد الناصر
سوريا كلها تزحف الى دمشق لترى رئيس الجمهورية العربية المتحدة
مدن سوريا و قراها تتصل بدمشق لتسأل: هل سيجئ إلينا أم سنجئ إليه
مئات الألوف رافعين المشاعل حتى الفجر أمام قصر الضيافة ينادون :طل علينا يا جمال
شكرى القوتلى يقول لجمال عبد الناصر: هذه الأمة فى حمى شبابك وإيمانك وشجاعتك
رأيت دمشق كما لم أرها فى عمرى. والتعبير مألوف استعمل عشرات المرات قبل أن أستعمله. وأعرف ذلك ولكن ماذا أصنع والحوادث التى تجرى أمامنا الآن أكبر من الألفاظ وليس فى طاقتنا أن نصنع فى كل مرة من الحوادث ألفاظاً جديدة.
لقد كان وصول جمال عبد الناصر اليوم إلى دمشق مفاجأة تمت فى سرية كاملة محكمة.
فى الصباح الباكر سارت سيارات متتابعة فى الطريق إلى مطار ألماظة ولم يفطن الذين شاهدوها إلى أن حدثاً كبيراً يجرى أمامهم.
كان فى هذه السيارات جمال عبد الناصر فى طريقه إلى دمشق ومعه المشير عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادى وأنور السادات وعبد القادر حاتم.
وفى الساعة السابعة قامت الطائرة من مطار ألماظة متجهة إلى دمشق، وفى الساعة الثامنة تماماً بدأت الطائرة تعلو فى الجو ثم بدأت تمرق وسط السحب فى محاذاة شاطئ إسرائيل.
وفى الثامنة والثلث كان جبل الشيخ المعمم بالثلوج يبدو عند الأفق، وكانت أول نفحة من سوريا.
وأطل جمال عبد الناصر من نافذة الطائرة يلقى أول نظرة على الأرض التى انتخبته رئيساً لجمهوريتها دون أن تراه ودون أن يراها.
وفى الساعة التاسعة إلا ربعاً كانت الطائرة تهبط فى مطار المزة.
وبدت الطائرة للذين كانوا فى المطار كأنها طائرة عادية كغيرها من عشرات الطائرات التى تهبط كل يوم فى مطار المزة.
ثم توقفت الطائرة تماماً أمام مبنى المطار وكان هناك جماعة من قواد الجيش السورى يتقدمهم اللواء عفيف البزرى والزعيم أمين النافورى والقائم مقام عبد المحسن أبو النور الملحق العسكرى المصرى فى دمشق.
كانوا واقفين ينتظرون الطائرة وفى تصورهم أن القائد العام المشير عبد الحكيم عامر موجود بين ركابها.
وفتح باب الطائرة ولدهشتهم جميعاً ظهر على بابها آخر شخص كانوا يتوقعون ظهوره فى هذه الساعة من الصباح. وكان اللواء البزرى أول من أفاق من الدهشة فقال: “يا خبر”!
ثم بدأ الباقون جميعاً يتطلعون إلى الرئيس جمال عبد الناصر فى ذهول وهم يرونه يهبط سلم الطائرة ويمد يده إليهم مصافحاً. ولم تكن هناك سيارات فى الانتظار ولم تكن هناك ترتيبات للاستقبال.
وركب الرئيس سيارة كانت فى المطار بينما اندفعت سيارة اللواء البزرى تفسح الطريق أمامها، فى الطريق الذى يؤدى من مطار المزة إلى عاصمة الأمويين الخالدة.
وكان اندفاع سيارة اللواء البزرى فى الطريق هو الشىء الوحيد الذى لفت أنظار بعض السيارات المارة، فتطلع ركابها إلى الركب، ركب السيارات التى تجرى على الجانب الآخر من الطريق ثم اكتشف ركاب هذه السيارات، الحقيقة مرة واحدة، فاستداروا بسياراتهم وعادوا يحاولون اللحاق بموكب جمال عبد الناصر وهم ينادون باسمه.
وبعد قليل كانت شوارع دمشق كلها تردد نفس الاسم، وفى تلك اللحظة كانت سيارة الرئيس جمال عبد الناصر قد وصلت إلى دار الرئيس شكرى القوتلى.
وكان الرئيس شكرى القوتلى ما زال بالدور العلوى بمنزله ولم يكن يعرف بأمر المفاجأة التى وصلت إلى دمشق فى هذه اللحظات. وأخطر الرئيس شكرى القوتلى بأن جمال عبد الناصر ينتظره فى صالون بيته. وارتدى الرئيس شكرى القوتلى ملابسه وهرع للقاء ضيفه، المفاجأة التى لم تكن متوقعة فى هذا الصباح فى دمشق. وتعانق الرجلان.
وقال الرئيس شكرى القوتلى لقد حدثتنى نفسى بأنك قادم بعد أن سمعت فى محطات الإذاعة تصريحاً نسب للسيد على صبرى يقول فيه، إن مشاورات تأليف الوزارة الاتحادية سوف تكون عقب وصول شكرى القوتلى والوزراء السوريين إلى مصر.
ولما كان شىء من ذلك لم يتقرر فقد أدركت أن فى الأمر شيئاً وأحسست بشعور غامض أن ذلك التصريح كان مجرد تمويه، وقد صدق ظنى، ولكننى لم أكن أتوقع وصولك بهذه السرعة، كنت أتصور أنك قادم غداً أو بعد غداً، أما من جهة اليوم…
وفى تلك اللحظات كانت جموع الشعب التى سمعت النبأ بدأت تزحف على قصر الرئيس شكرى القوتلى كأنها سيل ينحدر من قمم الجبال، وبدأت أصوات الجماهير تعلو حتى وصلت إلى أسماع الرئيسين حيث كانا واقفين فى الصالون. وكانت الجماهير تهتف: ناصر ناصر ناصر ناصرنا… وخرج الرئيسان إلى شرفة البيت وتحدث السيد شكرى القوتلى وبعده الرئيس عبد الناصر، ثم دخل الرئيسان إلى بيت الرئيس شكرى القوتلى، ولما جاء الموعد الذى يجب أن ينتقل فيه الرئيس جمال عبد الناصر إلى قصر الضيافة، خرج إلى شوارع دمشق فى سيارة مكشوفة.
إن الحماس الذى شهدته شوارع دمشق لا يمكن أن يوصف، وأى محاولة لوصفه لن تستطيع أن تشير إلى الحقيقة.
إن الطريق بين قصر القوتلى وقصر الضيافة لا يزيد طوله على 100 متر، ولكن السيارة المكشوفة قطعته فى أكثر من ساعة. ثم وصل الرئيس جمال عبد الناصر وسط بحر متدفق من الجماهير وبقى واقفاً فى الشرفة أكثر من ربع ساعة يرد تحية شعب دمشق الذى احتشد فى الميدان الكبير وملأت الجماهير جميع الشوارع المؤدية إلى قصر الضيافة.
وعقد الرئيس جمال عبد الناصر مع الرئيس شكرى القوتلى اجتماعاً طويلاً حضر جانباً منه السيد صبرى العسلى والسيد أكرم الحورانى.
ثم تناول الجميع طعام الغداء معاً.
وقال السيد شكرى القوتلى للرئيس جمال عبد الناصر:
“إن هذه الأمة فى حماية شبابك وإيمانك وشجاعتك”.
وقضى الرئيس كل ساعات ما بعد الظهر يخرج إلى شرفة القصر ويدخل منها. كلما كانت الجماهير تلح عليه فى أن يطل عليها وكانت أصواتها كالرعد وهى تناديه:
“طل علينا يا جمال”.
فكان يخرج إليهم ويرد تحيتهم رافعاً كلتا يديه.
وكان الرئيس جمال عبد الناصر يطلب من الجماهير أن تنصرف لأن البرد يشتد مع وصول الليل، ولكن تجمعات الجماهير كانت تزداد.
وأنا أملى هذه السطور قبل منتصف الليل بقليل والميدان الفسيح أمام قصر الضيافة مازال ممتلئاً حتى آخره بالجماهير وهى تهتف من قلوبها:
مجلة الوعي العربي