تأليف د. عصمت سيف الدولة
أضغط علي رابط التحميل
عـرض كـتـاب
” هــل كان عـبد الـناصر ديكـتـاتوراً ؟؟ “
محـمـد يـوســـف
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
الـكـتــاب والـكــاتـب .. والـمكــتـوب عــنـه :
الكـتاب هـو من أهـم الكتب ـ إن لـم يكـن أهـمها ـ التى تعـرضت لـقـضية الديموقراطية فى الـفـكر والـممارسة الناصرية إبـان تـشـيـيـد المرتـكـزات الأساسية للمـشروع النهـضوى العـربى الذى قــاده جـمال عـبد الناصر خلال الفـتـرة من 1952 الى 1970 .
وهـو الكـتاب الذى تـضمن عـرضاً واضحـاً ومفصلاً للمنظور الـناصرى للديمقراطية .. وكيف أن هـذا المنظور قـد جـاء مـميـزاً ومتمايـزاً فيما قـد تعـلق بالسلطة والـثـروة والجـماهـيـر ، عـن المنظور اللـيـبرالى ، وعـن المنظور الماركسى ، وعـن منظور الإخـوان المسلميـن .. إن فى فكر كل منهم ، أو فى ممارستـه .. وقـد كانت تـلك هـى المدارس الفكرية وأوعـية الحـراك السياسى التى جـاءت المدرسة الناصرية ووجـدتها عـلى الساحة فى مصر والوطن العـربى ، وكان أن كشـفت الناصرية عـن واكتـشفت عـجز تـلك المدارس عـن التـعـبـير عـن جماهـيـر الشعـب والإنحـياز لـهـا .. فـلم يكن أمامها إلا أن تـبـتـدع طريقها الخاص لتحـقيـق ذلك الإنحـيـاز الصريح والمعـلن للأغـلبـية الساحقة الغـائبة من الجماهـيـر .. فـكـراً وممارسة .
إن الكـتـاب يمثـل كـما يقـول ناشـره ” صـرخـة الـحــق فى وجـه الـباطـل الـذى يحــاول الـبعـض إلصـاقه بـثـورة عـبد الناصـر من مواقـع مخـتـلفة ، وبـدوافع مخـتـلفة ، إنـه كتـاب للـملـتـزميـن بقـضيـة هـذه الأمــة عـن وعـى وإيـمـان ” .
والكـاتـب .. هـو واحـد من أبـرز مـشـاعـل الإسـتـنـارة والتحـريض فى الفـكـر القـومى العـربى ، والـذى تـمـنطـق وعـيـه بأهـمية أمـتـه ، ودورها الحضارى والتاريخى ، وحقـهـا فى مسـتـقـبـل هـى خـليـقـة بـه وتسـتحـقـه .. وأهـمية أن يـتعـرف شـبابها عـلى معـالم طريقهـم الى مسـتـقـبـل أمـتـهـم .. وإدراكــه . وبعــد أن تـمـنـطـق وعـيه هــذا ، أوقـف عـمره كـله لـيـنـقـله الى شـبــاب هـذه الأمـة وشـيـبـهـا ، ولـيـدعـوهـم إليه .. ويحـرضهـم عـليـه .
بـذلك يـكـون الكاتب هـو الدكـتور عـصـمت سـيـف الـدولـة .
والـمكـتـوب عـنـه .. هـو جـمال عـبد النـاصـر حسـيـن الـسـيد عـثـمان ( وهـذا هـو إسـمه بالـكامـل ) .. فـيـض من الـنـبالة والبـطولة والشـرف وصـدق الإنـتـمـاء ، هـبط عـلى هـذه الأمـة فى لحـظـة هـى الأخـطر والأهـم فى كـل تاريخـهـا الحـديث وحتى كتابة هـذه السطور عـلى الأقـل .
رجـل ليـس أصـدق ما يقـال فى حـقـه ، من تـلك الـعـبـارة التى نقـشـت عـلى الجرانـيـت الذى جـلب من أســـوان ليـغـطـى قـبـره ” رجـل عـاش من أجـل أمـتـه واسـتـشـهـد فى سبـيـلهـا ” .
إنـه الـذى اسـتحضـر فى وعـيه ووجـدانـه وإبصـاره وبصـيـرته ، مـجـد أمـته وحـقـها فى الحــــاضـر وفى الـمسـتـقـبـل ، وعـقـد الـعــزم عـلى أن يـقـود أبـنائهـا الغـائبـيـن والمهـمشيـن والمسحـوقيـن لإنـتـزاع حـقـهـم المشـروع فى الحـيـاة ، من الذيـن اعـتـدوا ونهـبوا واسـتـغـلوا
.. وتعـالوا وخـانـوا .. ووافـقـته الجماهـيـر وسـانـدته وسـنـدته ، فى نضـاله الـنبـيـل لإنـتـزاع هـذا الـحـق من مغــتصـبـيه إن اخـتـياراً أو جــبـراً .
واخـتار أعـداء الأمـة الـجـبـر .. وكان عـبد الناصر وأبـناء الأمة لـهـا ، فـدارت دورة نـضـال وكـفاح مـريـر وعـنيف .. بـقـدر مـا كـان نبـيلاً وشـريفاً .. و قـدوة لـكـل الشـعـوب المغـلوبة والمقهـورة والـساعـية لإنـتـزاع حـقـهـا فى الحـياة ، عـلى طول الأرض وعـرضها .
( 2 )
وفى أتـون عـملية الـنـضـال من أجـل إرســاء مـرتكـزات المشروع النهـضوى العـربى ، لـم يتـردد عـبد الناصـر فى أن ينـحـت بالـفكـر والـممارسة مفهـومه الـشامخ والصحيح للديمقراطية ، باعـتـبارها تـلك الـمنظـومة السياسية والإقـتصادية والإجتماعـية التى لا بـد أن تـنــتج حـرية الـوطن ، وأن تـنتج الـعـدل الإجـتـماعـى .. وأن تـنتج وحدة الأرض والتاريخ والـبشـر والإمكانات العـربـية . وأن ذلك لـن يتحـقـق إلا باسـتحـواذ الأغـلبـية الغـائـبة والمسـحـوقـة عـلى الـسلـطة والـثـروة .. لتـصنع بهـما قـرارهـا الذى يحـقـق مصالحهـا فى الحرية والإشـتراكية والـوحـدة .
وكان هـذا المجال تحـديداً ـ مفهـوم الديمقراطية ـ هـو مجـال الإتـفـاق المطـلق بيـن القـــائد الذى قـاد مشروع النهـضة ، وهـو جمال عـبد الناصر .. وبيـن المثـقـف الذى عـاش فى ثـنايا هـذا المشروع ، ورأى جموع الجماهـيـر وكان معـها وهـى تـشـيـده ، فـتوحـد مع أهـدافه ومنجـزاته ، والـهـمه المشروع مـا ألهـمه ، فاجـتهـد فى أن يصيغ لـه أسـساً نظرية بعـد أن كـان قـد أصبح واقـعـاً عـملياً عـلى الأرض .. وهـو الدكتور عـصمت سـيف الدولة ، وغـيـره من المفكرين القـوميـيـن الكـبـار ، الذين سـاروا فى طـابـور الـفــكـر الـقـومى الطويـل .
( 3 )
هـل كـان عـبد الناصر ديكتاتوراً ؟
يحــدد الدكـتور عـصمت سيـف الـدولة ” تـشـريعـاً ” يتعـيـن عـلى كـل من يـريـد ” محــاكمة ” عـبد الـنـاصر الإلـتـزام بـه ، كـشـرط حـاكـم ، لإقــامة العـدل والـمنـطـق والـموضوعـية فى ” المحـاكمة ” ، باعـتـبار أن أى محاكـمة بــلا تـشـريع ، ليست إلا صـراعـاً فى غــابة ، يخــرج عـن أى ضـابـط أو مرجـعـية من أى نــوع .. ويستـطيـع فـيها الحـاضر أن يـنـهــش لحـم الغـائـب ، ليـس بقـوة المنطـق والـوقائع ، ولكن فـقـط بضـعـف الـغـيـاب .. فـيـقـول :
” … فـدعـونا نـتـفـق من الآن عـلى أمـريـن :
الأول .. أن يحاول كل منا ، وبقدر ما يستطيع ، أن يحتـفظ لنفسه بأحكامه عـلى مشكلة الديـمقراطية أو عـلى عـبد الناصر .. الى أن ينـتـهى الحـديـث عـلى الأقــل … فـليس أسخـف من القول ( لوكنت مكان عـبد الناصرلفعـلت كـذا .. ) إلا القول ( لوكنت عـبد الناصر لفعـلت كـذا .. ) فـلا أحـد غـيـر عـبد الناصر كـان فى مكـانه . وعـبد الـناصر الـذى مـات لا يـتـكـرر .
الثـانى .. إذا لـم تـكن الحـيدة ممكنة فعـلى كل واحد أن يحدد موقـفه من حرية وطنه قبل أن يحــدد موقـفه من حـريـته الشخـصية . وقـبل أن يـتـشـدق أى واحــد مـنا بالكـلـمات الكبيرة عـن الديمقراطية ، عـليه أن يخـتار بين الإستـقلال وبيـن الـتـبعـية . لقـد اخـتار عـبد الناصر قائـد ثـورة يوليـو حــرية الوطن واستـقـلاله منذ البداية . وقضى وهـو فى ميدان معـارك التحرر العـربى ، وسيـكون عـلى أى منـصف مهـما يـكن إخـتــياره ، أن يـتـتـبع تاريخ الرجل مع مشـكلة الديـمقراطية فى مصــر ، إنـطـلاقاً من البـداية الـتى اخــتـارها الرئيس الراحـل .. إلى الـنهـــايـة .
ثـم يـبـدأ الدكتور عـصمت عـرض مسـاجـلات المحاكمة ، فـيقـول فى حـسـم :
” … أمـا الـذيـن لا يــرون عـلاقـة بـيـن معـارك الـتحـرر الوطـنى ومـشـكلة الـديـمـقـراطـية فهــم جاهـلون . وأما الذين يرفعـون أصواتهم فوق صوت المعـركة ، هاتـفين للديمقراطية ، فهــم يـريـدون أن يـنسحـبوا من المعـركة تحت غـطاء الدعـوة الى الديمقراطية ، إنهم يـريدون ـ نـفـاقـاً ـ أن يــقـال عـنهـم ديـمقراطـيون ، بـــدلاً من انـهـزامـيـيـن .
ولقـد طالت ـ يسـتـطــرد الدكـتور ـ معـارك التحــرر الوطـنى التى خـاضتها ثورة 23 يوليو تحت قيادة عـبد الناصر ، حتى كادت أن تستغـرق كل حـياتها ، وأثـرت فى مشكلة الديمقراطية وحـلها … وقـد فـرضت تـلك المعـارك حـدوداً للحـرية عـلى الـثـورة وجمال عـبد الناصر … وقـد واجــه عـبد الـناصر مـشكـلة الديـمقراطـية داخـل نـطـاق تـلك الحـدود ، لـم يـسـتـطع ، ولـم يـرغـب فى أن يـتـخـطاها ، بـدون إنـكـار لأثـرها عـلى المـشـكـلة وإمكـانات حلها . فـما هـى ـ يـسـأل الدكتور ـ تـلك الحـدود ؟ ” .
وعـلى الـفــور يـجـيـب :
” ـ الإصـرار عـلى الوحـدة الوطـنية ، وعــدم الـسماح بأى صــراع اجـتـماعى حــاد ، أو سياسى عـنيف ، أو أية انـقـسامات فى الجـبهة الداخـلية . وقـد أثـر هـذا فى موقـفه من الأحـزاب التى لـم يـسمح بـتـعـددها أبـداً ، بالرغـم من أنه كان يـتـوقع نـشـوء الأحـزاب وتعــددها فى مصـر ، ولا يعـتـرض عـلــيه …
( 4 )
ـ اسـتـمرار حـالة الطـوارىء ، بما يستـدعـيه ذلك من تركيـز السلطة …
ـ صعـود القــوات الـمسلحة الى الـمركــز الأول من مراكـز القــوى فى الدولة ، عـلى أساس أنها الـمسـئـول الأول عـن ســلامة الـوطـن …
ـ تـضخــم أجـهـزة الأمن الداخــلى ( أمن الـدولة ) والخــارجى ( المخابرات العـامة …
ـ خـضـوع الإعـلام ووسـائـله … لمقـتـضيات معـارك الـتحـرر .. وليـس من بين وظائف الإعـلام ، خـلال الصراع من أجـل الـتحـرر الوطـنى ، أن يـتـطوع بـوضع الحـقــائـق الإقـتصادية أو الإجـتماعـية أو السياسية أو العــسكرية ، تحت تصرف أجهزة الإستماع المعـادية . بل من وظـائفه أن يـذيـع ويـنـشـر ما يـخــدم معـركـته الوطـنـية ” .
ويـدلـل الـدكـتور سيـف الـدولة عـلى صحـة ذلك بأمثـلة ذكـــر منها :
” بـلغ مجـموع الـسفـن الألمانـية الـتى أعـلن الحــلفاء إغـراقــها فى الحــرب الأوربــية الثــانية ، أضعـاف أضعـاف ما ملـكـته ألـمانيا من سفـن فى كــل تاريخــها منـذ غـزوات الـفايـكـنج .. وخـاضت مصـر وسوريا حــرباً إعـلامية مـدعـومة فـكـرياً وسـياسياً وإحــصــائياً ، استـمرت عـاماً ، ثــم انـتـهت فى لــقاء فى أقــل من خـمس دقــائـق … ” .
ـ تحـمل الإقـتـصاد الوطنى أعـباء المعـارك التحررية اقـتطاعـاً من بنية أقـتصادية ضعـيفة أصـلاً … ولقد أصبحت تكلفة المعـارك أبهظ من أن تـطيقها الدول المتـقدمة اقـتصادياً … ” .
ورغـم هـذا الفهـم الرفيع ، الذى يقـدمه الدكتور فى طول الكتاب وعـرضه ، لوضع الــديمقراطية فى أوقـات تعـرض الأوطـان للخـطـر ، فـإنـه يـورد فـقــرة لا نـوافـقـه عـليها ، لأن معـناها يـصـب فى خانة الطقوس الديمقراطية الغـربـية الشكلية ، التى يـصدرونها لـنا ويـلـزمونا بـهـا وهــم غـيـر مقـتـنعـون بـها ، ولا يـلـتـزمونها . وهــو شخـصـياً ـ الـدكـتور ـ من أشــد الرافـضيـن لتـلك الطـقوس ، بدلـيـل قـصة سفن ألمانيا فى الحرب العـالمية الثانية التى أشار إليها منـذ لحـظة . ونضيف نحـن .. سـفـنـهـا وطائراتها أيضاً ، حيث كان تـشرشل الـذى لايـوجـد بـريطانى فى كـل تاريـخ بريطانيا ، من هـو أكـثـر منه شـهـرة ولا أكبـر منه مكانة .. كان أثـناء نـفس الحـرب قـابعاً فى مخـبئه تحت الأرض ، ليذيع عـلى مواطنيه أخـبـارإسـقـاط الـطائرات الألمانية المغـيرة عـلى لندن ، بأعـداد بلغ مجموعـها أكثـر من الأعـداد التى كـانت تملـكها كـل دول الحـلفاء وكـل دول المحـور، أى طـرفى الحـرب .. فى الوقـت الذى كادت لندن فيه أن تسوى بالأرض بفـعـل 246 غـارة جوية كانت تـتعـرض لهـا من تـلك الطائـرات يـومـياً ! .. إنهـا الحرب التى غـالباً لا تـترك لك أن تختار ماتـفـعـله ، بـل إنهـا قـد تـفـرض عـليك الذى تـفـعـله ، وفى مقــدمة ذلك ، تضـليل العـدو ـ من حـيث كونه عـدواً ـ بكـل الوسائـل ، وأولها الوسائـل غـيـر المشروعـة ( فى غـير زمن الحـرب ) والتى هـى ذاتهـا مــشروعـة فى زمـن الـحــرب ، إذ لـن تـكون لديـنا ديمقراطية من أى نوع ، فى حـال هـزيـمـتـنا ، وفى الـمـقـابـل انـتـصار الـعـدو الـذى رفـضـنا ” تـضـليله ” فـفـقـدنا حـماية الـوطــن ، فـكـأنـنا اخـتـرنـا الـهــزيـمة !! .
يقول الدكتور فى تـلك الفـقـرة التى نخالفـه الـرأى فـيها والتى عـلقـنا عـليها قـبل أن نـورد نصـها .. وهـذا خـطــأ نعـتـرف بـه :
( 5 )
” ولـما كانت معـرفـة الحـقائق هى المـادة الخــام التى يكون منها المواطنون آرائهم ، ويحددون عـلى ضوئها مواقـفهم ، ويمارسون عـلى أساسها حـرياتهم ، أو ينكصون عـن ممارستهـا ، فـإن كـل تـزيـيـف فى الحـقائق ولو كان لتضليـل الأعـداء وحـماية الوطن ، يـنعـكـس زيـفـاً عـلى الديـمقراطـية وممـارسـتـهـا ” .
إن أمريكـا والغــرب الإستـعـمارى كـله واسـرائيـل ، يـزيـفـون الحقائق التى يقدمونها لمواطـنيـهـم عـلى مــدار الساعـة ، بـدون خـجـل أو وجـل ، بـدعـوى حماية ” أمنهم القـومى ” .. وحـيـن يعـتـدون عـليـنا فـإنهم ـ أيـضـاً بـدون خجـل أو وجـل ـ يــلـهـبون ظـهــورنا بسـيـاط ” الشفافـية الديمقـراطية ” الغـائـبة عـنـدنا ، والحاضرة عـندهـم شـكـلاً وغـائـبة موضـوعـاً !! .
بـعـد هـذه المداخـلة .. فـإنـنـا نعـلم تمامـاً ـ لمعـرفـتـنا بـه وقـت أن كــان بيـنـنا ـ أن روح المفـكر الكبـيـر سـوف تـقـبل منـا هـــذا الإعـتراض ” العـارض ” وسـوف يقـبله أيضاً مـنـا كل الـذيـن اسـتـنــاروا بإبـداعـاته الفكرية ، ونحـن منهـم .. ثـم نـسـتـمر .
ومـاذا بـعـــد ؟ .. يـواصـل الدكتور عـصمت ـ بمناسبة حديثـنا عـن المحاكمة ـ تــفـنيد دعـاوى ” الإدعـاء ” عـلى عـبد الـنـاصـر :
” يـقـولون ـ خـاصة الماركسيـون ـ إن الـثـورة ( التى ظـلوا لأكـثـر من عـشـر سنوات من بـدايتها يصفونها بأنها إنـقـلاب دبـرته طـليعـة الطبقة البرجوازية لإنـقاذ تـلك الطبقة من المأزق الذى أصبحت فيه بعـد الحـرب العـالمية الثانية وسقوط فلسطين ) قـد بـدأت بـدون نظـرية ، وأن كل شـىء كان خاضعـاً ” للـتجــربة والـخـطـأ ” .. وهـذا ” خـطـأ ” .
ويــورد الدكتور رد عـبد الناصر نفـسه عـلى هـذا الـقـول :
” فى يوم 21 مايو 1962 قـدم الرئيس الراحـل جمال عـبد الناصر الى المؤتمر الوطنى للـقـوى الشعـبـية ميـثـاق العـمل الوطنى بقـوله : ” الميـثـاق عـبارة عـن مبـادىء عــامة وإطـاراً للعـمل أو للخـطة … نـتـج عـن تجـربة وممارسـة عـشـر سنـوات … كــانت فـترة مشيـنا فيـها بالتجـربة والخـطأ ” .. وقــال يـوم 7 أبريل 1963 ” … لـم يكـن عـندنا منهج ، لم يكن عـندنا نظرية ، ولم يكن عـندنا منظمة شعـبـية ، ولكن كان عـندنا المبادىء الـسـتة ” . وقـال يوم 25 نوفمبر 1961 ” … إيـه هى أهـداف النظرية ؟ أنا بأقول إنى مكنش مطلوب منى أطـلع فى يوم 23 يوليو معـايا كـتاب مطبوع ، وأقـول إن هـذا الكتاب هـو النـظرية ، مـسـتـحيـل . لو كنا قـعـدنا نعـمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عـملنا 23 يوليو ، لأن مكـناش نـقـدر نعـمل العـمليـتيـن فى وقـت واحــد ” .
يعـلــق الدكتور عـصمت عـلى ذلك قـائـلاً :
” وهـكـذا مع الإعـتراف بغـيـبة النـظرية ، طرح ( عـبد الناصر ) المشكلة الفكرية طرحاً يـتـضمن الإشـارة الى سـباق بيـن الفـكر الذى لابـد لـه من الوقـت اللازم والكـافى لـنـضجه وبـلورته ، وهـو وقـت قـد يستـغـرق حياة جيـل أو أجيال .. وبيـن موقف مصر المتردى بسرعـة متـزايدة قـبـل 1952 ، مـما كان يسـتوجب الإنـقـاذ بالـممـكن بدون انـتـظار لـما يجـــب أن يكون . وكان الـممكن هـو ما عـرف باسـم المبادىء الـستة للـثورة ، ومن بـينها إقامة حـياة ديمقراطية سـليـمة ” .
( 6 )
ويسـتـطـرد .. ” بـدأ عـبد الناصر قائداً ينـتهج التجربة والخطأ أسلوباً . ولم يكن مثـقـفاً يملك كل الوقت اللازم للإجتهاد الفكرى المجرد ، ويملك ـ بشكل خاص ـ أن يحـجب أفكاره أو يـراجعـها أو يغـيـرها ، قبـل أن يـطرحها عـلى الناس أفعـالاً تـؤثر فى حـياتهم العـينية . ذلك لأنه كـان قـائد ثـورة مهـمـته الأولى أن يغـيـر ويـطور ، وينـفـذ ويـصحح فى الـواقـع الإجـتماعى بما يحـمله من أفـكـــار ” .
ونـقـول نحـن .. إن التلازم والـترابط العـضوى بيـن الفكـر والعـمل ، كان هـو الأساس المحـورى الذى قـام عـليه ذلك التراكم الحـضارى الإنسانى ، منذ بـدء الخليقة الى أن يـرث الله
الأرض ومن عـليها . فـلم تخـل مسيـرة الإنسان الحضارية عـبر كـل تاريخـه من التجربة ولا من الخـطأ ولا من التصحيح .. وحـينما كان يلاحـظ الإنسـان ثـباتـاً للنـتائج حـينما يـتـكررالقـياس ، فـإنه كان يـشرع فى صياغـة القـواعـد والثوابت والقوانيـن ، وبلورة النظريات . وحين كانت تـتـقـدم المراحـل التاريخية والحضارية بالإنسـان ، كانت تظهـر ( أو تـفرض نفسها ) حاجـته الى تغـيـير المقايـيس والقوانين والنظريات .. بـل والبديهـيات ، ولم يكـن ذلك ليـحـدث ـ بأى حـال ـ إلا عـلى قاعـدة ” الـتجـربة والـخـطأ والتصحيح ” . والماركـسيون أنفسهم هـم الذيـن يقولون ” إن الواقع هـو الذى ينـتج قوانيـنه ” و هـم الذيـن يقولون ” أن الـتـاريخ يعـود دائماً الى الواقع ليـصحح نـظريـاته ” .
ويـشـير الدكتور عـصمت الى ذلك الجـدل العـلمى الذى يحـدث دائماً بيـن الـفكـر وبيـن الواقع ، وكـيف كان وعـى عـبد الناصر بـه ، واسـتعـداده الشخـصى للإستجابة لـه . فيقـول :
” … قـد كان ـ بالضرورة ـ أكثـر قبولاً للتعـلم من التجربة من أصحاب النظريات ، وفى حياته تجـربة إنسانية خصيـبة لإمتـزاج التـقدم الفكرى بالتـقدم العـملى . فـقـد أعـطى التجربة أفكـاره ، واسـترد من التجربة أفـكاراً أكثر نـمواً ، فعـاد وأعـطاها للتجربة ، ثم استرد منها .. وهـكذا فى عـملية نـمو فكـرى خـصيـبة ، ما تـزال فى حاجة الى دراسات عـلمية مطــولة . إذ لا شك
فى أن دراسة عـبد الناصر المفـكر شىء أكـثر لـزوماً وفائـدة وصعـوبة من دراسة أى مفـكر آخـــــر ، لم يتحـمل بنـفسه عـبء وضع أفـكـاره موضع التـنـفيذ ، كما لا شك فى أن دراسة عـبد الناصر الثـائر أكـثـر لـزوماً وفائـدة وصعـوبة أيـضاً من دراسة أى ثـائر آخر ، كان قصارى جهـده أن يغـير ويطور وينـفـذ نظـرية وضـعـت لـه والتـزم بها قـل أن يـثور ” .
ويقـولون ـ يسـتـمر الدكتور ـ أنه كانت هـناك أزمة بـيـن الثـورة وبيـن الـمثـقـفـيـن :
يـوم 25 نوفمبر قـال عـبد الناصـر مخاطباً المثـقـفـيـن : ” … انـتـم اللى عـليكم تعـملوا النظرية ، المثـقـفين هـم اللى يعـملوا النـظرية ، يـوم ما لاقى كتاب طالع عـن اقـتصادنا وتجربـتـنـا ، أو إيه اللى يجب يحصـل فـيها ، أشعـر بأن هـذا الكتاب هـو جـزء كبـير من النظرية … عـلى هـذا الوجه ـ يستـطرد الدكتور ـ حـدد عـبد الناصـر مسئولية البناء النظرى للـثـورة وأسـلوب هـذا البناء . فمسـئوليـته تـقع عـلى عـاتـق المثـقـفـيـن ” ..
لـكـن من هــم المثـقـفيـن الـذيـن كان يعـنيـهم عـبد الناصر ؟ يجـيب هـو نـفـسه : ” المفروض بالمـثـقـف أنه المثـقـف إجتماعـياً ” ويعـلق الدكتور عـصمت .. ” وهـو مـا يـمكن فـهـمه عـلى أنهم المثـقـفون الـناشـطون فى الحـقـل السياسى أو العـاملون بالقضايا العـامة ” .
ويحـدد الميـثـاق ـ يستطرد الدكتور ـ معـالم العـطاء الفكـرى الـثورى الإجتماعـى :
” الثـورة العـربـية وهى تواجه هـذا العـالم لا بد لها من أن تواجهـه بفـكر جـديد لا يحـبس نفسه فى نظريات مغـلقة يـقـيد بها طاقـته ، وإن كان فى نفس الوقت لا ينعـزل عـن التجارب
( 7 )
الغـنية التى حـصلت عـليها الشعـوب المناضلة بكـفاحها … إن الـتسليم بوجـود قـوانيـن طـبـيعـية للعـمل الإجـتماعى ، ليـس معـناه الـقـبول بالنـظريات الجـاهـزة ، والإستـغـناء بـها عـن الـتجـربة الوطـنـية ” .
تـلك كانت رؤية عـبد الناصر والثورة لـدور المثـقـفين .. فـماذا كانت رؤية المثـقـفـيـن لعـبد الناصر والثـورة ؟ .
يقـول الدكتور عـصمت : ” نحن نعـرف الآن أن الوجه السياسى لعـملة الرأسمالية هى الديـمقراطية الليـبرالية التى كانـت سائـدة فى مصر قـبل الثـورة . وحـين حــددت الثـورة أحـد
أهـدافها فى ” القضاء عـلى سيطرة رأس المال عـلى الحكم ” كانت تـتـقدم ـ حتى دون أن تـدرى ـ الى مواقع الصدام مع الليـبراليـين وأفـكارهـم الخاصة عن الديمقراطية ، أى مع مثـقـفى مرحلة مـا قبـل الثـورة ( الذين تمثـلوا فى أنصار الديمقراطية الليـبرالية وبعـض فصائـل التيار الماركسى ) … إن المثـقـفين فى مصر ـ يسـتطرد الدكتور ـ لم يـقوموا بـدورهــم التاريخى فى البناء النـظرى للثـورة ، وهـو الـدور الذى لم ينـكره عـليهم عـبد الناصر قــط ، ولم يـدعـه لنـفسه من دونهـم قــط ، فبـقى بـدون إنجـاز لـمدة طــالت أكثـر مما يجـب ” .
ونـقـول نـحـن .. إن تـلك كانت هـى الأرضية التى دارت فوقها محاولة الإلتـفـاف عـلى الـثـورة ووأدهـا إبــان ما عـرف فى التـاريخ السياسى المصرى بـ ” أزمة مارس 1954 ” ، ومحاولة
إرجــاع صانعـيها الى ثـكـناتهـم ، أو الى غـياهـب السجـون .. أو تعـليـق هـؤلاء ” المتـمردون ” ـ عـند اللـزوم ـ عـلى أعـواد المـشـانـق .
وكـأن هـذا الـحـديـث .. جــاء مدخـلاً للـحـديث عـن أزمـة مـارس 1954 :
يـقـول الدكتور عـصمت سيـف الــدولة عـنـهـا :
” فى ذلك الصراع ، إخـتار الليـبراليون داخـل مجـلس قـيـادة الـثورة ، ورمـزهـم محـمـــد نجـيب ( ونضيف إلـيـه : خـالد محى الدين وعـبد المنعـم عـبد الرؤوف وعـبد المنعـم أميـن ، كما يضيف الدكتور قـولـه أن محمد نجيب اليمينى قد رشح خالد محى الدين اليسارى ، فى أزمة مارس 1954 ، ليكون رئيساً للـوزراء فى مقابل إنهاء الثورة ) .. هــؤلاء كـان يساندهـم رجـال الأحزاب المنحـلة وجـماعـات المثـقـفين ، اخـتـاروا العـودة الى النظام البرلمانى الليـبرالى . وكانت حـججهم المعـلنة ، أن الثـورة وقـد نجحـت فى القـضاء عـلى ” المفـسديـن للـديمقراطية ( الملك والإقطاع ) ، فـقـد اسـتـنـفذت غايـتها .. وعـليها أن تـنهى ذاتـها لـتـعـود الحــياة الديمقراطية الليـبرالية الى استـئـناف مسيـرتها الـتى عـوقها المفسدون .. وأن عـلى مجلس قيادة الثورة وضباط القوات المسلحة أن يعـودوا الى ثـكناتهم … وأن يـسلموا الـسلطة الى حـزب الأغـلبـية ( الوفــد ) … يضـاف الى ذلك ـ يسـتـطــرد الدكـتـور ـ الـنـظرة المتعـالية التى كان يـنـظر بها المثـقـفون وقـادة الأحـزاب السابقة الى ” شـوية الـضـباط ” صغـار الـسن ، غـيـر المعـروفيـن من الـشعـب ، الـمجـرديـن من الخـبـرة حـــتى ولو كانوا غـيـر مجـرديـن من الإخــلاص ” .
( نـرى أنـه يـنـبـغـى مـنـح الإنـتـبـاه الـكــافى لتـعـبـيـر ” الـنـظـرة المـتعـاليـة ” الذى اسـتخـدمه الدكـتور لوصـف موقـف المثـقـفـيـن من الثــورة منـذ أربعـاً وخمسـون عـاماً ، وتعـبـيـر ” شـوية الضبـاط ” الذى كانوا يشـيـرون بـه إلى الـثــوار الذيـن زلـزلوا واحداً من أكثـر النظم الحاكمة فى العـالم يومها ، سـطوة وتـرهـلاً وفـساداً وعـمالة وتـبعـية .. ليـس هـذا هـو المهـم الآن .. وإنـما الغـريـب الـفـج فى هـذا الـصــدد هـو أنـه ما زالت ” نـظـرة التـعـالى ” تـلك و تـعـبـيـر ” شـويـة الضـباط ” ذلك ، يستـكـنان فى نـفـوس عـديـد من المثـقـفـيـن ،
( 8 )
ومن ثـم يتـحـكـمان فيما يـقـولون ويكـتـبون وينـشـرون بـدون خـجـل . وكــأن عـلى الـثـوار والغـيـوريـن عـلى أوطانهـم .. والشـهـداء ، ألا يكـونوا كـذلك إلا بعـد حصولهـم عـلى درجـة الدكـتوراه ، وتـقـديـم شـهـادة ” حـسن سـيـر وسـلوك ” معـتمـدة من اثـنين مـثـقـفيـن !! ) .
ويـفـسـر الدكـتور سيف الدولة .. لـماذا انحـاز الماركسيون الى الليـبراليـيـن فيـقول : ” لأنهم لـم يكـونوا من الـقـوة بحـيث يـفـرضون مـذهـبهم الـتـقـليـدى فى ديـكـتـاتـورية الـبلـوريـتاريا … فانحازوا الى الليـبراليـين عـلى أساس أن الليـبرالية سـتـتيح لهم فـرصة أكـبر لتعـميق التـناقـضات الطبقـية ، وتعـبئة الجماهـير تحـت قـيادة الطبقة العـاملة للإستـيلاء فى النهاية عـلى السلطة … وأن عـودة الليـبرالية بعـودة الوفـد كانا ـ فى تـقـديـر الماركسيـين مبـرراً كــافياً أو مساعـداً لإنحـيـازهـم الى إنهـاء الثـورة ” .
ويلخـص الدكـتور سيف الدولة ، مشهد الصراع فى تـلك الأزمة ويـوصـفه بـقـوله :
” أياً ما كان الأمـر فإن الصراع حـول مشكـلة الديمقراطية فى مصر أصبح قائـماً بين الليـبراليـين وبيـن الثوريـين ” .. ثم يـسـأل ” فـأى الفـريقيـن كــان ديـمقراطـياً ؟ ” .
ويـجــيـب ..
” … الأولون انحازوا الى أنفسهم ، الى القـلة المـمتازة الحاضرة ، والآخرون انحازوا الى الشـعـب ، الى الأغـلبـية المسحـوقة الغـائـبة … وعـلى المستـوى الـواقعـى ، نعـنى واقـــع مصر عـند قيام الثورة ، فإن الأولين لم يكونوا ديمقراطيـين بأى معـنى ، وكان الثـوار وحـدهـم هـم الديـمقراطيـون . ذلك لأن الـقـلة الممتـازة التى انحـاز اليها الليـبراليـون لم تـكن تعـانى من أيـة مشكلة ديمقراطية . فهى قــادرة فكــراً وعـلماً وخـبرة ومالاً عـلى ممارسة حـقوقها السياسية … الـذى كان يعـانى مشـكلة ديمقراطية حـقـيـقية هـو الشعـب . أغـلبية الشعـب الراكـد الغائب الضعـيف ، المستـضعـف المحكوم بـدون أى أمـل فى أن يشارك فى الحـكم ” .
ويـستـوقـفنا هـذا الفهـم والتحليـل الرفيع لمشكلة الديمقراطية ، ولقضية العـدل الإجتماعـى فى مصر العـربـية ، وهـذا التـلخـيص والتوصيف لذلك المشهد الفاصـل فى تاريخ الـثـورة فـى مصر ، حـيث يـبرز من ثـناياه ذلك المفهـوم اليـقـينى العـقـيدى للديـمقراطية الذى ترسخ فى وعـى جـمال عـبدالناصر ، فالـتـزم بـه وأعـلـنه .. بــل وقـاتـل دونه ، كـل الحــرية والديمقراطية للشعـب ، ولا حـرية ولا ديمقراطية لأعـداء الشعـب ، ولا ديمقراطية ولا حـديث عـنها ، قـبـل أن يـتـمكن المسحـوقون والغـائـبون والمهمـشون آمـاداً طـــويـلةً ، مـن أن يـكونوا مثـل ” الـقـلة الممتازة ” ، قـادرون فـكراً وعـلماً وخـبرة ومـالاً عـلى ممـارسة حـقـوقــهم السياسـية .
وفى هـذا الـسـياق .. لم يكـن غـريـباً أن تـصـدر الثورة ـ ولـما تكـمل شـهـرين من عـمـرها ـ أول قانـون للإصلاح الزراعى ، الذى قصـم ظهـر الإقـطاع لـصالح الفلاحـيـن أقـنــان الأرض فى مصـر ، ولم يكن غـريـباً أيضاً ، كما يـوضح الدكتور سيف الدولة ـ أن يتـلقى العـمال من الــثورة ـ ولـما تكـمـل عـامها الأول ـ القانون الذى يحـرم فصلهم من العـمل بدون مبـرر ، ويـوقـف قرار الفصل التعـسفى ” عـلى وجه الإستـعـجال ” مع صرف الراتب ، حـتى لو لم يـقبـل رب العـمل إعـادة العـامل الى عـمله . وعـدم جــواز توقـيع أكـثر من عـقوبة عن المخالفة الواحدة .. إضافة الى القـانون الذى يفـرض حـصر كل العـمال العـاطليـن فى مصر ، وانشاء سجل لهم ، وتشغـيلهم ، وإلزام أصحاب الأعـمال بالإبلاغ عـن طلبات العـمل ، ومنـع
( 9 )
الـوســـاطة ، وكـفالة الـدولة لمصروفات نـقل العـامل وأسرته من محل إقامته الى حيث يقـدم لـه العـمـل .
لـيـس هـنـاك ـ فى رأيـنا ـ غـيـر هـذا الحـديـث حـديـثـاً عـن الديـمقـراطية ومعـناها .. وجـدواها . وإذا وجـد حـديـثاً غـيـره فى مصر والأمة العـربـية والعـالم الثالث بإجـماله ، فـإنـه يـكون فـقـط من قـبـيـل ” اسـتـهبـال المثـقـفيـن ” أوجهـلهـم .
يـقـول الدكـتور عـصـمت :
” ثـم نعـجـب ممن وضعـوا أنـفسهم فى مقاعـد الـتـقـدمية … أو سـودوا ما توهـموا أنه تاريخها ، فـقــالوا إن الصـراع كان يـدور فى القمة بين الديمقراطيـين وبـين أنصار الديكتاتورية ، وهـذا صحيح ، ثم أخـطأوا خـطأً فاحـشاً ، فـقالوا إن دعـاة استـمرار الثـورة هـم الديـكتـاتـوريون ، وأن دعــاة العـودة الى الليـبرالية وأحـزابها ، كانوا هـم الـديموقـراطيـين . كـأن الديـمقراطية كـلـمة تـقـال وليـست حـرية مكـتـسبة ، كـأن ثـورة يـوليـو ما قــامت إذ قــامت ، إلا من أجل أن يسـتـأنف حـزب الوفـد وأحـزاب مدرسة ” حزب الأمة ” حكمها الشعـب العـربى فى مصر ، بعـد أكثر من سبعـين عـاماً من تحالفها ضـد الخط الوطنى الثـورى ، وبعـد ثلاثـيـن عـاماً من ممارستها الفـاشــلة للديمقراطية الليـبرالية فى مصـر ” .
لقـد كان ذلك هـو مفهوم عـبد الناصر العـقيدى للديمقراطية .. وكان ذلك أيضاً هو مـا وافـقـه عـليه الدكتور عـصمت سيف الدولة .. ونحاول الآن أن نغـوص أكـثـر مع الدكتور ، فى الواقع والوقائع التى جـرت بـفـعـل الـثـورة عـلى الأرض ، لـندرك أعـماق المفهـوم الديمقراطى لـدى عـبد الناصر ، ومدى مصداقيـته .. لـنـجيب عـن السـؤال : هـل كان فـعـلاً ديكـتاتوراً ؟ .
يسـتمر حديـثـنا مع الدكتور .. أو حديـثـه إلـيـنا .
الإصـلاح الزراعـى :
” كان الهدف الأول ، الأكثـر وضوحاً ، لثورة يوليو هـو تحرير الفلاحين … وكان تحديد الملكية هـو التحـدى الظاهـر الذى واجـهت بـه الـثورة الأحزاب فرفـضـتـه . ( يقول عـبد الناصر يوم 26 يوليو 1955 ” من أول يوم من أيام الثورة ، قـلنا لهم ، إذا أردتم فعـلاً أن تحـقـقوا الحرية … لـهذا الشعـب الطيب الذى خدعـتـموه تحت اسم الحرية .. فـلتوافـقوا ولتعـلنوا مـعـنا القضاء عـلى الإقـطاع ، ولتـعـلنوا تحديد الملكية ” ) … إن قانون الإصلاح الزراعـى ـ يؤكـد الدكتور عـصمت ـ هـو القانون الديمقراطى الأول فى تاريخ مصر الحديث . ذلك لأنه يتضمن محاولة لحل مشكلة الديمقراطية بالنسبة لأغـلبـية الشعـب من الفلاحين … بالحــد من قـوة الإقـطاعـيـين وكـسـر شوكـتهـم ، وتحـطيـم ما تـراكـم لهـم من هـيـبة طاغـية فى الريـف . وأيضـاً بخـلـخـلة الـقيـود التى كـبلت الفلاحين ، وتـشـجيعـهـم عـلى التـمرد والفـكـاك من التـبعـية ، وتـدريـبهـم عـلى الجــرأة وتحـدى استـغـلال المـلاك والإقـطاعــيـين لـهـم … وكسر السيطرة الإجتماعـية والنفسية والأخلاقية لـهـؤلاء عـليهـم … بالإضافة الى ذلك ، حــاول القانون الــزج بجمـوع الفلاحين زجــاً الى مواقـف جماعـية إيجابـية يواجهون بها احتياجاتهم ، بدلاً من عـلاقات الإتكـال والتواكل التى كانوا قـد اعـتـادوا عـليـها سـنين طـويلة . فــأنشـأ الجــمعـيات التـعـاونية الـزراعـية ، واشـتـرط أن تـكون عـضويـتـها لـمـن تــقـل ملكيـتهم عـن خـمسة أفــدنـة ” .
( 10 )
يسـتطرد الدكتور سيف الدولة : ” لم يركز عـبد الناصر قــط عـلى المبرر الإقـتصادى للإصلاح الزراعـى ، ولكـنه بـرره دائماً تبريـراً تحـررياً ديموقراطياً ، وهو ما يعـنى أن الإصلاح الـزراعـى كان مرتـبطاً فى وعـيه بمـشـكلة الديموقراطية فى مصـر ” .
أيـهما الديمقراطى .. الـوفـد أم عـبد النـاصـر ؟؟
يحـدثـنا الدكتور عـصمت سيف الدولة فى كـتـابه فـيقـول :
” لم تخـضع قـيـادة حـزب الوفـد منـذ تأسـيسه لـرأى غـالبـية إلأعـضاء إلا فى المـسـائل الـتى لا تـهـم القـيـادة ! ، وأعــطى قـائد الـوفـد سعـد زغـلول ومصطـفى النحاس ، لـنـفسـيـهـما ” استـبدادية ” فى مواجهة أعـضاء الحـزب ، تـكررت حتى استـقرت تـقـليداً فى هـذا الحزب العـتـيد … ففى عـام 1921 قـرر سعــد زغـلول ـ منـفـرداً ـ فـصل أغـلبـية أعـضـاء الـقـيادة العـليا للـوفـد ( عـشرة من أربعـة عـشر ) . وفى عـام 1932 كـرر مصطـفى النحـاس الأمر ذاته ، فاتـخذ قـراراً منـفـرداً ( ! ) بفـصل أغـلبـية القـيادة ( ثـمانية من أحـد عـشر ) . ولـقـد كان هـذا التـقـــــليد الإستـبـدادى من بيـن أسبـاب الإنشـقاقـات المتـتابعـة التى حـدثـت فى الحــزب ، وكان الـسبـب الرئيسى فى خـروج العـقـاد وروز اليوسف وأحمد ماهـر ومحمود فهمى النقراشى عـلى الوفــد أو عـنـه ” .
ونـضـيف فى هـذا السـيـاق .. تـلك كانت فـكـرة ” الـزعـامة المقـدسـة ” لـدى حـزب الوفـد الليـبرالى التى لاتـرى إلا ذاتها وخـضوع الـتابعـيـن .. وهـى ذاتـها فــكـــرة ” الـمرشـــد ” الذى يمتـلك بصيرة ، وإلهـاماً ، أكـثـر من كـل الذيـن ” يـرشــدهـم ” ، بـل ويــبايـع منـهـم عـلى الطـاعـة والتسليم الكامـل بما يقـول وما يفـعـل ، عـند الإخـوان المسلميـن .. ثـم هـى نـفـس فـكــرة ” الإمــام ” أو ” ولايـة الـفـقـيه ” عــنـد الــشـيعـة .. وهـى كــلها حـالات ـ فى أحـسـن أحــوالها ـ لا تـمت الى الديـمقراطية بأدنى صـلـة .. فهـى ـ فى أحسن أحوالها أيضاً ـ تـصـادر حـق الآخريـن ( الجماهـير ) فى المـشاركة فى المشكلة ، وفى تـقـديم الحـل .. لأن الحـل سـوف يأتـيـهم من ” معـصـوم ” لـن يـخـطىء ، حتى لـو كان فى مثـل حالهم أو أقـل !! .
إن الذين صـبوا جــام غـضبهم ” الديمقراطى ” عـلى عـبد الناصر ” الديكتاتورى ” فى أزمة مارس 1954 وهـم تحـالف الوفد والإخوان المسلمين والماركسيـين ، وبقايا الأحزاب المتهالكة ، بقيادة محـمد نجيب وخالد محى الدين .. لـم يكـن بينهـم عـلى أى وجـه ـ من حيث الفكـر والمنهج والسلوك ـ ديمقراطى واحـد ، فـلقـد كانوا جميعـاً ـ كما يقول الدكتور سيف الدولة ـ مـمن يسلمون أمورهـم الى قيادتهم تسليماً غـير مشروط ، ثـم ينكرونه عـلى عـبد الناصر ، الذى لـم يطلبه منهـم أصـلاً .
لـقـد كانت مطالب الليـبراليـين فى ذلك الوقت ـ كما يورد الدكتور ـ تـنـتهى كخلاصة ، الى أن يسلم عـبد الناصر السلطة الى ” الزعـيم ” مصطفى النحاس ، أو الى ” الإمـام ” حسن الهـضيـبى ، أو الى خـالد محى الديـن وحركة ” حـدتـو ” الشيوعـية ، تـحـت عــباءة محـمد نجـيب . لـم يـكن لأى من هـؤلاء عـلاقـة بقـضية الديمقـراطية فى مصـر ، رغـم واقـعـهـا الـمـهـيـن الـذى كان ” واقعـاً ” عـلى الأرض أمـام عـيونـهـم ، وليـس فى متـاحـف الـديمقراطية الغـربـية وطـقوسها الـمزيـفة ، ولـم يصل وعـى أياً من هـؤلاء بالمشـكلة وأبعـادها ، كما وصـل وعـى جـمال عـبد الناصر بهـا .. والمؤكـد ـ بالقـطع ـ أن كـل منهـم ، وبدون استـثـناء ، كان لـديه حـلم كبـيـر بالسلطة وكرسى الحـكم ، حـتى وإن تحـقـق حـلمه هـذا
( 11 )
عـلى جـثـة الديـمقراطـية التى عـاش يـتـشـدق بهـا .. بـل وعـلى جـثـث الذيـن يـطـلبـونها والـذين هـم يسـتحقـونها بالواقع والتاريخ .. ورغـم ذلك فـإنه وغـيـره لا يكـلون ولا يـملون من جـلـدنا وأولـنا جـمال عـبد الناصر بـسـوطهـا متـعــدد الأطــراف !! .
والخامس من يونيو / حزيران 1967 :
كـنا قـد اتـفـقـنا من قـبل .. نحـن وجمال عـبد الناصر والدكتور عـصمت سيـف الدولة ، والمـنطـق والـتـاريخ والـواقع ـ وعـلى غـير رغـبة كل القوى المعـادية للشعـب العـربى فى مصر والأمة العـربـية كلها ـ اتـفـقـنا عـلى أن قضية الديمقراطية لا تـتجـزأ ، وأنها ترتـبط عـضوياً بكـليات النضـال الوطنى والقومى وجـزئياته ، إن فى الداخـل أو فى الخارج .. أى سـواء كان هـذا الـــنضال داخـل الحـدود الوطنية والقومية ، أو لحـماية تـلك الحـدود ذاتـها .. التى إذا انكـسـرت واسـتـباحـهـا الأعـــداء ، يتوقـف الحديـث ” غـربى الـمـنـشــأ ” عـن الديمقراطية ، ويـفـرض نـفـسه الحـديـث عـن تحــريـر الوطـن .. والصياغـة الجامعـة لـذلك هـى ” لا صـوت يـعـلو فـوق صـوت الـمعـركة ” .. معـركة تـحـريـر الوطـن والأمـة ، باعـــتـبار أن نطـاق العـدوان كان أكـبـر من حـدود قـطـر معـيـن من أقـطـارها .
يقـول الدكـتور سيـف الـدولة عـن هـــذا اليـوم :
” … يوم أن ظهر ما كانت القوى المعـادية لأمـتـنا قـد دبرتـه ، وخطـطت لـه … وضربت ضربـتها الصاعـقة . ولـقـد اعـتـرفـوا من بعـد أن هـدفهـم الأساسى كان إسقاط قائد معـارك التحرر العـربى ، عـبد الناصر ونظامه ، وهـزيمة أمـته . ولقـد نـالوا منه ومن نـظامه ومن أمتـه مـا نـالوا ، وهـو جـسـيـم ، ولكنهـم لم يسقـطوه ولا أسقـطوا نظامه ولا هــزموا أمـته . فـقـد احـتـضنـته وحـمته الجماهـير العـربـية الهادرة من المحيط الى الخليج ، وأعـادته الى موقع القيادة ، ثـقـة منها فى مقـدرته . كان ذلك فى يومى 9 و 10 يونيو / حـزيران 1967 .
وسـيثـبت التـاريخ ، وقـد أثـبـت فعـلاً ، أن أعـظـم أيـام عـبد الناصر ، وأكـثرها جــلالاً هـى الأيام التى تـلت الهـزيمة ، فـفى يوم 5 يونيو 1967 لم يـمت جمال عـبد الناصر ، ولكـنه اسـتـرد ملء حـيـاته وحـيـويـته . نالـت الهـزيمة من عـبد الـناصر الحاكم ، وأبرزت عـبد الناصر الزعـيـم . أضعـفت رجل الدولة ” الحكيم ” الذى يتعـامل بالممكن ، وقد كان الممكن صـفراً ، وقدمت القـائد والثـائر الذى يتحـدى بما يجـب أن يـكون مبـتـدئاً من الصفـر أيضاً .
بكل مقايـيس الحكمة والمرونة والعـقول المفتوحة والواقعـية ، كان عـلى عـبد الناصر أن يسـتسلم ، مفاوضة وصفحاً واعـترافاً بالذين هـزموه . ولكن بمقايـيس القيادة والزعـامة والـثـورة ، كــان عـلى عـبد الناصر أن يـلـبى نـداء جـماهـيـر أمـته ، ويـقـودها عـلى طـــــريق : ” لا صـلح ، لا تـفـاوض ، لا اعـتـراف ” ولـقـد اخـتـار عـبد الناصر الـطريـق الـذى لا يخـتـاره إلا الأبـطـال ” .
ثـم يستـمر الدكتور فى دفـاعـه ” مرافـعـته ” .. محـدداً دوافع العـدوان وأسباب الهـزيمة :
ـ ضرب المـد الوحدوى الذى كان يقوده عـبد الناصر ، وأن خطة عـدوان 67 قـد وضعـت
وبـدىء فى التـدريـب عـليها فــور قـيام الوحــدة عـام 1958 .
ـ وأن الإنـفصال عـام 1961 لم يكن إلا جـزءاً مبكـر التـطبـيـق لخـطة عـدوان 67 .
ـ ضـرب وتـدمير الطـاقات الإقـتصادية التى كانـت بدأت لأول مـرة تعـطى ثـمار التخـطيط
العـلمى والتصنيع .
( 12 )
ـ بالـمـرة .. لـقـد دفعـنا الأعـداء الى أن نعـتـقد بأن ما حـدث كان نتـيجة ” عـيـوبا نحن ، عـجزنا نحن ، تخـلفنا نحن ، ما قـلناه نحن ، ما فعـلناه نحن .. لنـكون ” نحن ” الذين جنينا عـلى أنفـسـنا ، ويـكون الأعــداء أبـريـاء مما أصابنا . كأنـنا نحن الذيـن اغـتصبنا الأرض وبدأنا العـدوان وتجاوزنا الحدود ، كما يقـول الدكتور .
ونضيف نـحـن .. أنه إذا كان من بين الحكام العـرب فى تـلك الفـترة ، من استـصدر قراراً رسمياً من مجلس وزرائه ، فى شهـر ديسمبر 1966 ـ أى قـبل العـدوان بستة أشهـر فـقـط ـ بتـقـديـم ” التـماس ” الى الولايات المتحـدة الأمريكية لاتخــاذ ” الإجـراءات اللازمة ” لإخـراج القـوات المصرية من اليمن .. وأن من بيـن هـؤلاء الحكام من جمع كـبار ضـباط جيـشه صبيحة يوم 29 سبتـمبر 1970 ، ليهـنـئهـم ” بـوفـاة جـمال عـبد الناصر ” فـــى اليـوم السـابق !! .. نـقـول إذا كــان ذلك قـد حـدث ، وقد حـدث أبـشع منه الكـثـيـر .. فـإنه كــاف لتوضيح أبعــاد المؤامرة ، وأطرافها ، وما حــشد وأعـد لتـنـفيذها ، بغـض النـظـر عـن أوجـه القـصور والخـطـأ لـديـنا ، وعـدم إنكارنا للتأثـيرات السلبـية والمدمـرة للقصور والخـطأ .. ومـا حـدث فى الإغـارة الأمريكية الإستعـمارية الصهـيونية عـلى العـراق عـام 2003 ، وما حـدث فى جنوب السودان وسوف يحـدث فى غـربه فى دارفـور ، وما قـد يحـدث لـسوريا وإيران .. فـإنه يفصح بجـلاء عـن العـنصر الثابت الأعـلى فى الإستراتيجية الإمبريالية الإستعـمارية الصهـيونية العـالمية ، وهـو الإغـارة والعـدوان المباشر ، لـمنع أى بـروز لأى قـوة أو قـيـادة إقـليمية خـارجة عـن السيـطـرة ، فى المنطـقـة الأهـم ـ بما لا يقـارن ـ فى العـــالم كـله .. وهـى المنـطقة العـربـية والـدول الملامسـة لهـا .
والـتـنظيم الـسياسى :
التـنظيم السياسى ـ من وجهة نظرنا ـ هـو الـعـصب الضابـط لـحـركة الثـورة ، ولحـركة أى نظـام سياسى ، وهـو الـذى يـنـشىء جـسور الإتـصال وقـنـواته بـيـن السـلطـة وبـيـن الجـماهـيـر ، وهـو التعـبـيـر التـنظيمى ـ بأى حـال ـ عـن شكـل السلطة وتوزيع الثـروة فى المجـتمع ، أى مجتـمع ، وأنه التـعـبيـر التـنظيمى عـن الوضعـية الديقراطية فى المجتمع .. بـمعـنى أنه الذى يعـبر عـمن يـملك ، ومن ثـم يعـبر ، أو يتعـيـن أن يعـبـر ، عـمن يحـكـم .
قـلنا إن ذلك هـو رأيـنا فى وضعـية التـنظيـم السياسى فى المجتمع .. وبعـد أن غـصـنا فى صفحـات الكتاب الذى بـيـن أيـديـنـا ، تـأكــدنـا أن ذلك هـو رأى جـمال عـبد الناصر ، ورأى الدكـتور عـصمت سيـف الـدولة أيـضـاً .
يصـف الدكتور عـصمت التـنظيم السياسى الثـانى للـثورة ” هـيـئة التحـريـر ” ـ باعـتبار أن التـنظيم الأول كان ” تـنـظيم الضبـاط الأحـرار ” ـ فـيـقـول :
” قامت هـيئة التحرير كأول مشروع للثـورة لحـل مشكلة الديمقراطية فى مصر … ولقـد سخـرت الـثورة وجـمال عـبد الناصر شخـصياً ، كل الإمكانات المتـاحة بـشرياً ومـالياً وإعـــلامياً وثـقافياً لإنجاح هـيئة التحـريـر . ولـقد كان الإصرار عـلى إنجاحها قاطع الدلالة عـلى ثـبات عـبد الناصر فى الإتجـاه الديمقراطى … ولـقـد حـقـقـت بقـيـامها أول نجاح جـزئى هـام . لأنه يتـصل بالمـبدأ الديمقراطى ، إذ حـسمت الـشــك فى اتجـاه الـثـورة ديمـوقراطياً … إن أغـلبـية الشعـب المتمثـلة فى الفلاحين والعـمال وصغـار الحرفيـين والنـساء والجـنود ،
( 13 )
كانـت غـائـبة أو مغـيـبة ، أولـئــك لـم يكـونوا قـبـل الـثـورة حـتى ناخـبـيـن . ولـم يكونوا يـقـرأون الـصحـف فـإن نـسبة الأمـية فيهم كانت أكثـر من 90 فى المـائة … ولـم يـهـتــم أى
حزب بأن يكسبهـم الى عـضويته العـاملة ، ولم يهـتـموا هـم بأن يكونوا أعـضاء فى أى حزب … حتى حزب الأغـلبـية البرلمانية الـوفـد ، كان تـنظيماً محدود العـدد والعـضوية ، وكان قـصارى انـتـشاره التـنظيمى ما كان يسمى لجـان الوفـد بالمحافـظات . وكـانت عـضويتها الثابتة مقصورة عـلى عـدد ضئـيـل من النواب والشيوخ ، وكان امتداده فى الجامعـات مجـموعـات من طـلاب الـسنوات النهائية ، يـنـفـذون أوامر قـيـادته تمهـيداً لـتـلقى الوظائف بعـد التخرج . كان حزب الوفد حاضراً فى المدن عـلى وجه مـا ، أما فى القرى والكفور والعـزب والمصانع والمعـامل والحوارى والأزقة والصحارى ، وكل تـلك الأماكن الكـئيـبة التى يعـيش فيها الشعـب ، فـلم يكن لحـزب الوفـد وجـود منـظم . لهـذا لـــم يكن غـريـباً أن حزب الوفـد قـد أفـلس أو كـاد فى فـترة إقـصائه عـن الحـكم بعـد 1944 حـتى اضـطر ـ حين عـاد الى الحكم ـ أن يـتاجر فى الـرتب والألـقاب ليعـمر خـزانـته ( كان ثمن رتبة الباشوية 30000 جنيه ورتبة البكوية 10000 جنيه ، واستـطاعـت طائفة من تجار مخلفات القوات الإنجليزية أن تصبح من الباشوات والبكوات … ” ( !! )
يـضـيـف الدكتور :
” ثـم جاءت هـيـئة التحـريـر حجـراً ألـقى فى بحـر الركـود الشعـبى . وامتـلأت القـــرى والكـفور والعـزب والأحياء الشعـبـية بالإضافة الى الـمـدن ، بمـقـار هـيئة التحرير . ووقع كل مصرى تـقـريـباً ، أو خـتـم ، أو بصـم عـلى طلب العـضوية . وظهـرت فى القـرى صفات يـتـنافس عـليها الناس غـير العـمودية والمشيخة والخـفر ، تـلك هـى صفة ” عـضو هـيئة التحريـر ” . واحـتـفـظ الأمـيـون فى جـيـوبهم بفخـر شـديد ببطاقات عـضوية هـيئة التحرير قـبل أن يعـرفوا بطـاقات إثـبات الشخصية ( الهـوية ) …
ولم تـتركهم الـثـورة يلـتـقـطون أنـفاسهم ، فهى تـدعـوهم وتجمعـهم و” تـلملمهم ” وتحـشـدهم فى كل مكان من أرض مصر ، وفى كل مناسبة ، وحتى بدون مناسبة ، ليسـتمعـوا فى فضول وعـجـب وإعـجاب ، الى رجــال الثـورة يتحــدثون إليـهم أحـاديث طويلة عـن التحـريـر والحـرية والإستعـمار ، وعـن مصر التى هى مصرهـم ، والحـكم الـذى هـو حــكـمهم ، والمستـقبل الذى هـو مستـقـبلهم . وتـشهـر أمامهم عـلـناً وبـأقسى الألفـاظ بالـملوك والأمــراء والباشوات والبكوات ، والسادة الذين ما كان يخطر بـبال المستمعـين قــط أنهم قـابلون للتـشهـيـر بهـم … ثم يكسر حاجـز الصحراء ، وتـنـشـأ ” مديرية التحرير ” التى أقـيـمت فى صحـرائها قـرى نموذجـية ، ونـقـل إليـها الفلاحـون بعـد أن ألـبسوا أزيـاء موحـدة ، قـريـبة الـشـبه بأزيــاء الفلاحين فى هـولندا .. وهـذا قبل أن تـثـمر أرضها ما يكـفى لـشـراء تـلك الأزيـاء …
ثم تـؤمم القـناة ، فيكاد الشعـب أن يجـن ، ويكاد كل مصرى أن يحسب نفسه شريكاً فى تأميم الـقـنـاة … وتـتعـرض مصر للغـزو الثلاثى عـام 1956 ، فإذا بالشعـب كله رجالاً ونساءً وأطفالاً يخرج الى الشوارع هـاتـفاً ” حـنحارب .. حـنحارب ” وتـشهـد مصر ما لم تـشهـده مـنذ أحمد عـرابى : جموع الفلاحين من القرى ومن كل أطراف مصر تحمل أسلحتها ، بنادق وفـئوس وعـصى ، وتحمل إرادتها المتحـررة متجهة الى حـيث لا تـدرى ” لتحـارب ” … وعـبد الناصر يرفض الإستـسلام ، ويفتح مخازن السلاح ويوزعـه عـلى الشعـب … وزمجرت فى الماء الراكـد أمواج روحية هـائلة . هـنالك كانت اليـقـظة قـد تجـاوزت إطـارها وذابت
( 14 )
الـثورة فى أمواج الجماهـيـر المتلاطمة ، وتحـول المـد الجماهـيرى الى طـوفـان أطـاح بكل نظام وتـنظيم ، ومع ذلك فحين وجه نداء الى الشعـب بأن يعـيد الأسلحة التى وزعـت عـليه بدون إيصلالات ، أعـاد شعـبنا الأصيل الى الثورة التى وثـقـت بـه كل قطعـة سلاح وزعـته . حتى اللصوص وجــدوا أن ليس من الرجولة أن يخـذلوا الـثورة التى وثـقـت بأمانـتهم .
الإتـحــاد الـقــومى .. التـنظـيم الثـالث للـثـورة :
يوضح الدكتور عـصمت ” الجديـد ديمقراطياً فى نظرية الإتحـاد القومى ” عـلى حـد قولـه ، فـيـقــول :
” إن الناخبـين ، الذين لم يكونوا يمارسون حرياتهم السياسية كناخبـيـن إلا مرة واحدة كل بضع سنين ، ثم ينـتهى دورهم ، هـم أنفسهم يشكلون تـنظيماً قائماً ، دائـماً ، يـفرز الذين يرغـبون فى الترشيح لمجلس الأمة ، ثم يخـتار من بـينهم من يـرى أنهم أهـل للتـرشيح … وهـكذا لم تعـد عـلاقة الناخبين بالمرشحين عـلاقة وقـتية … أصبح ” شعـب الناخبين حاضراً دائـماً قبـل الإنـتخابات وفيـمـا بـينها وحـين عـودتها . وعـلى من يـطـمع فى أن يرشح أو ينـتخب أو يعـاد ترشيحه أو انـتخابه ، أن يكسب ثـقـة الناخبـين المنظمين فى ” الإتحـاد القومى ” وأهـم من ذلك أن يـبقى محتـفظاً بهـذه الـثـقة . الشعـب هـنا منعـقـد بصفة دائمة إنعـقـاداً منـظـماً ، قائـماً بجوار السلطـات الأخـرى ، ولـه حـق المتابعـة والمناقشة والرقابة والإعـتـراض ، ولـه عـلى أعـضاء مجلس الأمة حـق الجـزاء ، وأقـل جـزاء هـو عـدم الموافـقـة عـلى الـترشيح مـرة أخـرى .
وهـكـذا تحـول الشعـب المنظم فى ” الإتحاد القومى ” الى سلطة دستورية رابعـة … إن القضـاء المصرى هـو الذى اكـتـشف طبـيعـته … الشعـب منظم فى تـنظيم واحد ” هـيئة التحرير ” ، الشعـب منظم فى تـنظيم واحد ” الإتحاد القومى ” جوهـر الحل لمشكلة الديموقراطية هـو هـو ، لكـنه يتـقدم ديموقراطياً بعـد كل خـطـوة .
بكـل المقايـيس ” النظرية ” ، كان دستور 1956 أكثـر ديموقراطية من أى دستور سـابق ، لأنـه أضــاف الى ما سبـق ، ولم يـنـقـص شـيـئاً مـما كان للـشعـب من قـبل . وبكـل المقايـيس ” النظرية ” كان الإتحـاد القومى صيغـة أكثـر ديموقراطية من كل الصيـغ الليـبرالية ” .
ويعـرف جـمال عـبد الناصر .. ” الإتحاد القومى ” فـيـقـول يـوم 1يونيو 1956 :
” … وهـذا الإتحاد القومى عـبارة عـن جبهة وطنية تجمع بين أبناء هـذا الشعـب ، سـتكون للأغـلبـية العـظمى من هـذا الشعـب ، الناس حـرموا من حريتهم أيام كانت هـناك برلمانات زائفة ، كـنا كلنا نشـكو منها ، ونعـرف أنها لا تحقـق رغـباتـنا ، ولا تعـمل لصالحنا ، ولكنها تعـمل لصالح فـئـة قـليـلة من المستـغـلين أو من الإقـطاعـيـين أو من الحاكـمين الذين يـريـدون حـكـماً وشهـوة وسلطاناً … لـن تكون هـناك حـرية سياسية للإنـتهازيين أو الرجعـيين أو أعـوان الإستعـمار ، إذن الإتحاد القومى يشمل أبنـاء هـذه الأمـة ” .
