12, Dec 2019
إضافة إلى الصورة المستقرة في أذهان القوى السياسية المصرية.. فمنطق الحياة لدى السادات عبر عنه لصديقه «اللدود» حسن عزت بقوله «يا أبو علي الحياة كلها تمثيل في تمثيل».. لهذا لم يتخل عن شخصية الممثل في أطوار حياته العسكرية والسياسية.، وهناك جوانب مخفية من صورته؛ مرتبطة بما جرى في 13 أيار/مايو 1971، وما ترتب عليها من تداعيات وانهيارات انعكست على مصر، وما زالت حتى هذه اللحظة، والسادات أبدع في ابتكار صور ووسائل للثورة المضادة أثرت في قوى وجماعات متنوعة ومتعددة؛ داخليا وخارجيا، وأزعم أن الثورة المضادة في الاتحاد السوفييتي السابق، سارت على طريق القادة العظام بــ«أستيكة»؛ أي ممحاة، كما فعل السادات دون حاجة لتدخل من أحد.
وحرص السادات على تطابق تاريخ «ثورته التصحيحية» المضادة مع تاريخ النكبة في 15 أيار/مايو 1948.. وبدلا من تاريخ 13 الذي بدأت فيه اختار 15 أيار/مايو عوضا عنه، ولم يكن ذلك صدفة.. وقد بدت وفاة عبد الناصر «ساعة صفر» رُتِّبت بليل في أكثر من عاصمة؛ بينها تل أبيب. وكان عبد الناصر قد وصل لقناعة؛ بعد جهود مضنية ومحاولات مريرة في سبيل حل عادل للمشكلة الفلسطينية؛ وصلت قناعته إلى أن «ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة»، وأيقن استحالة استعادة الحقوق بالتفاوض، ولا غنى له عن التعاون مع الاتحاد السوفييتي القادر على مد مصر وحلفائها بالسلاح، وتفهمه رفض مصر للحلول المنفردة، وتمسكها بتسوية شاملة وجماعية؛ تضمن سلام واستقرار «القارة العربية»، وتُجَنِّبها مخاطر الحل المنفرد.
وقَبِل عبد الناصر مبادرة وزير الخارجية الأمريكية «وليام روجرز»؛ في رسالته إلى وزير خارجية الجمهورية العربية المتحدة؛ محمود رياض في 19 حزيران/يونيو 1970، وفيها «أن الوسيلة الأكثر فعالية للتوصل إلى تسوية تكون بأن تبدأ الأطراف في العمل تحت إشراف السفير جونار يارنج المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة للتوصل إلى خطوات تفصيلية لازمة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242»، وفي اليوم التالي ( 20 / 06/ 1971) بادرت الخارجية المصرية بدراستها، وعرضتها على وزير الحربية، ورئيس المخابرات العامة، واللجنتين العليا والمركزية للاتحاد الاشتراكي. ولاحت فرصة الإسراع في استكمال حائط الصواريخ لتحييد الضربات الجوية والمدفعية على خطوط الاشتباك، وذلك أثناء علاج عبد الناصر في الاتحاد السوفييتي، ورفضها السادات، الذي لم يكن يعلم محتواها، وكان وقتها قائما بعمل رئيس الجمهورية. .
وجاء القبول تكتيكيا لاستكمال الاستعداد للحرب، وكانت محددة فيما بين نهاية 1970 وبداية 1971، لذا أطلق السادات على عام 1971 «عام الحسم»، مع أنه خلال ذلك العام كثف من مناوراته ومراوغاته، وتقدم بـ«مبادرة فبراير» 1971؛ اقترح فيها إنسحابا جزئيا لقوات العدو إلى المضايق، وإعادة فتح قناة السويس للملاحة الدولية، وأعلنها قبيل وصول الوسيط الدولي بأربعة أيام، وبدت مصادرة على خطته، وتنص على انسحاب العدو للحدود الدولية، وبدا ذلك إضعافا للموقف المصري امام العدو وتسبب في استياء دول اوروبية صديقة؛ عبر عنها وزير الخارجية الاسباني.
لعب السادات بورقة الوحدة العربية، وهو الكاره لها لطبيعته الانعزالية ونرجسيته، وكانت الوحدة ما زالت جاذبة للرأي العام.. قبل صهينة العقل الرسمي للدولة والحكم للأسف الشديد. وفجأة يصل الرئيس السوري وقادة السودان وليبيا للقاهرة، وانتهت اجتماعاتهم دون اتفاق، وانسحب جعفر نميري، وفي اليوم التالي توجه السادات ونائباه حسين الشافعي وعلي صبري، وذهب حافظ الأسد على رأس الوفد السوري، ورأس القذافي الوفد الليبي؛ توجهوا جميعا الى ليبيا استكمالا للتباحث!!.
وأُعلِن «اتحاد الجمهوريات العربية» في 17/4/1971، ووجد معارضة مصرية من اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي، وقدمت اللجنة المركزية تعديلات على الإعلان، وتفجرت الأوضاع فور توقيع ميثاق الوحدة؛ وكانت مؤسسات الدولة المصرية؛ الرسمية والشعبية معبأة للحرب وإزالة آثار العدوان، وبذل السادات جهدا خارقا لتعويق ذلك المسار؛ بمبادرة فتح قناة السويس، والانشغال بالوحدة الجديدة.
وخلال «عام الحسم» تخلص السادات من «مراكز القوى»؛ الاسم الرمزي لرجال عبد الناصر؛ أحس الشباب بالخطر، فبادرت «السكرتارية المركزية لمنظمة الشباب»؛ بادرت بالدعوة لاجتماع عاجل لأمناء شباب المحافظات في 04/ 05/ 1971 لبحث آثار الإقالة.. وكان الاجتماع عاصفا، وفوجئ المجتمعون بحضور نائب رئيس الوزراء وأمين التنظيم باللجنة المركزية شعراوي جمعة، الذي سعى لتهدئة الموقف.. وتحدث مطولا عما تم الاتفاق عليه مع السادات، والتزامه بالقيادة الجماعية، وتطرق لانتخابات الرئاسة ونسبة الأصوات التي حصل عليها السادات وكانت 57٪ ارتفعت إلى 85٪ ونوه إلى أن وحدة الموقف كفيلة بتخفيف حدة الخلاف بين الشباب ورئاسة الدولة.
وأفاض جمعة في أن من كانوا يستندون إليه ويساندهم رحل إلى جوار ربه، ويجب على الجميع الاصطفاف والتماسك في ظروف غير مواتية، وزرفت عيناه بالدموع.. فغلبت العواطف على الجلسة وهدأت عواصفها؛ نظرا للتقدير الذي يكنه الشباب لهذه الشخصية الوطنية والثورية الفذة.. وبينما بذل شعراوي جمعة وغيره من أعضاء اللجنتين المركزية والتنفيذية ومجلس الأمة؛ بذلوا جهدا كبيرا بَيَّت السادات النية للتخلص منهم.. وبعد إقالة علي صبري أقال شعراوي جمعة الذي نجح في امتصاص غضب الشباب، وكانوا قوة فاعلة في ذلك الزمان، وشعرت المجموعة المسماة «مراكز القوى» بالخطر فآثرت الاستقالة الجماعية، في نفس يوم إقالة شعراوي جمعة. وهذه شهادة تقال من شاهد عيان على جانب مما جرى، وشارك في اجتماع قيادات الشباب في ذلك الوقت.
وعمت المظاهرات جامعات مصر بمجرد إنتهاء «عام الحسم»، وامتدت لأوساط أخرى، واقتحمت قوات الأمن الحرم الجامعي لأول مرة عام 1972، وواكبها إشتعال أول فتنة طائفية بضاحية الخانكة؛ قرب القاهرة في نفس العام، واستمر ذلك المسلسل الدامي، ولم يتوقف منذ 47 عاما..
وزاد الاحتقان، واندلعت انتفاضة يناير 1977، وجهز السادات طائرته بمطار أسوان استعدادا للرحيل، وتدخل المشير عبد الغني الجمسي بشرط عدم إطلاق رصاصة واحدة على متظاهر. ولما عاد السادات من أسوان، واستتب له الأمر، عزل المشير الجمسي، وكان قد صرح ببقائه وزيرا للحربية مدى الحياة!! وذهب إلى القدس المحتلة، ووقع اتفاقيات إذعان تحت رعاية أمريكا، وسُحِبت مصر من معادلة القوة العربية التي نزفت بشدة وما زالت.
واستمر السادات في تصفية حساباته؛ بديمقراطيته «ذات الأنياب» حسب وصفه، وادعى على مساعديه بأنهم رتبوا للانقلاب ضده، وهل من يرتب لانقلاب «يترك الجمل بما حمل» كما يقول المثل الشعبي، والثابت أن الاستقالة الجماعية كانت رهانا على حسن النية، وعملا للتخفيف من إحساس السادات بالخطر من جانبهم. وكلها ذرائع مكنت السادات من قيادة أكبر رِدّة وطنية وقومية وآقتصادية وثقافية وأخلاقية، وأعاد مصر إلى أسوأ مما كانت عليه قبل 1952، وقدمها على طبق من ذهب للحركة الصهيونية..
لكن السؤال المهم هو كيف نجح السادت في ذلك؟ والرد أنه دهاء صحافي وكاتب كبير بحجم محمد حسنين هيكل، وفور تأكُد السادات من دعم الأمريكان له «قلب لهيكل ظهر المجن»، وكان السادات قد سارع بإبلاغ هنري كيسنجر بمحدودة الحرب؛ بخطاب أرسله مستشاره للأمن القومي؛ ينص على أن الحرب هي للتحريك لا للتحرير، وحققت النتائج السياسية لحرب 1973 سلاما واستقرارا ورفاهية وتوسعا للدولة الصهيونية؛ على حساب العرب ووجودهم ذاته.
مجلة الوعي العربي