الرئيسية / حوارات ناصرية / في ذكرى رحيل القائد والمشروع

في ذكرى رحيل القائد والمشروع

21477926_1890610074299256_53573184372342784_n

ماذا تبقى من الناصرية..؟

محمد رؤية ناظم

naser.52@hotmail.com

لسنا نكتب لنجلد الذات كما يفعل اليائسون الذين ينقلبون على أنفسهم رغبة في إيقاف الزمن عند أمجادهم هروباً من تحمل تبعات المواجهة، كما لا نجتر ذكريات الانتصارات حسرةً على الواقع الذي لا نستطيع أن نغيره، ولا نستتر وراء الفشل الذي لحق بالمسيرة لنعلق الهزيمة على مشاجب العدو الذي ألحق الهزيمة بالمشروع، أو هؤلاء الذين اصطفوا وراء الآخر وكانوا هم السبب الحقيقي في الخروج من التاريخ، فقط بالمناسبة نود أن نذكر أن المنهج والعقيدة، أي مدى الإيمان الذي يحكم السلوك ويعمق الممارسة، بل ويدفع إلى تجذير الفكر وحشد الجماهير عليه كما المؤمنين على قدم المساواة، يظلان هما الإشكالية الحقيقية، وليست تلك الرتوش التي ظهرت على السطح من الردّة أو المرتدين الذين اعتقدوا لوهلة أنهم حققوا انتصارا نهائياً على الأمة والوطن لحساب أطماعهم المرتبطة بشكل استراتيجي وعلى المدى الطويل بالآخر.

وهنا نجد أنفسنا ـ من باب الحيدة ـ مضطرون للفصل بين الفكر والمنهج، وبين المواقف السياسية بما حملت من نجاحات وإخفاقات، كان مردها بالأساس تلك الأجواء المحيطة بالصراعات المختلفة وأسبابها وقوة الأطراف وقدرة الراحل العظيم جمال عبد الناصر على إدارة الصراع السياسي، وطبيعة الصراع الذي شكلت تحالفات أساسية لا غنى عنها لأطرافها، ومن ثم فإخفاقات ثورة يوليو المجيدة على صعيد مسيرتها التاريخية لا يمكن لمحايد أن يحملها على الفكر والعقيدة، ولا يمكن لعاقل أيضا أن يعلق نجاحات الثورة على الناصرية، فرغم التطابق في عديد الجوانب بين الفكر والعقيدة والمواقف باعتبار أن المواقف ترتبت إلى حد بعيد على أسس منهجية ترتبط في كثير منها بالناصرية ذاتها، إلا أنه يبقى هناك فاصل يحسه الناصريون والمتابعون على حد سواء، وهم يتحسسون مسيرة طويلة رغم عمرها القصير الذي لم يتجاوز ثمانية عشر عاماً إلا بأشهر قليلة.

ومن ثم: لا بد وأن نقوم بمراجعة للمنهج والثوابت، ونتلمس المواقف الأساسية للثورة، وما أنجزته وما لم تنجزه، وما واجهته من تحديات على المستوى المحلي والقومي والإقليمي والعالمي، ومدى ما حققته على هذه الأصعدة، لنخلص إلى الميراث الحي الذي خلّفته ثورة يوليو المجيدة في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970 عندما أسلم الراحل الباقي جمال عبد الناصر روحه لبارئها، وما استمر من الميراث وما انقرض، بفعل فاعل كان أو بفعل اهتراء الإيمان لدى النخبة، أو بتأثير النيران الصديقة التي أطلقت دفاعاً عن الناصرية، أو تلك الرصاصات التي تسمى رصاصات الرحمة التي ادعى المغرضون أنها الطريقة الوحيدة لإثبات وجودهم عندما تغير المشهد السياسي، وحدث الحراك الذي أملاه التحزب، أو أملته الولاءات الجديدة.

