سأله
توفيق الحكيم ذات صباح في منتصف الستينات أن يبدي رأيه في مقال كتبه للتو،
ومقالاته تمزج ما بين الأدب ونقده والحياة وتأملاتها . . فاجأه السؤال
لكنه أجاب على الفور: “يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأي قارئ آخر،
أرسله إلى المطبعة أياً ما كتبت ولا تراجع أحداً” . . وكانت في خاطره قاعدة
استقرت: “عندما يكون لصاحب الرأي تجربة عريضة واسمه يزكيه فهو وحده من
يتحمل مسؤوليته أمام الرأي العام ولا شأن لأي رئيس تحرير بما يكتب” .
بدا
أمامه رائد المسرح العربي، وروايته “عودة الروح” ألهمت جمال عبدالناصر
وجيله في مطالع الشباب، مصرّاً أن يقرأ ما كتب وأن يسمع ملاحظاته عليه . لم
يكد يطالع النص ويشرع في القول: “هناك بعض ملاحظات” حتى استوقفه الحكيم
طالباً إعادة المقال إليه ومزقه بلا تردد ملقياً أوراقه في سلة مهملات
بجانبه .
لم
يكن الحكيم مستريحاً لما كتب واستبدّ به قلقه . . أراد أن يتأكد بنظرة
أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها . القلق من طبائع الإبداع، فما هو
رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعاً يبقى أو يفضي إلى رؤية تختلف . . في
القلق سعي إلى شيء من الكمال لا يدركه لكنه يطلبه .
كان
هو نفسه ذات الرجل . . فالقلق يلازمه قبل الكتابة وبعدها، وطقوسها تستهلك
يوماً كاملاً، لا يفكر في شيء آخر ولا تكون فيه مواعيد تشتت، لكن مشكلة
جديدة استجدت عليه في أحاديثه التلفزيونية .
عندما
يكتب هيكل لديه فرصة مراجعة المعلومات وضبط السياقات، وأن ينظر فيها مرة
بعد أخرى، أحياناً يمزق ما كتب ويبدأ من جديد: “إن استشعرت أن موضوعك يقلقك
فلا تتردد أن تمزق ما كتبت” . . “وإن أردت تغييراً جوهرياً فابدأ من جديد
حتى لا تربك النص والقارئ معه وتفقده اتساقه ومنطقه واحترامه” .
لشاشات التلفزيون طبيعة أخرى، يعد نفسه في أحاديثه المسهبة لما يريد أن يقول، لكن ما إن تتحرك الكاميرات فلا سبيل إلى مراجعة .
بعد
بث أولى إطلالاته التلفزيونية قبل نحو عشر سنوات لم يقدر على النوم في
مواقيته قلقاً على الصورة التي بدا عليها، وما إذا كانت إضافة لحياته
المهنية أم خصماً منها . . “كل إطلالة جديدة اختبار جديد” . . “تقول لي إن
تاريخي يشفع أمام مشاهدي لكن التاريخ وحده لا يقنع أحداً بأنه يسمع ما
يستحق الاستماع إليه، وإن لم يكن الكلام مقنعاً فسوف يكون من العبث أن تذكر
الناس بالتاريخ” .
بالتفاتة أخرى قال: “ليت عندي نصف الثقة التي أراها أمامي في محيا متحدثين على الشاشات”!
(1)
لا يولد شيء من فراغ ولا مكانة بلا قلق يصاحبها .
في
قلقه روح فنان كامن . . والقلق يطرح تساؤلاته وشكوكه وهواجسه كأنه لم يمسك
قلماً من قبل ولا اسمه دوى في بلده ومحيطه وعالمه ك”أهم صحافي في العالم
في القرن العشرين” على ما وصفته
“الوشنطن بوست” عند بداية قرن جديد . . ولا أثره دعا مديرة مركز التدريب في
وكالة “رويترز”، وهي تقدمه لإلقاء محاضرة في جامعة “أوكسفورد” قبل سنوات،
إلى وصفه ب”الأسطورة الحية”، كانت لا تكاد تصدق أنها سلمت عليه يداً بيد
قبل دقائق .
“لو
تصورت أنني استوفيت الحكمة فإن دوري يكون قد انقضى” . . “تاريخك يتوقف هنا
وحركة الحياة تمضي من غيرك بحقائق جديدة وعصور مختلفة” . . “في كل مرة
تكتب على ورق أو تطل على شاشة لابد أن يكون لديك شيء جديد تقوله لا يكرر ما
اجتهد فيه غيرك” .
هناك
من يتصوره إلهاً إغريقياً فوق جبال الأوليمب ينظر من فوق، يستكفي بإرث
تاريخه ويستغني عن جديد عالمه، وأن ثقته في ما يكتب ويقول أقرب إلى النصوص
المقدسة، وهذه أوهام لاحقت تاريخه، وكأي أوهام فإنها لم تكن صحيحة لا الآن
ولا في الماضي . . ولو كان على هذه الصورة الشائعة لما كان ممكناً أن يحلق
في عوالم الصحافة سبعين سنة متصلة من قمة إلى أخرى بعدها .
القلق
يلازم الإبداع . . وفي مسرحية توفيق الحكيم الشهيرة “بنك القلق” شيء من
شخصيته ونوازعه . النوازع ذاتها تملكت المواهب الكبيرة والاستثنائية في
التاريخ الفني الإنساني، وقد كانت سيدة الغناء العربي أم كلثوم، وجلال
صوتها يهز الوجدان العربي من محيطه إلى خليجه، تكاد أن تهوى من فرط قلقها
قبل أن تدخل على خشبة المسرح، كأنها تدخل اختباراً جديداً قد تخفق فيه، أو
كأنها تعلمت للتو أبجديات الغناء، لكنها ما إن تبدأ في الشدو تبدو ملكة على
عرشها .
(2)
في
الصحافي لمحة فنان ومشروع روائي، لكن الصحافة على ما يرى “فن مجازي
فماكيناتها تدور بالأخبار والتحقيقات وما يهم القارئ، وفي اليوم التالي
تخرج إليه بجديد آخر، الفن ثابت وفي ثباته مشروع خلوده والصحافة متغيرة وفي
تغيرها موهبة متابعة اهتماماتها” . . “لسنا فنانون ولا روائيون ولا
مؤرخون، لكن استلهام الفن في روحه والرواية في دراميتها والتأريخ في أدواته
يضفي على الرواية الصحفية جمالاً وحيوية ودقة . . وهذا أقصى ما يطلبه
صحافي” .
“لا
أستطيع ولا يستطيع غيري أن يخطط لمجموعات كتبه على النحو الذي خطط به نجيب
محفوظ لثلاثيته الشهيرة، فالروائي لديه مخطط عام له بدايات ونهايات يصوغها
بقدر ما حباه الله من موهبة، يتحكم في حركة الأحداث ومصائر أبطاله ويضفي
على النص فلسفة ما يعتقد فيها، ولا نص عظيم بلا فلسفة وراء حركة أبطاله،
بينما الصحافي محكوم في روايته بالتاريخ الفعلي الذي لا يعرف بدايات
ونهايات فحركته متصلة على الدوام، والصحافي يبدأ من نقطة ما افتراضية” .
تجلت
مواهبه في البناء الدرامي لأبطاله وشخوصه في رواياته لحوادث التاريخ
المعاصر، ففي “سقوط نظام” قراءة في الخلفيات الإنسانية لما قبل يوليو . .
تراجيديا “الملك فاروق” وأسرته والرجال من حوله وصراعاتهم، وفي “ملفات
السويس” قراءة أخرى لخلفيات إنسانية صاحبت الصراع على المنطقة في حرب
إرادات دخلت فيها طبائع بشر . . وفي “زيارة جديدة للتاريخ” بورتريهات
سياسية لرجال اقترب من عوالمهم وجوانب إنسانية مجهولة فيها ك”نهرو”
و”اندروبوف” و”أينشتاين” و”خوان كارلوس” . . وفي “ما بين السياسة والصحافة”
تداخلت الرواية الأدبية مع زخم الوثائق مع انضباط في الإيقاع يصعب على من
ليست لديه مواهب الروائي الكامنة . . وفي “خريف الغضب”، بغض النظر عما
أثاره من مساجلات سياسية صاخبة، بدا روائياً متمكناً من أدواته الفنية في
صياغة المشاهد الإنسانية وتقلبات نوازع البشر .
