Welcome to



جمال عبد الناصر   


الوحدة العربية

ذكرى الوحدة


عبد السلام عارف كما رايته
عبد السلام عارف كما رأيته - صبحي نانظم توفيق 

فائز البرازي


إعلان بيروت العربي الدولي لدعم المقاومة

 

خالد الناصر

ثـــورة يولــــيو
ثـــورة يولــــيو  

مجلة الوعي العربي

  
ثاني الأثافي: أنور السادات
Posted on 24-9-1428 هـ
Topic: كمال خلف الطويل






ثاني الأثافي: أنور السادات

منذ تفتح وعيه وأنور السادات يسير على هدي منطقين: التمثيل والمغامرة.

كانت رغبته باحتراف التمثيل كبيـرة، وإن لم تساعده الظروف في حينها (أواخر الثلاثينات)، فإنها ظهرت بحرفية فائقة بعد توليه الرئاسة 70 ـ 81.

كان هواه بالمغامرة جليا، وأخذ طريقه للفعل مع بداية الأربعينات حين انخرط مع المخابرات النازية الألمانية في ما عرف بقضية العوامة (الراقصة حكمت فهمي).

بعد اعتقاله حينها من جراء هذا التورط ثم خروجه من الاعتقال مشت معه المغامرة شوطا آخر حينما تعرف على الطبيب يوسف رشاد، الياور البحري للملك فاروق و أحد أهم مستشاريه، و دخل على يديه إلى ما عرف بـ "الحرس الحديدي "الذي أسسه رشاد كتنظيم سري تحت تصرف الملك المباشر يستعمله في تصفية حساباته مع خصومه الداخليين.

لم يغب دور السادات عن أعين عبد الناصر مؤسس تنظيم الضباط الأحرار.

بالمقابل، وبقوة شمه السياسية، أحس السادات أن أوراقه لا يجب لها أن تكون في سلة واحدة غير مأمونة، ومن هنا ومع معرفته بنشوء تنظيم الضباط الأحرار، مد حبال الإتصال معه.

والثابت أن ممانعة قيادة التنظيم كانت شديدة باديء الأمر، إلا أن عبد الناصر، وهو اللاعب البارع في مجال التكتيك، وجد في ذلك العرض ضالته، إذ قدر أن السادات نافذة واسعة على الملك وحرسه الحديدي ودوائر قصره، وأن فائدة تجنيده تفوق ضرره، خصوصا إذا تم توريطه وإذا أحسنت رقابته.

والحاصل أن رهان عبد الناصر كان في محله، فمع أنه بدأ عميلا مزدوجا إلا أنه وبسرعة ملحوظة أصبح بعين واحدة ترى ما عندهم وتغض الطرف عما هو على جانب الضباط الأحرار .

والشاهد أن تخلف أنور السادات عن النهوض بالتكليف المناط به ليلة الإنقلاب، مرفقا بعضويته في الحرس الحديدي، كانتا من أهم أسباب أول تمرد عسكري على الثورة ومن داخل صفوفها عندما هب سلاح المدفعية محتجا على وجوده عضوا في مجلس الثورة، خصوصا وأنه شاع حينها حديث متواتر عن علاقة غير شرعية بينه و بين ناهد رشاد.

حدث ذلك في يناير 53 ، وقمع التمرد في المهد، وبقي السادات عضوا في مجلس الثورة، ولكن بأدنى درجات الفعالية.

المنصب الأول الذي كلف به هو رئيس تحرير جريدة الجمهورية الناطقة الرسمية بلسان الثورة. المنصب الثاني كان سكرتير المؤتمر الإسلامي وهو ذو طبيعة خارجية.

انتهت علاقة السادات بالمنصبين عام 57 عندما عين أمينا عاما للاتحاد القومي، التنظيم السياسي الجديد للثورة ( بعد حل هيئة التحرير ).

منذ نجاح الثورة أضاف السادات لحياته بعدا ثالثا، بعد أن قام ـ و بوعي تحكمي ملحوظ ـ بتنزيل بعدي التمثيل والمناورة درجات، ألا وهو الخمول والدعة والتلهف على الامتيازات.

لذلك لم يبقه عبد الناصر في الاتحاد القومي أبعد من 59، عندما استبدله بالعنصر الحركي كمال الدين حسين الذي كان حينها رئيس الوزراء ـ في الإقليم المصري للوحدة ـ أيضا.

ما بين أيلول 59 و تموز 60 عاش السادات تلك الفترة بلا أي منصب، و شاع حينها أن سبب ذلك غضب عبد الناصر عليه بسبب طلبه مبلغا من المال لقاء أحاديث مع إذاعة صوت العرب.

عند تشكيل مجلس الأمة لعهد الوحدة في صيف 60 عاد السادات إلى الأضواء رئيسا له، ولكن لم يطل العهد بهذا المجلس إلا سنة ونيف حتى حل بفعل الانفصال.

عندها عين أحد أمينين (الثاني كمال الدين حسين) للجنة إعادة تنظيم العمل السياسي، ثم المؤتمر الوطني للقوى الشعبية، وانتهت مدة التكليف في صيف 62.

منذ أوائل الستينات عهدت إلى السادات مهام الاتصال بشيوخ الخليج لسابق تعامله معهم – وأسرهم – خلال سنوات توليه سكرتارية المؤتمر الإسلامي.

عبر تلك القناة أضحى السادات – وفي بنيانه رخص كامن – على جدول رواتب نائب أمير الكويت المنفي عبد الله المبارك وزوجته سعاد الصبّاح – صديقة جيهانه -.

تسرب الخبر بعد فترة قصيرة من انتظام المدفوعات فنهره عبد الناصر ونهاه عن الإستمرار في هكذا علاقة.

خرج الممثل من جحره فادعى إصابته بنوبة قلبية وهو يحضر مؤتمرا برلمانيا في غرب أفريقيا مسترقا بذلك عطف عبد الناصر عليه، فاكتفى بالتقريع والنهي.

ولعل واحدة من عقد السادات المستحكمة هي كرهه لحال الفقر الذي تمكن منه خلال الأربعينات، ورغبته المكتومة بالتعويض عنها: بالطول أم بالعرض.

من هنا ارتماؤه على عتبات عبد الحكيم عامر ولي النعم، وعبد الله المبارك المحسن الكبير، وأخيرا كمال أدهم، المجنّد والمؤهّل والراعي، والذي شقّ طريقه إليه ذات يوم من ربيع 62 - بعيد الإنفصال السوري – طلبا لمعاش ثابت مجزٍ مقابل صفة العميل النائم.

ما كانت تلك أول المعرفة، إذ عمرها سنوات سبع مذ التقيا في شقة فريد الأطرش ذات يوم من عام 55 .

حينها كان كمال أدهم في أول صعوده سلم آل سعود وحواشيهم.

رأس ماله هو أنه أخو عفت زوجة ولي العهد والرجل الثاني فيصل، وأنه اجتاز فلتر كيرمت روزفلت ليضحي مع تولي صهره مقاليد الحكم الفعلية في أكتوبر 62 مدير المخابرات السعودية، بل والمنسق الإقليمي لأعمال وكالة المخابرات المركزية ذاتها.

أتاه السادات يرجو العون المادي وعينه على ما اعتقده بداية إنهيار النظام بانفصال سوريا عن دولة الوحدة.

نجده قد فضّل المجاوزة بين النظام والوكالة – دون علم الأول عن الثانية – كما سبق وفعل في إقران عضوية الحرس الحديدي بتنظيم الضباط الأحرار.

وقع خبر تطوع السادات بالعمالة كشدو البلابل على مسامع كمال أدهم ... الذي وعده بالكتمان ... وبالمال ... وعبر قنوات يصعب الاشتباه بها.

يتساءل المرء: هل لأن التجند في خدمة الوكالة سبق ثورة اليمن بشهور قلائل يمكن عزو مشورة السادات بإسنادها عسكريا إلى فخ أراده الأمريكيون أن ينصب لعبد الناصر فيها؟؟

أستبعد ذلك تماما ... صحيح أن البيضاني – نسيب السادات – كان هو القناة بين الضباط الأحرار في اليمن وعبد الناصر عبر السادات، لكن قرار الإسناد ما كان له أن يصدر وفقط لأن السادات نصح به. هو قرار محتم التوقع في ضوء الرغبة القاطعة بمسح عار الانفصال السوري، وقبل هذا وبعده، هو قرار صائب جيواستراتيجيا يمهد الطريق لتحرير كامل الجزيرة والجنوب من الاستعمارين المباشر وغير المباشر. الأهم ليس القرار ذاته فهو مفروغ منه وإنما طريقة إعماله. هنا أبدع السادات في الشور بأسوأ المشورة – تطوعا من بُعيد لراعيه الجديد – والتي تحولت إلى كارثة مع اقترانها بعجز عبد الحكيم عامر الصارخ عن حسن القيادة.