وللحقيقة وللتاريخ نقول: إن الناصرية هي تراكم منهجي أو تراكم ثوري شكل منهجاً لا بد من الاعتراف به لاختلافه الجذري عن ما سبقه وما عاصره من مناهج فكرية، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وكذا ما تلاه من مشهد سياسي أقل ما يوصف به أنه خروج مبرمج عن النص، إلى فوضى رائدها تغيير العناوين، وإن كان لا يعنيها كثيراً الجوهر أو النصوص الجديدة، فهي مجرد شعارات فارغة رفعها منتفعون جدد، أو منتفعون قدامى تجددت آمالهم في إحياء تاريخ يخصهم على حساب تاريخ مصر والتاريخ العربي برمته، وقد اتخذت النخب الهائمة أساليب مغايرة للأساليب السائدة، وإن تماست مع بعضها، كما نتج عنها واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مغاير لما سبق واقعها، وإن تماس مع بعض منها في جانب أو آخر.

وعودة إلى النص نقول بوضوح شديد: إن الناصرية التي تأسست بتراكم منهجي، أو تراكم فكري ثوري، يتلاءم كحلول مع منطق لا يقبل بالمطروح على اليمين أو على اليسار، كونهما معاكسان لما طرحته الثورة من شعارات بقصد التغيير الجذري، هذا التراكم شكل على المدى القصير منهاج عمل جديد على العالم، جذب إليه المريدين، شأنه شأن اليمين العالمي، واليسار العالمي، ولكنه في الحقيقة لا يمكن أن ينفصل في نصوصه وجوهره عن المواقف الثورية التي شكلت المبادئ الستة للثورة، وما تلاها من خطوات جادة وحيوية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، أنتجا في النهاية تغييراً في التركيبة الاجتماعية بالتأكيد، هي التي أثارت ولع الشعوب في دول جنوب العالم بتلك الأفكار التي تأسست على المواقف الثورية، وهذا لا يتعارض في الأساس مع ما قلناه عن ضرورة الفصل بين الأفكار والعقيدة وبين المواقف، عندما نريد أن نتلمس واقع الميراث اليوم، فغياب الموقف لا يخفى على أحد ممن يعنيهم رصد الميراث.

الناصرية إذن، برزت كتيار فكري جديد على العالم بعد أن تأكد نجاح ثورة يوليو في معالجة الواقع السياسي والاقتصادي في مصر بعيداً عن أطروحات وقوانين اليسار العالمي، الذي كانت تشكله الكتلة الشرقية، التي كان يتزعمها الإتحاد السوفييتي السابق، وبعيداً أيضاً عن المنظومة الغربية “الليبرالية” التي يتبناها الغرب وتمثل الرأسمالية عصبها الحيوي، وكان الطريق الثالث الذي اختاره عبد الناصر قد تأكد على الصعيد الاقتصادي بقوانين يوليو الاشتراكية التي بدت واضحة المعالم في العام 1961، وعلى الصعيد السياسي بإعلان بناء الاتحاد الاشتراكي في أكتوبر من العام 1962، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الناصرية تراكم منهجي، تأسس على تراكم فكري ثوري، جاء حلولاً لواقع مؤسف كانت تعيشه مصر، بين إقطاع استبدادي تبنى الجلد والتعذيب والتجويع سياسات لردع الخارجين عن قانونه من الفلاحين البسطاء الذين حاولوا التعبير عن رفضهم أو حتى غضبهم لحالة الفقر المدقع التي يعيشونها في إقطاعيات تبلغ آلاف الفدادين، ولعل الأكثر إيلاماً في هذا الواقع أن الفلاح المصري في العموم لم يكن يتمتع بأسرته، لأنها كانت تعمل بكاملها خدماً “للباشاوات” ولا تلتئم إلا بعد الغروب وهي بالكاد تجد ما يسد رمقها من بقايا الموائد، أما الصناعة فعلى قلتها وبدائيتها لم تكن تمثل مورداً وطنياً على أي صعيد، إلا أنها كانت امتداداً لمأساة المواطن المصري الذي كان يعيش ذليلاً ـ إلا فيما ندر ـ وعلى حد الكفاف إن استطاع النفاذ من الوحوش الكاسرة التي كانت تلتهم الاقتصاد الوطني، وقد زاد الطين بلة وجود القوات البريطانية التي كانت ترابط على قناة السويس بعدة آلاف، وهن ما كان يؤهل المندوب السياسي البريطاني ليكون الحاكم الفعلي المتنفذ في مصر، معتمداً على تلك القوات المرابطة في مصر، وتعزيزات في البحر الأبيض المتوسط وفي قواعد جوية كبيرة في ليبيا وجنوب اليمن وتواجد بحري في البحر الأحمر، ومن ثم:

يدرك المتتبعون لمسيرة ثورة يوليو أن الناصرية ـ كما كانت في فكر عبد الناصر ـ لم تكتمل فصولها، ولم تتحدد معالمها النهائية حتى رحيل مؤسسها الكريم، الذي كان يتطلع إلى تجذير الفكرة والوصول إلى نهايات محددة على الصعيدين السياسي والاقتصادي لتشكيل منظومة يستطيع الورثة أن يطلقوا عليها نظرية، وهو ما يدفعنا إلى القول أن الناصرية رغم أنها لا تشكل نظرية يستطيع الباحثون القياس على قواعدها، كما لا يستطيع السياسيون الإمساك بمقولاتها، إلا أنها تبقى طريقاً ثالثاً لا يرتبط باليمين ولا باليسار، إلا بالقدر الضروري الذي يخدم التغيير ويحقق الهدف منه، ويدفع بالواقع إلى الأمام، حلاً للمشاكل التي تصادف مسيرة المجتمعات البشرية وهي متشابهة بل ومتكررة، بين سياسية واقتصادية ومجتمعية، بتأثير سيادة المنظومتين الغربية والشرقية في ذاك التاريخ، وتسيد المنظومة الغربية اليوم، وهو ما أنتج واقعاً عالمياً مكرراً لا تستطيع جل شعوب العالم الخلاص منه.

ولا شك أن العودة إلى وثائق ثورة يوليو الرئيسة وهي “فلسفة الثورة” و “ميثاق العمل الوطني” و ” بيان 30 مارس” تدل دلالة واضحة على أن الناصرية ليست مجرد رؤى، ولكنها أطروحات تأسست على رؤية منهجية، لكل من الأسس الاقتصادية والسياسية التي تحقق الحرية، حرية الوطن والمواطن، والديمقراطية التي تعني المشاركة الشعبية في السلطة على أوسع نطاق، حتى تصل حد الممارسة الشعبية للسلطة، وقد وردت “ممارسة السلطة” في بعض وثائق الثورة، كما وردت في خطابات وأحاديث الرئيس الراحل في أكثر من مناسبة، وقد كانت هي أيضاً مرجعية حقيقية لكل خطوة إلى الأمام على الصعيدين السياسي والاقتصادي.

ولقد سجل عبد الناصر مشروعه في فلسفة الثورة بأنه ثورتين فهو يقول:

( لكل شعب من شعوب الأرض ثورتان :

” ثورة سياسية: يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه ” و “ثورة اجتماعية: تحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد”)
وان التجربة الهائلة التي امتحن بها شعبنا هي أن نعيش الثورتان معاً في وقت واحد .)

ثم في الجزء الثاني من فلسفة الثورة يحدد طريق الثورة فيقول:

( أما الطريق فهو الحرية السياسية والاقتصادية )
وفي الجزء الثالث من فلسفة الثورة حدد جمال عبد الناصر الدوائر الثلاث التي تعمل عليها الثورة باعتبارها أدواراً تاريخية، صاغها في شكل تساؤل مردود عليه:

(أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وإن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلاً لا مجرد كلام..؟ أيمكن أن تتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضاً أن يكون فيها صراع مروع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا سواء أردنا أو لم نرد. .؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشهدها حقائق التاريخ ؟.)

أما عن دور مصر التاريخي في المنطقة فهو يعبر عنه بوضوح في الجزء الثالث حيث يقول:

( إن ظروف التاريخ مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل لي دائماً إن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيل لي إن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحد غيرنا لا يستطيع القيام به .وأبادر هنا وأقول أن الدور ليس دور زعامة. وإنما هو دور تفاعل و تجاوب مع كل هذه العوامل ) ويضيف ( وما من شك إن الدائرة العربية هي من أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا ).