وقـال أكـثـر من ذلـك .. يـوم 14 نوفـمبـر 1958 :
” وهـذا الإتحـاد القومى ، إتحاد يجمع بين أبنـاء الوطن العـربى الواحـد ، لا انحـراف الى اليمين ولا انحـراف الى اليسار ، لا تـفرقة ولا تـنابـذ ، وإنـما جـمع كلمة … جمع الكلمة من أجـل رفـع راية القـومية العـربـية التى قـامت طـويلاً … ” .
ويعـلـق الدكـتور عـصـمت قـائـلاً :
( 15 )
” … كانت الوحـدة الوطنية التى تمثـلها هـيئة التحرير لازمة لمواجهة متطلبات معـركة التحرير ، وبقـيت الوحـدة الوطـنية التى يملكها الإتحاد القومى لازمة لمواجهـة متطلبات التـنمية الإقـتصادية والإجتماعـية … ” .
بعـد مـا قـيـل بوضوح وتوضيح دافـقـيـن كـامـليـن .. لـم يـعـد هـناك مجـال للـتـعـليـق .
سـوف نضـطر مرة أخـرى ـ لـدواعـى الحـوار الذى يتسـم بالصدق والجديـة ، والذى كان هـو من أكثـر الحـريصيـن عـليه ، بـل إن أحـد أهـم كتـبه هـو بعـنوان ” حـوار مع الشباب العـربى ” ـ نقـول فى هـذا السياق ، سوف نضـطـر الى مخالفة الدكتور عـصمت سيف الدولة فى رأى أبـداه .
بعـد هـذا الإبـراز المتـكامل والموثـق لخـيارات الـثورة وعـبد الناصر وانحـيازهـما الى الجماهـير بالقـول والوثـيقة والعـمل الذى أصبح واقـعـاً عـلى الأرض ، كما عـرضه الدكتور باقـتـدار ، نـراه حـين يتعـرض لمناقـشة أخـطاء الثـورة وعـبد الناصر ، فيما يتعـلق بحـل مشكلة الديموقراطية ، فـإنه يحـدد الأخـطاء الرئيـسية الآتـية :
1 ـ المثـالية .. أو مثـالية عـبد الناصر تحـديداً ، فـقـد كان عـبد الناصر ـ كما يوحى بذلك الدكتور ـ محـايداً بين الشعـب وبـين الذين اسـتغـلوه ( ! ) : ” أنشـأ هيئة التحرير وجمع فيها كل الناس وترك لهم حرية المنافسة عـلى قيادتها ، حولها الى اتحاد قومى ومنحه سلطات دستورية ، ثـم تـرك الناس ـ كل الناس ـ فيه يتـنافسون عـلى قيادته … وجه إليهم جميعـاً نداء ” إرفع رأسك يأخى فـقـد مضى عـهد الإستعـباد ” وتـرك للمنافسة الحرة مهمة اخـتيار من يـرفع رأسـه ومن يـنكـسها . ( ! ) ( عـلامة التعـجـب الأخـيـرة من عـندنـا )
2 ـ حـياد الثـورة وعـبد الناصر ، الذى اعـتـمد ” التسوية الحـيادية بين المواطنين ” .. فالرجـل كان محايداً بين العـامل وصاحب العـمل ” فـنـكون حـكاماً بين العـامل وصاحب العـمل ” .. وبـيـن الـفـرق والطوائف والطبقـات … إننا لا نود أن نقـدم مطالب طائفة عـلى أخـرى ، ولا أن نرفع طائفة عـلى مستوى الطوائف الأخـرى ، وذلك حتى لا يرتـفع مستواها عـلى حساب طـوائـف أخـرى ” ( ! ) .
3 ـ الـتــردد .. شـكـل عـبد الناصر لجـنة تـنـفـيذية للإتحاد القومى فى 28 مايو 1957 من عـبد اللطيف البغـدادى وزكـريا محى الديـن وعـبد الحكيم عـامر .. وهـذا التـشكـيـل ـ مــن وجهة نظر الدكتور ـ كان يكـشف عـن الصراع الخـفى الذى كان يدور فى رأس عـبد الناصر أولاً ، وفى مجلس قيادة الثـورة ثانياً ، بين المفهوم الليـبرالى والمفهوم الإجتماعـى للديمقراطية ، والذى انـتهى بانـتصار المفهـوم الليـبرالى . ( لـم يوضح الدكتـور فى هـذا الموضع ، ولا فى أى موضع آخـر فى الكـتـاب .. كيـف أن تشكيـل لجـنة تـنفيـذية للإتحـاد القومى ضمت ثـلاثـة من أقرب رفاقـه ومعـاونيـه ، وفى وقت لـم يكن أى خـلاف قـد تـسـرب بـينه وبـيـن أيـاً منهـم .. نقـول كـيف أن تـشكيـل اللـجنـة بـهـذا الشكـل قــد مـنح اليـقيـن للدكتور عـصمت سيف الـدولة ، حتى تأكـد أن ذلك قـد عـكس ” صـراعـاً ” خـفـياً فى رأس عـبد النـاصر أولاً ، ثـم فى مجلس قـيادة الـثـورة ثـانياً .. وأن ذلك كان كـافياً لأن يعـتبـر تـردداً ، وهـو أحـد أهـم ثلاث أخـطـاء للـثـورة وعـبد الناصر مع المثـالية والـحـيـــاد ؟ . ) ( !!! )
ولا نـمـلك إلا أن نـرجع الى كل كلمة سطرها الدكتور قـبل ذلك وبعــده ، والى ذلك الـتحـليل غـير المسبوق ، الذى أبـدعـه فى بـيان الإنحياز العـقـيدي للـثورة وعـبد الناصر الى الشـعـب منـذ أن كانت الثـورة فـكرة وقـبل أن تصبح واقـعـاً ونظـاماً وسـلطة . وإذا أخـذنا المبادىء
( 16 )
الستة فـقـط ، والتى تـم صياغـتها قـبل أن يصبح حـلم الثـورة حـقيقة عـلى الأرض ، لوجدنا أنها تـتـضمن تحـديدات قاطعـة فيما يتـعـلق بقضية الديمقراطية ونظـام الحـكم ، ليـس من بـينها ما يوحـى بأى مثـالية أو حـيـاد أو تـردد . فأين هـى المثالية أو الحياد أوالتردد فى ” القضاءعـلى الإستـعـمار وأعـوانه من الخـونة المصريـيـن ” ..أو الـقـضاء عـلى الإقـطاع .. أو القـضاء عـلى الإحـتـكـار وسيـطـرة رأس الـمـال عـلى الحكـم .. أو إقـامة عـدالة إجتماعـية .. أو إقـامة حــياة نيـابـية سلـيمة .. أو إقــامة جـيـش وطـنى قـوى ؟؟ وإذا كـان كــل ذلك قـد حـدث واقـعـاً معــاشاً ، ولم يكـن مجـرد شـعـار أو هـتــاف أو منـاورة ، وإنـما كان ” اسـتراتـيجـية مرحلية ” صحـيحـة ومتـكاملة إلى حـد مـذهـل فى زمـنـهـا وظروفـهـا ، فـماذا يعـنى ذلك ؟؟ .. هـذه واحـدة .
الثـانية .. يحـق للـثـورة ـ أى ثـورة ـ طبقـاً لظروف الـزمان والمكـان ، أن تـناور ” بالـتـكتـيك ” ما أمكنهـا أن تـناور ، وفى ظـل ما سمحـت بـه لهـا ظروف الزمان والمكان ، وقوى المعـارضة وقوى المسـاندة ، بشرط ألا يخـل هـذا التـكتيك بأى حـال بالإستراتيجية .. ونحـن نـــرى أن هـذا هـو ما قـد حـدث ، إن فى بعـض تصريحات ومؤتمرات عـبد الناصر ، أو فى بعـض الـقرارات أو الإجـراءات التى لـم تـخـل أبـداً ـ كما قـد حـدث ـ بالإستراتيجـية .
الثـالـثة .. أن الدكـتور نفـسه يـورد فى صفحة 258 الكـلمات التـالية لجـمال عـبد الناصر يوم 9 يوليو 1959 فى افـتـتاح المؤتمر القومى العـام للإتحاد القومى : ” وعـلينا أن نذكر دائماً أن ظروفنا لا تـتحـمل أى تـردد أو انـتـظار ، إن خـطة مضاعـفة الـدخـل القـومى فى الجـمهورية العـربـية المتحدة لابد أن تـنجح … ذلك أن من المحتم عـلينا أن نحـقـق انطلاقة واسعـة المدى … كذلك عـلينا ألا نـتصور بحال من الأحوال أن مهمتـنا هى الإحتـفاظ بالحالة الراهـنة . إن أى تـنـظيم شعـبى ديمقراطى يـتـخـيـل أن واجبه هـو الإحتـفاظ بالأحوال كما تسلمها ، إنـما يفـقـد أصالته الشعـبـية والديموقراطية . عـلينا أن نـدرك بوعـى أن مهمة التـنـظيم الشعـبى هـى تـنظيم الـدفع الـثـورى وتجـديد قــواه … نحـو مـزيد من العـدل الإجتماعى … إن القيادات الشعـبـية يجب ألا تـنعـزل بأى حال من الأحوال عـن قواعـدها … عـليها أن تـذكر دائماً ســر قوتها ، ولسوف يـبقى الشعـب دائماً ســر القـوة الخـالـدة ” .
فـهـل هـذا كـلام الـذى يطفح وعـياً ثـورياً رفـيـعـاً ، وانـحـيـازاً حـاسـماً ونـبـيلاً للجـمـاهـيـر ، وفـهـمـاً فـائـق الإكـتـمـال لـدور التـنظـيـم السياسى ، وضرورة قـيادتـه لـمرحـلة الإنــتـقـال الوضع الـراهـن الى آفــاق الـتـقـدم الـمـرجـوة ، ودور الكـادر السياسى وضرورة انـحـيـازه للـجـمـاهـيـر .. هـل هـذ كــلام مـثـالى أو متـردد .. أو محـايـد ؟؟ .
ونـسـتـمر مع الدكتور عـصمت سيف الدولة ..
يقـدم الدكتور بعـد ذلك عـرضاً رائعـاً لمراجعـة عـبد الناصر للـتجربة وما اكـتـنـف مـسيـرتها من أخـطاء ، وقـدرته بـل وشجاعـته فى ممارسة الـنـقـد .. والأهـم مـنـه مـمارسة الـنـقـد الـذاتى ، وكـيف ـ يقـرر الدكتور ـ تـتجـلى عـظـمة الصـدق مع النـفـس فى مـوقـف عـبد الـنـاصر ، أى أنه لا ينسب الخـطأ حتى الى الإنـتهـازيين أو الرجعـيين ، ولا يحملهم المسئولية ، بـل يعـتـرف بخـطأ الثـورة ، وبخـطئـه ، وبمـسـئوليته .
لـكن مـاهى تـلك الأخـطـاء من وجهة نظر الدكتور ؟ .
( 17 )
يـقـول : ” كان من بـيـن ما أدركه عـبد الناصر إدراكاً صحـيحاً منذ بداية الثورة ، الأهـمية الحاسمة لحل مشكلة التـنمية الإقـتصادية فى مصر . وهى حاسمة بالنسبة الى قضية الديمقراطية بوجه خـاص . فمهما رفعـت القيود المفروضة عـلى حرية المواطنين ، سيكون مصير تـلك الحرية متوقـفاً فى النهاية ، عـلى مدى ما يتوفر لدى كل مواطن من إمكانات إقـتـصادية للحـفـاظ عـلى حـريـته … ”
هـذا إقـرار واضح لصالح عـبد الناصر .. لـكــــن .. يقول الدكتور :
” … فـإنه ـ عـبد الناصر ـ لـم يـدرك بالوضوح الكافى ، أن الديـمقراطية الليـبرالية التى كان يـرفـضها ليـست إلا الـوجه الثـانى للعـملة التى تحـمل عـلى وجهـها الأول النـظــام الرأسمالى … وبالرغـم من اتجاهـات عـبد الناصر ومشروعـاته الديمقراطية غـير الليـبرالية ، فإنه قـد راهـن فى التـنمـية الإقـتـصادية عـلى الجـواد الرأسمالى . وخـسر الـرهـان فى الحـلبتيـن .. حلبة التـنمية ، وحلبة الديمقراطية … ” .
هـذا الكـلام قـد أسـسه الدكتور عـلى تـفصيلات كثـيرة أوردهـا ، منها قرارات ولوائح ونسب وأرقـام .. وتصريحـات . تـقـول فى النهاية أن عـبد الناصر قـد لجـأ الى أسلوب التـنمية الرأسمالية ، تـلك التـنمية التى صبت فى النهاية فى صالح الطبقة الرأسمالية والعـالقـيـن بهـا من الطـفيليـين والإنـتهازيـين والسماسرة وغـيرهــم .
مــاذا كان يجـب أن يـفـعـل عـبد الناصر .. والدكـتور هـو الـذى حـذرنا من خـطـأ أن يقـول قـائل” لو كنت مكان عـبد الناصر لفـعـلت كــذا ” ؟!
هـل يوقـف النشاط الإقـتصادى والعـملية الإنـتاجية فى المجتمع ، حتى تـمتـلك الثـورة كادرهـا الـفـنى ـ الذى يمتـلك الخـبرة والتـدريب والتـأهـيـل ـ الثورى العـقائـدى الذى يستـطيع من خـلاله وبـه أن يـديـر العـملية الإنـتاجية فى المجتمع ، دون الحاجة الى خبرات عـناصرهـذه العـملية التى تخـلقت وتـشـكلت فـيما قـبل 52 ، عـلـماً بـأن الـثـورة ـ أى ثـورة ـ عـادة لا تـمتـلك فى بداياتها الكـادر الـفـنى ، رغـم امتلاكها الكـادر الـثـورى ؟! .
رغـم ذلك فمن الثـابت أن الثورة ، وإن قدمت بعـض التـنازلات لرأس المال المحلى أو الأجنبى حتى لا يحـجم عـن المشاركة فى العـملية الإنـتاجـية ، خصوصاً إذا كانت تـلك العـملية قـد بات واضحـاً أنهـا تـتسـلح بأفـق تـنموى مؤكـد ، وأن أجـزاءً مـهـمة منهـا تـتـم فى إطار تخطيط مركزى .. ألا أنها لم تـتردد فى الإضطلاع بمهـام التـنمية التى مكنـتها قـدراتها منها . كما أنها لم تسمح لأياً من التمويـل المحلى أو الأجنبى بأن يفرض شـروطه ، بل لم يكن أمامه إلا أن يعـمل فى إطار ذلك التخطيط المركزى أو شـبه المـركزى للثـورة . وسوف نـتذكر هـنا استخـدام الرأسمال الإجـنبى لإقـامة مصانع الحديد والصلب ( شركة ديـماج الألمانية ) ومصانع الأدوية ( شركة فايـزر السويسرية ) ، ناهـيك عـن البـدء فى بناء السـد العـالى بـتمويـل وخــبرة روسية … الخ ، بالإضافة الى إنشاء المؤسـسة الإقـتصادية ( نواة القطاع العـام ) عـام 1957 .. وكل ذلك وغـيره قـد حدث قبل عـام 1961 ، أى فى الفـترة التى يـورى الدكتور بأنها كانت بـؤرة الأخــطـاء .. يـبقى سـؤال : ألـم يـلغ ” لـينـيـن ” أثـناء ما سـمى بالثـورة الزراعـية الثـانية ، فى بـداية عـشرينات القرن العـشرين ، ألـم يلغـى 16 قراراً إشتـراكياً حتى يـتـيح للـشركات الأمريكـية ـ نعـم الأمريكية ـ أن تسـتـثـمر فى الزراعـة السوفيتية ، وطـبعـاً هـذه الإستـثـمارات تعـنى فيما تعـنى أرباحـاً رأسـمالية وتحويلات لـهـذه الأرباح الى الخارج .. وتـعـنى فيما تعـنى أيضاً استـغـلالاً للفـلاحيـن الروس ؟؟!! .
( 18 )
الـضحـايـا :
يعـتـبر الدكتور أن العـمال كـانوا أول ضحايا تـلك الإخطاء .. يـقـول ” وكان أول الضحـايا ديموقراطياً ، هـم العـمال الـذيـن تجاهـلـتـهم الـثـورة … كـقــوة شعـبـية فى مجــال الممارسة
الديموقراطية وعـنصريها اللازمين … التحـريـر ، والتـشجـيع عـلى الممـارسة الديموقراطية … فى تـلك الفـتـرة ( من 52 الى 61 ) لم يكـسب العـمال شـيئاً مقـارناً بما كـسبه الفلاحون ” ؟! .
ويستـدل الدكتور عـلى ذلك بعـدم الإهـتمام بالعـمال وأحوالهم ، ولا بمساعـتهم عـلى تكوين التشكيلات النقابـية التى تدافع عـنهم .. ويـرى أن تعـيـين عـامل كأول وزير للعـمل فى تاريخ مصر يمكن أن يعـتبر إفساداً متعـمداً للطبقة العـاملة ، حيث أصبح طموح النـقابيـين هـو الإلتحاق بالسلطة التـنفيذية . ويـقـول : ” إن أحـد وسـائـل تـشجـيع وتـقوية الرأسماليـين هـو إحـباط وإضعـاف مقـدرة العـمال ” .
ونقـول فى هـذا السياق .. إن مصر لم يكـن بها قـبل الثـورة طـبقة عـاملة ذات قـوام مـحـدد مثـل طبقـة الفلاحـين والطبقة الرأسماية مثـلاً ، ولم يكن لها أوعـية أو تشكيلات أو أبنية تـنظيمية نقـابـية تعـبر عـنها .. وأنها لم تكتسب هـذا القوام المحدد كطبقة إلا مع الثورة ، وانطلاقها فى عـملية التـنمية والتصنيع فى تـلك الفترة ( من 52 الى 61 ) ، لأن مشروعـات التـنمية والتصنيع فى المجتمع ـ أى مجتمع ـ هى المناخ الحاضن لميلاد الطبقة العـاملة وتـشـكيلاتها النـقابـية ، ومن ثـم فلا غـرو أن يعـتبر كثير من الراصدين لتـلك الفترة .. يعـتبرون ان الطبقة العـاملة المصرية هى مولود شـرعـى لثـورة يـوليو ، ومن ثـم كان عـلى هـذا الإبن الشرعـى البار أن يحمى الثورة فى أزمة مارس 54 ، وأن يقبل عـلى العـمل والتدريب واكتساب الخبرة ، حتى ثبت أقدامه فى مجمعـات التصنيع الثـقيل والمتوسط والخفيف ، وأن يـبنى السد العـالى .. حتى إذا ما كانت إنطلاقة التخطيط والتصنيع عـلى كل أرض مصر من ” كـيـما ” فى أسوان ، الى ” الترسانة البحرية ” فى الأسكندرية .. فإن الطبقة العـاملة التى كانت قـد تخلقت قـبل ذلك بعـشر سنوات ، هى التى جعـلت تـلك الإنطلاقة واقـعـاً عـلى الأرض بـناءً وطـرقاً ومصانعـاً ومزارعـاً ، واقـتحـاماً للـصحـراء .. وتحويلاً لمـجـرى النيـل .
ثـم الـطـبـقـة الـجديـدة :
يـقـول عـنهـا الدكتور ” … تـلك التى سيطرت عـلى حـياة مصر السياسية والإقـتصادية فى الفترة التى انـتهت عـام 1961 … خليط غـريب من البشر الذين لا ينـتجون شـيئاً … منهم المؤسـسة العـسكرية ، التى أصبحت دولة فوق الدولة … والبـيروقراطيون … والرأسماليون … الذين يقومون بالأعـمال الطفيلية كالوساطة والمقاولة والسمسرة ” .
وهـذا كلام صحيح تـماماً .. فلـكـل سلطة ـ أى سلطة فى التاريخ ـ كهـنتها ، وخـدامها .. وخونـتها ، ولا فـكاك ـ فيما نرى ـ لأى سلطة من بعـض هـؤلاء أو منهـم مجتـمعـيـن ، بغـض النظر عـن قـنـاعـتـنا بأن واجب السلطة ـ أى سلطة ـ ان تجعـل تأثـيراتهم السلبـية فى حـدها الأدنى ، إن لم تـتمكن من اجـثـاثهـا من الجـذور .
( 19 )
ثــم ” ثــورة الـتصحـيح ” .. ( ليست الخاصة بأنـور السادات ) :
يعـرض الدكتور بعـد ذلك آليات ما أسماه بثـورة التصحيح ، التى بدأها عـبد الناصر ، بعـد وصوله الى نـتيجة نهائية بعـدم جـدوى التعـاون مع الرأسمالية المحلية ، ناهيك عـن الرأسمالية الأجنبـية.. فـبدأ بإصـدر ” ميثـاق العـمل الوطنى ” ، ثـم إصدار قرارات التـأميم و إقامة التـنظيم السياسى الرابع للـثورة ” الإتحاد الإشتـراكى العـربى ” .
ويورد الدكتور أن معـظم هـذا قـد تم بقـرارات كأنها فـردية ، وأن ذلك كان لازماً ، بـل إن ذلك قـد يكون السبب فى أنها كانت مباغـتـه .. ونـاجـحـة .
ويـقـدم الدكتور تعـريفاً للشـعـب ، فـيه ابـتكار وعـلم ورشاقة فكرية .. يـقـول :
” … يجـب التـميـيـز بيـن ” الشعـب الإجـتماعى ” وبيـن ” الشعـب السياسى ” والشعـب الأول هـو كافة الذين ينـتمون الى الدولة ، والشعـب الثانى كل من يتمتع بالحقوق السياسية فى الدولة ( عـدد الذين لهم حـق التصويت ) . ولا يطابق الشعـب الإجتماعى الشعـب السياسى … ولقد كانت الديموقراطية الليـبرالية نظاماً جانحاً الى الحد من الشعـب السياسى ” .
ويـضرب مثـلاً ، بأنه لما كان تـعـداد الشعـب فى مصر العـربـية 37 مليوناً ، كان عـدد الذين لهم حـق الإنـتخاب عـشرة ملايـين . ليس هـذا هو المهم فـقط ، بـل إنه يـوضح كـيف كان مفهوم الشعـب لـدى عـبد الناصر ، ويوافـق هـو ـ الدكتور ـ عـلى هـذا المفهـوم ويـتـبـنـاه .
يقـول عـبد الناصر ـ كما يـورد الدكتور ـ : ” سـنعـمل إشتراكية ، والإشتراكية حـياة ، الإشتراكية عـدالة إجتماعـية ، والعـدالة الإجتماعـية معـناها أنى … أعـدت توزيع الثروة . فى إعـادتى لتوزيع الثروة ، مـن هـو الشـعـب ؟ . هـو جـميع الفـئات التى تساند الثورة الإشتراكية ، وتساعـد الثورة الإجتماعـية والبناء الإشـتراكى … أعـداء الشعـب هم جميع القوى والجماعـات التى تـناهـض هـذه الثورة الإشتراكية والثورة الإجتماعـية ، واللى هدفها طبعـاً القضاء عـلى هـذا النـظام الإشتراكى ، والعـودة الى نظام رأسمالى أو مستـغـل ، أو نـظـــام مبـنى عـلى أساس ديكتـاتورية رأس الـمـال ” .
يـعـلق الدكتور عـصمت عـلى هـذا الكـلام بقـوله : ” هــذا موقـف واضح . يوحـد بين الديموقراطية والإشتراكية ، مضمون قـوى ، ويأخذ من المضمون الإشتراكى مقياساً موضوعـياً لـفـرز الـشعـب ( له مصلحة فى الإشتراكية ) من أعـداء الشعـب ( أعـداء الإشتراكية ) .. فـتـكون كـل الحــرية والديمقـراطية للــشعـب ، ولا حرية ولا ديمقراطية لأعــداء الشعـب ” .
أنـتـجت السنوات العـشر الأولى من عـمر الثـورة ، حصيلة هـائلة من التجربة والخـطأ والتـصحيح ، بحـيث فى نهايتها ، كانت الثورة ـ كما يـورد الكتور عـصمت ، وكما ورد بالميثـاق ـ قـد تـثـبتـت من أن الديمقراطية إذا كانت هى الحرية السياسية ، فإن الإشتـراكية هى الحرية الإجتماعـية .. وأن هـناك ضرورات لا محيص ، عـنها كـقواعـد انطلاق للمرحلة المقـبلة وهـى :
1 ـ لابـد أن ينفسح المجال للتـفاعـل الديمقراطي بين قـوى الشعـب العـاملة وهـى : الفلاحون والعـمال والجنود والمثـقـفون والرأسمالية الوطنية ، أن تحالف هـذه القوى الممثـلة للشعـب العـامل ، هـو البديـل الشرعـى لتحالف الإقطاع ورأس المال المستـغـل ، وهـو القادر عـلى إحلال الديمقراطية السليمة محـل الديمقراطية الرجعـية .
( 20 )
2 ـ إن الوحدة الوطنية التى يصنعـها تحالف هـذه القوى ـ هى التى تستطيع أن تـقـيم الإتحاد الإشتراكى العـربى ليكون السلطة الممثـلة للشعـب ، والدافـعـة لإمكانيات الثورة ، والحارسة عـلى قيـم الديمقراطية السليمة .
3 ـ إن الحاجة ماسة الى خـلق جهاز سياسى جديد داخـل الإتحاد الإشتراكى العـربى ، يجـنـد العـناصر الصالحة للقيادة ، وينظم جهـودها ، ويـبلور الحوافز الثورية للجماهـير ، ويتحسـس احتـياجاتها ، ويـساعـد عـلى إيجــاد الحلول الصحيحة لهـذه الإحتياجات ..
هـذا الى جانب ذلك الإبـصـار الثـورى الحاد لجمال عـبد الناصر ، حـين أدرك أن مستـقـبل الثورة مرهـون بتـواصـل الأجيال الثورية ، فـقـال عـام 1965 ـ يورد الدكتور ـ وهـو يمهـد الطريق لإنـشـاء ” منـظمة الشباب الإشـتراكى العـربى ” ( كما نـقـول نحـن ) : ” أن المهمة الأساسية التى يجب أن نضعـها نصـب عـيـوننا فى المرحـلة القادمة ، هـى أن نمـهـد الطريق لجيـل جديد يقود الثـورة فى جـميع مجالاتها السياسية والإقـتصادية والإجتماعـية … أكـثـر وعـياً من جــيـل سبـق ، أكـثر صلابة من جيـل سبـق ، أكـثر طـموحاً من جيـل سبـق ” .
