
1 - في فبراير عام 2008 .. أقيمت في القاهرة ” إحتفالية ” عربية في الذكرى الخمسين للوحدة بين مصر وسوريا في 22 فبراير عام 1958 .. أول وحدة ” إندماجية ” بين دولتين عربيتين في التاريخ العربي الحديث .
وبقدر ما أثبتت ” الإحتفالية ” عمق الشعور الوحدوي لدى ” بعض ” النخب المثقفة والسياسية العربية .. ألا أنها أثبتت .. بالمقابل .. سطحية التعامل النقدي مع قضية الوحدة .. داخل هذه النخب ..
عاشت هذه النخب طرفا من تجربة الوحدة بفورانها العاطفي وأحلامها الجارفة المتفائلة .. وعانت .. بعد ذلك .. تجربة الإنفصال عام 1961 ..
أما النخب – التي لم تعش التجربة – وانما سمعت بها أو قرأت عنها .. فقد كانت مشاركتها - في معظمها - نوعا من الإجترار لوقائع وخطب قديمة غير مفيدة ..
لكن ” الإحتفالية الخمسينية ” أكدت أن هاجس الوحدة العربية لازال يجري في الوجدان العربي .. بإعتباره .. على الأقل .. النقيض من واقع الإنحطاط العربي الحالي .. قد يبدو أمل الوحدة العربية ” أملا مستحيلا ” لدى الكثيرين .. لكن هذه “الإستحالة ” هي .. تعبير عن أمل ” ميئوس ” منه .. وليست تعبيرا عن أمل “مرفوض حدوثه ” .. أو رغبة ” منكورة ” ..
الكثير من العرب ينكرون أي إمكانية للحديث عن وحدة عربية .. متخذين من انقسامات وشقاقات الوضع العربي برهانا على هذه ” الإستحالة ” !!
أن أي حديث عن المستقبل العربي بدون وحدة عربية .. في راينا .. ربما يكون هو الحديث المرفوض والمنكور .. انه العبث ذاته أن نتصور مستقبلا واح
ان مبعث أندهاشي الدائم من مبررات الذين يجادلون في امكانية تحقيق الوحدة العربية بإعتبارها ” وهما ” وحلم غير واقعي .. ب يعرفون من واقع أقطارهم .. كل منها منفردا .. أنه هو واقع بائس ولا مستقبل له حيث تتهدده المخاطر من كل حدب وصوب .. من قوى النهب والتفتيت الداخلي الحاكمة والمتحكمة .. فضلا عن قوى التفتيت الخارجية التي لا تهدأ عن التآمر والتخريب ..
ان الذين يتمحكون بضرورات النضال القطري .. أي النضال في كل قطر على حدة .. لم ينجزوا – في واقعهم القطري – أية إنجازات سياسية أو شعبية يستحقون عليها التهنئة أو الإشادة .. أو على الأقل .. تجعل من إنتصاراتهم القطرية دليلا على صدق فرضية الإهتمام بالقطري على حسام القومي .. وحيث أن القطري يتدهور يوميا أمام التحديات الأمنية والإقتصادية والمذهبية والطائفية .. فنحن نفترض أحد إحتمالين : إما أن الجهد القطري غير قادر على وقف التدهور وبالتالي ينبغي البحث عن صيغ غير قطرية .. أو أن دعاة الوحدة قد تراجع جهدهم وتعبئتهم الجماهيرية أم دعاة العمل القطري .. وهي بهذا المعنى هزيمة لتيار الوحدة العربية لا تبرر اندماجه في شعارات الأ قليميين والإنفصاليين والطائفيين .. وهو فرض يقتضي مراجعة الشعارات والأهداف والخطط .. وقبل كل شيئ وبعده .. مراجعة النوايا الوحدوية !!
فالنضال الوحدوي .. هو نضال .. من أجل المصلحة القطرية في الاساس .. وهو البداية ..
ان الذين يهرولون لعقد الإتفاقيات التجارية والإقتصادية والسياسية وإتفاقيات الشراكة مع أوروبا ومع أمريكا .. بل مع العدو الإسرائيلي .. كإتفاقية ” الكويز ” المصرية الأمريكية الإسرائيلية .. أو هؤلاء الذين يلهثون من أجل الإنضمام لأوروبا الموحدة كما في حالة المغرب العربي .. أو الخضوع للمظلة الأمنية العسكرية الأمريكية كما في حالة دول الخليج العربي والسعودية ..
كل هؤلاء لا يفسرون لنا ولا لشعوبهم .. هذا الجموح الغريب والتهليل العجيب للتعاون مع الآخر غير العربي .. والنفور المريب من التعاون والإندماج مع أشقائهم العرب !!
نحن هنا نتعدى شعور ” الياس ” من الوحدة العربية .. الى المصالح ” المضمرة ” التي يحققها البعض من التعاون مع الغريب .. والخوف من إختطاف هذه المصالح في حالة التعاون أو الإندماج مع الشقيق العربي ؟؟ !!!
في هذه الدراسة أحاول أن اثبت من خلال قراءة تجربة الوحدة الألمانية ” تهافت ” المنطق القطري المعادي للوحدة العربية .. وأحاول أن أثبت من جهة أخرى ” تفويت ” العقل الوحدوي وكسله عن الإهتمام والإطلاع بحركة التاريخ حوله !!
مثلا :
لقد قيل الكثير في تفسير جريمة الإنفصال عام 1961 .. الجريمة التي انهت أول تجربة وحدوية في التاريخ العربي المعاصر ..
لقد فسر البعض جريمة الإنفصال بالتعجل الذي حدث – ورافق – الوحدة المصرية السورية عام 1958 وانها كانت وحدة ” غير مدروسة ” .. وتحدث البعض عن غياب الديمقراطية وسيادة الحكم الفردي .. وعزاها البعض لتفاوت المستوى الإقتصادي بين مصر وسوريا وخطأ تطبيق الأصلاح الزراعي والتأميمات على المجتمع السوري ذو الصبغة التجارية بالأساس .. وتحدث البعض عن الطابع ” المركزي ” للمجتمع المصري وللدولة المصرية مقارنة بنظيره السوري .. هذه الأسباب – كلها أو بعضها – تحتاج الى اختبار وتدقيق قبل إطلاق الأحكام والإقتناع بها .
على أية حال .. وجدت في تجربة الوحدة الألمانية من الدروس والعبر ما قد يفيد المستقبل العربي …
على الأقل … هذا ما أتمناه !!!
ألمانيا .. قرنان من النضال الوحدوي
2 – لكل هؤلاء اليائسين .. اهدي هذه التجربة الرائعة لتجربة وحدة بدت في لحظات طويلة ” وحدة ميئوس ” منها .. وارجو أن يتسع صبر من يقرأ هذا الكتيب لإستيعاب تاريخ هذه التجربة.. فهي تجربة وحدة طويلة ومريرة .. ربما كانت أحد التجارب القليلة التي نجحت في القرن العشرين.. ولكنها تجربة مملوءة بالخبرات العظيمة .. والآمال المحبطة .. والإنتصارات المرهقة ..
كيف ؟
يقول استاذنا ” ساطع الحصري ” فيلسوف ومفكر القومية العربية :
” ان تاريخ الوحدة الألمانية من أهم وأمتع صفحات التاريخ في القرون الأخيرة ..
كانت الأمة الألمانية تتمتع بأدب راق وثقافة عالية .. ومع هذا كانت مجزأة الى دويلات ودول كثيرة .. أما الموانع التي كانت تحول دون اتحاد هذه الدول والدويلات .. فكانت تأتي – في الدرجة الأولى – من ” أنانية ” الملوك والأمراء وتمسكهم بالإمتيازات التي كانوا يتمتعون بها
لأن ألمانيا كانت – في العقد الأخير من القرن الثامن عشر – منقسمة إلى 360 وحدة سياسية .. مستقلة عن بعضها استقلالا مطلقا .. غير ان عدد هذه الوحدات السياسية .. أخذ يقل شيئا فشيئا .. بسبب اندماج واتحاد بعضها ببعض : فقد نزل هذه العدد الى 248 دويلة عام 1803 .. ثم الى 39 دويلة عام 1815 .. ثم الى 25 دويلة عام 1871 ( اي بعد ثمانية وستون عاما من بداية أول عملية توحيد !! ) .. إلا أن هذه الوحدات .. كونت في السنة المذكورة ( 1871 ) .. دولة اتحادية فيدرالية .. وتنازلت لها عن جميع السلطات المتعلقة بجميع الشؤون العسكرية والخارجية ..
ولم يبق عدد هذه الدول المكونة على حاله .. بل نزل الى 17 سنة 1918 .. وفي الأخير زالت هذه الدول من الوجود وتركت محلها إلى ” الرايخ الألماني ” أي الدولة الألمانية الموحدة توحيدا تاما عام 1923 .. اي بعد قرن كامل وثلاث عقود !! ( ساطع الحصري , محاضرات في نشوء الفكرة القومية , دار العلم للملايين )
ولكن ألمانيا ستعود الى التجزئة مرة أخرى بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية .. وتلك قصة سنعود إليها في موضع آخر .. لكن دعونا نرى كيف جاهدت ألمانيا لكي تتوحد عبر قرن كامل وثلاث عقود .. لتعود لتتجزأ مرة أخرى في أقل من عقدين .. ثم تعود للوحدة النهائية بعد نصف قرن تقريبا من التجزئة القسرية التي تمخضت عنها هزيمتها في الحرب العالمية الثانية
بداية القصة
3- كانت ألمانيا في نهاية القرن الثامن عشر في وضع غريب وشاذ جدا من الوجهة السياسية .. لأن معظم أقسامها كانت في حالة شبيهة بإقطاعيات القرون الوسطى .. انها كانت مقسمة لعدد كبير من الدول والدويلات والمدن الحرة .. وكان الحكم يعود في بعضها ألى حكام دينيين .. وفي بعضها الآخر الى حكام مدنيين .. وكان من بين هؤلاء الرؤساء .. ملوك وأمراء ودوقات وغراندوقات ..وكان بجانب ذلك كله مدن حرة عديدة .. مستقلة في إدارة شئونها متمتعة بسيادة تامة في الامور الداخلية والخارجية ..
في الواقع .. كان هناك ما يسمى – بصورة رسمية – ” الإمبراطورية المقدسة ” .. ولكن هذه الإمبراطورية كانت ” إسم بلا جسم ” .. لا تتمتع بأي سلطة حقيقية .. فكانت كل واحدة في هذه الوحدات السياسية .. الكبيرة والصغيرة .. مستقلة في شؤونها إستقلالا تاما .. فكان لكل واحدة منها حكومة خاصة وجيش خاص وقوانين خاصة .. وإذا إستثنينا منها ” مملكة بروسيا ” .. استطعنا أن نقول أنها كانت في منتهى الضعف من جميع الوجوه السياسية والعسكرية …
صراعات الحكام الألمان
4 - كانت ألمانيا المثال الكلاسيكي للتعصب المحلي والصراعات الأقليمية ( كما هو الحال في الأمة العربية ) ففي العصور القديمة كانت هناك عداءات متوارثة بين القبائل الألمانية وبخاصة بين السكسون والفرانك .. وكان ألمان الشمال وألمان الجنوب لا يكادون يفهمون بعضهم البعض .. وكانوا يلجئون الى اللاتينية إذا أرادوا التواصل والإتصال ببعضهم البعض ( ربما يفيد هذا إولئك الذين يتحججون بصعوبة بعض الدارجات المحلية العربية واستعصائها على الفهم في خارج نطاقها المحلي !! )
وصعد عدد كبير جدا من النبلاء الى مصاف حكام الأقاليم ووضعوا سياستهم الخاصة وفق مصالحهم الخاصة وقاموا بحروبهم المنفصلة دون أدنى إعتبار للأهداف القومية المشتركة . وكانت السياسة ” المحلية ” لكل إقليم تقوم على اساس المصالح للبيوت والعائلات الحاكمة ( !! ) .. والغريب أن هذه السياسات كانت تحظى بتأييد كبير من سكان كل أقليم ( !! ) . فالإمبراطوية القديمة لم تكن دولة بالمفهوم الصحيح بل اتحادا فضفاضا كان يضم في القرن الثامن عشر 1800 حاكم ( ألف وثمانمائة حاكم !! ) وكان بعضهم ملوكا ودوقات ومركيزات وكونتات وبعضهم بطاركة واساقفة وما الى ذلك .
ولكن 1475 منهم كانوا مجرد فرسان احرار لا يخضعون لأحد إلا الإمبراطور ويحكمون جميعا مائتي ميل مربع . وكان هناك أيضا احدة وخمسون ” مدينة حرة ” بل وبعض القرى الحرة أيضا . وكان كثير من الأمراء يحكمون دولا أجنبية بجانب أراضيهم الألمانية مثل بريطانيا وروسيا ( فقد صار الدوق هولشتاين قيصرا لروسيا عام 1762 ولكنه لم يحكم سوى فترة قصيرة ) .. كما كان هناك حكام المان يحكمون اقاليم في السويد والدنمارك وبولندا وهولندا وبلجيكا وبوهيميا وهنغاريا وبعض الاقاليم الفرنسية وايطاليا وسويسرا .
وحتى بعض الإمارات الألمانية الصغيرة جدا كانت تدعي أنها أمم منفصلة ( تماما كما هو الحال كإمارات ودول الخليج العربي !! ) .
وكان التطرف في المشاعر المحلية ( والإقليمية ) سببا في قدر كبير من المهانة للأمة الألمانية وتفتتها وانقسامها .. وصار الصراع بين الحكام والعائلات الحاكمة سببا من اسباب ضعف وتشتت الالمان وهزيمتهم في الحرب أمام نابليون .
وقد بلغت صراعات الحكام الألمان حدا مزريا .. فلقد كان التعصب المحلي والتنافس بين الأقطار الألمانية الكبرى .. وحتى بين الأقطار الصغرى .. أحد أهم اسباب تدهور الشعب الألماني .. فقد كانت تنشأ الحروب بين الأمراء على اتفه الأسباب .. مثلا .. أعلن أحد البارونات ” بارون فلمنج ” الحرب على دوقة ” زاخن جوتا ويسنفلز ” لأنها أمرت بذبح كبش في أراضي أقليمه بدون إذنه . وفي عام 1747 نشبت حرب بين ” زاخن جوتا ” و ” زاخن ماينتجن ” بسبب شجار بين اثنين من النبلاء حول حق التقدم في البلاط الملكي … وهناك أمثلة كثيرة حول هذا النوع من الحروب والصراعات بين الحكام الأمان . ( القومية في التاريخ والسياسة . فردريك هرتز . ترجمة دكتور عبد الكريم أحمد , سلسلة من الفكر السياسي و الإشتراكي , دار الكتب العربي , القاهرة )
ألمانيا والخطر النابليوني
5 - ولكن رغم حالة التفتت والإنقسام والتناحر السياسي .. كانت ” ألمانيا ” قد وصلت لمرحلة متقدمة من التقدم والرقي في ميادين العلوم والثقافة والفنون والآداب .. وكان من أبنائها أدباء عباقرة مثل ” شيلر ” و ” جوته ” .. وفلاسفة عظماء مثل ” كانط ” و ” هيجل ” .. وعلماء مشهورون في كل الفروع مثل ” جوس ” و ” هومبولد ” و ” وفرنر ” .. وكان لها جامعات راقية .. إشتهرت كل واحدة منها بعدد غير قليل من الأساتذة والعلماء ..
بإختصار : كانت ألمانيا راقية وموحدة من حيث الثقافة .. لكنها ضعيفة ومشتتة ومتأخرة من حيث السياسة !!
وكان العلماء والأدباء والمفكرون لا يلتفتون الى الاوضاع السياسية .. وكثيرا ماكانوا يفكرون تفكيرا عالميا ويسترسلون وراء الأحلام الإنسانية ..
هذه كانت حالة ألمانيا عندما قامت الثورة الكبرى في فرنسا .. وقد قوبلت أخبار هذه الثورة بالحماس والإستحسان من كل شعوب أوروبا المضطهدة .
كان رجال الثورة الفرنسية قد أعلنوا أن هذه الثورة ستخوض الحروب التحريرية ضد حكم الملوك : ” لتضمن الحرية والسلام للشعوب .. وتخاصم القصور لتساعد الأكواخ ”
وكان من الطبيعي أن تستقبل أمثال هذه التصريحات والإعلانات بالتصفيق والتحبيذ .. وكان من الطبيعي .. أيضا .. أن تتقوى في نفوس المفكرين الألمان ” النزعة العالمية ” التي كانوا يحملونها .. وحب الإنسانية الذي كانوا يدعون إاليه …
6 - ولكن قبل أن تمضي سنة كاملة كانت فرنسا تحشد الجيوش وتخوض غمار حروب طويلة .. حروب من أجل الفتح والتوسع .. وصرح أحد قادة الثورة الفرنسية من على منابر مجلس الثورة عام 1795: ” أنه يحق للجمهورية الفرنسية .. بل يجب عليها .. أن تضم وتلحق بها البلاد التي تلائم مصالحها .. سواء عن طريق الفتوحات أو طريق المفاوضات والمعاهدات ” !!
ووصلت الأطماع الفرنسية أقصاها عندما تم تويج ” نابليون ” وتنصيبه إمبراطورا على فرنسا ..
ومما يلفت النظر .. أن ” ألمانيا ” صارت أول أهداف وأطماع ” نابليون ” .. وكان إنقسام ” ألمانيا ” الى دويلات كثيرة متناحرة هو السبب الرئيسي وراء الإطماع الفرنسية .. وكان هو أيضا الذي سهل ” لنابليون ” أن يتغلب على الدويلات الألمانية .. وأن يتصرف في شؤونها كما شاءت أطماعه وأهواءه ..
بدأ ” نابليون ” إجراءاته في شؤون ألمانيا بالسيطرة على الدول والدويلات الجنوبية المتصلة بنهر الراين .. وألحق قسما منها بفرنسا إالحاقا مباشرا .. وكون من قسم آخر مملكة جديدة سماها مملكة ” وستفاليا ” ونصب أخاه ” جيروم ” ملكا عليها .. ثم كون دولة إتحادية تجمع عدد غير قليل من الدويلات الألمانية سماها باسم ” إتحاد الراين ” .. وأعلن نفسه حاميا ..
وبعد ذلك هجم نابليون على ” مملكة بروسيا ” .. أكبر الدويلات الألمانية واقواها .. فدحر جيوشها جيوشها في موقعة ” يينا ” المشهورة .. ثم زحف على برلين واستولى عليها .. وأملى على ملك ” بروسيا ” ما شاء من الشروط : فصل من المملكة أكثر من نصف أراضيها .. وفرض عليها غرامة مالية باهظة .. ورقابة عسكرية قاسية .. وبعد ذلك جعل من شمال ألمانيا قاعدة للأستعدادات الفرنسية لغزو روسيا ..
ولم يكتف ” نابليون ” بتمزيق المانيا والسيطرة عليها وإهانتها .. بل جند عددا كبيرا من الألمان .. وإستخدمهم في غزوه لروسيا .. وقد بلغ عدد الألمان الذين جندهم ” نابليون ” مئات الالاف .. وقد قدر الخبراء عدد الضحايا من هؤلاء الجنود بأكثر من مائة وخمسين ألفا !!
دور الثقافة والمثقفين
7 - كان من الطبيعي أن تولد هذه الكوارث والمصائب رد فعل شديد في نفوس الشعب الألماني .. فقد صار الكل يشعر شعورا واضحا أن سبب هذه الرزايا والمصائب هو فقدان الشعور القومي .. فكان من الطبيعي أن تؤثر هذه الوقائع على نفوس المفكرين والمثقفين الألمان .. فتولد تيار جارف من الحماسة القومية المقرونة بالرغبة الملحة في الإتحاد ,, وقد سرى هذا التيار في نفوس الجميع بوجه خاص رجال السياسة والفكر والثقافة .. ودفعهم هذا أن يعملوا عملا متواصلا في سبيل تخليص ألمانيا من ربقة الهيمنة الفرنسية ..
إندفع الأدباء والشعراء – وعلى رأسهم – ” آرنت ” و ” جور ” .. يصورون الرزايا التي ألمت بالبلاد تصويرا مؤثرا .. ويلهبون روح الوطنية .. ويثيرون روح الوطنية والإستقلال والإتحاد باشعار حماسية جدا .. ويقول مؤرخو الأدب الألماني : أن تاريخ ألمانيا لم يشهد في أي دور من أدواره هذا التدفق من الأدب الحماسي الوطني المثير للهمم والحافز على العمل .
