صبحي غندور
كان يوم 15/1/2008 يوم مناسبة الذكرى التسعين لميلاد جمال عبد الناصر. إن الكتابة عن ناصر ليست ابتعاداً عن الحاضر، أو تجاهلاً للمستقبل، أو حنيناً لماضي يفتقده عشرات الملايين من العرب، بل هي دعوة للمقارنة بين نهج سائد الآن في التعامل مع الأزمات، وبين نهج «ناصري» واجه أزمات مشابهة لصراعات مستمرّة لأكثر من نصف قرن، وما زالت تنخر في جسد الأمَّة العربية.
فلقد عاشت المنطقة العربية في بداية الخمسينات وحتى منتصف السبعينات من القرن العشرين، رغم الكثير من التعثر والانتكاس، صحوةً قومية عربية لم تعرف لها مثيلاً في تاريخها الحديث. فقبل الخمسينات، وامتداداً للقرون العجاف تحت الحكم التركي ثم سيطرة دول الغرب على العرب، لم يكن للعرب حول ولا قوّة تذكر.
لكن الصحوة القومية العربية في ما بعد كانت في غالبيتها «حالةً شعبية» أكثر منها «حالة فكرية» أو «تنظيمية». فالشارع العربي كان مع جمال عبد الناصر «القائد»، لكن دون «وسائل سليمة» تؤمّن الاتصال مع هذه القيادة. فأجهزة المخابرات كانت هي في معظم الأحيان «وسائل الاتصال» بدلاً من البناء التنظيمي المؤسساتي السليم للمجتمعات ولهذه الملايين العربية في بلدان المشرق والمغرب معاً.
طبعاً هذه الأمور كلّها لم تكن بمثابّة قضايا مهمة لدى الشارع العربي، فسمة المرحلة كانت «معارك التحرّر الوطني من الاحتلال والاستعمار»، وهذه المعارك لم تسمح كثيراً بـ «الحديث عن الديموقراطية» خصوصاً أن العالم آنذاك كان قائماً على تجربتين: التجربة الرأسمالية في الغرب، والتجربة الشيوعية.
لذلك كان من الطبيعي في منطقةٍ عربية تريد التحرّر من الغرب الرأسمالي، كحال معظم دول العالم الثالث، أن تطلب المساندة من «الشرق الشيوعي» وأن تتأثّر بمفاهيمه للحكم سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وألا تقبل الجمع بين التحرّر الوطني من الغرب وبين تبنّي صيغه الدستورية والاقتصادية والثقافية في أنظمتها.
وفاة جمال عبد الناصر عام 1970، وقبلها هزيمة عام 1967، وقبل هذا وذاك: ضعف البناء الفكري والسياسي والتنظيمي لتيّار القومية العربية مقابل قوّة دور المخابرات وسط هذا التيَّار، كلّها عناصر أسهمت بلا شكّ في ضعف التيَّار القومي العربي نفسه لعقودٍ لاحقة.
وصحيح ان هذا المرحلة قد انتهت الآن، لكن دروسها تبقى للحاضر والمستقبل، أنَّ القومية العربية حالة انتماء وليست مضموناً فكرياً وسياسياً قائماً بذاته، وبأنَّ النهضة العربية الشاملة تحتاج إلى دور مصري فاعل، وإلى تكامل بين وضوح الهويّة العربية وبين البناء الديموقراطي السليم.
لكن السلسلة التي امتدَّت من هزيمة 1967، إلى وفاة ناصر، إلى توقيع أنور السادات لمعاهدات كامب ديفيد، إلى عزل مصر، إلى حرب لبنان، إلى الحرب العراقية/الإيرانية، إلى اجتياح لبنان عام 1982، إلى غزو الكويت وحرب الخليج الثانية، إلى الصراعات الحدودية المسلَّحة بين بعض الدول العربية، ثم إلى أحداث سبتمبر 2001 وما بعدها من حروب وصراعات أخطرها احتلال العراق، كلّها عوامل امتزجت كسلبيّات لتضعف الجسم العربي عموماً ولتضع الصراع العربي/الإسرائيلي في حالة «الثانوية» أو خانة التسويات الثنائية!
رحم الله تعالى جمال عبد الناصر، فقد دفعته معلومات مصدرها موسكو (مايو 1967) عن حشوداتٍ إسرائيلية ضدَّ سورية إلى إعلان حالة التعبئة العامَّة وإغلاق مضائق تيران في سيناء، ثم تعرّضت مصر لهزيمةٍ عسكريةٍ كبيرة كان وراءها استهتار المشير عامر، والتركيبة الهشَّة آنذاك للمؤسسة العسكرية المصرية. رغم ذلك، أعلن جمال عبد الناصر يوم 9 يونيو (بعد أقلّ من أربعة أيام على بدء الحرب) استقالته من المواقع الرسمية كافّة وأنّه كقائدٍ أعلى يتحمَّل المسؤولية كلّها عمَّا حدث. وما حدث في مصر لم يكن عدواناً من حكومتها على بلدٍ عربيٍّ آخر ولا حتى على إسرائيل، بل كان عدواناً عليها من إسرائيل وأميركا، وغضّ نظر من القطب الدوليّ الآخر، ومن أجل محاولة الدفاع عن بلدٍ عربيٍّ آخر، سورية.
جمال عبد الناصر حرص كردٍّ على هزيمة عام 1967 على أن يوقف أي صراعات عربية/عربية، وعلى أن يبني تضامناً عربياً فعالاً، فسحب القوات المصرية من اليمن، وصالح كلَّ من عاداه من العرب، ورفع شعار أولويّة المعركة مع العدوِّ الصهيونيّ.
فالقيادة الناصرية لمصر أدركت بعد هزيمة عام 1967 أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وأنّ هذا الصراع يقتضي تكاملاً بين هذه العناصر الثلاثة: بناء تضامن عربي فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، وبوقف كلّ الصراعات العربية/العربية، والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي. وبذلك حسم ناصر: «لا صوت يعلو على صوت المعركة مع العدوّ الصهيوني»، وبأنّ معيار المرحلة هو «موقف أيّ طرف عربي من العدو».
إنّ التضامن العربي إنّما يكون فاعلاً حينما لا يكتفي بترديد ما هو مرفوض، بل حينما يضع خططاً لما هو مطلوب إنجازه في المعركة. لقد كانت قرارات قمّة الخرطوم عقب هزيمة 67، هي الأرضيّة الصلبة للدعم العربي الذي تقرّر لدول المواجهة ولمنظمة التحرير الفلسطينية، وقامت حصيلة ذلك جبهة عربية واسعة جمعت «دول النفط» مع «دول المدفع» في إطارٍ تضامنيٍّ عام، ساعد على إعادة بناء القوات المسلحة المصرية وخوضها لمعارك حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، ثمّ كان هذا التضامن ذاته وراء القرار في حرب أكتوبر عام 1973، الذي جمع بين استخدام السلاح والاقتصاد والسياسة، فكان قرار حظر النفط متساوياً في أهمّيته مع قرار المواجهة العسكرية مع إسرائيل. بناء جبهة داخلية متينة لا تستنزفها صراعات طائفية أو عرقية، ولا تلهيها معارك هامشية عن المعركة الرئيسية مع العدوّ الصهيوني. طبعاً، مع إعادة بناءٍ كاملٍ للقوات المسلحة واعتماد عنصر الكفاءة لا الولاء في مواقع المسؤولية داخل الدولة عموماً، والجيش خصوصاً. وكان نموذج هؤلاء الشهيد الفريق رئيس أركان القوات المصرية عبد المنعم رياض أحد شهداء حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية عام 1969.
بناء أهداف سياسية مرحلية لا تقبل التنازلات أو التفريط. فقد رفض جمال عبد الناصر إغراءات التسوية كلّها مع إسرائيل، بما في ذلك العرض الأميركي/الإسرائيلي له بالانسحاب الكامل من كلّ سيناء مقابل عدم تدخّل مصر في الجبهات العربية الأخرى، وإنهاء الصراع بينه وبين إسرائيل (وهذا ما فعله أنور السادات فيما بعد باتفاقية كامب ديفيد). وكان ناصر يردّد: «القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء»، و«لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة».
وأصرَّ ناصر على هذه الأهداف السياسية رغم قبوله بالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن ثمَّ لما كان يُعرَف باسم «مبادرة روجرز»، وكان يتحرّك دولياً في مختلف الاتجاهات (رغم ظروف الحرب الباردة واضطراره لعلاقةٍ خاصّة مع موسكو) من دون تفريطٍ أو تنازلٍ عن الأهداف السياسية المرحلية، وبشكلٍ متزامنٍ مع البناء العسكري والمعارك المفتوحة على الجبهة المصرية ومع أقصى درجات التضامن العربي والدعم المفتوح لحركة المقاومة الفلسطينية.
هكذا جعل عبد الناصر من هزيمة عام 1967 أرضاً صلبة لبناء وضعٍ عربيّ أفضل عموماً، مهّد الطريق أمام حرب عام 1973، فكانت السنوات الأخيرة من حياة ناصر زاخرة بالبناء الداخلي وبالتضامن العربي وبالمواقف الصلبة والتي أعادت للأمَّة المهزومة اعتبارها وكرامتها.
لكن بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد انتصار أكتوبر 1973 اتّسمت المرحلة بتحوّلات خطيرة لدى بعض الحكومات العربية ولدى السلطة الفلسطينية التي اعتمدت المفاوضات كأسلوبٍ وحيد وهذا ما حقّق التطبيع مع إسرائيل حتى قبل الانسحابات الشاملة من كلِّ الأراضي العربية المحتلّة، وما ساعد على التراجع عن الهويّة العربية لصالح دعاة «الشرق أوسطية»، وإلى تصعيد الصراعاتٍ العربية/العربية، وإلى جعل المرجعية الأميركية هي المهيمنة على المنطقة كطرفٍ دوليٍّ وحيد يشرف على الصراعات والمفاوضات ويصبح فيها الخصم والحكم!
صبحي غندور
مجلة الوعي العربي
مقالة عظيمة ولكن موضوع المناصب بالولاء ده أظنه كان قاصر على المؤسسة العسكرية فقط لأن بعيداً عنها كان عبدالناصر بالفعل بيختار أصحاب الكفاءة وليس أصحاب الولاء -كما يظن البعض- فى مواقع المسئولية داخل الدولة عموماً.. والأسماء كتيرة.. عبدالعزيز حجازى والنبوى المهندس وعزيز صدقى والقيسونى وكمال رمزى استينو وغيرهم مع حفظ الألقاب