ولعل من أهم ما شمله الجزء الثالث من فلسفة الثورة هو رؤية جمال عبد الناصر للحج، والتي تكذب الشكوك التي أثارتها التيارات الدينية حول ارتباط الناصرية بالشيوعية حيث يقول ناصر:

( يجب أن تتغير نظرتنا إلى الحج، لا يجب أن يصبح محاولة الذهاب إلى الكعبة تذكرة لدخول الجنة بعد عمر مديد أو محاولة ساذجة لشراء الغفران بعد حياة حافلة .يجب أن يكون الحجيج قوة سياسية ضخمة)، ويرى جمال عبد الناصر في الحج أنه ( مؤتمر سياسي دوري يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية، ورجال الرأي فيها، وعلمائها في كافة أنحاء المعرفة، وكتابها، وملوك الصناعة فيها، وتجارها، وشبابها، ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لسياسة بلادهم، يجتمعون خاشعين .. ولكن أقوياء ، متجردين من المطامع .. مستضعفين لله .. ولكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم، حالمين بحياة أخرى ولكن مؤمنين أن لهم مكان تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة.).

ويضيف ( حين أسرح بخيالي إلى هذه المئات من الملايين الذين تجمعهم عقيدة واحدة، أخرج بإحساسي الكبير بالإمكانيات الهائلة التي يمكن أن يحققها تعاون بين هؤلاء المسلمين، تعاون لا يخرج عن حدود ولائهم لأوطانهم الأصلية بالطبع، ولكنه يكفل لهم ولإخوانهم في العقيدة قوة غير محدودة. ثم أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به ..ذلك هو الدور، وتلك هي ملامحه، وهذا هو مسرحه.. ونحن وحدنا بحكم المكان نستطيع القيام به).

من هنا نؤكد أن للناصرية جذور فكرية ومنهجية جسدتها رؤية جمال عبد الناصر التي سجلها في فلسفة الثورة تقول بوضوح شديد أن مستهدفات الثورة هو أن يحكم شعب مصر نفسه بنفسه، وأن يتم تحقيق العدالة الاجتماعية، واللذان قال عنهما في الميثاق “الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما جناحا الحرية” معتبراً أن الحرية مطلق يشمل تحرير الإرادات والحاجات، مؤكداً في ذات الوقت على مسؤولية مصر القومية تجاه أمتها العربية ودورها التاريخي الذي عليها أن تضطلع به في هذا الصدد، مستلهماً من العقيدة السمحاء مسؤولية الدور التاريخي والإنساني لفريضة الحج التي اعتبرها مؤتمراً إسلامياً سنوياً عليه أن يضطلع بدور في تصحيح مسار الدول الإسلامية يضعها في مكانها الصحيح بين شعوب ودول وأمم العالم.

 

قلنا أن الناصرية برزت كتيار فكري جديد على العالم بعد أن تأكد نجاح ثورة يوليو في معالجة الواقع السياسي والاقتصادي في مصر بعيداً عن أطروحات وقوانين اليسار العالمي الذي كانت تشكله الكتلة الشرقية، التي كان يتزعمها الإتحاد السوفييتي السابق، وبعيداً أيضاً عن المنظومة الغربية “الليبرالية” التي يتبناها الغرب وتمثل الرأسمالية عصبها الحيوي، وكان الطريق الثالث الذي اختاره عبد الناصر قد تأكد بقوانين يوليو الاشتراكية التي بدت واضحة المعالم في العام 1961، وبإعلان بناء الاتحاد الإشتراكي في أكتوبر من العام 1962، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه من أن الناصرية تراكم منهجي، تأسس على تراكم فكري ثوري، جاء حلولاً لواقع مؤسف كانت تعيشه مصر، بين إقطاع استبدادي تبنى الجلد والتعذيب والتجويع سياسات لردع الخارجين عن قانونه من الفلاحين البسطاء، ورأسماليين أسسوا صناعة بدائية لم تكن تمثل مورداً وطنياً على أي صعيد، إلا أنها كانت امتداداً لمأساة المواطن المصري الأجير الذي تمارس عليه العبودية، وزاد الطين بلة وجود قوات الاحتلال البريطانية على شواطئ قناة السويس، يدعمها تواجد لوجستي لقوات بريطانية في البحر الأبيض المتوسط، وفي قواعد جوية كبيرة في ليبيا وجنوب اليمن وتواجد بحري في البحر الأحمر، وهو ما جعل المندوب السياسي البريطاني حاكماً متنفذاً في مصر.

ويدرك المتتبعون لمسيرة ثورة يولية أن جمال عبد الناصر كان يطمح لتجذير رؤاه وأفكاره والوصول إلى نهايات محددة وواضحة على الصعيدين السياسي والاقتصادي تشكل أخدوداً عميقاً في واقع مصر التاريخي، في صورة منظومة فكرية أضاءت جوانبها التجربة، يستطيع “الورثة” السير عليها دون الخوض في تفسيرات وتأويلات تعطي الفرصة للحزبيين وأعداء شعب مصر للانقضاض على المكاسب التي حققتها الثورة، إلا أن الحروب التي فرضت على مصر عبد الناصر بسبب المواقف المعادية للاستعمار والإمبريالية العالمية، والدور القومي، ودعم حركات التحرر، عربية وإفريقية وعالمية، وتحمل مصر والثورة مسؤولية تاريخية تجاه القضية الفلسطينية، لم يعط عبد الناصر والتنظيم السياسي الفرصة لاستكمال البناء الفكري للطريق الثالث.. وهو ما يدفعنا إلى القول أن الناصرية رغم أنها لا تشكل نظرية يستطيع الباحثون القياس على قواعدها، كما لا يستطيع السياسيون الإمساك بمقولاتها، إلا أنها تبقى طريقاً ثالثاً لا يرتبط باليمين أو باليسار، إلا بالقدر الضروري الذي يخدم التغيير ويحقق الهدف منه، ويدفع بالواقع إلى الأمام، حلاً للمشاكل التي تصادف مسيرة المجتمعات البشرية وهي متشابهة بل ومتكررة، بين سياسية واقتصادية ومجتمعية، بتأثير سيادة المنظومتين الغربية والشرقية في ذاك التاريخ، وتسيد المنظومة الغربية اليوم، وهو ما أنتج واقعاً عالمياً مكرراً لا تستطيع جل شعوب العالم الخلاص منه.

ولا شك أن العودة إلى وثائق ثورة يوليو الرئيسة وهي “فلسفة الثورة” و “ميثاق العمل الوطني” و ” بيان 30 مارس” تؤكد بوضوح أن الناصرية ليست مجرد آراء ومواقف من قضايا سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، ولكنها رؤية منهجية، لكل من الأسس الاقتصادية والسياسية التي تحقق الحرية، حرية الوطن والمواطن، والديمقراطية التي تعني حكم الشعب نفسه بنفسه، وإن كانت الممارسسة الشعبية لم ترد في أي من تلك الوثائق إلا أنها وردت في خطابات وأحاديث الرئيس الراحل في أكثر من مناسبة، وقد كانت هي أيضاً مرجعية حقيقية لكل خطوة إلى الأمام على الصعيدين السياسي والاقتصادي، ولقد بدت الجذور الفكرية للمشروع الناصري في فلسفة الثورة حيث يقول في الجزء الأول: ( لكل شعب من شعوب الأرض ثورتان :” ثورة سياسية: يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه ” و “ثورة اجتماعية: تحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد”).

وفي الجزء الثاني من فلسفة الثورة يحدد طريق الثورة فيقول: (أما الطريق فهو الحرية السياسية والاقتصادية).

وفي الجزء الثالث من فلسفة الثورة حدد جمال عبد الناصر الدوائر الثلاث التي تعمل عليها الثورة باعتبارها أدواراً تاريخية، صاغها في شكل تساؤل مردود عليه: (أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وإن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقة وفعلاً لا مجرد كلام..؟ أيمكن أن تتجاهل أن هناك قارة إفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها، وشاء أيضاً أن يكون فيها صراع مروع حول مستقبلها، وهو صراع سوف تكون أثاره لنا أو علينا سواء أردنا أو لم نرد. .؟ أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالماً إسلامياً تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشهدها حقائق التاريخ ؟.)

أما عن دور مصر التاريخي في المنطقة فهو يعبر عنه بوضوح في الجزء الثالث حيث يقول:

(إن ظروف التاريخ مليئة بأدوار البطولة المجيدة التي لم تجد بعد الأبطال الذين يقومون بها على مسرحه، ولست أدري لماذا يخيل لي دائماً إن في هذه المنطقة التي نعيش فيها دوراً هائماً على وجهه يبحث عن البطل الذي يقوم به، ثم لست أدري لماذا يخيل لي إن هذا الدور الذي أرهقه التجوال في المنطقة الواسعة الممتدة في كل مكان حولنا، قد استقر به المطاف متعباً منهوك القوى على حدود بلادنا يشير إلينا أن نتحرك، وأن ننهض بالدور ونرتدي ملابسه فإن أحداً غيرنا لا يستطيع القيام به .وأبادر هنا وأقول أن الدور ليس دور زعامة. وإنما هو دور تفاعل و تجاوب مع كل هذه العوامل ) ويضيف ( وما من شك إن الدائرة العربية هي من أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا ).

ولعل من أهم رؤاه ما شمله الجزء الثالث من فلسفة الثورة عن فريضة الحج، التي اعتبرها عبادة ودوراً تاريخياً، ويقول في هذا الصدد: (الحج مؤتمر سياسي دوري يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية ورجال الرأي فيها وعلمائها في كافة أنحاء المعرفة وكتابها وملوك الصناعة فيها وتجارها وشبابها ليضعوا في هذا البرلمان الإسلامي العالمي خطوطاً عريضة لسياسة بلادهم، يجتمعون خاشعين .. ولكن أقوياء ، متجردين من المطامع .. لكل عاملين ، مستضعفين لله .. ولكن أشداء على مشاكلهم وأعدائهم، حالمين بحياة أخرى ولكن مؤمنين إن لهم مكان تحت الشمس يتعين عليهم احتلاله في هذه الحياة.)

من هنا نؤكد أن للناصرية جذور فكرية ومنهجية جسدتها رؤية جمال عبد الناصر التي سجلها في فلسفة الثورة تقول بوضوح شديد أن مستهدفات الثورة هو أن يحكم شعب مصر نفسه بنفسه، وتحقيق العدالة الاجتماعية، واللذان قال عنهما في الميثاق “الديمقراطية والعدالة الاجتماعية هما جناحا الحرية” معتبراً أن الحرية مطلق يشمل تحرير الإرادات والحاجات، وإذا كان قد أكد على مسؤولية مصر تجاه أمتها، ودورها التاريخي الذي عليها أن تضطلع به في هذا الصدد، فقد استلهم من عمق إيمانه مسؤولية الدور التاريخي والإنساني للحجيج سنوياً في تصحيح مسار الدول الإسلامية ليضعها في مكانها الصحيح بين شعوب ودول وأمم العالم.

 

نؤمن ويؤمن المنهجيون العرب ـ وغير العرب ـ أن للناصرية جذور فكرية ومنهجية جسدتها أفكاره ورؤاه التي طرحها جمال عبد الناصر في فلسفة الثورة، التي كانت تعبيراً عن خلجات النفس والطموحات، كما كانت البذور التي نمت وترعرعت على مدى مسيرة عمر الثورة الذي لم يتجاوز السنوات الثمانية عشرة، وقد عبّر فيها بوضوح شديد عن مستهدفات ثورة الثالث والعشرين من يوليو التي كانت واضحة في ذهنه متمثلة في تحقيق الديمقراطية الحقيقية، حيث يحكم شعب مصر نفسه بنفسه، وتحقيق العدالة الاجتماعية التي تتطلب توزيعاً عادلاً للثروة التي كانت قاصرة في ذاك التاريخ على الأراضي الزراعية التي التهمها الإقطاع، علاوة على ضمانات حقيقية للمساواة بين فئات الشعب كافة، ومن ثم فقد كانت فلسفة جمال عبد الناصر في الحرية واضحة، وقد كانت الحرية تعني عند عبد الناصر مطلقاً يتأسس على تحرير الإرادات والحاجات، وجاء تأكيده على مسؤولية مصر القومية تجاه أمتها العربية ودورها التاريخي الذي عليها أن تضطلع به في هذا الصدد، معبراً في واقع الأمرعن قناعته بقضية الوحدة العربية التي يدرك بوعيه الثوري أنها الطريق الوحيد لوقف الانهيار الذي يراه في ربوع الوطن العربي، كما كان للثورة في نفس عبد الناصر بعداً دينياً، فقد استلهم من العقيدة الإسلامية السمحاء مسؤولية الدور التاريخي والإنساني لفريضة الحج التي اعتبرها مؤتمراً إسلامياً سنوياً عليه أن يضلع بدور في تصحيح مسار الدول الإسلامية يضعها في مكانها الصحيح بين شعوب ودول وأمم العالم.

كانت فلسفة الثورة التي صدرت في العام 1953 مقدمة طبيعية لمسيرة صعبة وتاريخية خاضتها ثورة الثالث والعشرين من يوليو تحقيقاً للمعاني الواسعة الفضفاضة التي شملتها فلسفة الثورة، وكانت أولى وثائقها، والتي جسّدت الطموحات، وعبّرت عن برنامج عمل ساند المبادئ الست التي أعلنتها الثورة في فجر الثالث والعشرين من يوليو من العام 1952، تلك المبادئ التي حددت الخطوط العريضة للعمل، كما حددت بعض الآليات، ولعل الفترة الكبيرة التي فصلت فلسفة الثورة عن الميثاق الوطني الذي صدر في العام 1962 والتي تناهز تسع سنوات رغم قصرها الشديد في عرف التحولات السياسية التي شهدها التاريخ المعاصر، إلا أنها دللت على أن الناصرية لم تولد منهجاً كاملاً، يحوي أطروحات تحدد المسارات السياسية والاقتصادية للمجتمع وترتب بعض الأوضاع المجتمعية، أو تكون على الأقل مصدراً للتشريع على مستوى تلك القطاعات، ولكنها كانت نتاج تجارب خاضتها الثورة من خلال معارك تنموية متلاحقة وغير متباعدة، جاءت بالتراكم على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي كل على حدة، وقد كانت قوانين الإصلاح الزراعي التي تضمنت توزيع الأراضي الزراعية التي شكلت فائضاً بعد صدور قوانين تحديد الملكية الزراعية، هي البداية الواضحة المبكرة لقضية توزيع الثروة الوطنية توزيعاً عادلاً على المصريين، والتوجه نحو الاشتراكية كخيار اقتصادي تعوّل عليه ثورة يوليو في بناء مجتمع عادل يتمتع أفراده بالمساواة، باعتبار أن الصناعة المصرية لم تكن تشهد بنية تحتية مهمة، وكانت صناعة بدائية ولا تشكل إسهاماً مهماً في الاقتصاد المصري المحدود، كما كان حل الأحزاب هو البداية الواضحة المبكرة للتنصل من الليبيرالية الغربية التي شكلت إخفاقات على المستوى السياسي في مصر، اعتبرها المصريون ـ حتى قبل الثورة ـ هي السبب الرئيس في شد مصر إلى الوراء، وإبعادها عن مجريات العصر، وهنا لا بد أن نأخذ في الاعتبار أن الاشتراكية التي سلكها عبد الناصر منهجاً وآليات، كانت بعيدة كل البعد عن الاشتراكية التي كانت سائدة في الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية في ذاك التاريخ، والتي تأسست على بيان ” ماركس وأنجلز ” الشهير وأفكارهما، تحددت قوانينها في فترة لاحقة حيث تمت صياغتها في الميثاق الوطني الذي صدر في العام 1962.

ولقد شهدت مصر بين فلسفة الثورة والميثاق الوطني تحولاًت كبيرة على المستوى السياسي، فبعد حل الأحزاب تم تأسيس هيئة التحرير عام 1953 والتي اعتبرت بديلاً عن الأحزاب السياسية، وكان الدافع الأساسي لتأسيسها هو تعبئة سياسية شاملة خلف قيادة الثورة، تحت دواعي تحرير مصر من الاحتلال القائم على أرضها، وكانت قاعدة هيئة التحرير ـ نظرياً ـ شعب مصر عن بكرة أبيه، وإن كانت من الناحية العملية تعتمد على “كوادر ثورية” تقدمت الصفوف تحت تأثير شعورها بالمسؤولية الوطنية، وكان يربطها بثورة يوليو هدف تاريخي وهو تحرير التراب الوطني، الهدف الذي ألهب مشاعر الجماهير والقوى السياسية ـ من اليمين واليسار على حد سواء ـ التي اندفعت للانتظام في هيئة التحرير.

