 محمد حسنين هيكل
عبد الناصر والعالم مقدمة
بقلم محمد حسنين هيكل
وراء هذا الكتاب قصة تعود إلى سنة 1957
في بداية تلك السنة اللاحقة مباشرة لحرب السويس كان اسم جمال عبد الناصر يدوى فى آفاق الدنيا ، ولم يكن رمز الحركة الوطنية المصرية والقومية العربية فحسب ، ولكنه كان أيضا رمز حركة التحرير الوطنى التى كانت رياحها وعواصفها تتجمع لتهب على كل القارات المتطلعة لغد جديد : آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
فى ذلك الوقت تلقيت أول عرض عالمى بأن أكتب قصة " عبد الناصر والسويس " : لكنى ترددت لأن الحوادث كانت ساخنة وملتهبة ، كما أننى كنت مستغرقا بالكامل في ملاحقة فترة التحولات السياسية والاجتماعية والدولية التى كانت تهز المنطقة العربية وما حولها هزا لسنوات طويلة مازالت معنا حتى هذه اللحظات .
وخلال هذه الفترة لم تتوقف محاولات إقناعى بأن أكتب شيئآ آخر - غير المقالات الأسبوعية- يمكن أن تضمه دفتى كتاب ، ثم يحمله رف مكتبة يبقى عليها لعمر أطول - قليلا- من عمر جريدة سيارة يقرؤها الناس فى الصباح ثم ينسونها في المساء !
ولم يكن لدي الوقت . وربما لم تكن لدى الأعصاب لأننى كنت وما زلت أعتقد أن الكتاب مسئولية خاصة، تقتضى توفر استعداد آخر لم أكن واثقا أنني أملكه .
وظلت الفكرة تجيء وتروح على هذا النحو سنوات ...
حتى 28 سبتمبر 1970.
وبعد رحيل جمال عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970 وجدت نفسى تحت ضغوط شديدة لكى أكتب عنه ، وكانت الاقتراحات تقدم نفسها إلى وكأنها دعوة إلى واجب لايحق لى أن أتحلل منه أو أتأخر عنه.
وفي تلك الأيام لم أكن- من ناحية نفسية بحتة- على استعداد، وحاولت أن أقنع كثيرين بأنه قد يكون من الأنسب أن أترك هذه المهمة لغيرى على أن أضع تحت تصرفه ما يكون لدى من حقائق ووثاثق احتفظت بها في ذاكرتي أو على الورق في الفترة ما بين يوم 18 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 وهى فترة كان لى فيها الحظ والشرف بملازمة جمال عبد الناصر والحياة بالقرب منه ومتابعته على المسرح ووراء كواليسه بغير انقطاع . وكانت إلى جانب ذلك سنوات حوار لم يتوقف معه فى كل مكان وفي كل شىء.
ولكنى أحسست أن ما حاولت أن أقنع به كثيرين لم يكن مقنعا حتى لى، فإن بعضا من الذين راحوا يكتبون عن جمال عبد الناصر كانوا يأخذون ما أضعه تحت تصرفهم من الوقائع ثم يتصرفون فيه كما يحلو لهم . وهذا منطقى، لأن بعضهم مقيد باعتبارات معينة، كما أن بعضهم الآخر لديه أفكار مسبقة، وكانت عقدة المسألة أننى حين أعطى ما لدى لغيرى فإن ملكيته تنتقل إليه- وذلك لا أعترض عليه ، ولكن العقدة تستحكم في أنني أفقد في نفس الوقت أى حق في توجيه استعماله توجيها أعتقد باتساقه مع الحقيقة- وذلك ما كنت أعترض عليه أحيانا .
----------------------------------------
واشترك عدد من الأصدقاء فى إقناعى بأننى لا أستطيع أن أتقدم بشهادة للتاريخ بالوساطة ، أى عن طريق أن أحكى لغيرى ، ثم ينقل هو للناس ، خصوصا إذا كنت أنا من الأصل كاتبا محترفا لا عمل لى غير أن أقدم للناس ما لدى من وقائع أو أفكار أستخلصها من عملى الصحفى ... والصحافة في صميمها تاريخ تحت الصنع!
وكان بين الذين حاولوا إقناعي صديقان :
أولهما دنيس هاملتون رئيس التحرير العام لمجموعة صحف طومسون وبينها جريدة التيمس اليومية، والصنداي تيمس الأسبوعية .
وكان ثانيهما هو ساى سالزبيرجر أحد رؤساء تحرير جريدة نيويورك تيمس .
وتحاورت مع الإثنين طويلا، في لندن وفي باريس في شتاء سنة 1970 كان رأيهما أنه من الضرورى أن أكتب .
وقال لى دنيس هاملتون مرة :
- من غيرك يستطيع أن يكتب قصة حياة جمال عبد الناصركاملة؟ "
وقلت :
- قد أستطيع بغير تواضع وبغير ادعاء أن أقول : أنا ، ولكن المسألة ليست بهذه البساطة وإنما هناك نواح عديدة لابد أن أضعها في اعتبارى :
من ناحية فإن قصة جمال عبد الناصر مازالت مستمرة باستمرار التيار الذى قاده .
ومن ناحية أخرى فإن العالم العربى يعيش في أزمة خانقة . وقصة حياة جمال عبد الناصر قد تفجر الآن مالا داعى لتفجيره فى مصر أو فى العالم العربي .
ومن ناحية ثالثة فإنني مازلت- عاطفيا- تحت صدمة الرحيل ، ولست أريد أن أكتب مرثية في جمال عبد الناصر وإنما أنا أحلم بأن أكتب تاريخا ... أو على الأقل شهادة يأخذها التاريخ في تقديره عندما يحكم ويقرر ".
وقال دنيس هاملتون :
- لابد أن تكتب ... أكتب في أى شئ يتصل بقصة حياته ... أكتب عن الصراع على الشرق الأوسط ... أكتب عن أزمة الشرق الأوسط ... لابد أن تكتب ولا تستطيع أن تعفي نفسك من هذه المهمة!
--------------------
وعدت إلى مصر وخاطر الكتابة معى ... ولكن ماذا أكتب عن جمال عبد الناصر " وكيف ؟
وطرأت لى فكرة الإطار العام لهذا الكتاب .
إننى لا أريد أن أكتب قصة جمال عبد الناصر كاملة .. ليس الآن .
ولا أريد كتابة قصة الصراع على الشرق الأوسط ... ليس الآن .
ولا أريد كتابة قصة أزمة الشرق الأوسط ... ليس الآن .
وهكذا : وصلت إلى فكرة الإطار العام لهذا الكتاب عن طريق الاستبعاد . وليس عن طريق الاختيار الأول .
فكرت أن أكتب عن عبد الناصر وعمالقة عصره ، وكان عبد الناصر عملاقا ، وكان عصره عصر عمالقة التقى معهم جميعاً ، بالاتفاق أو بالاختلاف ، ونشأت عن لقائه بهم صداقات وصراعات تركت أثرها على العصر كله.
كان ذلك يعفينى من أسباب للحرج شديدة .. بينها ضرورات السرية التى مازال يتحتم أن نراعيها ونحن مـازلنا في معركة مصير.
ثم إن ذلك كان يعطينى الفرصة لمس جوانب إنسانية من حياة جمال عبد الناصر وحياة غيره من عمالقة العصر كما رآهم وكما رأيتهم .
وعرضت الفكرة على بعض من أثق فى رأيهم وبينهم دنيس هاملتون وساي سولزبيرجر وكانت حماستهم لها غلابة .. واستسلمت .
وفي ستة شهور من مارس سنة 1971 إلى سبتمبر 1971 سلمت الكتاب بالإنجليزية للناشر البريطاني الذى تولى أمر نشره ، وإذا الكتاب يلقى ما لم أكن أتوقعه ، وإذا هو على الفور يترجم إلى أكثر من عشرين لغة بينها الفرنسية والإيطالية والأسبانية واليابانية والألمانية والسويدية والأردية والهندية والصربية والبرتغالية... ولا أذكر ماذا أيضا .
وكنت حريصا على أن تنشر الفصول المسبقة من الكتاب في الصحافة العالمية على موعد الذكرى الأولى للرحيل... سبتمبر 1971، وقد كان ، برغم متاعب سببتها للناشرين بهذا الطلب الملح .
----------------
ومع أني قدمت للنشر المسبق فى الصحافة لفصول من هذا الكتاب باعتذار رجوت فيه أن يحكم عليه فى إطاره ، فهو ليس قصة حياة عبد الناصر ولا قصة معركة بعينها ضمن معاركه ، وأن لا يحكم عليه إجمالا من مجرد فصول اختيرت منه للنشر الصحفى لاتزيد نسبتها فيه على الخمس- فإن البعض في العالم العربي بالذات لم يقبل هذا الاعتذار .