4 ـ إن سلطة المجالس الشعـبـية المنـتخبة يجب أن تـتأكـد باستـمرار فـوق سـلطة أجهزة الدولة التـنفيـذية ، فـذلك هو الوضع الطبـيعـى الذى ينظم سيادة الشعـب .
وفـق ذلك ـ يورد الدكتور وينص الميثـاق ـ عـلى أنـه نـتيجة لظروف تاريخية طــال فيها اسـتغـلال الفلاحين والعـمال ، كما طـال حرمانهم من الممارسة الديمقراطية ، وتعـبـيراً عـن ظـروف واقـعـية ـ فى مصر ـ هى أنهـم يمثـلون الأغـلبـية الساحــقة للشعـب .. فـلابـد مـن ضمان 50 % عـلى الأقـل من مقاعـد المنظمات المنـتخبة للفلاحين والعـمال .
شـائـعـات عـن الميـثـاق :
يـقـول الدكتور عـصمت : ” قـيل أولاً أن الرؤية التى جاءت فى الميثـاق تمثـل نظرية مبدئية متكاملة فى الديمقراطية … وأن كل مقولة من مقولاتها مبـدأ ديمقراطى ، فلا هى خطة استراتيجية ، ولا هى موقـف تكتيكى ، وبالتالى فهى ليست مرتبطة أو متـوقـفة لا عـلى المرحـلة التى صـدر فـيها الميثـاق ، ولا عـلى وجـود عـبد الناصر فى موقع القـيادة من ســــلطة الدولة ” .
لكـن الدكتور يرى أن ” كل أفكار ومواقـف عـبد الناصر تكسب دلالة مختـلفة حين تصدر أو تـنسب الى غـيره ، لأنها تـفـقد الشخصية التاريخية … وهـذا يعـنى أنه إذا كان الميثـاق قـد استمـد فى حـياة صاحبه نوعـاً من الوحدة الفكرية سمحت بالحـديث عـنه كـنـظـرية ، فإن مصدر تـلك الوحدة كان وحـدة المفكر والمـنفذ فى شخص جمال عـبد الناصر .
والواقع الذى نراه ـ يستـطرد الدكتور ـ أن الرؤية الديمقراطية التى تضمنها الميثاق ، قد تضمنت ما يتصل بالمبدأ الديمقراطى ، وما يتصل بالتطبـيق … عـلى أى حال ، فـقد تضمن الميثاق المبدأ الديمقراطى الثابت نسبياً ، الملزم دائماً ، والذى يمثـل إلزامه أو عـدم الـتـزامه الحـد الفاصـل بين الناصرى وغـير الناصرى . ذلك هـو ” وحدة الديمقراطية والإشتراكية ” ، لا ديمقراطية بدون اشتراكية ، ولا إشتراكية بدون ديمقراطية . أما الباقى فهو أسلوب الممارسة الذى رأى الميـثــاق أنه مناسب للواقع المصرى حيـن إصداره ” .
( 21 )
ونحن نـرى .. أن الميثاق وإن كان لا يمكن ـ عـلى ضوء التعـريفات النظرية ـ اعـتباره نظرية متكاملة ، إلا أنه بكل المقايـيس ـ ومنها المقايـيس النظرية ـ يعـتبر تحـديداً لرؤى وأفكار ومسارات ” كـليـة ” فيما يتعـلق بقضايا الديمقراطية والعـدل الإجتماعـى والوحـدة العـربـية ، فى مرحلة هـى الأخصب والأخطر فى تاريخ هـذه الجمـاعـة البشرية العـربـية الحديث ..
ونـرى أن ذلك تحديداً هو قيمة الميثاق الذى ” يغـوص فى الواقع بحـثاً عـن النظريات ، ولا يغـوص فى النظريات بحـثاً عـن الواقع ” .. هـذه واحـدة .
الثانية .. أنـنا نرى أيضاً ـ وقـد تعـلمنا ذلك من الدكتور عصمت ـ أنه فيما عـدا حـالة الثـبات المطلق فى نـتائج ظواهـر الطبـيعـية المادية مهما تكـرر القياس ، فإن هـذا الثبات المطلق لا يمكن أن يتحـقـق فى حـالة الظـواهـر الإنسانية ” البشرية ” باعـتـبار أن الشق الروحى للإنسان ( الـشـق غـير المـادى ) ، لا يمكن إخضاعـه لصرامة القوانين المادية النوعـية . نـــريد أن نقـول أن النظريات المتعـلقة بحـياة وسلوك واجتماع الـبشر ، ليست بـمنأى عـن أمكــانية التغـيـيـر أو التـطـويـر .
الثالثة .. أنـنا نـرى ـ ثالثاً ـ أن الإبـداع الحقيقى ، والإضافة الجذرية فيما يتعـلق بقضية العـدل الإجتماعـى التى هـى ذاتها قضية الديمقراطية ، فى الميثـاق هـو فـكرة ” تحالف قـوى الشعـب العـامل ” .. وهـو اجـتهـاد فـوق أنه صحـيح عـدلاً ومنطـقـاً ، فإنـه ـ فى حـدود ما نعــــلم ـ غـيـر مسبوق فى أضابـير الفكر السياسى أو الديمقراطى الذى اسـتطعـنا أن نطـلع عـليه ، مـنـذ أن كان هـناك فـكراً سياسياً ديمقراطياً .. وهـذا هـو ما يمثـل ـ فى رأيـنا ـ المـبـدأ الـثـابت أو الذى يتعـين أن يكون ثابتاً بـقــوة فى كل ما يمكن أن يتعـلق بالحق فى السلطة وفى الثـروة فى المجتمع .. أى مجـتمع .
إنـنا نتصور أن مـبدأ ” تحالف قوى الشعـب العـاملة ” يصلح فى حـد ذاته أن يكون نظرية ” كاملة ” بالنسبة لمصر والأمة العـربـية ودول العـالم الثالث ـ بدون اسـتـثـناء ـ لممارسة السلطة وأقــامة الـعــدالة الإجـتـماعـية .
أما مـبدأ وحدة الديمقراطية والإشتراكية فى الميثاق ، الذى أشار إليه الدكتور ، فإنه عـلى عـظمته ، ألا أنه ـ ونعـلم أن الدكتور لم يقـل ذلك ـ ليس إبداعـاً ذاتياً لميثاق عـربى ، أنـتجه واقـع عـربى .. وإنما تـبناه الميثاق باعـتـبـاره تـراثـأ فـكرياً إنسـانياً ودافع عـنه لصحته العـلمية والمنطقية .. تـماماً كما نطالب نحـن بتـبنى فكرة ” تحالف قوى الشعـب العـاملة ” والـدفـاع عـنهـا طالما أنها صحـيحة بالعـلم وبالمنطق وبالواقع .
مـنذ بـدء الخليقة ، الى أن يرث الله الأرض ومن عـليها لم ولن تـتغـيـر عـناصر معـادلة الـظـلم والعـدل ، أى الإستـغـلال ، ومن ثـم فلـسوف يـبقى ” من يملك يحكم ، ويحمى ما يملك ” وسوف يـبقى دائماً هـدف ” ضرورة سيطرة قـوى الشعـب العـاملة ” ـ أى شعـب ـ عـلى السلطة والثـروة ، شــرطاً حـاكماً لإقامة العـدل الإجتماعـى .. أى الديمقـراطية .
يـفـند بعـد ذلك .. الدكتـور عـصمت كل الشائعـات التى أطـلقـت حـول الميثـاق ، إن بحسن نيـة أو بسوئها ، مثـل خـلود الميثاق وعـد قابليته للتعـديـل ، والتأثر بالفكر الماركسى حـين صياغـته ، وأن عـبد الناصر ” قـد وضع الميثـاق لإمتصاص موجة الغـضب الشعـبى التى سـببها إنفصال سوريا عـام 1961 ، وغـيـر ذلك .
( 22 )
ويخلص الدكتور عـصمت الى أن ” أياً ما كان أمر الشائعـات ، فـقـد صـدر الميثاق وثيقة فـكرية انـتـقـل بها عـبد الناصر خـطوة كبـيرة بعـيداً عـن النهج التجريـبى ، وأصبح الميــثاق كله موضوع التجربة ابـتــداءً من تاريخ صدوره ” .
الـخــتــام ..
ونحن نقـترب ـ عـلى حـزن ـ من نهـاية تـلك الصحـبة الفكرية الرائعـة الراقية ، مع مفكـر فى حجم وقـامة ومقـام الدكتور عـصمت سيف الدولة .. تطالعـنا كلماته ـ كأنـهـا ” وصـيـتة ” فى نهاية هـذا ” الإجتماع ” معـه من خلال كتابه بالغ القيمة والأهـمية :
” الآن ، وبعـد وفاة عـبد الناصر ، فإن الناصريـين قـوى وجماهـير متعـاقبة فى الـوطـن العـربى ومصر حتى لو لم تكن موحدة أو منظمة . و” الناصرية ” مفهوم يحـدد انـتماء الناصريـين عـلى خلاف قـليل أو كثير … وحتى الذين يقـفـون من الناصرية والناصريـين موقـف العـداء ، يعـتـرفون ـ بموقـفهم هـذا ـ بوجـود الناصرية فــكرة والناصريــين بشـراً … بـل إن تهمة ” أدعـياء الناصرية ” تـتـضـمن اعـتـرافاً بأن الناصرية ليست موجودة فـقـط ، بـل إنها ـ أيضاً ـ ذات إغـراء يسمح ، لا بالإنـتماء إليها فـحـسب ، بـل بادعـائها أيضـاً ” .
ويـقــول عـن الناصرية : ” إنها أفكار ومبادىء صالحة لـتؤدى دور القيادة . صالحة للإلتـقاء عـليها ، والإلتـزام بها ، والإحتكام إليها عـند الإخـتلاف . وهى لا تكون كذلك إلا إذا أرسيت عـلى قاعـدة منهجية عـلمية ، تـفرز من بينها المبـدأ من الإستراتيجية عـن التكتيك . الإستراتيجية والتكتيك عـناصر لصيقة بالقيادة بكل خصائصها الـفـذة ، وظروفها التى انـقـضت ، فهى من مفردات التجربة التى تـنسب الى عـبد الناصر ، أمــا الـمـبدأ فهـو وحـده الـذى يـبـقى مـميـزاًً ” للـناصـرية ” .
ومن ناحية أخرى ـ يسـتطرد الدكتور ـ فإن هـذا المنهج العـلمى القادر عـلى أن يستخلص من تجربة عـبد الناصر ” نـظـرية ” ناصرية يمـثـل ضـرورة مهـما كانت لازمة فى حـياة عـبد الناصر ، فـإنهـا الآن حـتـمية … إن ” الناصرى ” لا ينـتمى الى عـبد الناصر ، ولكـنه ينـتمى الى ” الناصـرية ” .
ويـسـتـمر الدكـتور فى ” بشـارتـه ” أو وصيـته ” : ” من بيـن الإنجـازات الديمقراطية للـثورة ، كان هـذا الإنجـاز ” البـشـرى ” أروعـها ، لأنـه اسـتـولـد الـشعـب العـملاق جـيـلاً يـقـظاً . والـيـقـظة الشـعـبـية أولى مقومات الديمقراطية نظـاماً ، والديمقراطية ممارسة ” .
ثـم يخـتـتم الـرجـل الكـبـيـر كـلامه ، بتواضع كبـير أيضاً ورفيع : ” وأخـيـراً .. فـلـقد اجـتهـدنا ولكـل مجـتهـد نصيـب … من الـرضـا أومن السخـط . ونحـن نـقـبـل نصيـبـنا أيـاً كــان نوعـه ، لأنـنا مـا أردنا ـ منذ البداية ـ أن نـرضى أحـداً أو أن نغـضب أحـداً . ومـا زال بـاب الإجتهـاد مفـتوحـاً .. لـمـن يـريــد ” .
وقـبـل أن يـمـضـى .. يضع الدكتور عـصمت سيـف الـدولة .. أكـليـل الـزهـور هـــذا عـلى ضـريح عـبد الناصر قـبـل أن يغـادره .. ويغـادرنا :
” … إن الخطأ فى التجربة ، نـتـيجة القصور فى المنهج والنظرية ، لا يمكن أن يـنال ، عـلى أى وجه ، من أن جمال عـبد الناصر قـد عــاش ومات إبـناً بــاراً ومخـلصاً إخلاصاً مطلقاً لشعـبه وأمته . ويكـفـيه نـبلاً أنه لم يـدع فى أى وقـت أنه يملك أكثر مـما يملك فعـلاً وهـو
( 23 )
كـثيــر . وأنــــه لـم يخطىء قـط إلا واعـترف بالخـطـأ ، وبادر الى تصحيحه بما يستـطيع . فلـقـد كان ـ رحمة الله عـليه ـ أكثـر الناس صـدقاً مع نـفـسه .. وهى قـمة الفـضائـل فى الحاكـميـن ” .
وكـان الدكـتور عـصمت سـيف الدولة ـ رحـمة الله عـليـه ـ مشـعـل اسـتـنارة ووعـى ، غـطى إشعـاعـهـما شـباب الأمة العـربـية الخـالدة ، التى عـاش يعـشقها .. ويحلم بها مـوحـدة ومـتـقـدمة .
******
مجلة الوعي العربي