في سبتمبر 62 ومع تشكيل مجلس الرئاسة، عين عضوا فيه، وكان مع حسن إبراهيم الوحيدين من أعضاء مجلس الثورة القديم اللذين لم يزاوجا العضوية برتبة نائب رئيس الجمهورية، وكان السبب سمعتهما غير الحسنة لجهة السلوك الشخصي، إن كان لجهة المال أو النساء.

في آذار 64 ومع استقالة عبد اللطيف البغدادي و كمال الدين حسين من منصبي نائبي رئيس الجمهورية، عين الاثنين ( السادات و إبراهيم ) محلهما في نيابة الرئاسة، لكن السادات لم يلبث أن غادرها بعدها بأيام ليصبح رئيس مجلس الأمة الجديد مرورا إلى نهاية 68.

كانت سنوات توليه رئاسة مجلس الأمة من مارس 64 إلى نوفمبر 68 ( عمليا ربيع 68 ) حافلة بشلل العمل البرلماني حتى ضمن نطاقه المحدود نسبيا، فميله للخمول و السلبية فرض أحكامه على سير العمل .

في نهاية 65 ومع تصاعد دور الاتحاد الاشتراكي بتولي علي صبري أمانته العامة، التفت أنور السادات إلى تكوين مركز قوة له ـ تحت جناح عبد الحكيم عامر ـ ليوازي به و ينافس اختراق الاتحاد الاشتراكي بتنظيمه الجديد لمجلس الأمة وذلك بتشكيله للمجموعات الإقليمية للمجلس لتكون الهيكل الموازي للجان الاتحاد الاشتراكي في المحافظات.

وهكذا استعر الصراع الصامت بين الرجلين وبين التنظيمين وبرزت أكثر فأكثر ظاهرة اقطاعات القوة والشللية وتصادم مراكز النفوذ ولكن ضمن احترام مرجعية النظام أي عبد الناصر.

دُعي أنور السادات كرئيس لمجلس الأمة ليزور الولايات المتحدة في فبراير 66 في إطار محاولة – كان لها أن تكون الأخيرة – لتحقيق انفراج نسبي في العلاقات المصرية-الأمريكية والتي عصفت بها الأزمات منذ ولوج جونسون إلى البيت الأبيض.

توافقت تلك المحاولة مع تشكيل وزارة زكريا محي الدين في خريف 65 والتي كان واحد من عواملها محاولة تحسين تلك العلاقات بعد أن وصلت مع صيف 65 إلى نقطة الاختناق، حيث شهد ربيع ذلك العام توجيه الإنذار الأمريكي لعبد الناصر بفتح مفاعل انشاء النووي و مصانع الصواريخ للتفتيش الأمريكي مع وقف استيراد السلاح الهجومي وإلا فإن مساعدات القمح ستتوقف.

كان مرافق السادات في تلك الزيارة رجل المخابرات المركزية مايكل ستيرنر (الذي لعب عام 71 دورا في التفاوض مع السادات على الحل السلمي بعد زيارة روجرز).

باختصار باءت تلك الزيارة بالفشل و تسارع تدهور العلاقات المصرية ـ الأمريكية طوال 66 ومرورا إلى 67 حتى وصـلت إلى نقطة اللاعـودة مع نشـوب الحرب.

أقنع السادات عبد الناصر أن يسمح له بزيارة موسكو – بل وكوريا الشمالية – على رأس وفد برلماني في مايو 67 بغرض أن يوازن بها زيارته قبل عام ونيّف لواشنطن وقطعا لدابر كثير كلام حول علاقة له تنمو وتضطرد مع الأخيرة.

فعل هذا – أيضا – بقصد التغطية على فلتات لسان خرجت منه وهو في رحلته الجوالة عبر الولايات المتحدة برفقة مدربه المنعش سترنر وأمام بعض المبعوثين المصريين، ثم ليسمّك قناع التقية إخفاء لمعالم العمالة أخذ يرطن بعبارات يسارية ساعده في تلقنها سكرتير البرلمان الماركسي عبد السلام الزيات وأحيانا أحمد حمروش الضابط الحر/الشيوعي وقبلهما يوسف إدريس عجيبة الأدب المصري وفريد الشيوعيين المصريين.

والحال أن غطاء عامر كان هو حسن السادات الحصين لرد غائلة المشككين سواء بالقدرة أم حتى بالولاء. لم يوفر عامر الغطاء إلا حبا في الحواريين لا عن علم بخفايا النفوس فوطنية الرجل لا تبارى.

بقيت أمامه عقبة كؤود مع ذلك ألا وهي زكريا محي الدين الرجل الثالث في النظام، والذي اختاره عبد الناصر خليفة له عند تنحيه مع الهزيمة.

عاد عبد الناصر عن الاستقالة بعد الهبة الشعبية العارمة التي أصرت على عودته واستمرار قيادته و بالتالي زال شبح زكريا ـ الرئيس الذي كان يرجح ـ دون جزم قاطع ـ استغناؤه عن خدماته ضمن إطار بناء طاقمه الجديد.

لكن زكريا محي الدين بقي لشهور تسعة الرجل الثاني في النظام و السد المانع لطموحاته وبالتالي ما كان عليه إلا الانتظار و هو المتمكن من فضيلته . سارع الحظ بإسعافه في مارس 68 عندما اعتزل زكريا محي الدين السياسة متخليا عن أي طموح له لخلافة عبد الناصر عندما يحين الحين.

حينها أصبح حلبة السباق خالية إلا من موازيه حسين الشافعي الذي احتفظ بمنصب نائب الرئيس في تغييرات ربيع 68 و التي رافقت خروج زكريا و فريقه من السلطة.

في صيف 68 كان ملفتا للنظر أن عبد الناصر لم يصطحب معه من مساعديه الرئيسيين (السادات و الشافعي و علي صبري ) إلا أنور السادات في رحلته الأولى إلى موسكو بعد الهزيمة، مع أن أخصائي العلاقات السوفيتية ـ المصرية كان علي صبري بلا منازع.

هل كان ذلك لأن عبد الناصر أراد تقديمه للسوفييت كاحتمال بديل له إن اشتد عليه المرض؟ لا أعتقد ... خصوصا و أن السادات لم يكن غريبا عن السوفييت، فهو زارهم في 61، و في مايو 67 قبل أسابيع ثلاثة من الهزيمة.

الأرجح أن اختياره توافق مع الحيز الشخصي لتلك الزيارة أي تلقي عبد الناصر للعلاج هناك من تصلب شرايين الساقين، إذ لم يكن أحسن من السادات للترويح عن النفس والتسرية وخلق جو طري.

تكفي الإشارة هنا إلى صورة معبرة في الأهرام في إبريل 68 يظهر فيها عبد الناصر جالسا في مقطورة قطار ذاهب للمنصورة و يجلس حوله حسين الشافعي وعلي صبري بينما أنور السادات واقف يروي نكتة لهم وهو على وشك أن يقع من طوله ضاحكا بينما الجالسون يضحكون معه أو ربما عليه.



نعود هنا قليلا إلى الوراء لنذكر أن عبد الناصر انتقى أنور السادات وهو رئيس لمجلس الأمة في فبراير 66 ليزور الولايات المتحدة بناء على دعوة من رئيس مجلس النواب الأمريكي في إطار محاولة أخيرة لتحقيق انفراج نسبي في العلاقات المصرية ـ الأمريكية خلال عهد الرئيس جونسون بعد أن عصفت بها الأزمات بدءا من 64.

ورغم أن أنور السادات كان لعديد من السنوات امتدادا ـ لا أكثر و لا أقل ـ لعبد الحكيم عامر، إلا أنه ما إن وقعت واقعة 67 حتى تلطى تحت مظلة عبد الناصر قالبا ظهر المجن لعامر ومضحيا به على مذبح انتظار الفرصة التي لاحت تباشيرها بسقوط الأخير.



ينفع هنا تذكر أن مظاهرات الطلبة في فبراير 68 والتي حركتها الأحكام الخفيفة التي صدرت على قيادة الطيران ـ انصب غضبها على مجلس الأمة ورئيسه السادات لفشله بأن يكون جهازا معبرا عن الشعب ورقيبا على أجهزة الدولة.

والطريف أن شهور عامي 68 ـ 69 شهدت تسابقا بين السادات والشافعي على لعب دور الرجل الثاني خصوصا وأن لقب نائب الرئيس اختفى من التداول مع أكتوبر 68 حين تم انتخاب اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي.

جرت تلك الانتخابات في جو من الحرية النسبية تمتعت بها الهيئة الانتخابية وهي اللجنة المركزية.

نال السادات أصواتا أقل بكثير من الشافعي وعلي صبري ولم ينجه من السقوط إلى الهاوية إلا تجيير شعراوي جمعة ـ أمين التنظيم وقتها ـ لعديد من الأصوات لصالحه، لأهداف عدة منها عدم إذلاله وإحراج صورة النظام ككل، ومنها جعله مدينا لرجال عبد الناصر، ومنها الحفاظ على توازن دقيق بين رجال الطبقة الأولى الثلاثة، وربما بإيحاء من عبد الناصر.

رغم ذلك لم يكن لنتيجته الهزيلة في الانتخابات إلا أن تعمل في نفسه نوازع الحقد على كل من الشافعي وعلي صبري وأيضا رجال الصف الثاني.

تولى السادات منصب أمين الشؤون السياسية بالاتحاد الاشتراكي بينما تولى علي صبري أمانة التنظيم، وأمضى سحابة 69 في هذا الإطار إلى أن أصيب عبد الناصر بنوبة الإحتشاء القلبي الأولى في 69/11/9.

حينها شكل عبد الناصر لجنة سداسية لإدارة أمور البلاد برئاسة أنور السادات و عضوية محمد حسنين هيكل و أمين الهويدي وشعراوي جمعة و محمود رياض و سامي شرف ( محمد فوزي أحيانا ) .

خلت اللجنة من علي صبري الذي كان حينها يعاني من آثار انحراف بعض أفراد مكتبه (مشتريات موسكو ) مما اضطره لترك أمانة التنظيم مع بقائه عضوا في اللجنة العليا وخلت من الشافعي الذي كان دوره يزداد ثانوية في تلك الأيام.

لم السادات رئيسا للجنة ؟ لأنه مطواع ولين العريكة ويمشي في الخط العام الذي يديره بكفاءة المعاونين الآخرين أو هكذا بدا.

ما يهم عند هذا المفصل تبيان أنه في أبعد أحلام عبد الناصر لم يكن يخطر بباله أن السادات هو ما كان كامنا وما تجلى بعد غيابه .

زاد بروز السادات في خريف 69 بإيفاده ممثلا لعبد الناصر في مؤتمر القمة الإسلامي في الرباط في تلك الفترة.

كان البروز الأخر هو إيفاده ممثلا لعبد الناصر إلى موسكو للتباحث مع القادة السوفييت على رأس وفد يضم محمود رياض وزير الخارجية ومحمد فوزي وزير الحربية في ديسمبر 69.

في ذلك الوقت كانت سماء مصر في العراء وكان دفاعها الجوي، وقوامه صواريخ سام 2 والمدافع المضادة للطائرات، قد خرج من المعركة بتأثير الهجمات المكثفة والمستمرة للطيران الإسرائيلي على جبهة القنال.

كان علي صبري لا زال في اعتزاله النسبي وعبد الناصر في حال صحية دقيقة تمنعه من السفر فوقع الاختيار على السادات.

أيضا باءت الزيارة بالفشل النسبي، حيث فشل السادات في استحصال صواريخ سام 3 مع طواقمها لإعادة التوازن إلى جبهة القنال .

هنا يأتي المفصل الرئيسي: عاد السادات من رحلته إلى موسكو شبه خائب. بعده بأيام وصل الملك فيصل في زيارة للقاهرة عشية انعقاد مؤتمر القمة العربي في الرباط وفي محاولة لإصلاح ذات البين بين عبد الناصر والأسرة المالكة السعودية.

ثم في 20 / 12/ 69 اتخذ عبد الناصر قراره المصيري بتعيين أنور السادات نائبا وحيدا لرئيس الجمهورية.

ما هي دوافع ذلك القرار ؟ الأرجح تخمينا أن عبد الناصر أراد بذلك التلويح ـ بورقة السادات خليفة ـ للاتحاد السوفيتي عله بذلك يخوفهم من احتمال تحول مصر أمريكيا إن لم يرتفعوا بمستوى دعمهم العسكري لمصر درجات.

السوفييت بطبيعة الحال لم يكونوا مرتاحين لأي من السادات بماضيه النازي و علاقته بالقصر ثم بعامر، أو للشافعي بميوله الدينية القاطعة، وبالتالي فالأفضل عندهم إن غاب عبد الناصر عن الساحة هو علي صبري ، ليس لأنه رجلهم ـ فهو رجل عبد الناصر و النظام أولا و أخرا ـ و إنما لأنه الأقرب لخط عبد الناصر الأساسي.

غرض الابتزاز السياسي والتهديد الخفي هو الأقرب للمنطق خصوصا وأن الانطباع عنه – أي السادات - طوال سنوات مديدة هو أنه البكباشي صح المطواع الخافض الجناح و المستعد للتماشي مع الفريق الحاكم.

لمَ أرجحية هذا الافتراض؟ سياق الأحداث يشي بذلك: إذ بعد شهر من ذلك التعيين قام عبد الناصر بزيارة سرية لموسكو ومعه هيكل وفوزي ورياض، وفيها هدد صراحة القادة السوفييت إن هم لم يستجيبوا لمطالبه القاطعة والجريئة بأنه سيعود ليستقيل أمام الشعب المصري والأمة العربية، مفسحا المجال لرئيس يستطيع التفاهم مع الأمريكان وفض النزاع معهم. من هو هذا الرئيس إن لم يكن نائبه المعين حديثا؟

كانت طلبات عبد الناصر غير مسبوقة فهو يريد الصواريخ الحديثة مع طواقمها إضافة لأسراب طيران سوفيتية وطائرات استطلاع و خلافه.

خضع السوفييت للتهديد وانصاعوا لمطالب عبد الناصر، واخذ الصراع العربي الإسرائيلي طابع استقطاب دولي أكثر حدة.

بقي السادات نائبا للرئيس كورقة ابتزاز مستمرة لأن عملية الدعم السوفيتي المتصاعد كانت تتطلب شهورا مديدة من المتابعة و التثبيت.

في نهاية حزيران 70 تقدمت الولايات المتحدة بمبادرة روجرز لوقف إطلاق النار وبدء المفاوضات تحت إشراف المبعوث الدولي يارنج و في إطار قرار 242 . استلم عبد الناصر المبادرة وهو في زيارة لليبيا، عاد بعدها للقاهرة لأيام، قبل سفره في زيارة مطولة لموسكو صاحبه فيها علي صبري ومعه فوزي ورياض.

خلال توقفه في القاهرة استمزج آراء أعضاء اللجنة العليا حول المبادرة الأمريكية، لكنه لم يبت برأي فيها بانتظار المزيد من المعلومات و التحليل.

والحال أن مفاوضات عبد الناصر مع القادة السوفييت في تموز 70 كانت عسيرة بعض الشيء، إذ كان يصر على يزويده بطائرات توبوليف 22 القاذفة بعيدة المدى، وعلى تجهيزه بصواريخ سكود وطائرات ميج 23 مما أعتبره السوفييت سابقا لأوانه.

في ذلك السياق قرر عبد الناصر، وهو في موسكو وعلى طاولة المفاوضات، قبول المبادرة الأمريكية لتمنحه فرصة لالتقاط الأنفاس وبناء حائط الصواريخ على جبهة القنال بعد أن استطاع تأمين العمق المصري مع قدوم الطواقم السوفييتية السالف ذكرها.

بينما عبد الناصر يفاوض في موسكو و يقبل المبادرة الأمريكية، كان السادات يعلن للملأ من القاهرة رفض مصر لتلك المبادرة ظانا أنه بذلك يرضي عبد الناصر ويحوز على ثنائه.

ترافق ذلك مع الشكوى المرة التي أرسلها ضابط متقاعد أسمه صلاح الموجي عبر ابنة الرئيس هدى وسكرتيره سامي شرف من أن أنور السادات وزوجته جيهان فرضا الحراسة على فيلا يملكها عندما مانع في بيعها لهم و استوليا عليها لتصبح بيتهم الجديد بعد أن غدا نائب الرئيس.

هذان العاملان كان لهما وقع شديد على عبد الناصر بحيث أنه حالما التقى السادات بين مستقبليه في مطار القاهرة عند عودته من موسكو أومأ له بأن يختفي عن أنظاره وأن يقبع في منزله مركونا.

وعندما سؤل عبد الناصر في اجتماع المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي الذي ناقش قبول مبادرة روجرز في 23 يوليو عن السادات فأجاب بأنه مريض و سيعود للعمل بعد تعافيه. هذا عنى أن قرار إبعاده النهائي لم يكن قد اتخذ بعد . أيضا طلب عبد الناصر إيجاد فيلا رسمية لنائب الرئيس ليقيم بها أيا كان شاغله.

ويروي الدكتور مراد غالب السفير في موسكو والمقرب من عبد الناصر أنه طلب منه اصطحاب البغدادي النائب السابق و المبعد ـ أو المبتعد ـ عن السلطة منذ مارس 64 إلى موسكو لتعريفه على القادة السوفييت ضمن عملية إعادة تأهيله و تمهيدا لتعيينه نائبا لرئيس الجمهورية بديلا عن أنور السادات.

خلفية هذا الخبر هو عملية المصالحة التي تمت بين عبد الناصر والبغدادي بعد قطيعة سنوات ست جافية في أيار 70 في حفلة زفاف بنت البغدادي.

من الطريف هنا ذكر أن " الخبر" الذي كان عبد الناصر يتوقعه من إذاعة القاهرة قبل وفاته بساعة هو تعيينه للبغدادي نائبا، وأن فعل فاعل منع ذلك الخبر من الإعلان.

في تقديري أن مسألة البغدادي كلها لا تتماشى مع المنطق فهو كان بعيدا عن أي منصب منتخب في تنظيمات الاتحاد الاشتراكي، وهو شرط لازم لتبوء مناصب قيادية عليا، ثم هو في توجهه العام لم يكن معروف بناصريته، إن كان في الداخل أم نحو الخارج، إلا إذا كان الغرض استبدال السادات المحروق بوجه حسن، ولكن في نفس الإطار ولإدامة عملية التهديد للسوفييت.

يسند هذا الاحتمال أن عبد الناصر، بغياب السادات، لم يكن يشعر أن الشافعي جدير بالخلافة، وأن علي صبري رغم ذكائه وإخلاصه لم يكن صاحب شعبية مرضية.

مضى شهر آب والسادات معتزل إجباريا في قريته ميت أبو الكوم إلى أن استُدعي في منتصف سبتمبر عندما بدأت أزمة الأردن، وليساعد في استقبال الرؤساء والملوك العرب الذين وفدوا للقاهرة حينها لحضور مؤتمر القمة العربي الطارئ الذي دعا له عبد الناصر لحل الأزمة المتصاعدة بين الهاشميين و المقاومة .

ماذا فعل السادات في تلك الأيام الحرجة ؟ كان دوره الظاهر بروتوكوليا أي كجزء من الفريق المعاون لعبد الناصر أثناء المؤتمر.

والملفت أن عبد الناصر أوفد حسين الشافعي مرتين إلى عمان خلال عمليات الحرب الأهلية في الأردن و لم يكن السادات ممثله في تلك المهمة .

المضحك المبكي في أمر السادات أن مجموعة عبد الناصر (علي صبري ورفاقه) إضافة لهيكل و المساعدين المستقلين أمثال محمود فوزي ومحمود رياض وعزيز صدقي إضافة لحبايب السادات أمثال سيد مرعي سارعوا جميعا إلى الالتفاف حول السادات خليفة رغم المعارضة الشديدة لحسين الشافعي من منطلق أنه سهل الانقياد و يمكن السيطرة عليه وتوجيهه لما عهدوه فيه من خصال طوال ثمانية عشر سنة من حكم عبد الناصر. هنا تتجلى نقطة التمثيل في شخصيته.

الراجح أن تخطيط عبد الناصر كان أن يلجأ للعمل المسلح الشامل في موعد أقصاه ربيع 71، بينما جلُّ هم السادات بعد توليه الرئاسة كان أن يبعد ذلك الخيار بل ويستبعده ما وسعه الجهد و الطاقة.

لنا أن نتذكر أن تلك النقطة كانت إحدى أكبر الصخور التي تكسرت عليها علاقته مع مجموعة علي صبري بدءا من شباط 71، و انتهاء بالإطاحة بهم في أيار من نفس العام.

حال توليه الرئاسة فتح السادات قناتين سريتين للاتصال مع الولايات المتحدة: الأولى هي راعيه وسيد نعمته كمال أدهم، والثانية هي عبد المنعم أمين.

الاتفاق كان سريعا على ضرورة توفير أنسب الظروف وأسرعها لتصفية الوجود السوفيتي في مصر كخطوة أولى يليها التحول التدريجي في سياسات النظام الداخلية و تتوج بالطلاق البائن مع نهج عبد الناصر.

أقام السادات في منزله بالجيزة محطة اتصالات سرية مع وكالة المخابرات المركزية و مجلس الأمن القومي الأمريكي و فره لها كمال أدهم ، وتناغم ذلك مع الانفتاح المتسارع على الأسرة المالكة السعودية متوجا ذلك بزيارة الملك فيصل للقاهرة في حزيران 71.

ولكي يكتسب وقتا يحتاجه لإتمام التحولات الجذرية في نهج النظام ، قام السادات بعملية خداع واسعة النطاق للقيادة السوفيتية بإصراره على توقيع معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي بعيد اقتلاعه لمجموعة عبد الناصر من السلطة في أيار 71.

استعمل السادات هذه المعاهدة ـ الأكذوبة تكأة ليتهم السوفييت بالإخلال بمستلزمات المعاهدة والتقصير في إمداد مصر بما تحتاجه من السلاح ليتخذ من ذلك ذريعة للانقضاض عليهم في تموز 72 ، عندما قام فجأة و دون سابق إنذار بطرد الوجود العسكري السوفيتي، و بعد أن أتته كلمة السر من واشنطن عبر الأمير سلطان وزير الدفاع السعودي الذي زاره عائدا من واشنطن أياما قبل القرار.

ترافقت عملية خداع السوفييت باستيزاره وزيرين ماركسيين ( إسماعيل صبري عبد الله و فؤاد مرسي ) في الوزارتين اللتين تلتا ضربه لمجموعة علي صبري.

حال طرد السوفييت تخلص السادات من هذه العناصر و حتى من العناصر الناصرية المتبقية و الصديقة للسوفييت أمثال عزيز صدقي و مراد غالب .

مع دخول عام 73 كان وضع السادات الداخلي في أسوء حال بعد مظاهرات الطلبة في شتائي 72 و 73 احتجاجا على تخاذله أمام إسرائيل و رعبه من قتالها، وفاقم من عزلته مذكرة المثقفين في ربيع 73 و قبلها مذكرة ساسة 23 يوليو المتقاعدين في ربيع 72.

غدا مع ربيع عام 73 في حاجة ماسة لعمل عسكري يحفظ به ماء وجه نظامه و يسخن الوضع في المنطقة تمهيدا للصفقة الكبرى التي ينوي إبرامها مع الولايات المتحدة و إسرائيل.

كل ما يبغيه كان عبور القنال واحتلال شريط ضيق من الأرض شرق القنال بعمق 10 أميال والتوقف عندها ليبدأ التفاوض مع الإسرائيليين وبرعاية الأمريكان وهو في موقف أفضل نسبيا يتيح له تقديم التنازلات الكبرى المطلوبة، إذ كان مستحيلا عليه تنفيذ تعهداته المكتومة وشرف مصر العسكري بل الجيو سياسي في الحضيض.

والأكيد أن ما سمعه حافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومي خلال جولته الأمريكية والأوربية مطلع 73 يشي بالحقيقة القائلة أن عليكم أن تساعدوا أنفسكم.

داخل النظام كان هناك مركز القوة الأساسي الفريق أول محمد صادق وزير الحربية وتتحلق حوله مجموعة من كبار القادة منهم قائد البحرية ومدير المخابرات العسكرية و قائد منطقة القاهرة ونائب وزير الحربية و قبلهم قائد الطيران ( حل محله حسني مبارك في نيسان 72 ) الذين عارض بشدة خيار حرب التحريك المحدودة و اعتبروها نوعا من التهريج العسكري، مطالبين بالتحضير ـ ولو طال ـ لحرب شاملة تكفل تحرير سيناء بكاملها .

وقع الصدام بينه وبينهم في أكتوبر 72 مما أدى إلى عزلهم و استبدالهم بطاقم يشاركه قناعته و ينفذ سياساته و على رأسهم أحمد إسماعيل وزير الحربية الجديد والآتي من رئاسة المخابرات العامة.

يجدر التذكير بأن أحمد إسماعيل كان قد عزله عبد الناصر في أيلول 69 وهو رئيس لأركان الحرب لسوء تصرفه عند قيام القوات الإسرائيلية بغارتها على الزعفرانة في منطقة خليج السويس ومعه قائد البحرية حينها اللواء فؤاد ذكري، الذي أعاده السادات لمنصبه مع رفيق المعاش أحمد إسماعيل.

كان التعيين ذكيا ـ من منطق السادات ـ في أنه سيجعله مدينا بالكامل له ومطيعا لأخر الحدود.

ساعد السادات في عملية إقصائه لصادق ومجموعته وجود الفريق سعد الشاذلي رئيسا لأركان الحرب، والذي كان يعتنق نظرية الحرب المحدودة من وجهة نظر عسكرية صرفة، ولكونه على علاقة غير طيبة بصادق .

كان الإتيان بأحمد إسماعيل كفيل بحفظ توازن القيادة العسكرية في يد السادات ، لكونه و الشاذلي خصمين لدودين منذ أيام خدمتهما معا في الكونغو عام 60 خلال فترة لومومبا.

احتاج السادات خلال تخطيطه لحربه إلى حليف يخوضها معه ، ولم يكن هناك سوى سوريا، ومن هنا فلقد انفق الشهور الأولى من 73 في إقناع حافظ الأسد بمزايا المخاطرة المشتركة، وباعه وهم أن دوره في المعركة هو الوصول لمضائق سيناء، بينما هو في الحقيقة مكتف بشريط آل 10 أميال بكل ما يعنيه ذلك من أن عبء الحرب بعد إنجازه لذلك الهدف سيقع على سوريا.

وقع الأسد في ذلك الفخ، مع العلم أنه هو الأخر كان مضطرا إلى ذلك الخيار حيث شرعية النظام برمتها تتوقف على ما هو فاعل اتجاه احتلال حيز من أرض الوطن تم خلال فترة توليه وزارة الدفاع.

كان للولايات المتحدة حساباتها في تلك المسألة، فهي من جهة لم تكن تمانع في لجوء مصر للسلاح لأنها واثقة بأن إسرائيل قادرة على امتصاص أي ضربة و إجهاضها ، ثم التحرك لتكسير مهاجميها وفق معيار تحدده الولايات المتحدة، فإذا شعرت أن التكسير جاوز حدا معينا و هدد نظام السادات في صلبه أوقفته قبل ذلك الحد مما ييسر له في كل الأحوال ادعاء أنه حاول و قاتل وآن أوان قدومه لطاولة المفاوضات .

لكن ما لم تحسب له الولايات المتحدة حسابا دقيقا هو أن القوات المصرية و السورية مجتمعتين استطاعتا خلال الأيام الخمسة الأولى والمجيدة للحرب من أن تلحق بالقوات الإسرائيلية خسائر أفدح من أي حساب مما أوصل قادة إسرائيل إلى حافة اليأس بل و التفكير في اللجوء للسلاح النووي .

حينها ألقت الولايات المتحدة بثقلها في إسناد إسرائيل بكل ما في ترسانتها من سلاح و بهدف إعادة التوازن المختل و تمكين إسرائيل من اختتام الحرب بعكس البداية التي اتخذتها وبما لا زال يمكّن السادات ـ برغم الإذلال الذي لحق بجيشه ـ من ادعاء بعض نصر يتيح له القدوم لطاولة المفاوضات بقدرة المصمم على عقد الصفقة.

كان يوم 7 نوفمبر 73 يوما حاسما في التاريخ العربي المعاصر .... جلس اثنان بمفردهما في قصر القاهرة: أنور السادات وهنري كيسنجر، وأبرما صفقة العصر: خروج مصر النهائي من عباءة عبد الناصر وانخراطها الكامل والشامل في فلك السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط ـ العالم العربي ـ و أفريقيا.

كل ما تلا ذلك اليوم الحاسم تفاصيل بدءا من اتفاقات فصل القوات ومرورا بإلغاء معاهدة الصداقة مع السوفييت ـ تأييد مصر للاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان في آذار 78، زيارة السادات للقدس في نوفمبر 77، اتفاق كامب ديفيد في أيلول 78، ومعاهدة الصلح في مارس 79، مشاركة مصر في عمليات الكونغو في أيلول 77، مساهمة مصر في العملية الأمريكية الفاشلة في إيران في نيسان 80، سياسات الانفتاح الاقتصادي، مناورات النجم الساطع مع القوات الأمريكية، تواجد قواعد أمريكية على الأراضي المصرية، تغيير العقيدة القتالية والمنظومة التسليحية للجيش المصري، الغارات الجوية على ليبيا في حزيران 77 ووصولا إلى التبعية المطلقة لمقاصد السياسة الأمريكية في العالم أجمع.



حاولت أن أغور بمشارط التشريح في أعماق هذه الشخصية الشديدة الضحالة والتعقيد معا. هو باختصار مصيبة من مقاس غير مسبوق لا تستحقها لا مصر ولا العرب: بهلوان فيه من الرخص والضعة ما يوزع على محيطات.





ثالث الأثافـي: حسـن التهامي



ما من أحد من رجالات يوليو ارتبط اسمه بظلال شائهة كما ارتبط اسم التهامي. هو أحد أعضاء خلية الضباط الأحرار الأولى التي عملت مباشرة مع عبد الناصر وهم – إلى جانبه - عبد الحكيم عامر وخالد محي الدين وكمال حسين وحسن إبراهيم وكمال رفعت.

هو واحد من ثلاثة اشتركوا مع عبد الناصر في محاولة اغتيال رجل الملك في الجيش اللواء حسين سري عامر قائد سلاح الحدود في يناير 52.

عرف بالشجاعة لحد التهور، وبالقدرة على الكتمان والطاعة. ولأجل الخصلتين الأخيرتين فقد اختير ليكون ضابط الاتصال "التنفيذي – العملياني" مع محطة المخابرات المركزية بالقاهرة بعد نجاح انقلاب يوليو.

والحق أن نظرة طائر فوق العلاقات السرية لضباط يوليو مع ممثلي الولايات المتحدة بالقاهرة بعد نجاح انقلابهم تغدو الآن على قدر حيوي من الأهمية بما يرفع عنها غشاوة التضليل والتشويه ولوي عنق الحقائق.

كان ملف مصر في وكالة المخابرات المركزية تحت إشراف كيرميت روزفلت مسؤول منطقة الشرق الأوسط يعاونه في القاهرة جيم إيغلبرغر ومايلز كوبلاند وبيل ليكلاند كملحقين مدنيين في السفارة ودافيد إيفانز الملحق الجوي.

من معاونيهم العرب - مصريين وغير مصريين - كان اثنان على قدر من الأهمية ملحوظ هما: ناصر النشاشيبي ومصطفى أمين.

هرع روزفلت للقاهرة بعد حريقها الشهير ليدرس على الأرض ما جرى ويقيّم احتمالات المستقبل. خرج بنتيجة أن خيار الملك لا زال هو الأفضل خصوصا مع إقناعه بتصحيح سلوكه الشخصي، لكن التفتيش عن خيار مواز و/أو مكمل يبدو عملا صائبا فيما لو بلغ الخيار الأول مداه بغير نجاح.

لم تكن مصادر المعلومات الأمريكية في القاهرة تعرف شيئا عن تنظيم الضباط الأحرار لكنها كانت تحس أن هناك تفاعلات مكتومة تدور في أحشاء الجيش عبرت عن نفسها في انتخابات نادي الضباط في ديسمبر 51. ولا شك أن هذه المصادر حاولت أن تتابع إيقاع الذين فازوا في الانتخابات ولكن من دون أن تصل إلى يقين بأن هناك تنظيما يوشك أن يتحرك وأن بعض هؤلاء هم من أعمدة التنظيم.

مع قدوم يوليو 52 كانت المعلومات عن التنظيم قد بدأت تتكاثر في جعبة رجال الملك، وبالأخص مرتضى المرعي وزير الداخلية وأحيانا الحربية – والمستنسب من قبل الملك لدور رئيس الوزراء بعد حين –، وإن لم تكن قد اكتملت بالتمام والكمال.

عند يوم 18 يوليو ومع حل الملك مجلس نادي الضباط المنتخب أحس عبد الناصر ورفاقه الثمانية في اللجنة التأسيسية للتنظيم أن ما تسرب عنهم أكثر مما يمكن قبوله، وأن مصيرهم – إن لم يتحركوا وللتو – في خطر مهلك، وأن الأثوب ألف مرة هو التحرك والآن فاحتمالات النجاح والفشل متساوية، بينما يصل الأخير إلى 100% في حال القبوع المنتظر.

مع يوم 20 يوليو اتخذ القرار بالتحرك في اليوم التالي، ثم أجل لمساء اليوم الذي يليه أي 22 يوليو.

ليلة 21/22 يوليو توجه كمال الدين حسين عضو اللجنة التأسيسية لتنظيم الضباط الأحرار عن سلاح المدفعية إلى ضابط عظيم السلاح ذينيك اليومين، ومن داع الحاجة الماسة لدور له، وهو المقدم عبد المنعم أمين من فرع الدفاع الجوي.

والثابت أن الأخير كان أحد المؤمنين "عقائديا" بالولايات المتحدة، وعرف بعلاقاته الاجتماعية الواسعة بالرعايا الأجانب، وبالذات الأمريكيين، عبر نادي السيارات، تشاركه في ذلك زوجته "الاجتماعية" محاسن سعودي.

صارح كمال متقدمه عبد المنعم بما هو ورفاقه مقبلون عليه في تلك الساعات المشحونة بالتوتر والقلق، حاثا إياه على الانضمام إليهم في الاستيلاء على سلطة القرار في القوات المسلحة سبيلا إلى إقالة مصر من عثرتها.

ربما كان كمال يتوقع إيجابية الرد، خصوصا وأن عبد المنعم عرف بسخطه على حالة التردي التي وصلتها البلاد.

لم يخطئ رهان كمال إذ وجد عبد المنعم على أهبة الاستعداد متطوعا ليلقي بثقله كله معهم. والحال أن خيار عبد المنعم كان بين التبليغ والاشتراك فاختار الثاني، وبقناعة أنه بذلك يسهم في جهد يستطيع عبره أن يلعب دور صلة وصل بين التنظيم وبين الولايات المتحدة وهو المؤمن شكلا وموضوعا بها سياسات وطريقة حياة. باختصار، كان هو مقتنعا بأن الملك أضحى عبئا على البلاد ولا يحتاج إلى سوى "كش"، ومن ثم فالطريق مفتوح أمام تغيير لما يراه الأفضل لمصر ولحليف مرغوب هو الولايات المتحدة.

وفعلا كان للرجل دور ملحوظ ليلة 22/23 يوليو في تأمين اشتراك سلاحه بالانقلاب ونصرته له، مما جعل اللجنة التأسيسية تكافئه بعد أسابيع ثلاث باستنسابه لعضوية مجلس قيادة الثورة.

نلحظ هنا أيضا أنه كان من كلف صبيحة 23 يوليو بالاتصال بالسفارة البريطانية لإخطارها بما جرى وبأن العملية لا تستهدف الأجانب ومصالحهم.

والحال أن هكذا تكليف ما كان ليتم لولا أنه كان معروفا لأوساط هذه السفارة بما يكفل ارتياحهم للاستماع إليه.

هنا يمكن القول أن عبد المنعم أمين لم يبح للسفارة الأمريكية بمعلومات عن الإنقلاب طيلة اليومين الأخيرين قبل التحرك، لأنه لو فعل لكان ذلك كفيلا بأن تصل المعلومات عبرها للملك – ومن ثم التصفية.



والأكيد أن دور عبد المنعم أمين تضافر مع دور حيوي آخر لعبه المقدم علي صبري مدير المخابرات الجوية وأحد الضباط الأحرار.

والثابت أن طبيعة منصب علي صبري تطلبت علاقات وظيفية مع الملحقين العسكريين الأجانب، لكن دافيـد إيفانز الملحق الجوي الأمـريكي كان أكثر من متعامل ..

كان صديقا مقربا لضابط ألمعي من أشهر الأسر التركية – المتمصرة - والذي كان أيضا يؤمن بمصير أفضل لمصر في إطار علاقة وثقى مع الولايات المتحدة، وهو الذي درس فيها وتلقى علوم المخابرات العسكرية.

من هنا اختياره الذكي ليكون رسول الإنقلاب إلى دافيد إيفانز ذاته صبيحة الإنقلاب منبئا وساعيا للتفهم ومن ثم التعاون.

كفل هذا الدور الأولي أن يعين علي صبري في ديسمبر 52 رئيسا للوفد العسكري الموفد لواشنطن سعيا لصفقة سلاح ظن ضباط يوليو أن وليم فوستر نائب وزير الدفاع قد وعدهم خيرا بها عندما زارهم في نوفمبر المنقضي.

قبع علي صبري أسابيع طويلة في واشنطن وهو يعدو إلى البنتاغون جيئة ورواحا مستعملا كل حجج الإقناع الممكنة من دون فائدة تذكر.

كان الجواب الأخير، بعد طول انتظار، أننا يمكن أن نرسل لكم سلاحا لأغراض الأمن الداخلي لكن تسليحا للجيش غير وارد قبل أن تعقدوا صلحا مع إسرائيل وقبل حل مشكلاتكم مع البريطانيين في القنال، ومن ثم إنضواؤكم في ترتيبات أمن إقليمي أمام بطن الاتحاد السوفياتي الرخو.

يمكن القول بيقين أن تلك التجربة المرة كانت المدماك الذي رست عليه تحولات علي صبري، المعرفية والفكرية والسياسية، من مشروع حليف لواشنطن إلى عدو ضروس لمقاصد سياساتها في المنطقة، ولأن يصبح رأسه ثمن رضا واشنطن عن أنور السادات في مايو 71، عندما اشترطت إقالته من نيابة رئيس الجمهورية عربونا لمحاولتها التوسط "لحل سلمي" للاحتلال الإسرائيليي لأراضي 67.

منذ عودته الخائبة توقف علي صبري عن أن يكون قناة اتصال مع رجالات واشنطن في القاهرة، لكن صداقته مع إيفانز استمرت ومن هنا لقاؤهما في القاهرة في جنازة عبد الناصر.

مع بدايات 53 توقفت قناة عبد المنعم أمين مع الأمريكان – والتي كانت الأنشط بين أغسطس 52 ويناير 53 – عن العمل لسبب بسيط وهو أن الرجل أُقيل من مجلس قيادة الثورة في فبراير 53 ونفي سفيرا في هولندا على خلفية تمرد سلاح المدفعية قبلها بشهر، وهو السلاح الذي أجمع ضباطه على كراهية تمثيله لهم في مجلس القيادة بسبب سوء سمعته في الشارع، إذ كانت زوجته تتباهى بأنها صاحبة نفوذ لا يضاهى، فالجيش والبوليس طوع بنانها كما اشتهر عنها تردادها القول.

باستنكاف علي صبري وبإبعاد عبد المنعم أمين، برز للصدارة دوري مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل .. ولكل ملابساته وأسبابه.

مصطفى أمين كان ربيب الأمريكان منذ عام 1944 عندما مول جهاز الخدمة السرية الأمريكية (الأب الشرعي لوكالة المخابرات المركزية فيما بعد) تأسيس دار أخبار اليوم لتكون المسوق الإعلامي للسياسات الأمريكية في المنطقة غداة الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك فقد اختار الأخوين أمين أن يبقوا على قناة مباشرة مع جهاز الخدمة السرية البريطاني عبر علي أمين في عملية توزيع أدوار استمرت لعقود ثلاث.

والراجح أن دور مصطفى أمين الأمريكي لم يكن خافيا على ضباط يوليو كما الحال مع قربه – وتوأمه – الشديد من القصر.

على خلفية هذه المعرفة تم اعتقال مصطفى أمين غداة 23 يوليو في عملية تأمين وتحذير في آن. ولعل هذه المعرفة بخيوط الرجل هي التي رشحته منذ عام 53 ليكون أحد قوات الاتصال السرية وإن بقدر من الحذر مستدام إذ غلب الشك في أنه ذو هوى أمريكي قد يودي به إلى أن يغدو عميلا مزدوجا ... ولكن في أسوأ الأحوال.

تلقى الأخوين أمين تحذيرا مبطنا – وإن واضحا – بنقلهما من دار أخبار اليوم التي أسسا إلى دار الهلال عام 61، ثم توقف عبد الناصر عن لقائه بالمرة عام 63، ولم يعد يكلف بمهام اتصال.

لكنه استمر في الاتصال مع من اعتاد لأكثر من سنوات عشر الاتصال بهم وبما غيَّر طبيعته – أي الاتصال - من تكليف إلى تخابر، ومن هنا وقوعه المدوي متهما – وبحق – بالعمالة للمخابرات الأمريكية ... في يوليو 65.

وكم الفرق هائل، بل ومهول، بين دور مصطفى هذا ودور محمد حسنين هيكل في مجال العلاقات المصرية – الأمريكية.

هيكل وفي عمر العشرين كان يغطي مسارح عدة لمعارك الحرب العالمية الثانية ثم معارك الحرب الباردة في اليونان وإيران ثم حرب فلسطين. عبرها كلها تعرف على العديد من الصحفيين والدبلوماسيين الأمريكيين بمن فيهم الذين عرفهم في مصر بعد أن عاد للاستقرار فيها عام 49.

إذن ومنذ نقطة البداية كان هيكل مصدر معلومات لعبد الناصر عن الأمريكان شديد الثراء والوفرة. ثم هو متمرس في هذه الأواصر والعلاقات لما يقرب من سنوات عشر كفلت فهمه الوافي لطبائعهم ومراميهم وسبل مقاربتهم.

والأهم من ذلك كله هو ماهية الإجابة عن سؤال مركزي: لمن الولاء؟

في حالة هيكل ومنذ أن ترسخت علاقة هيكل بعبد الناصر - غداة يوليو مباشرة - كان الولاء قاطعا وحاسما: لعبد الناصر ... ولا لأحد سواه.

وفر هذا اليقين ارتياحا كبيرا لعبد الناصر جعله – أي هيكل - رسولا أمينا بل ومحاورا لا يشق له غبار مع مقابليه الأمريكيين بدءا من أول كيرميت روزفلت ووصولا إلى دونالد بيرجس مرورا بقافلة من الأسماء عسيرة على الإحصاء.

لكن دور هيكل لم يكن يغني عن الحاجة لقناة عمليانية – وليس فقط حوارية ومعلوماتية –.

حينها كان زكريا محي الدين قد كلف بالإشراف على جهاز المخابرات الحربية، والذي ضم إليه العديد من الضباط الأحرار من بينهم حسن التهامي.

نُسّب الأخير لمهمة ضابط الاتصال التنفيذي مع محطة الوكالة واستمر في مزاولته عندما انتقل – مع الكثيرين من الضباط الأحرار وأصدقائهم – إلى جهاز المخابرات العامة الوليد والذي أسسه ورئسه زكريا محي الدين عام 1953.

بقي التهامي في مهمته هذه، وعبرها أشرف على تأسيس برج القاهرة ليكون في أدواره العليا برج اتصالات قادرة على التجسس المناطقي وعلى اكتشاف التجسس المضاد.

بني هذا البرج من منحة الـ 3 مليون دولار والتي قدمتها وكالة المخابرات المركزية عام 53 للواء محمد نجيب رئيس الجمهورية للإنفاق على تأسيس حرس رئاسي له.

قبلها مجلس القيادة، وإن حوّلها للإنفاق على البرج، من باب أن شعرة من الخنزير مكسب .. ولكن بطريقتنا.

قبع التهامي في مكتب داخل الأدوار السفلية للبرج، فيما تستمر أعمال التشييد في الأعالي، وكان بين قلة من ضباط الجهاز العالي الرتبة الذين بقوا داخله بعد تولي صلاح نصر رئاسة الجهاز في مايو 57، بينما كان العديد ممن عملوا تحت رئاسة زكريا محي الدين 53-56 ورئاسة علي صبري 56-57 قد غادروه إلى مواقع مدنية أخرى سواء في السلك الدبلوماسي أو هياكل الحكم المحلي.

والبادي أن استبقاءه كان بسبب تمرسه لسنوات ست في عملية الاتصال. لكن الحاصل – بالمقابل – أن التمرس قاد إلى التجند، ومن هنا أوجه الشبه بين التهامي ومصطفى أمين، إذ أن الأول سبق الثاني بسبع سنوات في اختراق حاجز الولاء غير المرئي.

في مايو 58 وبينما عبد الناصر – وبصحبته البغدادي وكمال حسين - في موسكو منيبا عبد الحكيم عامر بصلاحيات رئيس الجمهورية، تم اكتشاف تنصت حسن التهامي – من برجه – على مكالمات عامر.

جنّ جنون الأخير وطلب من عبد الناصر السماح باعتقاله ومحاكمته. قدّر عبد الناصر أن ذلك سيساء فهمه كثيرا في واشنطن وسيعتبر جائزة للسوفيات الذين يزورهم وقتها.

كان قراره هو استتابة التهامي وعزله من المخابرات وإبعاده ... سفيرا في النمسا.

من هذه النقطة بالذات يبدأ لغز التهامي.

لمَ كان عبد الناصر دوما يبعّده ويقرّبه دون أن يخرجه من جنته بالمرة؟؟

لنتابع سيرة التهامي تبينا للمسألة:

قضى التهامي ما بين 58-68 متنقلا كسفير بين النمسا واليابان. يمكن اعتبار هذه الفترة نفيا مؤدبا عقوبة له على خرق حاجز الثقة غير المرئي كما أسلفنا الذكر.

فجأة وفي أبريل 68 وبينما عبد الناصر يئن تحت وطأة هزيمة 67، والتي خطط لها وأمر بإلحاقها به ليندون جونسون مكلفا إسرائيل بتلك المهمة الكبرى، .. وفيما هو يتنحنح ليعيد استجماع قواه والتقاط أنفاسه، نجده يستدعي التهامي من فيينا ويلحقه بجهاز رئاسة الجمهورية مستشارا له.

لمـاذا؟ ... ليس عندي من جواب سوى تقدير أن عبد الناصر، وهو يجد كل الأبواب مسدودة وكل النوافذ مغلقة أمامه على المقلب الأمريكي، أراد شخصية تستطيع أن تفتح له طاقة أو منفذا في وقت كان فيه الاتحاد السوفياتي قد أصبح القوة العظمى الوحيدة المساندة .. ومن أفضل من التهامي، الصديق الصدوق لرجالات الوكالة، بلدوزرا يشق قناة التواصل الخلفية؟

تلك الفترة حرص عبد الناصر على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع بريطانيا بعد زيارة جورج براون وزير الخارجية البريطانية له وحرص أكثر على توطيد العلائق مع فرنسا ديغول معينا حافظ إسماعيل – المشهود له بالكفاءة – سفيرا له فيها.

لبث التهامي في قصر الرئاسة بلا واضح دور أو مهمة سنة ونصف السنة إلى أن ظهر فجأة للعيان مرة أخرى في 22 سبتمبر 69 مديرا عاما للاتحاد الاشتراكي في ذات الوقت الذي عزل فيه علي صبري عن أمانة التنظيم فيه عقابا على فساد مدير مكتبه مصطفى ناجي.

الرسالة كانت واضحة: رجل اليسار يُضعَف ورجل اليمين يُبرَز خصوصا والأخير قد عزز بتعيين أنور السادات - خدينه القديم - مشرفا على دار أخبار اليوم بعد عزل محمود أمين العالم الشيوعي عن رئاستها بالتزامن مع قصة علي صبري.

نقف عند هذه النقطة لنسترجع العلاقة القديمة بين السادات والتهامي: في تطبيقه لمفهوم الدائرة الإسلامية إحدى الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية.. أسس عبد الناصر عام 54 المؤتمر الإسلامي واستنسب له السادات أمينا وأرفق به التهامي مساعدا.

في وجه من الأوجه كان المؤتمر الإسلامي ردا منظما من عبد الناصر على نفوذ التنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ثم الحاجة إلى رجل مخابرات، تحت عنوان مساعد الأمين، .. أي التهامي.

بعد نفي التهامي إلى فيينا توقف عمله في المؤتمر الإسلامي، وهو من ذوى وضمر بعد أن استبدل بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.

لكن السنوات الأربع 54-58 أمنت علاقة وثقى بين السادات والتهامي لاذت بالكمون – بعد ابتعاد التهامي – ولكن سارعت باستعادة الحيوية والنضارة بعد استدعائه المعيد للكرامة.

والحال أن أواخر الستينات وبالتحديد بعد الهزيمة شهدت كلا الشخصين وهما في جدول خدمة وكالة المخابرات المركزية.

في أبريل 70 رفع التهامي إلى وزير دولة مكلفا بشؤون القصر الجمهوري وتوازى هذا الترفيع مع ترفيع سامي شرف إلى وزير دولة مكلفا بشؤون المعلومات موازنا له في إطار عملية التوازن.



ماذا فعل السادات والتهامي بعبد الناصر عام 70؟

للمرة الأولى منذ بدء حرب الاستنزاف في مارس 69 يصدر الإذن الأمريكي لإسرائيل بقصف العمق المصري بضراوة (كانت هناك سابقة مفردة في أكتوبر 68 في غارة نجع حمادي) وبهدف تأليب الشعب على عبد الناصر سبيلا لإسقاطه عبر تذمر يقود لتمرد.

حينها عجت الصحافة الغربية بعديد من مقالات الحرب النفسية التي تتوقع وصول إسرائيل لحد الإقدام على الإغارة على منزل عبد الناصر بغرض اختطافه أو قتله.

هذا السعار الدموي أنبأ أن عام 70 سيكون عاما حاسما في تقرير مصير عبد الناصر، وأن واشنطن ستذهب للنهاية في طلب اصطياده بالهزيمة أو حتى بالقتل.

فهم الرسالة فرد بأحسن منها ذاهبا إلى موسكو ملوحا لأقطابها بورقة استقالته واستخلاف من يسلم مصر للولايات المتحدة أي .. نائبه المعين حديثا أنور السادات.

خضع السوفيات لعملية الاستثارة، فقرروا – ولأول مرة – الانتشار بقواتهم خارج حدود حلف وارسو مرسلين 8000 عسكري للخدمة في مصر في أسلحة الدفاع الجوي والطيران.

إن كان لهذه الخطوة من مفعول عند واشنطن فهو أن نيكسون عقد العزم على قتل جمال عبد الناصر.

صدر القرار في ربيع 70. ولكي تجري عملية خداع استراتيجي مموِّهة أوفد جوزف سيسكو وكيل الخارجية الأمريكية لزيارة الرجل متوسلا أن يفتح مع واشنطن صحفة جديدة فهي لا تريد به شرا بل جاهزة لعرض خدمات الوسيط النزيه لحل معضلة الصراع العربي-الإسرائيلي.

ردّ عبد الناصر المناورة بمثلها عندما خاطب نيكسون مباشرة في 1 مايو 70 طالبا منه إما أن يأمر إسرائيل بالانسحاب من أراضي 67 أو أن يجعل من الولايات المتحدة عدوا مباشرا للعرب إن رفض.

ولكي تكتمل عملية التنييم ردّ نيكسون بتقديم مبادرة وساطة عبر وزير خارجيته روجرز تتضمن وقفا مؤقتا لإطلاق النار.

لكن يوليو حمل لهم، بالإضافة إلى رد عبد الناصر المسّر بقبول المبادرة، نبأ مقلقا بأنه طلب من نائبه السادات البقاء في منزله والتوقف عن العمل بانتظار التحقيق بمسألة استيلائه غير الشرعي بالحراسة على فيلا اللواء المتقاعد صلاح الموجي أثناء غياب عبد الناصر في زيارته الطويلة لموسكو.

منشأ القلق هو أن عميلها النائم الأول السادات وعميلها النائم الثاني التهامي كنزان لا يصح التفريط بأحدهما أو كليهما، وبالتالي فطالما اقتربت شباك الإطاحة من السادات أصبح لا مناص من تفعيلهما على أسرع وجه للقيام بمهمة قتل جمال عبد الناصر.

من جانبه، ولحسابات عنده، فضل عبد الناصر تأجيل التخلص من السادات نائبا لحين استنضاج دعم سوفياتي لا محدود في مجال السلاح وهو أمر لم يكن قد اكتمل، وإن قرب من مستويات واعدة.

من هنا تكليفه علي صبري بزيارة موسكو كل شهرين كقناة تنسيق على أعلى مستوى مدشنا بذلك عودته لدور المشرف على ملف العلاقات السوفياتية – المصرية، كما كان قبل عقوبته في سبتمبر 69 الآنفة الذكر.

سبق هذا التكليف إعادة تأهيل من شعبتين تمت في أبريل 70:

الأولى منح علي صبري رتبة الفريق أول فخري وتعيينه مساعدا لرئيس الجمهورية لشؤون الطيران والدفاع الجوي مشرفا على قائدي السلاحين.

والثانية تعيينه أمينا للشؤون الخارجية في الاتحاد الإشتراكي ترضية له على عقوبة سبتمبر الفائت، وموازنة لنيابة السادات وربما – من يدري – على طريق إبداله به بعد تلميع شعبي يلزمه وكثيرا.

إذن صعود علي صبري منذ الربيع وهبوط أنور السادات منذ الصيف عجل في تنفيذ عملية التخلص من عبد الناصر بكل السبل حتى منها القتل.

لم تخفف إعادة السادات من إقامة المنزل إلى مزاولة العمل من قرار واشنطن بل سرعت منه حتى تضمن تنفيذه وإنفاذه قبل أن يحل به - السادات - غضب لاحق يجعل من الوصول الآمن لعبد الناصر مسألة أكثر من عسيرة.

اشترك في العملية أشخاص أربع هم: كمال أدهم مدير المخابرات السعودية، ومدير محطة وكالة المخابرات المركزية بجدة ... شرق السويس، وأنور السادات وحسن التهامي ... غربها.

ولأن القتل يجب أن يكون ضمن دراما كبيرة في المنطقة، فلقد استقر القرار على أن يتم في إطار الحملة الهاشمية المقبلة على المقاومة الفلسطينية في الأردن والمخطط لها أن تتم في سبتمبر.

سلم مندوب الوكالة أحدث سموم الوكالة إلى التهامي مكلفا إياه باستعماله في اليوم الذي يحدد له في غضون ذات الشهر .. سبتمبر.

وفي نهار 27 سبتمبر أُمر التهامي بالتنفيذ. هنا تختلف الروايات: هل وضع السادات السم بنفسه لعبد الناصر في طعامه – وهو الذي كان يشرف عليه - في الهيلتون ... مقر إقامة الجميع المؤقتة أثناء أحداث الأردن وانعقاد القمة العربية الطارئة فيه؟

أم أنه دسّ له عبر التهامي في كوب الشاي الذي تناوله أثناء الاحتفال بتوقيع اتفاق القاهرة مساء ذلك اليوم؟ أم أنه دسّ له في كأس البرتقال الذي ربما تناوله في المطار أثناء توديع صباح السالم في الثالثة عصرا من يوم الوفاة؟

ليس من يقين بعد، إنما الشبهات تحوم وبكثافة فوق هذين الشخصين العميلين لوكالة المخابرات المركزية في أنهما اشتركا في التخطيط وقاما بالتنفيذ لأكبر جريمة سياسية، لا زالت مسربلة بالغموض الرهيب، جرت في العصر الحديث، ولم يزل القرار غير مستقر عليها بأنها جريمة.

ساعد في إسدال أستار الغموض حول الجريمة أن إصابة عبد الناصر باحتشاء قلبي قبل عام واحد من وفاته وفرت مناخا مصدقا وقابلا لترجيح احتمال الوفاة الطبيعية.

وأمَّن عدم إمكان برهانها أن أي تشريح للجثة حينها لم يكن لها أن يثبت شيئا أمام أحدث السموم الغير قابلة للإكتشاف مخبريا، وفي وقت لم تكن فيه تحاليل الحمض النووي قد عرفت بعد.

ساعد في الحيلة والتحايل اتخاذ التهامي لبوس التقي الورع والذي عندما يستبد به الوجد يلقي السلام على سيدنا الخضر، إذ يراه ولا يراه سواه. كان عبد الناصر يظنه قد دخل في التدروش عندما أطلق للحيته العنان فنبهه ليشذبها وإلا فسيقصها له بمقص الجنائن.

ساعد هذا السلوك – الذي واصله التهامي للآن وربما للقبر – في استخفاف المحيطين به مقللين من شأنه بينما هو صاحب أخطر الأدوار في حياة مصر والعرب، أهمها قتل جمال عبد الناصر، ومن أهمها الصلح المنفرد مع إسرائيل عبر التمهيد لزيارة السادات للقدس عام 77، ومنها أنه عراب التواطؤ الفيصلي – الساداتي أوائل السبعينات، ومن أشرسها أنه أكبر المشوهين لسيرة عبد الناصر بعد مماته مؤديا واحدا من أهم التكليفات التي عهدتها إليه الوكالة ضمن قافلة من المكلّفين فاقت في طولها قامة الرجل ذاته.

عاش التهامي حياته على "دين" الوكالة وسيموت على ذات "الدين" عميلا من الطراز الأول، خدع الكثيرين وأثار اشمئزاز المعظم، لكنه لم يبدِّل ولم يتبدل، مزاولا أعمال الخيانة بطريقته الفريدة والتي لن ينال عليها بركات الخضر –.

والله أعلم!



في حياة الأبطال صنّاع الحوادث الكبرى في التاريخ أعوان يقبعون في سويداء بنيان أنظمتهم، ويضحون – بالعجز أم بالخيانة – معول الهدم والبلاء، وبالا على قائدهم وثورته وشعبه وأمته وعالمه.

دون تلك الأثافي، كان يمكن لعبد الناصر – الذي اعتبره أندريه مالرو أحد خمس صناع للقرار العالمي عام 1965 – أن يصل بالأمة إلى حيث الآن مقام الصين ... ولكن هيهات.

الدكتور كمال خلف الطويل


 
روابط ذات صلة
· زيادة حول كمال خلف الطويل
· الأخبار بواسطة admin


أكثر مقال قراءة عن كمال خلف الطويل:
ثاني الأثافي: أنور السادات


تقييم المقال
المعدل: 4.37
تصويتات: 8


الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة



Re: ثاني الأثافي: أنور السادات (التقييم: 1)
بواسطة holible في 16-1-1432 هـ
(معلومات المستخدم | أرسل رسالة)
???

أقرأ باقي التعليق...



PHP-Nuke Copyright © 2005 by Francisco Burzi. This is free software, and you may redistribute it under the GPL. PHP-Nuke comes with absolutely no warranty, for details, see the license.
انشاء الصفحة: 0.24 ثانية