هناك
أدوات يستخدمها في إعداد موضوعه قبل أن يشرع في كتابته وأدوات أخرى
يستخدمها أثناء الكتابة نفسها، فالأوراق والوثائق ذخيرته الحية والخرائط
والصور كشافات تنير جوانب خفية، لكنه ما أن يبدأ في وضع ما لديه على ورق
فإنه يلتفت إلى ضرورات البناء الدرامي وضبط إيقاع ما يروي متدفقاً ومقنعاً
وممتعاً، ومن مهام الكاتب الكبير أن يمتع قارئه .
“التاريخ
دراما هائلة والإيقاع يضمن ألا يربك سياق أو يشتت قارئ” . . وقد كانت إحدى
معضلاته في رواياته لحرب الثلاثين عاماً والقنوات السرية وما بين السياسة
والصحافة ضبط الإيقاع بحيث يضمن التدفق الطبيعي لدراما التاريخ موثقة بلا
ملل في البناء أو بزحام وثائق في غير موضعها .
(3)
في
تجربته المهنية تنوعت مصادر تكوينه التي انطبعت على أسلوبه . . وكانت
هناك: “ثلاثة تأثيرات واضحة . . عقلانية هارولد إيرل رئيس تحرير الغازيت
ورومانسية سكوت واطسون سكرتير تحريرها وحلاوة أسلوب وسلاسة محمد التابعي” .
العقلانية
ترسخت طبائعها فيه عند النظر إلى الحوادث وحقيقتها وزكت عنده العناية
بالوثائق، فلا أحد يعتني بالتوثيق إن لم يكن تكوينه يميل إلى التفكير
العقلاني في تفسير الظواهر السياسية وتحولاتها وفك شفراتها وألغازها . .
والرومانسية تبدت طبائعها في النظرة الإنسانية للحوادث بما يضفي عليها
مذاقاً آخر تأخذ فيه طبيعة البشر مداها من دون تصادم مع الحقائق وما تؤكده .
. وحلاوة الأسلوب وسلاسته يضع ما يكتب في صورة يتقبلها قارئه . . “أن يكون
الأسلوب ممتعاً لا مملاً والإيقاع منضبطاً ومتدفقاً والكلام واصلاً إلى
أهدافه” . . “كل ما يكتب وله قيمة ينطوي بالضرورة على فكرة تقنع وشيء يمتع،
والإمتاع أحد أسس قضية الأسلوب” .
تجربته
مع الأستاذ محمد التابعي فارقه في حياته، فهو أقرب تلاميذه وآخرهم، حاول
أن يقلده في بدايات حياته، وكل تلامذته حاولوا تقليده لفترة من حياتهم، فقد
كان أسلوبه متدفقاً وبسيطاً، في بساطته عبقريته وفي تدفقه سحره . . كان
العالم في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية يتغير ولغة الكتابة تتغير
بدورها وبدا التابعي زعيماً لانقلاب كامل في الكتابة الصحفية الحديثة
ورائداً في أسلوبه وطرائق التعبير، ومضى “تلميذه الأخير” على دربه متأثراً
ومضيفاً ومجدداً، ف”لا أحد امتداد لآخر”، هذه هي القاعدة التي اعتقدها من
بداياته إلى اليوم . هناك فارق بين التأثير والتقليد، المدارس الكبرى في
السياسة والصحافة والعلوم الإنسانية مدارس تأثير، تأخذ منها مناهجها
وتقنياتها وتضيف إليها بقدر ما تستطيع .
في
تجربته مع “الغازيت” دخل إلى عوالم الجريمة والحرب . . “في الجريمة دراما
بشر في مجتمع قلق وإطلالة على ما يجري تحت القاع وفي الحرب ذروة الدراما
الإنسانية عند حافة الحياة والموت” . . في “آخر ساعة” دخل إلى عوالم المسرح
والبرلمان . . “في المسرح تراجيديا النصوص المكتوبة . . وفي البرلمان
تراجيديا السياسة وصراعاتها” .
في سنوات تكوينه الأساسي تأثر برجلين آخرين لكل منهما شخصية تناقض الآخر . . الأول كامل
الشناوي بحياته الصاخبة البوهيمية وطباعه الحلوة والمشاكسة “في كل يوم قصة
حب جديدة وإحباط آخر وقصيدة مبدعة” . . كلما ورد اسم كامل الشناوي في حوار
تتبدى على وجهه ابتسامة رائقة وتتدفق عليه الذكريات ولا يستدعي اسمه في
جلساته الحميمة إلا على النحو الذي كان يخاطبه به: “كمولة” . . بينما لا
يذكر اسم التابعي، ولم تكن هناك حواجز بينهما، إلا مسبوقاً بلقب “الأستاذ” .
التناقض
ما بين شخصيته الانضباطية في مواقيتها وعملها وتصرفاتها وما بين شخصية
الشناوي بكل جموحها وعفويتها وليلها الممتد حتى ساعات الفجر سر عمق
ذكرياته، ف”التناقضات تصنع جمال علاقاتها وخصوصيتها” . . والثاني الدكتور
محمود عزمي بثقافته الواسعة وعمق رؤيته، وقد أفضت حواراته المنتظمة معه
قبل ثورة يوليو إلى إطلالة مختلفة على اهتماماته، كان يعتبره “من بقايا
الرعيل الأول من كُتاب مصر العظام” . . وفيما بعد يوليو قدمه إلى الرئيس
جمال عبدالناصر الذي عينه ممثلاً دائماً لمصر في الأمم المتحدة وفارق
الحياة شهيداً على منبر مجلس الأمن .
كان
وفياً لأساتذته بأكثر مما هو معروف ومعلن، كان بوسع التابعي والشناوي أن
يطلبا ما شاءا في ذروة صعوده الستيني وأن يمشي ما يطلبان على الرقاب .
باتساع
تجاربه حاول أن يطور أسلوبه وأن يكتشف لنفسه خصوصيتها ومزيج التأثيرات
التي اكتسبها ودخلت في تكوينه لازمته طويلاً . . وفي تجربتيه في “أخبار
اليوم” و”الأهرام” قصة أخرى امتدت تأثيراتها حتى عامه التسعين .
(4)
التحق
ب”أخبار اليوم” في عام (1946) بعد تأسيسها بعامين، لا يعتبر نفسه منتسباً
إلى مدرستها . تكوينه الأول في “الغازيت” حكم اختياره الرئيس في نوع
الصحافة التي يفضلها . كان الصحافي الشاب أقرب إلى المدارس الصحفية الرصينة
في طبعتها الإنجليزية التي تؤكد على الخبر ودقته وأن يكتب على النحو الذي
تقرره التقاليد المستقرة، وأن تكون عناوينه موافقة لمضمونه، وأن تحرص
التحقيقات على استكمال جوانب الملف الذي تبحثه بروية من يريد أن يضع
الحقائق أمام قارئه، بينما انتهجت “أخبار اليوم” مدرسة إنجليزية أخرى أسسها
في مطلع القرن العشرين “ماكس ايتكن”، اللورد “بيفر بروك” في ما بعد، مؤسس
مجموعة صحف “الديلي اكسبريس” و”صنداي اكسبريس” و”لندن إيفنينغ”، التي تمازج
ما بين التسلية والدعاية على ما يقول منتقدوها . أخذ علي أمين توضيبها
وترتيب صفحاتها واستخدامات الصور وطريقة كتابة العناوين وصياغة الأخبار
وأضفى عليها طابعاً مصرياً تقبله الجمهور، وكان نجاح الصحيفة ساحقاً في
منتصف الأربعينات من القرن الماضي . . وانتهج توأمه مصطفى أمين أسلوباً في
الكتابة السياسية في نقد حزب الوفد وزعيمه مصطفى النحاس مستنداً إلى
معلومات توافرت له عن خفايا الصراع والاتصال ما بين الوفد والقصر الملكي
على نفس النهج الذي كتب به اللورد “بيفر بروك” كتابيه الشهيرين: “السياسيون
والصحافة” (1952) و”السياسيون والحرب” (1982) .
رغم
أن تكوينه المهني الأول في “الغازيت” حال دون انتسابه لمدرسة “أخبار
اليوم” إلا أن فترة عمله فيها مراسلاً متجولاً ومديراً للتحرير أتاحت أمامه
أن يطل على القارئ المصري بلغته العربية عبر سلسلة تحقيقات من مواطن
الأحداث والحروب والصراعات والانقلابات لخمس سنوات متصلة . . وكان علي أمين
هو من اقتنع ودعم اقتراحه أن يسافر إلى مواطن الخطر وأن يكتب من هناك
لقارئ مصري تداهم الأحداث منطقته من دون أن يكون ملماً بحقائقها وأسرارها
وخفاياها . . وكما يقول فإن “صحيفة أخرى غير أخبار اليوم لم تكن مستعدة
وقتها أن تتحمل تكاليف رحلات صحفية طويلة إلى مواطن الأحداث الساخنة” .
بانتقاله
إلى “الأهرام” في بدايات عام (1957) شرع في تأسيس تجربته الكبرى، وفي
تجربته الأهرامية أرسى قواعد مدرسة جديدة، لكنها لم تستكمل مقوماتها على
النحو الذي صنع أسطورته إلا بعد أن غادر مطابخها الصحفية عام (1974)، فقد
أضاف إلى تقنياتها وأدواتها واتسعت تأثيراتها خارج ما هو معتاد في المدارس
الصحفية الأخرى .
هذه
مسألة لافتة ومثيرة، فلأول مرة في التاريخ يكتسب صحافي مكانة أكبر مما
كانت له وهو في قلب السلطة ومركز صناعة القرار فيها، وأن تتسع مدرسته لغير
أهل صنعته، فهو أسس لمدرسة تجاوزت تأثيراتها الصحافيين إلى الدبلوماسيين
والعسكريين، فالأجيال الجديدة من الدبلوماسيين المصريين وجدت في ما كتب عن
السياسة الخارجية ونظرية الأمن القومي أسساً لبناء رؤى وتصورات وعقائد
تستند على الوطنية المصرية ومحيطها العربي، والقادة العسكريون المعنيون
بقضية التخطيط الاستراتيجي والرؤى التي تحكم الأمن القومي وجدوا في ما كتب
إضافات جوهرية أثرت وألهمت . . ومن بين من أثرت فيهم الفريق أول عبدالفتاح
السيسي قائد الجيش المصري الذي قرأ كل حرف كتبه .
(5)
في
يومه الأول رئيساً لتحرير “الأهرام” فاجأته تحدياته، فهو في الثالثة
والثلاثين من عمره بينما قيادات الصحيفة العريقة تجاوز أغلبهم الخمسين، وهو
قادم من “أخبار اليوم” وهي تجربة صحفية تناقض ما اعتادته “الأهرام” من
تقاليد رسخت وأساليب في كتابة الأخبار والتحقيقات والعناوين وترتيب الصفحات
وتوضيبها . . وهذه مسألة حساسة لوحدها بغض النظر عن ميله الطبيعي إلى
النهج المهني ل”الأهرام” . . لكنه استطاع تجاوز فجوة الأعمار وجفوة المدارس
.
لمدة
شهر كامل تابع حركة العمل في الصحيفة، ترك كل شيء يمضي بالطريقة المعتادة .
. “لا أمليت تصورات مهنية متعجلة ولا أقدمت على تغيير الخط التحريري
العام” . . و”أخذت وقتي في التعرف عن قرب إلى الكفاءات والمواهب التي يمكن
الاعتماد عليها في أية خطط تطوير مستقبلية لاكتساب قارئ جديد” . . “أخذت ما
أحتاج إليه من وقت للتفكير في خطط التطوير نفسها” . . “عندما استكملت خططي
بادرت بتغيير شامل في الأهرام محاولاً أن أضفي على موادها التحريرية حيوية
تفتقدها مع الحفاظ على شخصيتها الرصينة” . . وكان “تقديري أن الاتصال
بمصادر الأخبار بالطريق الصحيح واللائق مسألة حاسمة للانفراد الصحفي ودقة
ما ينشر”، ف”كل صحيفة تغطي أولاً ما يغطيه غيرها من أخبار وتنافس ثانياً في متابعة تلك القصص الإخبارية واستقصاء خلفيات جديدة ثم تحاول ثالثاً أن تنفرد بأخبار تسجل أمام قارئها قدرتها على إشباع احتياجاته من المعلومات أكثر من غيرها” .
لم
يكن ما وصلت إليه “الأهرام” في ستيناتها برئاسته من معدلات توزيع عالية
ضربة حظ، ولم يجر تصنيفها كواحدة من أكبر عشر صحف في العالم ضربة حظ أخرى،
فقد وهب وقته كله من أجل الصحيفة التي ترأسها “لا يملك الإنسان إلا وقته
والانفلات في الوقت يضيع كل شيء” . . وأودع روحه في بنيانها الجديد الذي
صمم على أفضل ما أتاحه العصر، زين جدرانه بلوحات تشكيلية لكبار الفنانين،
كأنها ثقافة بصرية رادفت ثقافة السمع، فقد كان ممكناً أن تسمع أنغام
السيمفونيات تصدح بخفوت في مكتبه . . وكان درة تاجها احتضانها العلامات
الرئيسة في قوة مصر الناعمة .
“لم
أسمح لنفسي في أية لحظة لأي سبب أن أستدعي أحداً من كبار الأدباء
والمفكرين الذين احتواهم الدور السادس إلى مكتبي في الدور الرابع . . أنا
الذي أذهب إلى مكاتبهم محاوراً عندما يتوفر عندي وقت . . أنت تتحدث عن
توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وزكي نجيب محمود ولويس عوض وبنت
الشاطئ وصلاح طاهر، وهم حجر الأساس وقتها في بنية الثقافة المصرية وقوة مصر
الناعمة في محيطها” .
“أردت
توفير مناخ للإبداع من دون ضغوط أو شواغل أخرى وتركت القيمة تتجلى وفق ما
يرى أصحابها” . . مثلاً: “قلت لنجيب محفوظ لا أريد منك أن تفعل شيئاً غير
أن تهتم بفنك الروائي، كل ما أتمناه أن تنشر كل عام رواية جديدة على حلقات”
. . وكان من بينها رواية “أولاد حارتنا”، التي أثارت جدلاً وصخباً وأدت
بعد سنوات طويلة إلى محاولة اغتيال الروائي العالمي نجيب محفوظ، لكنه أصر
على استمرار النشر وتحمل مسؤوليته .
“أردت
بوجودهم أن أؤسس لصحافة القيمة والارتفاع بمستوى الحوار العام وأن يكون
المثقفون والأدباء والمفكرون الكبار في قلب المشهد يتابعون ما يجري فيه
ويكتبون عن معرفة” .
كانت
تجربته في “الأهرام” عميقة في تأثيراتها وممتدة إلى أجيال لم تكن ولدت يوم
أن غادرها قبل أربعين عاماً وبدت تأثيراتها وامتداداتها داعية إلى حملات
هجوم عليه وصلت ذروتها في دراسة موسعة عنه نشرتها صحيفة “يديعوت أحرونوت”
“الإسرائيلية” في سبتمبر/ أيلول (2009) تضمنت عبارة تشير بمحتواها: “روح
هيكل الشريرة تطارد “إسرائيل” في طوابق الأهرام” .
(6)
تباينت
طبائع أسلوبه بطريقة أو أخرى من مرحلة إلى أخرى . . في بداياته ب”آخر
ساعة” بدا وصفياً والتعبيرات متدفقة بمترادفاتها، كان متأثراً بأستاذه محمد
التابعي، والتأثير طبيعي في الصحافة وغيرها، فلا أحد يبدأ من فراغ ولا
موهبة تأسست كأنها نبت في صحراء، لكل شيء قاعدة بناء يشيد فوقها، وكان
الأستاذ التابعي هو قاعدة البناء الأولى، وأخذ أسلوبه طابعاً إضافياً في
سلسلة تحقيقاته الميدانية للصراعات والحروب التي غطاها لصحيفة “أخبار
اليوم” اعتماداً على المعلومات والأوراق لا الآراء والانطباعات قبل أن
يستكمل مقومات أسلوبه على النحو الذي اشتهر به في مقاله الأسبوعي صباح كل
جمعة “بصراحة” بما يطلق عليه “المقال المعلوماتي”، وكانت السفارات الأجنبية
في القاهرة تترجمه على الفور في برقيات ترسل عاجلاً إلى مقرات الحكم في
بلدانها، فلعلها تستكشف مما كتب اتجاهات الحوادث في أكثر بلدان العالم
الثالث أهمية في ذلك الوقت . . لكنه اكتسب روحاً جديدة بعد أن غادر
“الأهرام”، فالتحرر من قيود السلطة أضفى حرية أكبر على كتاباته انعكست على
أسلوبه وتقنياته . . استلهم من نظرية “ليدل هارت” في “الاقتراب غير
المباشر” نهجاً في أغلب مجموعات كتبه اعتماداً على الوثائق ولغتها في
“الاختراق” و”التطويق” .
“أن
تكون كل حقيقة بوثيقة” . . وعلى ما يقول فإنه: “في تاريخ العسكرية الحديثة
هناك استراتيجيتان كبيرتان . . كلاوزفيتز ثم ليدل هارت، الأول نظرية في الحرب شاملة والثاني نظرية في القتال ناجعة” .
وفي
ما يشبه المغامرة المهنية قام بانقلاب أساسي في البناء العام لمقالاته
محتذياً “والتر ليبمان”، أهم صحافي أمريكي في التاريخ، بالخروج عن المألوف
والمعتاد والكتابة في مجلات أقل انتشاراً في توزيعها وأكثر قيمة في محتواها
فيما يعرف ب”المقال المستطرد” . . الذي “يظهر فيه كاتبه وكأنه يتحدث وكأنه
يمشي وكأنه يتجول بعيداً إلى حيث يأخذه موضوعه مفتوحاً وطليقاً” .
“المقال المستطرد مكان وسط أطول من المقال وأقصر من الكتاب وهدفه أن يمسك بموضوع معين ويستوفيه قدر ما هو ممكن” على ما كتب شارحاً .
تجربته
في “المقال المستطرد” امتدت لسنوات على صفحات مجلة “وجهات نظر” . .
والأسلوب احتفظ بمقوماته العامة لكن جمله بدت أطول والأقواس التي يضيف
داخلها معلومات إضافية زادت، وكان ضبط الإيقاع “بقدر ما هو ممكن” معضلته
الأساسية . . قبل أن يعود مجدداً باختلاف المنابر والقضايا إلى الأسلوب
الذي ارتبط به في مقالات “بصراحة” مع شيء من إضافات الخبرة والزمن . “ما
حدث طبيعي وإنساني ومهني فأنت تتحدث عن تجربة سبعين سنة” .
(7)
عند
افتراق الطرق مع أنور السادات ضمهما لقاء عائلي إلى مقربين . تحدث الرئيس
مطولاً عن رهاناته الجديدة في الإدارة السياسية لنتائج حرب أكتوبر، وأطلق
لأول مرة عبارته الشهيرة: “99% من أوراق اللعبة في يد أمريكا” . . احتدم
سجال وارتفعت أصوات وفي طريق عودته إلى بيته الذي يجاور بيت “السادات” قال
لقرينته: “قررت أن أغادر الأهرام، فإما أن أدافع عن سياسة لا أقتنع بها
وأخسر نفسي، وإما أن أكسبها وأنهي هذه الصفحة من حياتي” . . ثم حاول أن
يخفف عنها وطأة ما قال: “تأكدي أن الحقائق ستقول كلمتها في النهاية” .
وقد
كسب محمد حسنين هيكل رهانه على موهبته ومستقبله، وتأكدت مكانته وأثرت
مدرسته بعمق على أجيال تعاقبت: “لم تكن معنا عندما كنا هناك” .