وفي العام 1956 أعلن الرئيس عبد الناصر نهاية المرحلة الانتقالية وطرح الدستور الجديد للاستفتاء، وتبعاً لدستور 56 فقد ظلت الأحزاب السياسية غير مصرح بها وبدلاً من هيئة التحرير نص الدستور علي تنظيم جديد هو الاتحاد القومي ليكون البوتقة السياسية التي ينخرط فيها الشعب بكل طبقاته.

وفي أكتوبر عام 1962 أصدر عبد الناصر قراراً بتشكيل اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، وصدر القانون الأساسي له في شهر الكانون (ديسمبر) عام 1962، ثم فتح باب الانضمام إلي عضوية التنظيم الجديد في بداية العام 1963، وقد تميّز الاتحاد الاشتراكي العربي عن سابقيه بخاصيتين:

الأولي: هي الضيق النسبي لنطاقه فقد أصبح الاتحاد الاشتراكي تجمعاً لتحالف قوي الشعب العاملة وليس تجمعا للشعب كله.

الثانية: هي الوضع المتميز للعمال والفلاحين في ظله عن طريق ضمان نصف مقاعد التنظيمات الشعبية والسياسية المنتخبة علي كافة المستويات لهاتين الفئتين .
وقد عبر الاتحاد الاشتراكي عن أهداف تلك المرحلة التي تجسدت في فكر واضح تمثل فيما يلي:
1 – سيطرة الدولة علي الاقتصاد الوطني، وإقامة قطاع عام يضطلع بالدور الرئيس في عملية التنمية.
2 – تحقيق الوحدة العربية.
3 – الحل السلمي للصراع الطبقي.
4 – تحقيق الديمقراطية.
5 – الالتزام بالدين والتأكيد علي حرية العقيدة والعبادة.

وهنا ندرك بوضوح شديد أن ثورة يوليو لم تكن تملك عند تفجرها نظرية متكاملة تعمل على تطبيقها، إضافة إلى أنها لم تكن تملك التنظيم الثوري الذي يستطيع أن ينجز المشروع الثوري، وهو ما أكده الرئيس عبد الناصر في الباب الأول من الميثاق الوطني الذي قدمه للمؤتمر القومي العام في العام 1962، حيث يقول في الباب الأول:

إن قوة الإرادة الثورية لدى الشعب المصري تظهر في أبعادها الحقيقية الهائلة، إذا ما ذكرنا أن هذا الشعب البطل بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإن هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثوري.

وإذا أضفنا الصدمة الشديدة التي حاقت بعبد الناصر جراء تأخر الزحف الشعبي الذي كان يتصور أن الثورة تفجره، وقد عبّر عنه في الجزء الأول من فلسفة الثورة بالقول:

( لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة، وإنها لا تنتظر إلا الطليعة تقتحم أمامها السور، فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفاً مقدساً إلى الهدف الكبير …
وكنت أتصور دورنا على دور طليعة فدائيين، وكنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات، ويأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير، بل كان الخيال يشط بي أحيانا فيخيل إلي أني أسمع صليل الصفوف المتراصة وأسمع هدير الوقع الرهيب لزحفها المنظم إلى الهدف الكبير، أسمع هذا كله ويبدو في سمعي من فرط إيماني به حقيقة مادية، وليس مجرد تصورات خيال…ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو.
قامت الطليعة بمهمتها، واقتحمت سور الطاغيان، و خلعت الطاغية، ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير، وطال انتظارها لقد جاءتها جموع ليس لها آخر.. ولكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال ، كانت الجموع التي جاءت أشياعاً متفرقة، وفلولا متناثرة، وتعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير، وبدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر ..وساعتها أحسست وقلبي يملؤه الحزن وتقطر منه المرارة أن مهمة الطليعة لم تنته في هذه الساعة، وإنما من هذه الساعة بدأت.

هنا ندرك بوضوح أن عبد الناصر كان ينحت مشروعه الثوري في الصخر، وكان حملاً ثقيلاً لا يقدره إلا أبطال التاريخ.

 

 

عن admin

شاهد أيضاً

سامي شـــرف وتصحيح تــاريخى هـــام ” تدمير وإغراق الحفار كينتينج “

مـا زال تاريخ مصر القومى ، مسرحا لكل ممثل ومدعى ليروى قصصا تنافس “قصص ألف …

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *