الرئيسية / حوارات ناصرية / نحو ثورة صناعية أخرى

نحو ثورة صناعية أخرى

د. مصطفى جودة

مصر تمتلك جميع المقومات لتكون منصة رئيسية لتصنيع وتجميع السيارات. هذا ما نشرته الأهرام فى الثالث من ديسمبر الحالى على لسان السيد المهندس عمرو نصار وزير التجارة والصناعة. هذه مقولة صحيحة مهمة تستحق التعليق عليها. السؤال المنطقي: هل فعلا تستطيع مصر إنتاج سيارة وأن تسير فى ركب صناع السيارات السريع الخطي؟ نعم تستطيع ولكن بشروط قاسية لو أننا اتبعنا الأساسيات وتبنينا أساليب الجودة العالمية واستغللنا الإمكانات المتاحة وفعلنا ما ينبغى.

على عاتق وزارة الصناعة يقع ذلك الحمل الثقيل، مثلما وقع عليها فى الثورة الأولى عقب ثورة 1952. الثورة الأولى أدت إلى تحقيق الكثير من الأغراض التى قامت بسببها ولم تضع هباء منثورا، رغم إصابتها بالوهن وتجمدها لأسباب كثيرة منها المعارك التى فرضت على مصر ومحاربة الاستعمار فى فترة ما بعد رحيله عن مصر وترصده بها الدوائر والذى كان مثلما وصفه جمال حمدان: «مبيدا صناعيا لمصر وعمل بإستراتيجية على ألا تقوم بها نهضة صناعية حقيقية»، ومنها أيضا نكسة 1967 التى أدت الى تجمد كل مشروعات التنمية فى مصر فى كل المجالات وأولها تلك النهضة الصناعية الواعدة التى بدأت تؤتى أكلها. هذه الثورة لم تضع هباء منثورا فهى التى ربت الكوادر الصناعية القادرة المستخدمة فى القطاعين العام والخاص الآن، إضافة إلى ذلك فإنه يمكن الاستفادة منها لإحداث ثورة ثانية مواكبة للعصر كما سنرى.

يشخص لنا مهندس الثورة الصناعية الأولى الوزير الكبير عزيز صدقى فى مقدمة كتاب بعنوان: الثورة الصناعية فى أحد عشر عاما طبع فى يوليو 1963، فيقول محددا أهداف الثورة الصناعية عقب الثورة: صارت الصناعة فى مجتمعنا الجديد مسئولة عن إقامة التوازن الإنسانى الذى لابد منه بين مطالب الإنتاج واحتياجات الاستهلاك واستطاعت السياسة التى رسمت لها أن تحقق هذا الهدف بالتوازن الذى أقامته بين الاتجاه إلى الصناعة الثقيلة وبين الاتجاه إلى الصناعات الاستهلاكية، ذلك لأن الصناعة الثقيلة تعتبر القاعدة الثابتة للكيان الصناعى الشامخ بشرط ألا توقف أولويتها المحققة التقدم الضرورى فى قطاعات الصناعات الاستهلاكية». وقد قدرت تكاليف البرنامج الصناعى الذى بدأ فى عام 1957 بمبلغ 330 مليونا من الجنيهات حسب الأرقام التى ذكرها المهندس عزيز صدقى فى مقدمته. تجدر الملاحظة هنا أن هذا المبلغ يفوق عشرات البلايين من الدولارات فى أيامنا هذه. إضافة إلى ذلك تم ضغط الخطة الخمسية لتكون خطة ثلاثية وقد كان الهدف حينها مضاعفة الدخل القومى خلال عشر سنوات، وأن يكون للصناعة نصيب كبير فى تحقيق أهداف التنمية العام.

وقد بدأت وزارة الصناعة مهمتها عام 1956 وحدد الهدف الأول من إنشائها أن تضع سياسة تصنيعية واضحة المعالم تتفق مع الخطة الاقتصادية العامة، وتتولى الاشراف على تنفيذ تلك الخطة، وتقوم بتذليل كل العقبات والصعوبات التى قد تعترض سبيلها. تركزت البرامج الصناعية الطموح منذ 1958 حتى 1963 فى الصناعات الثقيلة والصناعات الجلدية والملبوسات، والسيارات والدراجات وعربات السكك الحديدية والثلاجات والدفايات وأجهزة التكييف وماكينات الخياطة والأثاث المعدنى وأجهزة الراديو والتليفزيون والأدوات والمعدات الكهربائية المختلفة والأسمدة وورق الكتابة والبويات والمنظفات الصناعية والزجاج والبلاستيك وإطارات السيارات والأدوية ومستحضرات التجميل والصناعات الغذائية والدخان والسجائر وصناعات الغزل والنسيج المختلفة والتعدين ومنتجات الصناعات المعدنية مثل القطاعات والألواح والسبائك المعدنية المختلفة والصناعات البترولية وصناعات أخرى كثيرة يصعب سردها كلها هنا الآن.

كان الهدف من وراء ذلك تحقيق الاكتفاء الذاتى فى كل ما يمكن إنتاجه من تلك الصناعات بدلا من استيرادها من الخارج، مع التوسع فى الصناعات التى يمكن تصديرها للخارج. صحب تلك النهضة الصناعية زيادة كبيرة فى العاملين فى مجالها. على سبيل المثال زاد عدد العمال الذين يعملون فى ميدان الصناعة من 401 ألف فى عام 1952 ليصبح 724 ألفا فى 1963، وليبلغ عدد المشروعات الهندسية التى تضمنتها الخطة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية 1214 مشروعا تكاليفها الكلية 788 مليونا من الجنيهات، منها 749 مشروعا واردا بالخطة، 90 مشروعا أضيفت للخطة، 375 مشروعا تكميليا رخصت بها وزارة الصناعة. وقد نفذ من هذه المشروعات 383 مشروعا حتى 31 ديسمبر 1962 بتكلفة 169 مليون جنيه.

وقد رؤى بالنسبة للصناعة البدء فى عام 1957 وذلك بوضع خطة أول برنامج صناعى على أساس أن يستغرق تنفيذ هذا البرنامج خمس سنوات، وقد تم تنفيذه فى ثلاث سنوات بدلا من ذلك.

وكانت الدولة قد بدأت فى وضع خطة للتنمية تتناول جميع مشروعات التوسع فى الزراعة والرى والصرف والصناعة والكهرباء والنقل والمواصلات والمبانى السكنية والمرافق العامة والخدمات وبدأ تنفيذ هذه الخطة فى يوليو 1960 بالنسبة للصناعة، مع إضافة برنامج ثان شمل المشروعات التى لم تبدأ الإنتاج حتى نهاية يونيو 1960، بالإضافة إلى عدد كبير من المشروعات الجديدة ومشروعات التوسع فى الصناعات القائمة. وقد قدرت استثمارات خطة التنمية خلال السنوات الخمس الأولى فى الفترة من 1960 ـ 1965 بمبلغ 1577 مليون جنيه، منها 434 مليونا للصناعة وحدها (مرة أخرى هذا مبلغ يقترب من مائة بليون دولار حاليا)، ولو أن مصر تركت وشأنها دون مؤامرات فتاكة ومدمرة لطموحاتها لأصبحت الآن أغنى من سنغافورة وكوريا وغيرهما بسبب تلك الثورة الصناعية الأصيلة. مارس الاستعمار دوره فكان بحق «مبيدا صناعيا» كما شخص جمال حمدان. نعم استمرت الخطة الخمسية التالية من 1965 ــ 1970 غير أن نكسة 1967 حدثت فغيرت كل شيء وعطلت كل شيء وتجمدت الخطط الصناعية الطموح لأن مصر كان لابد أن تبنى قوتها من جديد وأن تنهض من جديد، فتأخرت تلك الخطط الصناعية وكل مشاريع التنمية والمشاريع الثقافية. نعم كان هناك استمرارية فى الحفاظ على ما تم بناؤه، ولكنه لم يكن بالمعدلات الثورية المرجوة التى بدأت عام 1957. يمكن القول إن الفترة من 1957 ـ 1967 هى الفترة الذهبية للثورة الصناعية الأولى للثورة المصرية وهى القمة العظمى فى منحنى التقدم الذى كان يسير عليه البلد.

عن admin

شاهد أيضاً

في الرد على اكاذيب عصر الملك فاروق

النهارده هرد على اكثر اكاذيب الملكية انتشارا حتى نصحح مفاهيم مغلوطة عند البعض وتاريخ مزيف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *