يذكرني مؤتمر وارسو وكل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط بكتاب للكاتبة الأمريكية ذات الأصول الألمانية بربارة فيرتهايم توخمان والمعنون “مسيرة الحمقى من طروادة إلى فيتنام.. نظرة للمحاولات التاريخية للحكومات التي تتبع سياسات تتعارض بوضوح مع مصالحها الخاصة”. ويحدث ذلك عادة عندما تتبدى مصلحة الفرد أو أي مؤسسة على المصلحة العامة للدولة أو للبلد بأسره. وغالبية دول المنطقة تندفع بالفعل في مسيرة للحمقى نحو صراعات عبثية لا تفيد أيا منها بل تفيد الكيان الصهيوني وإمبراطورية الشر الأمريكية ومجمعها الصناعي-العسكري الذي يتغذى على الصراعات والحروب والدم. وحينما تصطف بعض الدول العربية مع الكيان الصهيوني الغاصب والدنئ في تحالف تقوده امبراطورية الشر الأمريكية، فإن كارثة وجرما تاريخيا يختمر في المنطقة التي يتزايد سقوطها في الهوة السحيقة والمظلمة لمستنقع الطائفية والمذهبية العفن كمحرك للصراعات والتحالفات، على حساب الاصطفاف الوطني في الصراع ضد الكيان الصهيوني الذي نشأ بالاغتصاب وجبال المعونات ويستمر بالعدوان والغطرسة والانفراد النووي العسكري الذي يشكل تهديدا حقيقيا لكل المنطقة. وقد استخدمت امبراطورية الشر الأمريكية كل قوتها لدفع أتباعها من خزنة المال الريعي النفطي من رعاة إرهاب المجموعات السلفية “الجهادية” الذي خرب وما زال يخرب العديد من الدول العربية، إلى هذا المستنقع ليتناسوا كل ما له علاقة بالحقوق الفلسطينية والعربية عموما. لكنهم يتناسون أيضا أن شعوبهم المتنوعة المذاهب يصعب عليها قبول هذا التحول مهما تكثفت محاولات تضليلها.
وعلى الجانب الآخر أدى الاحتلال الأمريكي الإجرامي للعراق وإسقاط دولته وهو أصل الكارثة في العراق، إلى تأسيس نظام قمئ قائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية والعرقية ويسيطر عليه الشيعة وميليشياتهم التي فتكت هي وليس الشيعة كجزء من الشعب، بثروة العراق نهبا وبوحدته الوطنية تخريبا. ولسخريات القدر فإن الميليشيات المذهبية الشيعية التي صعدت للسلطة في العراق على متن الدبابات الأمريكية المحملة بغباء إدارة بوش الابن، حولت تحالفها وولائها إلى إيران التي توجد روابط مذهبية عميقة معها. وعاثت إيران رغم نظامها الوطني (القومي-الديني) المعادي للإمبريالية الأمريكية، فسادا وتخريبا في منافسها وعدوها التاريخي أي العراق مستهدفة تدمير المنطقة السنية وتخريب تماسك البنية الاجتماعية لبلاد الرافدين لتفكيكها وإضعافها وإنهاء إمكانية عودتها كمنافس وموازن لها بصورة نهائية. ودفعت في اتجاه تشكيل قوة عسكرية موازية للجيش هي ما يسمى بـ “الحشد الشعبي” وهي قوة مذهبية عنصرية إرهابية ذات روابط عميقة مع الحرس الثوري الإيراني. وقد مارست تلك القوة أحط أشكال التنكيل والقتل والتخريب والنهب والسلب في المنطقة التي يقطنها العرب السنة في العراق تحت غطاء الحرب ضد إرهاب داعش. ولم يستمع النظام المذهبي المقيت في العراق لدعوات قصر القوة المسلحة على الجيش العراقي وحده كأي دولة محترمة وأبقى “الحشد الشعبي” كقوة إرهاب وتخريب ضد السنة، ولم يستمع لدعوات إعطاء الأولوية المطلقة لإعادة بناء المنطقة السنية وتعويض أبنائها عن تخريب وتدمير ممتلكاتهم وإنهاء تشردهم في مخيمات اللاجئين غير الآدمية كآلية لاستعادة الوحدة الوطنية. وهذا السلوك السياسي العدواني والخرب سيخلق ألف مبرر لنشوء حركات تمرد وطنية أو دينية في المنطقة السنية التي تعرضت للسحق والتدمير بلا رحمة بصورة لم تشهدها أي منطقة أخرى في تاريخ العراق الحديث.
ورغم كل ما ورد آنفا بشأن سياسات إيران فإنها دولة طبيعية وستبقى جارة للأبد، وعلى الدول العربية أن تحاول إيجاد مسار سلمي لحل الصراعات معها على أساس الحقوق والاحترام المتبادل وليس التعصب المذهبي، بدلا من الاصطفاف العبثي ضدها مع الكيان الصهيوني العنصري الغاصب ومع إمبراطورية الشر الأمريكية التي لا ترى في المنطقة سوى فضاء للنفوذ ولنهب الثروات واستغلال الأسواق المدنية والعسكرية. وعلى الدول العربية أن تدرك أن ما حل بالعراق من تدمير للدولة وتخريب للمجتمع هو نتيجة مباشرة للغزو الأمريكي الإجرامي لذلك البلد العربي الكبير، ذلك الغزو الذي دعمته دول الخليج التي انطلق منها ذلك العدوان. أما ما فعلته إيران واتباعها بذلك البلد بعد ذلك فهو نتيجة وليس جذرا للكارثة.
ورغم كل ما تعرضت له مصر من تراجع في دورها الإقليمي فإنها ربما تكون هي وحدها القادرة على تغيير المسار الإقليمي بدون تكلفة، وذلك إذا قامت فقط بالابتعاد عن التحالفات الأمريكية-الصهيونية مع بعض الدول الخليجية التابعة، مستندة في ذلك إلى رفضها التاريخي لتقسيم المنطقة إلى أحلاف متصارعة، وإذا بادرت للدعوة المستقيمة للاستقلال ولإصلاح النظام المذهبي المقيت في العراق لجعله وطنا لكل أبنائه وليس مسرحا للتمييز الطائفي والمذهبي ومرتعا للتمدد الإيراني العدواني والتخريبي في ذلك البلد العربي الكبير، وإذا طرحت أيضا مبادرة لإدماج إيران في المنطقة على أساس الحق والعدل والاحترام المتبادل للحقوق والسيادة، وإذا وظفت رصيدها التاريخي في إيجاد مخرج للأزمة اليمنية بعيدا عن حملة مملكة عائلة سعود ضد اليمن وشعبه، وبعيدا أيضا عن منطق الانقلاب والاستحواذ الذي ادخل اليمن في دائرة جهنمية من الصراعات الأهلية المدمرة.
الرئيسية / كتاب الوعي العربي / مسيرة الغباء… العرب وإيران والكيان الصهيوني وإمبراطورية الشر الأمريكية- بقلم : أحمد السيد النجار
شاهد أيضاً
رئيس الوزراء البريطاني الجديد والرهان المستحيل - بقلم : محمد عبد الحكم دياب
26 - يوليو - 2019 فاز بوريس جونسون برئاسة وزراء بريطانيا لفترة قادمة؛ …
مجلة الوعي العربي