راح البعض يئساءل : كيف أملك حق الكتابة عن جمال عبد الناصر؟
وبصرف النظر عن أشياء كثيرة واعتبارات لا أجد داعيا لذكرها فإن الكتابة عن جمال عبد الناصر حق لمن يستطيع ، ولم أع لنفسى يوما حق احتكارها . لقد كتبت عنه كما كتب غيرى فى العالم كله ولم يقم في وجه واحد منهم أى اعتراض .
ثم إن العالم المتحضركله يعرف هذا النوع من الكتابة عن شخصيات العصر.
إن الكثيرين من القادة كتبوا عن أنفسهم ... كذلك فعل " تشرشل " و " ديجول " و " أيزنهاور"
كما أن كثيرين من الذين أتاحت لهم الظروف- أو حتى لم تتح لهم - أن يعرفوا شخصيات العصر كتبوا عنها... كذلك مثلا فعل " شلزنجر" " وسورنسن " و " مانشستر " عن " جون كنيدى " لأن كنيدى لم يعش ليكتب عن نفسه.
وإذن ماذا ؟
ولقد راح البعض الآخر يدعى أننى- بما كتبت عن جمال عبد الناصر – جعلت من حياته مغامرة ولم أجعلها فكرة ، والغريب أن أصحاب هذا الادعاء في معظمهم كانوا من الذين قضوا عمرهم في عداء عبد الناصر.
ولقد كنت أتوقع شيئاً من ذلك... بسبب الظروف العربية الراهنة... وبسبب ظروفي الشخصية.
العالم العربي في هذه المرحلة مشغول بالاقتتال مع النفس... أكثر مما هو مشغول بالقتال ضد العدو وهذا طبيعى فى مرحلة التفاعلات العنيفة التي يعيشها .
وأما ظروفي الشخصية فإني أعرف أنها دقيقة، ذلك أننى تعرضت لليمين الرجعى فى العالم العربي ، كما تعرضت لليسار المغامر فيه وليس يهمنى أن أحصل على رضى أيهما، ولقد اعتبرت ومازلت أعتبر أن هذا الرضى... شرف لا أسعى إليه... ووسام ليس بين أحلامى أن أعلقه على صدرى !
______________________
لقد كتبت ماكتبت من قلب تيار أعرفه وأحسب نفسى منتميا إليه وهو التيار الناصري ... تيار الجماهير التي كانت مع جمال عبد الناصر فى اختياره التاريخى بالصورة البارعة التى سمعتها ذات مرة فى مطعم لاسير في باريس من أندريه مالرو مفكر فرنسا العظيم وكان يقارن ما بين عبد الناصر وديجول .
وقال لى مالرو:
- كلاهما واجه فى عصره اختيارا دوليا هائلا... وكلاهما رفض هذا الاختيار .
كلاهما قيل له : هل أنت مع أمريكا أم مع الاتحاد السوفييتى؟ " وكلاهما قال : لست مع أمريكا ولست مع الاتحاد السوفييتى … وإنما أنا مع وطنى وأمتى".
ولقد كتبت ما كتبت أيضا وفى ذهنى أن " جمال عبد الناصر ليس أسطورة " كما قلت في مقال نشر فى ذكرى مرور الأربعين على رحيل عبد الناصر.
وكان رأيى- ولم أغيره- أن الذين يتصورون عبد الناصر أسطورة : لا يعرفون ماذا تعنى كلمة أسطورة... أو لا يعرفون ماذا يعنى اسم جمال عبد الناصر؟ !
إن عبد الناصر ليس أسطورة... وإنما هو إنسان.
ولقد كان إنسانا عظيما... و!نما كان أعظم ما فيه إنسانيته، وكانت هذه الإنسانية هى طريقه إلى التزامه الفكرى، والتزامه السياسي، والتزامه القومى، والتزامه الدولى ... بل وأهم من ذلك كله التزامه الطبقى بالعمل والذين يعملون ... وأن العمل هو المصدر الوحيد لأى قيمة.
_______________________ إن القصة الكاملة لجمال عبد الناصر سوف تكتب فى يوم من الأيام وأرجو أن تتيح لى الظروف فرصة المشاركة فى كتابتها كاملة. ولقد تعرض جمال عبد الناصر- وهو في رحاب الله - لحملة لاتقل ضراوة مما كان يتعرض له وهو مازال بعد بين الناس . بل إن هناك من قالوا: - إن عبد الناصر بعيدا... أخطر من عبد الناصر قريبا لأنه في غيابه قد تتحول الناصرية من شخص إلى فكرة... ومن فكرة إلى تنظيم " وظنى أن الوقت الأنسب لقصة عبد الناصر كاملة سوف يجىء بعد أن تنتهى الأزمة الحالية في الشرق الأوسط ... وبعد أن تنسى إساءات بعض الذين حسبوا أنفسهم عليه ، وتصوروا أن بمقدورهم تحويل تراثه الكبير إلى إرث سلطة تحكم أو تتحكم . وكان الإسهام العظيم لجمال عبد الناصر : أنه ربط مصر بأمتها العربية. ثم أنه ربط الأمة العربية- بما فيها مصر- بالعالم وقيمه وأحلامه. ولقد تعرض عبد الناصر- بسبب ذلك- الى عداوات ضارية وحروب شرسة. ثم إن البعض أساء فهم وظيفة جهاز السلطة الذى كان قريبا من جمال عبد الناصر. لقد أجرى جمال عبد الناصر في مصر ومن حول مصر تحولات اجتماعية عميقة. وفي عصر أصبحت فيه العقائد الاجتماعية المتصارعة ، دولا عظمى تمثل هذه العقائد فإن الصراع الاجتماعى داخل أى وطن من الأوطان- وذلك حدث فى بلدان عديدة- يمكن أن يتحول إلى حرب أهلية داخل الوطن الواحد... بحيث تصبح الطبقات المتناقضة فى مصالحها دولا عظمى داخلة فى الصراع . ولقد استطاع جمال عبد الناصر- كما قلت مرة- أن يؤمم الصراع الاجتماعى في مصر. وربما كان جهاز السلطة ضريبة من ضرائب هذا التأميم . ولقد سقط جهاز السلطة بعد عبد الناصر- رغم أن تجاوزاته اشتدت بعد رحيله- لأنه فقد وظيفته الاجتماعية. لقد توقف مصدر التحولات الاجتماعية عن النبض بعد رحيل عبد الناصر وأصبح ضروريا أن نبحث عن صيغة أخرى ... ليس لتأميم الصراع الاجتماعى- فهذه المعجزة كانت مرهونة بشخصية تاريخية بعينها- ولكن لتقنين الصراع الاجتماعى ... لتقنينه بمزيد من الديمقراطية وتأكيد سيادة القانون ، فذلك هو العاصم الوحيد من خطر تحول الصراع الاجتماعى ... إلى حرب أهلية تغذيها قوى عظمى لاتملك أسلحة فقط… ولكن تمثل عقائد اجتماعية أيضا. ولست أظنني بما قلت أدافع عن جهاز السلطة... فالسجل فيما يتعلق بي واضح فى هذه النقطة. ولقد هاجمت هذا الجهاز وتجاوزاته طول الوقت ، وكانت أعنف هجماتي عليه فى وجود عبد الناصر نفسه. _________________ ماذا أريد أن أقول أيضا؟ تبقى بعض الملاحظات الشخصية. ملاحظة شخصية : هى اننى مديي بالشكر في هذا الكتاب لكثيرين .. مدين للعاملين في مكتبى بما قدموا إلى، حين احتفظوا لى بأوراقى مرتبة مبوبة أستطيع أن أرجع إليها بسهولة وحين أشاء . ومدين لمكتبة الأهرام التى كانت عونا لى في الحصول على ما أردت أن أستوئق فيه من مناسبات ، وأسماء ، وتواريخ . ومدين لقسم الترجمة في جريدة النهار اللبنانية، الذى قام محرروه بترجمة هذا الكتاب عن الإنجليزية بعد أن حصلت النهار على حقوق نشره باللغة العربية . ولعلى مدين أكثر من ذلك لكثيرين ... لم أذكر أسماءهم وإن لم أنس فضلهم . ___________ ثم ملاحظة أخرى وأخيرة لقد كان بودى لو كتبت ذلك الكتاب بالعربية وقدمته بأسلوبى الذى اعتاده القارىء ، ولكنى في الحقيقة كنت أكتب عن عبد الناصر والعالم ... للعالم الذي عرف عبد الناصر واهتم بسيرته . ولقد كان هناك اقتراح بأن أتولى ترجمة الكتاب بنفسى ... لأن القارىء العربي - وقد اعتاد أسلوبى- سوف يجد غريبا عليه أن يقرأ لى بأسلوب آخر... ولكن ذلك كان معناه فى رأيي أننى سوف أكتب الكتاب مرتين! ومن أجل الذين يقرأون... فلقد وجدت أن مرة واحدة تكفى . محمد حسنين هيكل
|