أخبار عاجلة
الرئيسية / أخــبار / تقارير الأمن الفرنسي عن التمويل الصــهيوني المُبكر للإعلام اللبناني والسوري والمصري في أربعينيات القرن العشرين - بقلم : بدر الحاج

تقارير الأمن الفرنسي عن التمويل الصــهيوني المُبكر للإعلام اللبناني والسوري والمصري في أربعينيات القرن العشرين - بقلم : بدر الحاج

مباشرة في اليوم الثاني لعملية «طوفان الأقصى»، نشط الإعلام العربي المعادي بهدف تشويه ما قام به الفلسطينيون، تماماً كما حدث في اليوم الثاني لحرب تموز عام 2006. وتصاعدت الوتيرة العدائية بالتدريج مع دخول جبهات الإسناد المعركة، لدرجة التبني الكامل للسردية الصهيونية. وإذا كان من البديهي أن يتبنّى الإعلام الغربي بأجهزته كافة المجازر التي يرتكبها الصهاينة، فإن البعض استغرب تصرفات الإعلام العربي وخاصة اللبناني.
في هذا الموضوع بالذات، أودّ الاستعانة ببعض التقارير الأمنية التي تعود إلى فترة الاحتلال الفرنسي لسوريا، والتي تفضح بعض أصحاب الصحف اللبنانية وعلاقتهم المالية بالوكالة اليهودية. وكان الفرنسيون يرتابون جداً من النشاط الصهيوني في سوريا، ويعتبرون الصهاينة حينذاك مجرد أدوات عند البريطانيين.
لا بد من الإشارة إلى أن الإعلام اللبناني الحالي لا يستطيع الاستمرار من دون الدعم المادي من الدول العربية المطبعة والمتحالفة مع الصهاينة، أو من «الناتو» - سوروس. لذلك من السهولة فهم تصرفات أصحابه الذين اقتناهم المموّل، والذين يتبنّون شعار «ادفعوا وخذوا ما تريدون».
المسألة بالنسبة إلى الأكثرية الساحقة للإعلام في لبنان عبارة عن موضوع تجاري بحت، لا أخلاق ولا كرامة وطنية ولا مبادئ، بل المال فقط. يستطيع المرء أن يشبّه هذا الإعلام بصاحب دكان يعرض بضاعته للبيع، ويأتي الشاري ليدفع ثمن ما اشتراه. وبما أن الإعلام حالياً ضرورة من ضرورات المعركة، فقد تدفقت الأموال لشراء هذا القطاع.
ولنأخذ مثالاً من بعض الوقائع التاريخية، وكيف تصرفت الوكالة اليهودية في معركتها الإعلامية لاكتساب الأوساط العربية منذ بداية الاستيطان في فلسطين. وتظهر الوثائق أن الصهاينة الأوائل توصلوا إلى نتيجة مفادها أن المال هو الوسيلة الأنجع في تجييش المزيد من المنابر العربية لمصلحتهم. وهذا ما رصدته التقارير الأمنية الفرنسية.


التقارير الأمنية الفرنسية
تحفل الوثائق الديبلوماسية الفرنسية، وبصورة خاصة التقارير الأمنية منها، بمعلومات عن تقاضي أصحاب الصحف أموالاً من الوكالة اليهودية مقابل نشر أخبار أو مقالات ترسلها الوكالة إلى تلك الصحف. وتتقاطع معلومات الفرنسيين مع مذكرات قادة صهاينة، وخصوصاً مذكرات إلياهو ساسون الذي كان يتولى مسؤولية مدير القسم العربي في الوكالة اليهودية.
ونعرض أدناه نماذج مختصرة عن تلك التقارير، التي إذا قارناها بما يحدث اليوم، فسوف يتّضح أن المشهد لم يتبدل إطلاقاً، بل ازداد إسفافاً وفجوراً. أول هذه التقارير ما أبلغه مدير القنصلية الفرنسية في سوريا بتاريخ 6 آذار 1914، إلى المكلف بأعمال فرنسا في إسطنبول عن تفاصيل زيارة ممول الاستيطان البارون إدمون دو روتشيلد لبيروت. ومما جاء في تقريره: «أشادت جريدة «الرأي العام» الصادرة في بيروت باللورد روتشيلد الذي كرّم صاحبها [طه المدور] بهبة مالية، بعد أن أبدى اللورد رغبته في أن تتوقف حملة الصحيفة على الحركة الصهيونية في فلسطين».
اعتبر تقرير فرنسي عنوانه «النشاط الصهيوني في سوريا»، أعدّ بتاريخ 4 كانون الأول 1929، أن النشاطات الإعلامية الصهيونية في بيروت هي واجهة لنشاطات الحركة الصهيونية. يقول التقرير ما يأتي: «توفيق مزراحي، وهو صحافي يهودي أصله من دمشق ومعروفٌ بميوله الصهيونية، هو الذي يدير مكتب الصحافة والإعلان في شارع باب إدريس. بين العامَين 1923 و1925، كان هذا الشخص مراسلاً في دمشق لصحيفة «المقطم» التي تصدر في القاهرة. سرّحته إدارة الصحيفة في عام 1925 بسبب تقييم رسائله بأنها مناصرةٌ بحماس للصهيونية. حينذاك، أخذ مزراحي يرسل مقالاتٍ إلى الهيئات الصهيونية في فلسطين، لها النبرة عينها. جرى مكافأته وتشجيعه، وخصّصت اللجنة الصهيونية في القدس له راتباً شهرياً مقداره 25 ليرة فلسطينية.
في عام 1926، أصدر مزراحي في بيروت صحيفةً باللغة الفرنسية اسمها «Commerce du Levant» (تجارة المشرق). فضلاً عن ذلك، افتتح في شارع باب إدريس متجراً لبيع المعدات الكهربائية. وفي عام 1929، أتى إلى بيروت يهوديٌ من القدس اسمه جاكوب فرانكو Jacob Franco، وهو محررٌ سابقٌ في صحيفة «دوار حايوم» العبرية، معروفٌ بحملاته ضد سلطة الانتداب في سوريا ولبنان. وضع فرانكو نفسه تحت تصرف اللجنة الصهيونية التي أرسلته إلى بيروت لأغراضٍ قد يكون توضيحها مثيراً للاهتمام.

تُظهر الوثائق أن الصهاينة الأوائل توصلوا إلى نتيجة مفادها أن المال هو الوسيلة الأنجع في تجييش المزيد من المنابر العربية لمصلحتهم وهذا ما رصدته التقارير الأمنية الفرنسية


حالياً، يهتم فرانكو ظاهرياً بتحرير صحيفة «تجارة المشرق» بالتعاون مع مزراحي. وهذا العمل ليس سوى ذريعة، لأنّ فرانكو هو في الحقيقة عميل اللجنة الصهيونية في بيروت. ويمكن تأكيد ذلك لأنه يلعب دوراً نشيطاً في تهريب السلاح من لبنان إلى فلسطين».
ويشير تقرير فرنسي صادر عن إدارة جهاز المعلومات في الشرق بتاريخ 17 تموز 1930 ويحمل الرقم 1597، إلى معلومات عن لقاء خير الدين الأحدب صاحب جريدة «العهد الجديد»، الذي تولى عام 1937 رئاسة مجلس الوزراء، مع ممثل الوكالة اليهودية حاييم غالفارسكي.
وفي اليوم التالي يوضح تقرير آخر بعنوان «نشرة معلومات رقم 1626» صادر أيضاً عن الأمن العام، وبتوقيع من المفتش العام للشرطة في بيروت، الدور الذي أُنيط بالأحدب، الذي تم تجنيده ليس للعمل الإعلامي فقط، بل أيضاً للعمل لمصلحة الوكالة اليهودية. وجاء في التقرير: «لقد فشلت فشلاً ذريعاً الخطوة التي قام بها خير الدين الأحدب لدى لجنة الشبيبة الإسلامية في بيروت، والتي هدفت إلى حث تلك اللجنة على أن ترسل إلى مسلمي فلسطين نصائح باعتدال يمكن أن تؤدي إلى مصالحة بين الصهاينة والعرب. كما لم يخف صلاح بيهم مدير «العهد الجديد» دهشته من «قيام الأحدب بدور صلة الوصل بين السيد غالفارسكي وبين مسلمي سوريا». وختم بالقول: «إن الصهاينة ليس بوسعهم أن ينتظروا إلا موقفاً معادياً من أخوة الفلسطينيين في الدين من لبنانيين وسوريين».
وفي تقرير مماثل يحمل الرقم 558 صادر من بيروت بتاريخ 7 آب 1930 تفاصيل عن لقاء آخر مع الأحدب جاء فيه ما يأتي: «بلغني أن الوكيل الصهيوني توفيق مزراحي قد سلم الأسبوع الماضي لخالد الأحدب (الصحيح خير الدين الأحدب) مدير «الشرق الجديد» 40 ليرة فلسطينية أرسلتها اللجنة الصهيونية في القدس. وبلغني أن هذا المبلغ قد جرى تسليمه وفقاً لاتفاق عُقد بين اللجنة الصهيونية والأحدب أثناء رحلته الأخيرة إلى فلسطين. كما يذكر أن اللجنة الصهيونية تولي اهتماماً بالصحف اللبنانية - السورية من أجل حملتها الدعائية، وهي صحف واسعة الانتشار في البلدان العربية، أكبر ممّا توليه للصحف الفلسطينية ذات الانتشار المحدود».
وأشار تقرير آخر صادر عن إدارة جهاز المعلومات في المشرق بتاريخ 30 آب 1930 إلى الآتي: «حالياً، يسعى كلٌ من سليم هراري ويوسف فارحي، وهما وجيهان يهوديان من بيروت ووكيلان في هذه المدينة للوكالة اليهودية في القدس، إلى اجتذاب صحيفتين جديدتين في بيروت إلى القضية الصهيونية، وهما «الأحرار» و«الراصد». وبلغني أنّ هراري وفارحي قد تلقيا لهذا الغرض مبالغ كبيرة من الوكالة اليهودية. في الوقت نفسه، بلغني أنهما تلقيا مبلغاً قدره 50 ليرة فلسطينية لمصلحة «العهد الجديد»، وهي صحيفةٌ يمولها الصهاينة منذ عدة أشهر. وقام توفيق مزراحي، وهو وكيلٌ صهيونيٌ آخر، بتسليم المبلغ في هذا الشهر».
سبق ذلك أن أشار تقرير آخر بعنوان «الصهاينة وصحف بيروت» بتاريخ 27 كانون الأول 1929 إلى الآتي: «بلغني أنّ اللجنة الصهيونية في القدس قد كلّفت السيد غالفارسكي، العضو النشيط جداً في تلك اللجنة، بالدعاية الصهيونية في سوريا ولبنان. وأثناء مرور السيد غالفارسكي في تشرين الأول المنصرم ببيروت، عمل على كسب [جبرائيل] الخباز و[جورج] نقاش وهما على التوالي مدير ورئيس تحرير صحيفة «L’Orient» (الشرق)، إلى القضية الصهيونية. وعلمت أنّ المباحثات جرت في مكتب الصحيفة، وإنّ غالفارسكي عرض تقديم 500 اشتراك بالصحيفة باسم اللجنة الصهيونية، بقيمة جنيهين إسترلينيين لكل اشتراك، بحيث يدفع كامل المبلغ على ثلاث دفعات سنوياً. فضلاً عن ذلك، طلب أن تنشر الصحيفة كل المقالات التي ترسلها إليه اللجنة الصهيونية. وبلغني أيضاً أنّ الخباز طلب 2000 ليرة فلسطينية، بحيث يكون نصفها للاشتراكات الـ 500، واحتفظ بالحق في ألّا ينشر سوى المقالات التي يجدها مناسبة. توقفت المباحثات عند تلك النقطة، بعد عدم التمكن من تحقيق أي اتفاق. كما علمت أنّ خطوةً مماثلةً قد جُرّبت، مع الكسندر خوري مدير وصاحب جريدة «اليقظة» إلا أنها فشلت أيضاً.
وبعد مدة، علمت أنّ غالفارسكي كتب في التاسع من كانون الأول من القدس إلى توفيق مزراحي، وهو إسرائيلي ويدير صحيفة (تجارة المشرق) في بيروت، كما أنه عميلٌ صهيوني في تلك المدينة. ويمكن اختصار الرسالة، التي أُرفقت بشيك بقيمة 150 ليرة فلسطينية، على النحو الآتي:
1) تعيّنك اللجنة الصهيونية مراسلاً في بيروت لصحيفة «الحقيقة» التي ستصدر في القدس باللغة العربية بدءاً من الأول من كانون الثاني. وسوف تنال راتباً شهرياً قدره 15 ليرة فلسطينية.
2) كتبت لصديقي الخباز لأطلب منه ألا ينشر شيئاً ضدنا. اذهب لمقابلته ومعك كولبير (عميل صهيوني آخر في بيروت) وأعطه 100 ليرة فلسطينية من طرفي. أما الباقي من الشيك الذي أرفقته مع الرسالة (50 ليرة) فهو مخصص لصحيفة «اليقظة». من فضلك، قدم هذا المبلغ للسيد خوري. لقد أبلغت السيدين الخباز وخوري بأنني سوف أتفق معهما نهائياً أثناء زيارتي التالية لبيروت، في أوائل كانون الثاني. وبلغني أنّ مزراحي قد قام بمهمته لدى الخباز وخوري.
يُحكى عن وجود مساعٍ حثيثة لدى صحفٍ أخرى في بيروت ودمشق لاجتذابها إلى القضية الصهيونية. وبلغني أنّ اللجنة الصهيونية في القدس قد رصدت لهذه الغاية في ميزانيتها لعام 1930 مبلغاً بقيمة 4 آلاف ليرة فلسطينية، أي ما يعادل 500 ألف فرنك تقريباً».
أخيراً يبدو أنه تم الاتفاق بين «الأوريان» والصهاينة، بدليل أن نشرة معلومات أمنية فرنسية صادرة من بيروت بتاريخ 6 كانون الثاني 1930 تقول: «أثناء مرور غالفارسكي في بيروت دفع لجريدة «الأوريان» مبلغ 100 ليرة فلسطينية، ولجريدة رفاي [Reveil] 50 ليرة. كما عُقد اتفاق بين توفيق مزراحي ومدير الأوريان l’Orient الخباز التزم بموجبه المزراحي بـ 200 اشتراك في الصحيفة مقابل نشر المقالات».
مقارنة بين الأمس واليوم يتبيّن لنا أن المشهد لم يتبدّل. يتنافس الإعلام الممول من الخارج في تشويه النضال ضد الاستيطان، وينشرون الأضاليل بهدف واحد فقط إرضاء الممول. تغطية الجرائم الصهيونية في الأبواق المأجورة اللبنانية متواصلة، وأصحاب الدكاكين يروّجون لبضاعتهم لنيل المزيد من المموّل.
[مصدر التقارير الفرنسية هو مركز الأرشيف الديبلوماسي الفرنسي في مدينة نانت]
(تتبع حلقة أخرى غداً)
* كاتب لبناني

.

تقارير الأمن الفرنسي عن التمويل الصــهيوني المُبكر للإعلام [2/2]: تسكت عنا ندفع… تـكتب معنا ندفع أكثر!


تتقاطع معلومات جهاز الأمن الفرنسي عن اختراق الوكالة اليهودية للصحف اللبنانية والسورية مع المعلومات التي نشرها إلياهو ساسون في مذكراته «الطريق إلى السلام» الصادرة باللغة العبرية بعد موافقة الرقابة العسكرية عام 1978. وسوف أستند إلى ما جاء في تلك المذكرات حول هذا الموضوع كون ساسون أحد أبرز الذين تعاملوا مع أصحاب الصحف.
يذكر ساسون أنه كلّف خير الدين الأحدب بمهمات سياسية عندما كان يتولى رئاسة مجلس الوزراء. وهذا الموضوع لن أتطرق إليه بالتفصيل في هذه العجالة. لكن ملخص ما ذكره ساسون عن اجتماعاته العدة مع الأحدب أن الرجل كان يعمل بالإيجار لمصلحة الوكالة اليهودية، وأن جريدته «العهد الجديد» كانت تتلقى دعماً مالياً من الوكالة.
منذ مطلع القرن الماضي، بدأت الصحافة الصادرة في بيروت ودمشق والقاهرة تغطية الاصطدامات بين الفلسطينيين والمستوطنين اليهود. وكان المناخ العام في بلاد الشام معادياً بشكل جذري لتهويد فلسطين. لذلك قرّرت الوكالة اليهودية تخصيص ميزانية لشراء أصحاب الصحف وإغرائهم بدفع مبالغ مالية لقاء التوقف عن مهاجمة الحركة الصهيونية. بعض تلك الصحف نشرت مقالات كتبها مسؤولون في القسم العربي في الوكالة اليهودية أمثال إلياهو ساسون، هدفها إبراز النواحي الإيجابية للحركة الصهيونية.
وفي كانون الأول 1919 أصدر ناشطون صهاينة جريدة عبرية - عربية في دمشق سميت «الشرق» بهدف إبراز النواحي الإيجابية للفكرة الصهيونية على أمل أن تكون الصحيفة «جسراً بين العرب والصهاينة». تولى الصهيوني الدمشقي الناشط موشي تسفي رئاسة تحرير الجريدة وتم شراء مطبعة باللغة العبرية من فلسطين. وأخذت الوكالة اليهودية على عاتقها تمويل الجريدة التي كانت توزع في حلب وبيروت ومصر وإسطنبول وبالطبع فلسطين.
أعطت وزارة الداخلية في الحكومة الفيصلية التي كان يتولاها رضا الصلح رخصة نشر الجريدة في مطلع أيار 1920، وصدر العدد الأول في مطلع تموز 1920. لكن صدورها أحدث صدمة في دمشق، إذ طالب عدد من أعضاء المؤتمر السوري بمنعها كونها تبث دعاية صهيونية. وساندت الطلب شخصيات سياسية بارزة. ولذلك أصدر وزير الحربية يوسف العظمة، قبيل أسبوعين من استشهاده في معركة ميسلون، أمراً بإقفال الجريدة. وبما أن أولويات الاحتلال الفرنسي بعد سقوط حكومة فيصل كانت مواجهة الوطنيين السوريين، فقد تم تجاهل الطلبات الصهيونية لإعادة إصدار الجريدة. ولذلك تحوّل الجهد الإعلامي الصهيوني أكثر فأكثر إلى شراء أصحاب بعض الصحف العربية.
وفي بداية عام 1920 اقترح كل من يهوشواع هانكين، مسؤول قسم شراء الأراضي في الوكالة اليهودية، ومساعده موشي شاريت، تأسيس جريدة عربية في مصر توزع مجاناً، وإصدار جريدة عربية في فلسطين، إضافة إلى تقديم مساعدات مالية لصحف عربية.
تم تنفيذ المخطط، وحصلت كل من جريدة «المقطم» في القاهرة وجريدة «المفيد» في دمشق وجريدة «الحقيقة» في بيروت على التمويل. وقد أشارت إلى ذلك الصحيفة الصهيونية «دار هايوم» الصادرة في فلسطين في شباط سنة 1920.
وخلال ثورة البراق عام 1929، رأت الوكالة اليهودية أن الصحف التي تصدر في بيروت ودمشق والقاهرة تؤيد نضال الشعب الفلسطيني ضد المستوطنين. لذلك كثّفت نشاطاتها، وعمدت إلى تخصيص ميزانية معينة يتولى كل من إلياهو ساسون وحاييم غالفارسكي توزيعها على بعض أصحاب الصحف مقابل نشر مقالات تؤيد الوجود اليهودي في فلسطين، وفي حال تعذّر النشر، يُستعاض بالتوقف عن مهاجمة نشاطات الصهاينة. وهذا ما رصدته أجهزة الأمن الفرنسية.
كان الرفض الشعبي في فلسطين والدول المجاورة في أوجه بعد ثورة البراق، لذلك وسّعت الوكالة اليهودية تحركاتها الإعلامية والسياسية في الأقطار العربية. وفي هذا السياق أسس الصهاينة عام 1934 في القاهرة وكالة أنباء باللغة العربية سميت «الشرق» بهدف اختراق الصحف العربية بطريقة غير مباشرة، وأسندت مسؤولية إدارتها إلى الناشط الصهيوني ناحوم زيلنسكي. وبدأت الوكالة تزويد الصحف العربية بالأخبار التي كانت تؤمنها لها الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية. وقد عززت «الشرق» حملاتها الإعلامية بموازاة ارتفاع حدة الرفض الشعبي للهجرة اليهودية. وكانت أخبار الوكالة تنشر في الصحف العربية ثم يقوم الصهاينة بترجمتها إلى اللغات الأجنبية بهدف التأثير على توجهات السياسيين والرأي العام في الدول الغربية على أساس أن الأخبار منشورة في صحف عربية.
وخلال الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) كثفت الوكالة اليهودية اتصالاتها بالسياسيين وأصحاب الصحف العربية. يتحدّث ساسون بإسهاب عن علاقاته بالسياسيين السوريين واللبنانيين، وعن نجاحاته في شراء ولاء عدد من أصحاب الصحف. وكتب في تقرير في تاريخ 10 كانون الثاني 1938 عن اجتماعه مع إلياس حرفوش صاحب جريدة «الحديث» التي كانت تحصل على تمويل من الوكالة اليهودية. وأشار ساسون إلى أنه كلف حرفوش بمهمات سياسية.

الاختراق الصهيوني للإعلام العربي عامة والصحف اللبنانية خاصة كان واضحاً وعلى نطاق واسع (أحصى محمود محارب في بحثه 280 مقالاً مدسوساً في الصحافة العربية)


أما عن اجتماعاته مع رئيس الحكومة اللبنانية خير الدين الأحدب، فيقول في تقرير في تاريخ 27 آذار 1938 ما يلي: «بدأت علاقاتي الودية معه قبل حوالى سنتين عندما جئت إليه آنذاك طالباً موافقته الرسمية كرئيس للحكومة اللبنانية على الاستيطان في حانيتا [من الغريب أن الصهاينة اشتروا حانيتا التي تبعد مئات الأمتار عن حدود لبنان في العام نفسه] قرب الحدود الشمالية».
وفي تقرير في تاريخ 22 أيار 1938 يذكر ساسون أنه التقى الأحدب مرة ثانية في مرفأ حيفا حيث كان في طريقه إلى باريس، وكلفه بمهمات سياسية عدة مع السلطات الفرنسية.
من ناحية أخرى، يشير الأكاديمي الفلسطيني محمود محارب، الذي اطلع على الأرشيف الصهيوني، في بحث نشرته مجلة «الدراسات الفلسطينية» العدد 78، عام 2009 إلى أن غالفارسكي زار بيروت في كانون الثاني 1930، واجتمع بالأحدب وطلب منه تقديم المساعدة للوكالة اليهودية بنشره مقالات موالية للصهيونية في جريدته. ثم سأله في نهاية الاجتماع عن المبلغ الذي يريده في مقابل خدمته هذه، فأجابه هذا أنه يريد 400 جنيه فلسطيني في السنة. وهو مبلغ اعتقد غالفارسكي أنه مبالغ فيه، «وبعد مفاوضات اتفقا على مبلغ 200 جنيه تدفع على أقساط كل ثلاثة أشهر».
وتتضمن مذكرات ساسون رسالة مؤرخة في 2 تشرين الثاني 1939 وجهها إلى موشيه شاريت رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية يبلغه فيها حصيلة زيارته إلى سوريا ولبنان. ومما جاء في الرسالة: «في بيروت التقيت خير الدين الأحدب مرتين، والتقيت ثلاث مرات مع إلياس حرفوش صاحب جريدة «الحديث»، وسمعان فرح سيف مرتين صاحب جريدة «مرآة الأحوال»، وأسعد عقل صاحب «البيرق» مرة واحدة».
ويضيف ساسون في رسالته: «خلال الأربعة أيام المنصرمة، نشرت في الصحف البيروتية التالية «الحديث»، «الاتحاد»، «لسان الحال»، «صوت الأحرار» ثماني مقالات ضد اشتراك أعضاء البرلمان اللبناني في المؤتمر البرلماني العربي. وذكرت في هذه المقالات أن النواب الذين سيشتركون في هذا المؤتمر إنما سيشتركون بصفة شخصية ولا يحق لهم التحدث باسم لبنان». وفي مقالة رئيسية طالبت «صوت الأحرار» المؤتمر باتخاذ قرارات «تقضي بوقف الاضطرابات في فلسطين». كما يشير إلى أن الياس حرفوش وعده بأن ينشر خلال اليومين القادمين مقالتين شديدتي اللهجة ضد المؤتمر والداعين إليه.
ويكشف ساسون في تقاريره إلى أنه دفع مبالغ إلى الصحف التالية: «الحديث»، «الأحوال»، «الاتحاد»، «لسان الحال»، «صوت الأحرار»، «النداء»، «العهد الجديد»، «بيروت»، «الرابطة»، «النهار»، «البيرق»، و«الأوريان»، و«لا سيري» الصادرتين باللغة الفرنسية… وغيرها.
وفي تقرير آخر في تاريخ 23 كانون الأول 1940 يقول عن زيارته بيروت: «رأيت بأم عيني أخبار النشرة اليومية التي تصدرها الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية منشورة في قسم كبير من صحف سوريا ولبنان، وفي أماكن بارزة وتحت عناوين ملائمة مع ذكر المصدر».
كانت النشرة اليومية التي يتحدث عنها ساسون من منشورات القسم العربي في الوكالة اليهودية، وكانت تصدر خمس مرات في الأسبوع وترسل مجاناً إلى الصحف والسياسيين ورجال الأعمال والوزارات والنواب في سوريا ولبنان والبلدان العربية.
وفي زيارة أخرى إلى لبنان وسوريا بعد دخول قوات الحلفاء البلدين، كتب تقريراً في تاريخ 11 آب 1941، ذكر فيه أنه حذّر من التقاهم من السياسيين اللبنانيين من أي تعاون مستقبلي مع سوريا، وأضاف: «وتوصلت إلى اتفاق مع ثلاث صحف لبنانية (لم يذكر أسماءها) بأن تكتب ضد أي تعاون كان مع السوريين، وأن لا يكتفوا بإقناع الموارنة بذلك بل السلطات الفرنسية والبريطانية أيضاً».
هذا باختصار شديد ما كان يجري قبل قيام دولة إسرائيل عام 1948. ولا مجال هنا لمزيد من الشرح الموسع. المؤكد أن الاختراق الصهيوني للإعلام العربي عامة والصحف اللبنانية خاصة كان واضحاً وعلى نطاق واسع (أحصى محمود محارب في بحثه 280 مقالاً مدسوساً في الصحافة العربية). في السابق كانت الوكالة اليهودية تموّل الصحف مقابل التوقف عن معاداة الحركة الصهيونية ونشر مقالات مؤيدة لها. أما اليوم وبعد تطور الإعلام وانتشار الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، فقد حلّ مكان التمويل الصهيوني تمويل عربي أو من دول في حلف «الناتو». هذا التمويل جعل الفضاء بغالبيته يكرر السردية الصهيونية للأحداث، وهكذا وفروا على الميزانية الصهيونية المال وتولوا هم اقتناء البشر. ومن يريد التأكد من ذلك فليراقب ما يبث وينشر في الإعلام الإبراهيمي الحالي.
* كاتب لبناني

عن admin

شاهد أيضاً

فورين بوليسي : السبب الحقيقي وراء تحول المملكة العربية السعودية نحو إيران

يصل محمد بن سلمان إلى مؤتمر مبادرة الاستثمار المستقبلي في العاصمة السعودية الرياض في 24 …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *