عن صحيفة «القدس العربي» اللندنية
20/12/ 2019
من المتوقع أن تزيد نتائج الانتخابات البريطانية التي جرت في الأيام القليلة الماضية؛ أن تزيد من الحرائق وتتسع بوتيرالفوضى والعنف، ولذلك أثره البالغ على «القارة العربية» والقضية الفلسطينية، لما لبريطانيا من دور في صناعتها وتعقيدها، ويُنظر لعاصمتها لندن كمطبخ مركزي عالمي لإعداد السياسات والمشروعات المضادة، وما زالت الذاكرة تحتفظ بأثر زيارة الزعيم السوفييتي الأسبق؛ ميخائيل غورباتشوف الأولى لبريطانيا، وتطورات ما حدث بعدها للاتحاد السوفييتي، وتمت الزيارة في مثل هذا الشهر من عام 1984، وخلالها استضافت رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر الزعيم السوفييتي في مقرها الريفي، وكان وقتها مجرد عضو احتياط بالمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي..
وقد بدت معلوماتها في ذلك الوقت المبكر حافزا لها على معاملته على مستوى رجال الصف الأول، وتم وصف جو المحادثات التي استمرت خمس ساعات متواصلة من قبل مسؤولين بريطانيين بأنها جرت في جو من الصداقة القوية، بينما قلل منها مسؤولون سوفييت، وصرحوا بأنها «لم ترق لمستوى مباحثات العمل»، وبعدها قدمت تاتشر غورباتشوف للرئيس الأمريكي وقتها دونالد ريغان.. ولم يكن الضيف السوفييتي معروفا بالدرجة الكافية لوضعه في مركز الاهتمام الشخصي لواحدة من أقوى رؤساء وزراء بريطانيا في القرن العشرين..
بعد ذلك بشهور (عام 1985) أصبح غورباتشوف أمينا عاما للحزب الشيوعي السوفييتي، تم تولى رئاسة الدولة السوفييتية عام 1988، وكان ما كان، وتفككت الإمبراطورية السوفييتية.. النووية المترامية الأطراف، واختفت من خريطة العالم!! والأصابع البريطانية؛ الظاهرة والخفية، ممتدة على مستوى العالم، وتنشط في أغلب عمليات التغيير المضاد..
ومثلت نتائج انتخابات 12 كانون الثاني/ديسمبر الجاري (2019) علامة فارقة، قد تجمد الأشواط التي قطعها البريطانيون في مسيرة الوعي، وتعيد العالم إلى أجواء القرن الثامن عشر، بحروبه وغزواته وصراعاته وفوضاه وفتنه، ومن المتوقع أن تكون حلقة هامة في سلسلة سياسات الابتزاز والإرغام والقهر وفرض التبعية، وصولا إلى الغزو والاحتلال المباشر. وجسدت هذه النتائج تراجع المبادئ والنظريات والسياسات، لتحل محلها القوة والبلطجة والغوغائية والاستخفاف بالبشر وعدم الاكتراث بالمخاطر التي تواجهها الشعوب، والموقف السلبي الأمريكي من قضية المناخ ومخاطر الارتفاع الملحوظ لدرجة حرارة الأرض، وما ترتب عليه من كوارث؛ ذلك الموقف مثال حي على ذلك..
وتلعب «إشكاليات» الديمقراطية، أو بمعنى أصح «إشكاليات» الليبرالية الغربية وإجراءاتها دورها في التشوهات التي أصابت الديمقراطية، وتكاد تعصف بها؛ ذلك بتأثير المحافظين الجدد، وقوة المسيحية الصهيونية، وإمكانيات الحركة الصهيونية، ومع ذلك أكسبت النظم الرأسمالية والقوى الاحتكارية أنصارا، من الشرق والغرب والشمال والجنوب؛ خاصة من بلدان العالم الثالث.. ومكنت قوى نازية وفاشية وطاغوتية من التسلل إلى أروقة وقصور الحكم في كثير من دول العالم، ومنها دول عربية وإسلامية، وذلك يتم للأسف بأحد أهم «إشكاليات» الديمقراطية، أي بطريق الانتخاب الحر وبأصوات الناخبين.. وعن ذلك الطريق تسلل دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وتربع على المكتب البيضاوي للبيت الأبيض..
ونفس الشيء حدث مع إيمانويل ماكرون ووصل إلى قصر الأليزيه؛ مقر الرئاسة الفرنسية، وثالثهم بوريس جونسون، الذي عاد بنفس الطريقة إلى 10 داوننغ ستريت؛ كرئيس للحكومة البريطانية. واكتسح الانتخابات بشكل فاق كل التوقعات؛ منها توقعات حزب المحافظين وجونسون نفسه.. وخسر حزب العمال خسارة قد لا يبرأ منها في المدى المنظور..
وكشف فوز المحافظين المدى الذي وصلته الأحزاب الغربية ومن بينها الأحزاب البريطانية، فبدت كيانات تعبر عن أشخاص قادتها وزعمائها.. لا تحتاج لرؤى، وليست لديها قناعات سياسية واضحة، ولا تتحمل مسؤوليات اجتماعية حقيقية أمام شعوبها، فانكشفت العورات، ولم تسترها غلالات الليبرالية الممزقة، ونجم عن ذلك تعطيل إمكانية ظهور بدائل؛ تُجنب البشرية مآسي وويلات تهددها بالفناء..
وعن أحوال «القارة العربية» فما زالت خاضعة لأباطرة النفط وطواغيت المال، الذين استسهلوا الانصياع لمن يبتزهم، ويفرض عليهم «الجزية» الأكبر في التاريخ، لا يُكتفى فيها بالمال وتلحقها إهانات بالغة؛ لو وُزعت على العالم لفاضت عن حاجته، وأفرغ المبتزون خزائن العرب، أما بوريس جونسون فمختلف؛ أشبه بمهرج سيرك؛ غاب عنه المروضون، وهجره المتفرجون، وهو بالمرصاد لمواطني «القارة العربية» وأبناء العالم الإسلامي، وشعوب آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، وكثير منهم سبق له تجرع سم العنصرية البريطانية، حين كانت لا تغيب عنها الشمس..
«القارة العربية» تتعرض لأشد أنواع التمييز العنصري، والتهجير القسري، والإبادة الجماعية، وقضم واقتطاع الأرض وإفراغها من سكانها، ومنحها غنائم للدولة الصهيونية ولدول منتقاة من الجوار الإقليمي، ماذا تبقى من فلسطين؟ وأين ذهبت الصومال؟، وما مصير العراق؛ جنوبه وشماله؟ وماذا عن مستقبل سوريا واستباحة أرضها وإعادة توطين أهلها ومواطنيها في «مناطق آمنة» منتزعة من البلد الأم؟، والأردن مهدد بمصادرة أرضه جهارا نهارا، رغم علاقته القوية ببريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة؟ لم يعترض أحد على ترامب وهو يقوم بتوزيع الأراضي العربية على هواه، وكأنه يملكها، وبلا صاحب، ويهديها للدولة الصهيونية؟ وما هو مصير سيناء وموقعها في صفقة القرن؟ ولماذا يلفها الغموض؟..
ولكوني اتخذ مما يجرى لفلسطين بوصلة لتحديد الموقف من القضايا والأحداث والتطورات على كل الأصعدة، وطنية مصرية، وقومية عربية، وأخوة إسلامية، وأممية إنسانية؛ هي دوائر مكملة لبعضها، والقضية الفلسطينية لهأ حضورها على هذه الأصعدة، وعليه فكل مؤيد للجرائم الصهيونية في حق فلسطين وسكان الأراضي العربية المحتلة يُحسب من أعداء الإنسانية، ولا تُقْبَل منه مساومة مهما كانت المغريات أو الضغوط. وحزب المحافظين وزعيمه الحالي بوريس جونسون ليس من مؤيدي المشروع الصهيوني فحسب، بل ينتمي إليه، ومن قبل المؤتمر الصهيوني الأول 1897 كان الداعي الأنشط، الذي عمل على زرع هذا الكيان الاستيطاني عنوة تحت سنابك ورماح الاحتلال البريطاني لمصر، وتحكم الانتداب في فلسطين، فبريطانيا كانت ولا زالت حاضنة حقيقية لكل ما هو صهيوني، وشاركتها الولايات المتحدة بعد خروجها من العزلة عقب الحرب العظمى..
وتنظر بريطانيا، منذ ما قبل 1948 لـ«المشروع الصهيوني» باعتباره الابن الشرعي لها، والكيان الوظيفي «المثالي»، الذي أطال عمر إمبراطوريتها؛ حتى حانت لحظة الغرق في مياه السويس عام 1956، وبعد سقوط عصر الامبراطورية لم يتغير الموقف، وزاد حدة في السنوات الأخيرة، فقد صرحت تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا السابقة في ذكرى مرور مئة عام على وعد بلفور: «إن بريطانيا فخورة بدورها في قيام (إسرائيل)»، وسبقها ديفيد كاميرون ووجه خطابًا إلى الكنيست عام 2014، تفاخر فيه بحماية مجرمي الحرب الصهاينة وإيقاف العمل بقانون الولاية القضائية العالمية، ليمنع اعتقالهم إذا مازاروا بريطانيا. وسبق وقال إنهم في حزب المحافظين يعارضون المقاطعة..
وتبقى تهمة معاداة السامية جاهزة ضد منتقدي سياسات الاحتلال الصهيوني. وتُرفع في وجه كل معارض لممارساتها الاحتلالية، وضد كل مؤيد ومساند لاستعادة الحقوق الفلسطينية المشروعة، وتحرير الأرض المغتصبة من النهر إلى البحر..
مجلة الوعي العربي