وإندفع كذلك المفكرون والمعلمون .. وعلى رأسهم ” فيختة ” .. الى نشر الخطب والمقالات وإالقاء الدروس والمحاضرات لإستثارة روح التضحية .. وتقوية نزعة الإتحاد في النفوس ..
إحتقار اللغة الألمانية
8 - في اثناء القرن الثامن عشر تسربت افكار الإستنارة والرومانسية المبكرة , كما عبرت عنها كتابات الفلاسفة والشعراء وكتاب القصة الإنجليز والفرنسيين .. وقد قوبلت الثقافة الأجنبية بحماسة شديدة من الطبقات العليا والطبقات الوسطى في ألمانيا .. بل كانت الطبقات العليا تفضل كل ماهو فرنسي ( !! ) . وعندما اسس ” فردريك الثاني ” أكاديمية ” برلين ” , جعل اللغة الفرنسية لغتها الرسمية ( !! ) .. بل عين لها سكرتيرا فرنسي الجنسية ( !! ) .
وفي سنة 1783 وضعت الأكاديمية جائزة لمقال عن أسباب إنتشار اللغة الفرنسية عالميا وحصل على هذه الجائزة ” أنطوان ريفارول ” .. والذي عزا إنتشار اللغة الفرنسية في أوساط الطبقات العليا والطبقات المتعلمة من الشعب الألماني الى الصفات المتفوقة للغة الفرنسية ولا سيما وضوحها ومنطقها الذين تفوقت بهما على جميع اللغات الأخرى ( !! )
المدهش أن ” ريفارول ” قد حظي بتكريم كبير من الملك والأكاديمية من أجل مقاله هذا ( !! )
بيد أن المركز المسيطر الذي أحتلته اللغة الفرنسية والأدب الفرنسي في أوساط النخبة الألمانية ملبث أن دفع الكتاب الألمان الوطنيين الى تأكيد مزايا اللغة الألمانية .. ويمكن تفسير إشادة ” فيختة ” المبالغ فيها بمزايا اللغة الألمانية كرد فعل متأخر على مقالة ” رفارول ” .
الإصلاح الطبقي
9 – ومن جهة أخرى .. أخذ رجال السياسة أيضا .. يقدمون السبل والإقتراحات من أجل إجراء إصلاحات إدارية وإجتماعية .. لتهيئة السبيل للوحدة والإستقلال .. لأنهم إعتقدوا إعتقادا جازما بأن الناس لن ينزعوا الى الاستقلال نزوعا قويا .. مالم يذوقوا طعم الحرية ..
كانت القوانين المرعية في في ” بروسيا ” في هذه الحقبة .. تميز طبقات المجتمع تمييزا صريحا فعليا .. فقد كانت تحرم الفلاحين ورجال الطبقة الوسطى من حق تملك أراضي النبلاء عن الطريق الشراء .. كما أنها كانت تمنع النبلاء من ممارسة المهن مهما كان نوعها .. وقد أدرك رجال الإصلاح مافي هذه الأحوال من مجافاة لمقتضيات الوحدة القومية .. فألغوا القوانين المذكورة .. واستعاضوا عنها بقوانين جديدة .. تزيل هذه القيود .. وتبيح لجميع افراد الشعب حق إمتلاك الأراضي وحق ممارسة المهن في وقت واحد .. وتجعل الناس يشعرون بأنهم ابناء وطن واحد وأمة واحدة ..
وبجانب هذه الإصلاحات والتنظيمات الإدارية والإجتماعية .. قام رجال الجيش أيضا بتنظيم الحياة العسكرية على اسس جديدة تماما ..
معاهدة الإستسلام والعار
10 - كان ” نابليون ” قد إشترط على “بروسيا ” .. أكبر واقوى دولة ألمانية .. في المعاهدة التي أملاها عليها .. أن لايزيد عدد أفراد جيشها على 42 الف جندي .. وإحتفظ لنفسه بحق مراقبة الجيش المذكور للتأكد من مراعاة هذه الشرط ( أتمنى من القارئ أن يعود الى النصوص العسكرية التي فرضت على مصر في معاهدة كامب ديفيد!! ) ..
لذلك بحث رجال الجيش من الألمان الوطنيين المخلصين- مثل ” شانهورست ” و ” وجنايز ناو ” .. عن طريقة تضمن تدريب جميع المواطنين .. دون زيادة في عدد أفراد الجيش المقرر في المعاهدة .. فقرروا تقصير مدة التدريب العسكري والخدمة العسكرية الفعلية .. لهذا أخذوا من جهة يهتمون بتعميم الرياضة البدنية بين الشباب .. وابتدعوا من جهة أخرى .. انظمة عسكرية بارعة .. واستطاعوا بهذه الصورة أن يعدوا جميع المواطنين للخدمة العسكرية إعدادا تاما .. دون أن يخرجوا على أحكام المعاهدة التي كانت فرضت عليهم فرضا !!
وقد استمرت هذه الجهود والتدابير التنظيمية بدون انقطاع مدة سبع سنوات .. وخلقت في ” بروسيا ” روحا جديدة تختلف عن الروح التي كانت سائدة أيام هزيمة ” يينا ” اختلافا بينا ..
حتى إذا ما بدأ ” نابليون ” يتراجع عن موسكو .. اقدمت روسيا على التجنيد العام وكونت بغتة جيشا كبيرا .. انضم الى جيش الحلفاء .. وانتصر على الفرنسيين في معركة ” لايبسيك ” .. ومحا بذلك العار الذي كان قد لحق بالجيش البروسي وبالأمة الألمانية في موقعة ” يينا ”
وحدويون ومتدينون !!
11 - كان من العوامل التي ساعدت على نهضة ” بروسيا ” .. أكبر الدويلات الالمانية .. الخطب والمقالات التي كان يكتبها المفكر الألماني ” فيختة ” .. فقد كانت كلماته تؤثر تأثيرا كبيرا في الشباب الألماني لعدة عقود من السنين .. فصارت تعتبر من أهم عوامل ودوافع الوحدة ..
كان “فيختة ” أستاذا للفلسفة في جامعة ” يينا ” قبل بدء الحوادث ” النابليونية ” .. كان يبحث بوجه خاص في مهمة رجال الفكر في المجتمع .. وأخذ يجتمع مع الطلاب أيام الآحاد .. ليتحدث إاليهم في هذا الموضوع .. غير أن رجال الدين .. الذين توهموا أنه يريد أن يحدث دينا جديدا .. تهجموا عليه .. وأتهموه بالخيانة .. فإضطر الى الإلتجاء الى ” برلين ” .. وكان في برلين عندما حلت كارثة ” يينا ” .. ولكنه إلتجأ الى الدانمرك عندما علم بتقدم جيوش ” نابليون ” الى العاصمة البروسية .. ولم يرجع اليها إلا بعد سنة .. مع انها كانت تحت الإحتلال الفرنسي .. ولكنه خلال هذه المدة كان يتأمل في نكبات ألمانيا .. وعندما عاد الى برلين أخذ يلقى سلسلة من المحاضرات موجهة للأمة اللألمانية ضمنها أراءه في الموضوع ..
كان ” فيختة ” مثل غيره من المفكرين الألمان .. لا يعرف حدودا لألمانيا إلا حدود اللغة الالمانية .. وكان ممن يقولون على الدوام : ان الفروق التي تشاهد بين ” البروسيين ” وغيرهم من الألمان .. كلها فروق عارضة ومصطنعة .. أما الفروق الموجودة بين الألمان وغيرهم من الأمم الأخرى فهي فروق طبيعية وجوهرية .. وقد استمرت خطب ” فيختة ” حتى بعد انتهاء الحروب ” النابليونية ” .. من أجل تحقيق الوحدة الألمانية تحقيقا فعليا ..
الإنتصار على الإحتلال الفرنسي
12- ان الجهود التي بذلها رجال الفكر والسياسة ورجال الجيش الوحدويين في ” بروسيا ” بعد كارثة ” يينا ” كانت تستهدف غايتين أساسيتين :
تخليص البلاد من الإحتلال الفرنسي والنير النابليوني من جهة .. وتوحيد الأمة الألمانية سياسيا وعسكريا .. من جهة أخرى ..
ولقد تكللت المهمة الأولى بالنجاح .. وتخلصت ألمانيا من اللإحتلال الفرنسي بمؤازرة جيوش الحلفاء .. وقد أوجد هذا النصر شعورا كبيرا بالأمل في نفوس الوحدويين الألمان عن قرب تحقيق وحدة الأمة الألمانية ..
إلا أن السياسة التي قامت عليها الدول المتحالفة بعد الإنتصار على فرنسا والتخلص من نابليون .. خيبت أمال الوحدويين الألمان ..
فقد قررت الدول المتحالفة تنظيم أوروبا على اساس ” الحق الشرعي للملوك ” .. وقد حال هذه التنظيم دون وحدة ألمانيا ..
فقد أبقى التنظيم الجديد على ألمانيا مجزأة الى تسع وثلاثين دويلة سياسية .. بين ملكية .. ودوقية .. وجراندوقية .. وإمارة .. ومع هذا حاول أن يوجد نوعا من التحالف بين هذه الدويلات .. وذلك بواسطة ” مجلس تحالف ” .. يتألف من أعضاء يمثلون جميع الدول الألمانية ..
13 - ومن الغريب أن هذا التنظيم خول البعض من ملوك الدول الأوروبية أيضا حق الإشتراك في المجلس المذكور .. فكان لملك بريطانيا العظمى الحق في ان يوفد لمجلس التحالف عضوا يمثله فيه بصفته أميرا وحاكما على مقاطعة ” هانوفرا ” الألمانية !!
وكان لملك الدانمرك الحق أن يوفد من يمثله في مجلس التحالف الألماني بصفته إميرا وحاكما على دوقية ” هولشتين ” الألمانية !!
ولا حاجة إلى القول .. أن مجلس التحالف الذي تالف على هذا المنوال .. لم يستطع أن يقوم بعمل إيجابي يذكر ( كأننا بصدد مشابهة طريفة مع مجلس دول جامعة الدول العربية !! )
ولذلك استمرت كل دولة من هذه الدول الآلمانية الكثيرة .. على العمل مستقلة عن غيرها تمام الإستقلال .. وفضلا عن ذلك صارت هذه الأحوال تفسح المجال واسعا للدسائس والمؤامرات الداخلية والخارجية التي تهدف الى تقوية النزعة الإقليمية في كل واحدة من هذه الدويلات السياسية .. وتسعى وراء مكافحة فكرة الإتحاد فيما بين هذه الوحدات ..
ومع كل ذلك .. كانت فكرة الوحدة الألمانية تتغلغل في النفوس .. ولا تموت .. رغم المصائب والنكسات والإنقسامات ..
وقد نجحت ” بروسيا ” .. أكبر الدول الآلمانية .. في عمل مفاوضات كبيرة وشاقة لإقناع كل دويلة من الدويلات الآلمانية بعقد معاهدات لرفع الحواجز الألمانية .. وفي النهاية تكللت جهود بروسيا بالنجاح وتكون الإتحاد الجمركي الذي عرف باسم ” الزولفرين ” ..
14 - ولكن .. الوحدويين الألمان .. ماكانوا يكتفون بالإتحاد الجمركي .. بل كانوا يدعون الى الوحدة في سائر الميادين ..
كان البعض يقول بضرورة توحيد ألمانيا على اساس النظام الجمهوري .. في حين يقول البعض الآخر أن هذه الطريقة غير واقعية .. ويقولون على ضرورة السعي الى تحقيق الوحدة عن طريق التفاهم بين الملوك والأمراء والحكام الألمان ( نحن نقترب جدا هنا من الواقع العربي !! )
أما القائلون بهذا الراي الأخير فكانوا ينقسمون الى حزبين مختلفين : أحدهما يقول بضرورة تحقيق الإتحاد تحت زعامة أسرة ” هابسبورج ” .. وهي العائلة المالكة في الامبراطورية النمساوية ..
أما الإتجاه الثاني فيقول بوحدة ألمانيا تحت زعامة أسرة ” هو هتزولرن ” .. وهي العائلة المالكة في المملكة البروسية ..
وقد عرف انصار ” الهابسبورج ” بحزب ألمانيا الكبرى ” .. اما انصار ” الهو هنزلرن ” فقد عرفوا بحزب ” ألمانيا الصغرى ” ..
15 - كانت أسرة ” الهابسبورج ” تتمتع بشهرة أقدم وأوسع من شهرة الأسرة المنافسة لها .. لأنها تحكم ” إمبراطورية النمسا ” العظيمة .. وكانت ترأس ” إمبراطورية جرمانيا المقدسة ” ولو بصورة أسمية .. ألا أنها كانت تتألف من عناصر وقوميات عديدة .. القسم الأكبر منها لم يكن ألماني الصل .. فقد كانت حدودها تمتد من غاليتشيا شمالا الى لومبارديا وفيسنيا جنوبا .. وكانت تضم تحت لوائها .. كتلا كبيرة وكثيفة من المجريين والطليان والطاجيك والكروات والسلوفان ..
وفضلا عن ذلك كانت أسرة ” الهابسبورج ” كاثوليكية .. وكانت تعتبر نفسها حامية الكاثوليك .. وكانت تجد في هذه الحماية الوسيلة الفعالة لحكم هذه الشعوب والأمم المختلفة .. تحت شعار الدين !!!
وكانت هذه الأسباب مجتمعة تجعلها غير قادرة على اتباع سياسة ” ألمانية ” خالصة .. سياسة تقدم المصلحة الألمانية على المصالح العرقية والدينية الأخرى ..
أما أسرة ” هوهنز ولرن ” فكانت تحكم بروسيا التي كانت ألمانية صرفة .. فكان في استطاعتها ان تسير على سياسة آلمانية خالصة تقدم المنافع الآلمانية على أية منافع أو إعتبارات أخرى .. من غير تردد أو إلتواء ..
وفعلا إلتزمت ” بروسيا ” بالسير على سياسة توحيد ألمانية صرفة وصريحة .. وسعت الى الاستفادة من جميع مفكري الألمان .. مهما كانت الدولة التي ينتسبون اليها .. وبتعبير اقصر كانت تعمل بكل قوتها لتكوين دولة وحدة ألمانية .. بكل معنى الكلمة ..
ولهذا صار القائلون بوجوب توحيد الدول الألمانية تحت زعامة بروسيا يزدادون يوما بعد يوم..
الثورة
16 – فجأة .. قامت الثورات الشعبية في مختلف أنحاء أوروبا عام 1848 .. عام الثورات الشعبية والعمالية ..
وسط هذا الجو المشحون بالثورة على حكم الأسر والعائلات المقدسة .. خرجت فكرة الوحدة من ساحة النظريات الى ساحة العمل ..
فقد رأى الملوك والأمراء أن ” حكمة الحكومة ” تقتضي عليهم مسايرة الرأي العام في هذا المضمار .. فوافقوا على دعوة مؤتمر شعبي عام .. لوضع دستور يسري على البلاد الآلمانية بأجمعها .. وذلك بغية تأسيس دولة ألمانية .. تجمع شمل الدول والدويلات القائمة على أراضي جرمانيا القديمة ..
اجتمع المؤتمر في مدينة فرانكفورت وأخذ يعمل في بادئ الأمر بنشاط وحماس .. وقرروا بإتفاق الآراء .. تكوين حكومة فدرالية – إتحادية - ثم أخذ يتذاكر في نظام هذه الحكومة .. وقرروا بأغلبية الآراء أن تكون ” إمبراطورية وراثية ” .. ثم أخذوا يتناقشون في أمر رئاسة هذه الحكومة .. وبعد مناقشات طويلة انتهوا الى قرار يقضي بتقديم تاج الى ” أمبراطورية ألمانيا الجديدة ” الى ملك مملكة بروسيا ..
الثورة المضادة
17 – ولكن .. خلال فترة المناقشات والمذاكرات .. كان قد حدث تطور مهم في الجو السياسي العام .. في جميع انحاء أوروبا .. ذلك أن معظم الحكومات التي كانت قائمة .. آنذاك .. كانت قد استطاعت أن تتغلب على الحركات الثورية .. وأخذت تتراجع شيئا فشيئا عما كانت وافقت عليه من نظم وتشكيلات شعبية ..
وكانت النمسا من أول الدول التي قضت على الثورات الشعبية .. ولذلك انقلبت على مقررات مؤتمر ” فرانكفورت ” وأجبرت ممثل النمسا على الإنسحاب !!
أما الملك المنافس للنمسا ..أي ملك بروسيا .. فقد كان منذ البدء مترددا أمام مقررات مؤتمر فرانكفورت .. على الرغم من موافقة مقررات هذا المؤتمر لمطامح بروسيا .. فلقد كان الملك مسايرا للمؤتمر على مضض وبتأثير الثورات الشعبية التي اندلعت في أوروبا آنذاك ..
كان يرى أنه لا يليق بمقامه الملكي ان يقبل تاج الإمبراطورية من يد مجلس شعبي منبعث من ثورة شعبية .. ولذلك عندما زالت من نفسه مخاوف الثورة .. أعلن ان لا يقبل تاج الإمبراطورية الألمانية الا اذا قدمه له الملوك والأمراء الذين يحكمون الشعوب الألمانية …
ولا حاجة للقول .. أن ذلك أدى الى فشل مشروع الأمبراطورية الالمانية الموحدة وانحلال مؤتمر ” فرانكفورت ” ..
وانهار مشروع الوحدة الآلمانية ..
ثقافة الهزيمة واليأس
18 - لم تكن الكارثة التي حاقت بالنضال الوحدوي الألماني هينة بعد انهيار مؤتمر ” فرانكفورت ” .. انهارت الثورات الشعبية .. وانهار الحلم الوحدوي .. وانهار أعز ماكان يحتضنه الآلمان في جوانحهم : إيمانهم بالوحدة ..
تعالوا نسمع ونقرأ .. ماكان يقال ويكتب بعد هزيمة مقررات مؤتمر ” فرانكفورت ” الوحدوية ..
لقد ظن الكثيرون من رجال الفكر والسياسة في أوروبا .. وفي ألمانيا بالذات .. أن فكرة الوحدة الألمانية قد ” تلاشت ” .. نعم تلاشت .. بعد مؤتمر فرانكفورت .. وأن أحلام الوحدة الألمانية دخلت حيز النسيان .. واعتبر الكثير منهم أنها وهم من الأوهام والأحلام لا يمكن أن تتحقق في وقت من الأوقات .
وقد قال قيصر روسيا : ان فكرة الوحدة الألمانية .. ليست إلا نوعا من أضغاث الأحلام التي تليق بالروايات الخيالية ..
أما ملك فورتمبرج فقال : ان فكرة الوحدة اآلمانية من أسخف الأوهام واضر الأحلام .
وانبرت الصحف والمجلات الألمانية والأوروبية تكتب وتنشر المقالات عن إفلاس فكرة الوحدة الألمانية .. وقد أخذ الكثيرون يسخرون منها بأحط الألفاظ وأقسى العبارات .. فهذا يقول عنها : خيال محال لا يؤمن به الا الشعراء .. وثان يقول : سراب خداع لا يسير وراءه الا المغفلون وأصحاب الأطماع !!
وتساءل أحد الكتاب مرة : ماهي ألمانيا ؟ واين هي ؟ ثم أجاب على السؤال قائلا : انها خيال واه .. لا وجود له الا في عالم الأحلام التي يتلهى بها الفلاسفة ويتغنى بها الشعراء !!
وكان مما كتبه أحد محرري السياسة العالمية في هذا الصدد : ” ان الفشل التام الذي انتهى اليه مؤتمر فرانكفورت يجب ان يعتبر من أهم الوقائع التي سجلها تاريخ القرن التاسع عشر .. ومن أفيد الدروس التي أعطاها للساسة والباحثين .. لأن أعمال المؤتمر أظهرت للعيان ماهية الأوهام التي كانت مستولية على الأذهان .. ان جميع الجهود التي بذلت في المؤتمر المذكور لتحقيق وهم الوحدة الألمانية .. ذهبت سدى .. وفي الوقت نفسه الذي نكتب فيه هذه السطور .. نستطيع أن نقول ان حزب الإتحاد الألماني قد زال من عالم الوجود ” !!
انها ذات الجمل والتعبيرات التي يطلقها البعض على فكرة الوحدة العربية منذ هزيمة مشروع الوحدة الأولى بين مصر وسوريا بالإنفصال عام 1961 .. ولكن هذا حديث آخر نؤجله لحينه .. ونبقى مع تجربة الوحدة الألمانية .. تلك التجربة المليئة بالدروس والعبر .. التي تستحق أن نستفيد منها في نضالنا الوحدوي ..
ولم تنته القصة …
فقصة بناء سور برلين قصة مثيرة تحتاج الى تفصيل .. فهي قصة تفاعل الياس مع الأمل تفاعلا خلاقا .. وقد كتبها بشكل رائع الكاتب الصحفي ” محمود صلاح ” في كتابه المثير ” سور برلين .. هزيمة حائظ ” ..
قصة سور برلين
19 – اذا كانت باريس هي حقا مدينة النور .. ولندن هي مدينة الضباب .. فلابد أن برلين هي مدينة الكوميديا السوداء ..
فألمانيا التي كانت قد توحدت تحت راية ” الرايخ الألماني ” .. كانت قد ألقت بنفسها في أحضان ” هتلر ” عام 1936 وسلمت نفسها طواعية لمغامراته العسكرية التي بدأت في التعثر بعد النجاحات المبهرة والخاطفة .. ومع المراحل النهائية للحرب .. وبالتحديد في عام 1944 .. كان ” هتلر ” يحاول بقواته الإنتحارية محاولات يائسة ومستميتة لإعاقة تقدم قوات الجنرال الأمريكي ” إيزنهاور ” وقوات القائد البريطاني ” مونتجمري ” التي كانت تتجه بسرعة صوب ” برلين ” .. بينما كان على الناحية الشرقية للمدينة طلائع الجيش الأحمر السوفييتي بقيادة الجنرال ” زكوف ” التي تمكنت من الوصول أولا !!
وكان الحلفاء قد إتفقوا .. مقدما قبل دخولهم ألمانيا – على تقسيمها وتقسيم عاصمتها برلين الى أربعة اقسام ..
لكن السوفيت .. الذين كانوا قد وصلوا أولا.. قرروا الحصول على القسم الشرقي من برلين لأنفسهم بعد أن خاضوا معركة شرسة .. وهكذا آل الجزء الغربي من ” ألمانيا ” الى حماية وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا .. ووضعت بها قواعد عسكرية أمريكية .. وسارت دولة ألمانيا الغربية على طريق الراسمالية الغربية .. بينما إتجهت ألمانيا الشرقية الى طريق الشيوعية .
وفي ألمانيا الشرقية تم تفكيك مئات الأطنان من آلات المصانع ونقلت هذه الآلات والأجهزة والمعدات الى مصانع الإتحاد السوفيتي .. ولأن إقتصاد ألمانيا الشرقية كان يسير نحو الحضيض .. بالإضافة الى إعدام الحريات السياسية .. وهكذا تزايدت المعارضة للنظام السياسي ..
وبينما كانت ألمانيا الغربية تعيد بناء نفسها .. كانت ألمانيا الشرقية تسير نحو الهاوية .. فقد أنفقت معظم مواردها وثرواتها على دعم جهاز ” الاستازي ” .. أي البوليس السري .. لمراقبة وقمع الشعب الألماني .. وكان لابد من إنتفاضة الشعب الألماني ..
وفي 17 يونية 1952 تفجرت إنتفاضة شعبية كبرى .. وخرجت المظاهرات في شوارع برلين الشرقية .. لكن الإتحاد السوفييتي سارع بقمع الإنتفاضة وإستخدام كل أنواع القمع البشع ..
وهكذا لم يجد المتمردون والرافضون للنظام سوى سبيل واحد .. الهرب الى برلين الغربية .. ومنها الى ألمانيا الغربية ..
في ذلك الوقت .. تزايدت أعداد الفارين من ألمانيا الشرقية الى ألمانيا الغربية .. وتردد أن ” خروتشوف ” زعيم الإتحاد السوفييتي .. تقدم بطلب لضم برلين الغربية الى برلين الشرقية .. وفصلها نهائيا عن ألمانيا الغربية ..
وعندما سمع الناس بذلك .. تزايدت أعداد الفارين والهاربين ..
بناء سور برلين .. الخطة إكس
20 – وهكذا أصدر ” إريك هونيكر ” ذراع المستشار ” أولبريخت ” .. اوامره بإقامة السور .. وهي الخطة التي كانت موضوعة أصلا تحت الإسم الكودي ” إكس ” ..
وفي عام 1961 اثارت الدعايات الهيسترية التي كانت تطلقها حكومة ألمانيا الشرقية مشاعر الناس وهلعهم .. وزادت أعداد الفارين .. وكان هؤلاء يتم تجميعهم بعد فرارهم في معسكرات أعدت خصيصا للأجئين في برلين الغربية ..
وقامت السلطات في برلين الشرقية بالقبض على أعداد كبيرة من الناس بتهمة ” العمالة ” للغرب وصدرت ضدهم أحكام بالسجن تتراوح ما بين عشر سنوات الى السجن مدى الحياة ..
واستيقظ سكان برلين الشرقية صباح يوم 13 أغسطس 1961 ليجدوا القوات المسلحة تحاصر مدينتهم .. وأن سور برلين قد بدأ العمل في بنائه ..
كان الأمر أكبر من أن يصدقه عقل !!
وفي الناحية الأخرى .. في برلين الغربية .. تظاهر عشرات من الألمان الغربيين أمام بوابة ” براندنبيرج ” الشهيرة .. يعترضون على إقامة هذا السور الللا معقول .. وويرفعون لافتات تصرخ : ” هناك ألمانيا واحدة فقط ” و ” ستظل ألمانيا واحدة لكل الألمان ” ..
وهكذا اصبح اللامعقول واقعا .. فقد اصبح شارع واحد يمثل الحدود بين برلين الشرقية وبرلين الغربية .. في البداية .. كان مجرد اسلاك شائكة .. ولكن بعد ايام قليلة تم غستبدالها بالحائط .. وفي نهاية سبتمبر 1961 كان طول سور برلين ثلاثة كيلو مترات .. كانت الحرب الباردة تنتظر الجميع .. فقد انقسم العالم الى قسمين .. وانقسمت ألمانيا اي شطرين .. وظهر سور برلين كاضخم حائط اسمنتي .. أمامه سور طويل من الأسلاك الشائكة .. وخلفه سور أطول من الدبابات والكشافات الجاهزة ..
وكانت كوميديا سوداء بالفعل ..
فلقد تم هدم معظم البيوت الملاصقة للحدود لإتاحة الفرصة لرؤية أكثر وضوحا لجنود نقط الحراسة والمراقبة بإطلاق النار على الهاربين .. وكان على السكان إخلاء منازلهم فورا بمجرد صدور الأوامر ودون إخطار مسبق …
ولكن كل ذلك لم يكن أقوى من رغبة الانسان في الحرية .. فلم يكن هناك ما يمنع أي ألماني بسيط من أن يعرض حياته للخطر لمجرد أن يحصل على حريته .. وحدث هذا أكثر من مرة .. وفي هذا حدث قصص كثيرة في منتهى الإثارة …
21 - في البداية كانت محاولات هروب الألمان الشرقيين عبر السور سهلة نسبيا .. فعلى سبيل المثال في شارع ” برناور ” لم يكن هناك سوى رصيف واحد .. كان في استطاعة الكثيرين منهم الهروب عبره الى برلين الغربية .. كان يكفي الواحد منهم أن يقفز من نافذة بيته ليصبح في برلين الغربية !!
لكن سلطات برلين الشرقية لم تكن تسمح بأن يستمر ذلك .. فسرعان ما أمرت بوضع اسلاك شائكة على كل النوافذ في بيوت هذا الشارع .. بل تعدى الأمر ذلك .. فقد تم إغلاق هذه النوافذ بالأحجار .. كان الألمان على جانبي السور يحاولون الإتصال ببعضهم البعض بأن يرفعوا ايديهم ليحيوا بعضهم بعض .. ولكن هذا أيضا .. أصاب سلطات الأمن في برلين الشرقية بالجنون !!
وحتى يمنعوا ” التحية المتبادلة ” بالأيدي بين الألمان وبعضهم البعض .. تم بناء عازل من الخشب المرتفع في معظم الأماكن .. كما تم وضع اسلاك شائكة وممكهربة في مياه الأنهار والبحيرات .. وعندما حاول أحد الألمان الشرقيين التسلل الى برلين الغربية قام الجنود بقتله .. وبعد ذلك بعام تم بناء 130 برج للمراقبة لإصطياد الهاربين الذي يحلمون بالحرية ..
وفعلت سلطات برلين الشرقية كل ما يمكن فعله للفصل بين سكان المانيا الشرقية والمانيا الغربية ,, وقد وصل هذا الى حد مثير للسخرية ..
مثلا .. كان هناك بيت في برلين الشرقية شاء سوء حظ أصحابه .. أن البيت يقع في منتصفه تام على نفس خط السور .. وجاءت الأوامر الغليظة بأن يقسم السور البيت الى نصفين .. نصف في برلين الشرقية .. ونصف في برلين الغربية !!
لقد فعلت سلطات برلين الشرقية كل ما يمكن فعله من أجل بناء السور .. حتى لو أدى الأمر الى هدم الكنائس .. وهو ما حدث فعلا .. ففي أوائل عام 1975 .. أقدمت سلطات ألمانيا الشرقية على نسف كنيسة ” الكفارة ” البروتستناتية .. وهي الكنيسة التي كان اسمها يشتق من آلام السيد المسيح وموته تكفيرا عن خطايا البشر .. وهي الكنيسة التي كان قد تم بناؤها في عام 1894 !!
ولكن سلطات برلين الشرقية قامت بنسف هذه الكنيسة حتى يمكن بناء السور
ولم يكن السور عاديا .. فبعد خمس سنوات فقط من بناءه .. بلغ عدد ابراج المراقبة 210 .. لقد بدأ في 13 اغسطس بالسلاك الشائكة .. التي تم استبداله فيما بعد بحائط من الصاج المقوى .. ثم بعض القوالب الأسمنتية .. لكن لأن هذا النوع من الحواجز لم يكن مقاوما لصدمات السيارات ولا الهجوم بالقنابل .. فقد استبدلوه بألواح اسمنتية .. وفي سنة 1964 تم انشاء 102 حظيرة لكلاب الحراسة التي كان في استطاعتها ان تجري لمسافة مائة متر وهي مربوطة في سلاسلها .. وقد تم تدريب هذه الكلاب على مهاجمة كل شيئ بشراسة !!
وهكذا بلغ أجمالي طول سور برلين 25 كيلو مترا…
أنفاق الحرية !!
22 - ولعلها أول مرة في التاريخ المعاصر يبتدع المحاصرون على الحدود فكرة الآنفاق .. فمع تشديد السلطات الألمانية الشرقية الحراسة حول السور .. بدأت محاولات الهروب عبر حفر الانفاق التي تمر تحت السور في أعماق الأرض .. وقد تمكنت مجموعة من أبناء برلين الشرقية من حفر أطول نفق للأعداد لأضخم هروب جماعي ..
وكان طول ذلك النفق 145 مترا .. ويقع على عمق 12 مترا .. وكان مدخله يبدأ من مرحاض عمومي يقع في فناء تحيط به عمارات كثيرة .. أما مخرجه فكان في بدروم مخبز مهجور في شارع ” برناور ” .. وقد تم إستئجار هذا المخبز بمبلغ الف مارك في الشهر لهذا العرض .. كان إرتفاع النفق من الداخل لا يزيد عن 70 سنتيمتر .. وكانت المشكلة الرئيسية هي التخلص من الرمال الناتجة عن الحفر .. والتي كان يتم ارسالها من داخل النفق على عربة يدوية ” تروللي ” ثم يتم توزيعه على عربات يدوية صغيرة .. ثم تقوم محموعات أخرى من المشاركين في الحفر بنثر الرمال في أماكن مختلفة حتى لا يثيروا الشبهات .. وقد اشترك 36 شابا وشابة .. معظمهم من الطلبة في مهمة الحفر .. ومع أنهم لم يكونوا من الهاربين عبر السور .. لكنهم كانوا يشعرون بالسعادة لأنهم يساعدون اصدقائهم وعائلتهم في الفرار والوصول الى الحرية ..
وبعد سنة اشهر من العمل الشاق .. تمكن 57 شخصا من الهروب عبر النفق .. وكان بينهم رجل يعاني من مرض القلب .. فاصيب بالبرودة الشديدة وأزرق لون شفتيه من جراء الزحف داخل النفق لمسافة طويلة .. أما اصغر الهاربين فقد كان طفل صغير حمله أحد الرجال عبر النفق ..
23 - لم يكن الهروب عبر الأنفاق عملية مأمونة تماما .. فقد كان على من يقبل الهرب عبر الأنفاق أن يتحمل كل أنواع المخاطر .. فقد كان رجال شرطة برلين الشرقية لا يتورعون عن القاء قنابل الغاز السام أو القنابل اليديوية داخل النفق والناس داخله ..
ولكن هذا لم يمنع 1500 شاب خلال السنوات القليلة من بناء السور من مساعدة الراغبين في الهروب والفرار من برلين الشرقية .. وكان من بينهم أعداد كبيرة من النساء يعملن كحاملات رسائل .. وكان بعضهم من الطلبة الذين اصبحوا علماء أو أطباء أو رجال أعمال اثرياء ..
وربما لم يشهد التاريخ محاولات هروب كتلك التي حدثت عبر سور برلين منذ إنشائه وحتى هدمه , فقد بلغ عدد الأشخاص الذين تم القبض عليهم لمحاولتهم الهروب عبر السور الى برلين الغربية حوالي 70 ألف شخص ..
وكان كل من يلقى القبض عليه وهو يحاول الهرب يقدم للمحاكمة .. وكان متوسط الاحكام التي صدرت بحق هؤلاء الهاربين تصل الى 16 شهرا في السجن .. لكن الغريب .. ان الذين كانوا يقدمون المساعدة للهاربين كانت تصدر بحقهم أحكاما أكثر قسوة .. تصل احيانا الى السجن اربع سنوات .. بل والى السجن مدى الحياة في بعض الأحيان ..
ورغم تحسن العلاقات بين المانيا الشرقية وألمانيا الغربية في بداية حقبة الثمانينات .. إلا أن الإحصائيات تبين ان عدد الهاربين من برلين الشرقية الى ألمانيا الغربية بلغ حوالي 500 شخص في السنة .. ولم تقتصر محاولات الهروب عبر السور الى ألمانيا الغربية .. فقد كان كثير من الألمان يهربون الى دول أخرى .. غالبا تشيكوسلوفاكيا أو المجر او بولندا .. رغم كل الأموال التي انفقتها ألمانيا الشرقية على تجهيزات حدودها مع هذه الدول ..
إنهيار سور برلين
24 - لم يكن انهيار جمورية المانيا الشرقية وتوحيد المانيا عام 1990 ممكنا دون التحولات السياسية الجذرية في الاتحاد السوفيتي السابق والتي اخذت بوادرها تظهر منذ منتصف الثمانينيات. فمن اجل انقاذ الامبراطورية السوفيتية من التفتت والإنهيار شرع ميخائيل غورباتشوف، الرئيس السوفيتي الجديد وزعيم الحزب الشيوعي الحاكم آنذاك باجراء اصلاحات سياسية شاملة في البلاد. ومن اهم التغيرات الايدولوجية في هذه المرحلة هو تخلي الاتحاد السوفيتي عن موقع السيد الآمر والناهي في حلف وارسو واتجاهه نحو اقامة علاقات طيبة وتعاون اقتصادي اقوى مع اعداء الامس في حلف شمال الاطلسي .
بهذه السياسة يكون الزعيم الجديد للكرملين قد مهد الطريق تدريجيا امام ارساء مبادئ واسس الديمقراطية في دول اوروبا الشرقية. وكانت كل من هنغاريا وبولندا سباقة في الإنفتاح على الغرب ، ففي أيار/مايو 1989 اخذت هنغاريا باحداث ثقب في الستار الحديدي الذي فرضه الاتحاد السوفيتي وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني فتحت هنغاريا حدودها بالكامل مع الغرب مما مكن عددا كبيرا من الالمان الشرقيين في صيف عام 1989 من الهرب عبرها واللجوء الى المانيا الغربية.
مظاهرات لا يبزغ الشهيرة
25 - وفي الوقت الذي زادت فيه اعداد الهاربين من المانيا الشرقية الى الغربية نمت حركة معارضة منظمة داخل المانيا الشرقية. فلأول مرة يخرج الناشطون في مجال حقوق الانسان الى الشارع ويعلنوا عن مطالبهم الاصلاحية على الملأ كما كان الحال في مظاهرات الإثنين الشهيرة في مدينة لايبزغ التي خرجت تحت شعار “نحن الشعب”.
وقد أوضحت المظاهرات الضخمة ضد النظام الشيوعي في الفترة التي كان يحتفل فيها هذا النظام بالذكرى الأربعين لتأسيس المانيا الشرقية رفض الالمان الشرقيين لهذا الحزب ولسياساته وان الوحدة مع الجزء الغربي اصبحت امر لا يمكن التنازل عنه . وقد اضطرت هذه التطورات ايريش هونيكر الامين العام للحزب الحاكم ورئيس الدولة لتقديم استقالته في 18 أكتوبر/ تشرين الأول، ممهدا الطريق امام تفتت الحزب وانحسار قدرته على ضبط الامور، الا ان خليفته على سدة الحكم ايغون كرينتس حاول ضبط الامور واعادة هيبة الحزب وسلطته وتأثيره، ولكنه سرعان ما ايقن بانه يجذف عكس التيار مما اضطر المكتب السياسي للحزب الى تقديم استقالة جماعية في 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 1989.
انهيار النظام الشيوعي وإعلان وحدة الالمانيتين
26 - في اليوم التالي من استقالة الحزب وفتح الحدود بين شطري المانيا اصبح امر تحقيق الوحدة الألمانية في متناول اليد. وبالرغم من محاولة بعض المثقفين المشهورين في المانيا الشرقية تسويق فكرة القيام باصلاحات جذرية في طبيعة وآلية الحكم كبديل عن الوحدة التي تعني حسب رأيهم الذوبان كاملا في المجتمع الالماني الغربي وضياع خصوصية الهوية الشرقية، اظهرت غالبية مواطني المانيا الشرقية تفضيلها الوحدة باسرع وقت ممكن. .
وهكذا بدأ جبل الثلج في التحرك بسرعة شديدة وتوالت الأحداث :
15 يناير 1990 نحو 2000 متظاهر يقتحمون مراكز استخبارات أمن الدولة “الشتازي” في برلين الشرقية ونحو 100 ألف يتظاهرون أمام المبنى.
28 يناير 1990 ممثلو الأحزاب القديمة والجديدة يجتمعون لتشكيل حكومة جديدة في ألمانيا الشرقية بمشاركة جمعيات حقوق الإنسان في اجتماع الدائرة المستديرة.
• 1 فبراير 1990 رئيس الوزراء هانز ميدروف يطرح التصورات حول الوحدة الألمانية ويؤكد فيه على الحياد العسكري والهياكل الفيدرالية.
7 فبراير 1990 الحكومة الألمانية تعرض على ألمانيا الشرقية إجراء مفاوضات عاجلة حول توحيد العملة المالية.
18 مارس 1990 أول انتخابات حرة في ألمانيا الشرقية ويفوز فيها التحالف المحافظ المسيحي.
12 أبريل 1990 اختيار لوتار دي ميزير رئيسا للوزراء
23 أبريل 1990 الائتلاف الحاكم في بون يتفق على اتفاقية توحيد العملة المالية.
5 مايو 1990 عقد أول جلسة من مؤتمر اثنين + أربعة بحضور وزراء خارجية الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وألمانيا الشرقية في العاصمة بون ومناقشة اتفاقية الوحدة.
18 مايو 1990 توقيع اتفاقية حول الوحدة النقدية والاقتصادية والاجتماعية وهي الساعة التي اعتبرها المستشار كول “الميلاد الحقيقي لألمانيا الموحدة الحرة”.
1 يوليو 1990 سريان الوحدة النقدية وتحول ألمانيا الشرقية للتعامل بالمارك الألماني وسحب أفراد المراقبة على الحدود الداخلية.
2 يوليو 1990 بداية المشاورات حول المعاهدة الثانية.
16 يوليو 1990 المستشار كول والرئيس السوفيتي جورباتشوف يعلنان التوصل لصيغة حول الوحدة الألمانية تبقى بموجبها ألمانيا عضو في حلف الناتو.
22 يوليو 1990 مجلس الشعب في ألمانيا الشرقية يوافق على قانون الولايات الجديد في ألمانيا الشرقية.
23 أغسطس 1990 مجلس الشعب في ألمانيا الشرقية يوافق على انضمام ألمانيا الشرقية لجمهورية ألمانيا الاتحادية.
31 أغسطس 1990 توقيع معاهدة الوحدة الألمانية في برلين الشرقية والبرلمان الألماني ومجلس الشعب يوافقان في العشرين من سبتمبر بأغلبية الثلثين.
24 سبتمبر 1990 خروج ألمانيا الشرقية من حلف وارسو.
1 أكتوبر 1990 ألمانيا تحمل كل مقومات السيادة وتوقف تحفظات الحلفاء حول معاهدة الوحدة في الثالث من أكتوبر.
3 أكتوبر 1990 في منتصف الليل رفع العلم الألماني بألوانه الأسود والأحمر والذهبي فوق مبنى البرلمان في برلين وعزف النشيد الوطني ومئات الآلاف من الألمان يحتفلون في الشوارع والطرقات بالوحدة الألمانية داخل العاصمة وكافة الولايات الألمانية.
الهيمنة الدستورية
27 - وقبل الانتهاء من المفاوضات صوت مجلس الشعب (برلمان المانيا الشرقية ) أغسطس - آب 1990 لصالح اعتبار دستور المانيا الغربية دستورا لالمانيا الشرقية على ان يبدأ العمل بذلك في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1990 وهو تاريخ الاعلان الرسمي عن الوحدة الالمانية.
يقول البروفسور الألماني “الفرد غروسر” أن من حسن حظ الألمان أن الوحدة تمت بناء على المادة 23 وليس على المادة 146 من القانون الأساسي (الدستور).. ففي عام 1945 لم تلغ القوى المنتصرة ألمانيا ولم تتفاوض مع حكومة ألمانية، بل قامت مجتمعة بـ “مصادرة” السيادة الألمانية. وبهذا المعنى كانت جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية تقومان على نفس المستوى من الشرعية.
لكن جمهورية ألمانيا الاتحادية كانت تقوم على النظام الرأسمالي بينما جمهورية ألمانيا الديمقراطية فلم تكن كذلك. فلو طُبقت المادة 146، آخر مادة في الدستور، (التي تقول: “هذا الدستور يفقد صلاحيته في اليوم الذي يدخل فيه حيز التنفيذ دستور أقره الشعب الألماني بكامل حريته”) لكانت كلا الدولتين، جمهورية ألمانيا الاتحادية وجمهورية ألمانيا الديمقراطية، قد حلّتا معاً. أما المادة 23 (التي تقول: “هذا الدستور يطبق في بادئ الأمر في منطقة الولايات: بادن، وبافاريا (…). أما الأجزاء الأخرى من ألمانيا فيطبق فيها بعد انضمامها”) فكانت تعني توسيع نطاق حرية الألمان حتى الحدود البولونية .
هيلموت كول اول مستشار لألمانيا الموحدة
في ليلة الثالث من اكتوبر/تشرين اول 1990 تجمع الآلاف في ساحة مبنى الرايخ للاحتفال بهذا الحدث التاريخي الذي انهى أكثر من أربعة عقود من الانفصال وازال آخر مخلفات الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. ففي تلك الليلة غرقت برلين في جو من الإحتفالات الصاخبة تخللتها مشاهد العناق والبكاء وتسلق جدران سور برلين وبوابة براندنبورغ الشهيرة وكأن التاريخ توقف عند تلك اللحظة. وفي اليوم التالي عقد اول لقاء في مبنى البوندستاغ للبرلمان الالماني الموحد الذي ضم 663 نائبا من برلمان المانيا الغربية والشرقية. وفي 1990.12.02 اجريت ولأول مرة منذ عام 1933 انتخابات حرة موحدة. وكان الفائز بتلك الانتخابات هو تحالف الحزب المسيحي الديمقراطي (CDU ) وحزب الأحرار ( FDP) بزعامة وزير الخارجية هانس ديترش غينشر. في 17 يناير/ كانون الأول 1991 تم انتخاب هيلموت كول اول مستشار لألمانيا الموحدة ليدخل التاريخ تحت لقب “مستشار الوحدة”.
التداعيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للوحدة الألمانية
28 - يشكل انهيار سور برلين في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 منعطفا هاما في تاريخ البشرية بالكامل، فقد سجل هذا الحدث نهاية حقبة تخللتها اكثر الصراعات دموية وتعقيدا في العالم، بدءا بالحرب العالمية الثانية وتقسيم المانيا الى مناطق نفوذ لدول الحلفاء المنتصرة في تلك الحرب وانتهاء باستعار الحرب الباردة بين المعسكرين الشيوعي الشرقي والرأسمالي الغربي. وقد شكلت المانيا بشطريها بحكم دورها المركزي في الصراع وموقعها الفاصل بين المعسكرين حلبة الصراع الرئيسة بين دول حلف شمال الاطلسي وحلف وارسو. وبعد زوال تلك التعقيدات وتوحيد الالمانيتين وجد صناع السياسة انفسهم امام كم هائل من التحديات والعقبات التي تحول دون تحقيق الوحدة بالشكل الكامل.
تنامي الدور السياسي
يمكن القول ان الوحدة ساهمت وبدون ادنى شك في زيادة ثقل المانيا على الساحة السياسية الدولية وحررتها من الكثير من القيود التي فرضتها الحرب الباردة كما انها عززت من ثقتها بنفسها من خلال حضورها العسكري في مناطق الازمات. ولعل ارسال قوات المانية الى كوسوفو وافغانستان ومشاركة سفن حربية المانية في مراقبة المعابر الدولية في منطقة القرن الافريقي في اطار الحرب على الارهاب لدليل واضح على دور المانيا الموحدة المتنامي على الساحة الدولية. وقد اظهرت معارضة حكومة المستشار جيرهارد شرودر العلنية والواضحة للحرب على العراق مدى استقلالية وتحرر السياسة الخارجية الالمانية من الهيمنه الامريكية. ويمكن القول ان كل هذه المواقف ما كانت لتحدث ـ على الاقل بهذا الوضوح ـ لو لم تتوحد المانيا، حيث لم يكن من الممكن ان ترفع المانيا صوتها في وجه القوة العظمى الولايات المتحدة الامريكية خوفا من فقدان مساندة الاخيرة لها في وجه الغول الشرقي آنذاك الاتحاد السوفيتي. ولا شك ان الوحدة الالمانية عززت ايضا من ثقل ودور المانيا داخل الاتحاد الاوروبي، فالمانيا الموحدة هي اكبر عضو في الاتحاد الاوروبي من حيث عدد السكان وهي صاحبة اضخم واقوى اقتصاد في اوروبا.
اما على الصعيد الداخلي فقد احدثت الوحدة الالمانية تغيرات جمة في الخارطة السياسية والجغرافية والديمغرافية للبلاد. فبتوحيد شطري المانيا انضمت خمس ولايات شرقية الى الولايات الإحدى عشرة في المانيا الغربية، مما شكل نموا ديمغرافيا بواقع 16 عشر مليون نسمة ليصبح التعداد النهائي لسكان المانيا الموحدة 82 مليون نسمة. هذا النمو السكاني اعاد خلط الخارطة الحزبية والبرلمانية الالمانية وذلك من خلال بروزحزب الاشتراكية الديمقراطية (PDS) الذي يتمتع بقاعدة عريضة عند الالمان الشرقيين ويشارك في الائتلاف الحكومي في ولاية مكلينبورن فوربومرن وقبلها في ولايات اخرى. وعادة ما يقدم هذا الحزب نفسه في الحملات الإنتخابية على انه نصير القضايا التي تخص الشرقيين، الامر الذي تعتبره الاحزاب الغربية عائقا امام دثر مفهوم شرقي وغربي للأبد.
من جهة اخرى ادى انضمام الولايات الجديدة الى مجلس الولايات الى تغيرات في نسب الاغلبية وبالتالي في موازين القوى لصالح هذا الحزب او ذاك، وهذا من شأنه ان يؤثر كثيرا على عملية تمريرالكثير من القوانيين التي تصدرها الحكومة الاتحادية ولا بد من تصديق مجلس الولايات عليها قبل ان تصبح سارية المفعول.
ولا بد هنا من الاشارة هنا الى ان المستشار الالماني جيرهارد شرودر ما كان لينجح في انتخابات عام 2002 بدون اصوات الالمان الشرقيين التي رجحت كفته باغلبية بسيطة مقابل مرشح المعارضة.
الهيمنة الإقتصادية الغربية
29 - وقد انعكس هذا الموقف من خلال تصويت الغالبية لصالح حزب “الإتحاد من اجل المانيا” الذي دخل الانتخابات تحت شعار الوحدة الشاملة. وفور تولي الحكومة الجديدة برئاسة لوثار دي ميزيير مهامها شرعت في التفاوض مع حكومة المانيا الغربية بشأن تهيئة الأرضية الملائمة لتوحيد الالمانيتين. وكانت اولى خطوات ذلك هو توقيع اتفاق بشان الوحدة الاقتصادية والنقدية والضمان الاجتماعي. ونظرا لعدم قابلية النظام الاقتصادي لالمانيا الشرقية البتة للاصلاح، تم الاتفاق على اعتبار النظام الاقتصادي لالمانيا الغربية نظاما موحدا للالمانيتين.
وهو ما يعني ” الخضوع الطوعي ” للإقتصاد الشرقي ” للهيمنة ” الغربية دون أي اعتبار لما كان موجودا في ألمانيا الشرقية على مدار ما يقارب من نصف القرن !!!
لقد فاقت سلبيات الوحدة بكثير توقعات الساسة الالمان أنفسهم ، فقد بلغت تكاليف الوحدة حتى الان ما يزيد عن 1600 مليار يورو ( حسب ما نشر في الإحتفالية العشرين للوحدة عام 2010 ) انفقت معظمها في مشاريع البنية التحتية وفي انظمة الرعاية الصحية والتقاعد. وفي مقال له في صحيفة فرانكفورتر الغماينة تسايتونغ كتب مدير مركزجامعة برلين الحرة للابحاث المتخصصة في شؤون المانيا الشرقية كلاوس شرودر يقول: “لقد حاولت جميع الحكومات الالمانية عدم الكشف بامانة عن التكاليف المترتبة على الوحدة الالمانية تفاديا لنشوء مظاهر الحسد والتذمر تجاه الالمان الشرقيين”.
وما زال الالمان الشرقيون يتذكرون شعارات هيلموت كول في اول انتخابات جمعت بين شطري البلاد عام 1990 عندما وعد بتحقيق “معجزة اقتصادية” في الشطر الشرقي على غرار تلك التي تحققت في المانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية. ولكن يبدو ان تجاوز آثار 40 عاما من الاداء الاقتصادي السيء لحكومات المانيا الشرقية لن يتم بين ليلة وضحاها، كما ان التحول من نظام الاقتصاد الموجه الى اقتصاد السوق لن يكون بالسهولة التي توقعها الساسة الالمان، فانتاجية الشركات والمصانع هناك لا تعادل نصف مثيلاتها في المانيا الغربية كما ان تلك المصانع قديمة وغير قادرة على انتاج ماركات قادرة على المنافسة في اسواق اوروبا الغربية. Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: Wiedervereinigung: West-Auto frisst Ost-Trabant. D-Mark
هذا كله ادى الى اعلان عدد هائل من الشركات الشرقية عن افلاسها في فترة وجيزة جدا، الامر الذي ادي الى ارتفاع حاد في اعداد العاطلين عن العمل هناك وهى المشكلة التي تحاول الحكومة الالمانية ايجاد حل لها منذ سنوات.
ولقد أعترفت المستشارة الألمانية ” أنجلينا ميركل ” في الذكرى العشرين للوحدة بكل هذه السلبيات قائلة : ”
تقارب ثم تباعد
30 - على الصعيد الاجتماعي هناك تباين واضح في مواقف الالمان من الوحدة. فبعد الاحتفالات الشعبية العفوية والمعانقات الحارة التي اعقبت انهيار سور برلين، عادت الخلافات والمنافسة بين المجتمعين تطفو على السطح. هذا ما اشار اليه عالم الاجتماع هاينز بوده في كتابه “الامة الساخرة” الصادر في هامبورغ عام 1999 والذي اشار فيه الى ان استخدام تسميات مثل “غربيين” و “شرقيين” لم يقل بعد الوحدة وانما زاد وتفاقم، مؤكدا فرضيته هذه بالقول: “كلما اقترب المرء من الآخر، كلما زادت رغبته في الابتعاد”.
هناك ظاهرة اجتماعية اخرى تركت آثارا سلبية في المجتمع الشرقي وهي هجرة الشباب الشرقيين الى الشطر الغربي بحثا عن فرص افضل للعمل. وقد درج القول ان الزائر لمدن المانيا الشرقية لا يجد امامه سوى العجزة واطلال النظام السابق، مما دفع الحكومة الالمانية للعمل جاهدة من اجل الحد من هذه الظاهرة وذلك من خلال انشاء بنية تحتية اقتصادية واجتماعية جيدة. وقد قامت الحكومة في هذا السياق بتقديم تسهيلات ضريبية للشركات الكبرى للاستثمار في الشطر الشرقي أملا منها في انقاذ البنية الاجتماعية والحد من البطالة وقوة التيار النازي المتننامي بين الشباب.
من موقع دويتشه فيله | طباعة
الحنين إلى ماضي ألمانيا الشرقية مازال يداعب مخيلة الكثيرين
40 - رغم مرور أكثر من عقدين على انهيار جدار برلين مازالت مشاعر الحنين لأنماط من الحياة التي كانت سائدة في ألمانيا الشرقية تراود الكثيرين، وهو ما دفع إلى إطلاق حملة للتصدي لهذا الحنين وتقييم الماضي في سياقه التاريخي.. ومازالت تنتاب أعداد متزايدة من المواطنين مشاعر رومانسية حول طبيعة الحياة اليومية التي كانت سائدة في ألمانيا الشرقية ” الشيوعية ” سابقا. هناك نوع من الحنين إلى الماضي لدى هؤلاء، وهذا الحنين يزداد تأججا، ويجذب شركات لاستثماره في المجال السياحي. على سبيل المثال يمكنك التقاط صورة مع شخص يبدو كجندي سوفيتي عند نقطة العبور السابقة شارلي في برلين، أو استئجار غرفة في شقة مفروشة على نحو يذكر بما كان عليه الحال في ألمانيا الشرقية خلال الثمانينيات. كما يمكنك القيام بجولة في برلين الشرقية بسيارة من طراز ترابي ذات الهيكل البلاستيكي، والتي كان على الألمان الشرقيين الانتظار لسنوات قبل الحصول عليها.
هل ندم الالمان على تحقيق الوحدة؟
50 – تناقلت وسائل الإعلام العالمية قبل عشرين عاماً صوراً لسور برلين وهو يسقط حيث احتفل الألمان الشرقيون والغربيون جنباً إلى جنب بهذه المناسبة التاريخية. ولكن ربما كان هؤلاء العشرون بالمئة من الشعب الألماني اليوم وبعد مرور اقل من عشرين عاماً على الوحدة الألمانية محقين في رغبتهم في عودة سور برلين وتقسيم ألمانيا من جديد.
ولكن ماذا حصل ليتحول هذا الإبتهاج إلى إمتعاظ ولتتحول الفرحة إلى عداوة وليتحول الإستعداد للعون والمساعدة إلى اللامبالآة؟
” الوحدة الألمانية حدث تاريخي رائع ” .. هذا ما يتردد سماعه في كل مكان.. وهذا ما يراه معظم الألمان. ولكن آخر استطلاعات للراي أظهرت شيئاً آخر وهو ان 20 بالمئة من الشعب الألماني يتمنى التقسيم وعودة سور برلين من جديد.
ولقد أظهر استطلاع رأي آخر أجراه معهد فورسا لحساب “الجامعة الحرة” في برلين أن واحدا من بين كل تسعة من سكان العاصمة الألمانية يحبذون عودة سور برلين، وذلك بعد 19 عاما من هدمه.
استطلاع الرأي الذي أجراه معهد فورسا لحساب جامعة برلين الحرة في ربيع هذا العام ( 2008) وشمل ألفي الماني في برلين وولاية براندنبورج المحيطة أظهر أن 11 في المائة من المستطلعة أرائهم في غرب برلين و12 في المائة في شرق برلين قالوا إنهم يحبذون لو أن السور الذي انهار في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989 قد ظل في مكانه.
نتائج ليست جديدة تماما
51 - Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: هدم سور برلين يعد من اهم الاحداث في اوروباوأكد البروفيسور أوسكار نيدرماير أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الحرة أن نتيجة الاستطلاع ليست مستغربة تماما حيث أنها تكشف عن تغيير ملحوظ في الاتجاه في الشطر الشرقي من برلين وحده، مشيرا إلي أن 12 في المائة من الذين تم استطلاع أرائهم يحبذون لو أن السور قد بقي مقابل 7 في المائة في استطلاع أجري عام 2004 .
وأضاف البروفيسور أن هذه المشاعر تم التعبير عنها بصورة أقوى على مستوى ألمانيا ككل قبل أربع سنوات عندما اظهر استطلاعان أجراهما معهدان من اكبر المعاهد البحثية أن 19 في المائة في غرب ألمانيا و21 في المائة في شرق البلاد كانوا يؤيدون بقاء السور.
وبينما تراجعت نسبة الذين يشككون في أسباب توحيد ألمانيا، إلا أن هناك بعض سكان غرب ألمانيا وبعض سكان شرقها لا تزال لديهم أحكام مسبقة حول الأشخاص الذين يعيشون في الشطر الأخر من البلاد. وبرغم إن نسبة هؤلاء تراجعت كثيرا عما كان عليه الحال في التسعينيات من القرن الماضي حيث كان وقتها من الشائع بالنسبة للمواطنين في الشرق أن يشعروا بأن جمهورية ألمانيا الديمقراطية السابقة تمت هزيمتها “على الطريقة الاستعمارية” على يد ألمانيا الغربية عقب سقوط النظام الشيوعي عام 1989 .
الفائزون والخاسرون
52 - Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: الكثيرون يفضلون الان عودة السوروخلص الاستفتاء إلى أنه في الوقت الحالي لا تظهر هذه المشاعر إلا في بعض المناطق البعيدة عن المركز بولاية براندنبورج ومن حين إلى آخر في أوساط بعض الأقليات فحسب. أما في الغرب فإن ثمة مقولة تردد كثيرا مفادها أن المواطنين في شرق ألمانيا مستسلمون بشدة لمشاعر “رثاء النفس وبكاء الحال”.
كما أشار الاستطلاع إلى أن مواطني شرق ألمانيا الذين كانوا مندمجين بشكل كامل في النظام الاشتراكي والذين ولدوا في شرق ألمانيا قبل عام 1973 هم بين الفئات الأكثر ميلا لعودة السور.
وبعد سنوات من اختفاء سور برلين فإن ثمة نقاشا يدور في شرق وغرب ألمانيا حول ما يسمى “الفائزون والخاسرون” من إعادة توحيد شطري ألمانيا.
أبناء الولايات الشرقية منقسمون
53 - ففي المناطق الواقعة على أطراف براندنبورج قال نحو 19 في المائة ممن شاركوا في الاستطلاع أنهم يشعرون بأنهم خسروا بسبب إعادة توحيد البلاد في حين قال 37 بالمائة إن الأمور ربما كان يمكن أن تكون أفضل لو بقي سور برلين والحدود الداخلية الألمانية التي كانت تمتد بطول 1120 كيلومترا التي كانت تفصل بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية. واعتبر ثلاثة في المائة فقط من سكان هذه الناطق أنهم بين “الفائزين” من توحيد شطري البلاد.
يذكر أن هدم سور برلين بدأ في الليلة التاريخية ليوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1989 للسماح للجماهير بالمرور عبره إلى الغرب لكن العمل الجاد في هدم السور لم يبدأ إلا في وقت لاحق من عام 1990 عندما شرعت وحدات من الجيش في هدم 300 برج للمراقبة وآلاف من مواقع الإضاءة وسياج معدني يمتد بطول أكثر من 80 كيلومترا حول المدينة.
يمكن القول أن مثل الشعب الألماني كمثل العائلة الكبيرة التى لم ير أفرادها بعضهم البعض لزمن طويل. وإن حصل والتقوا بعد هذا الغياب الطويل، فرحوا بهذا اللقاء فرحة كبيرة. ولكن وبعد أيام قليلة يبدأ الجميع بالتذمر، فتقابل الإقتراحات ووجهات النظر بالرفض والإستياء، ويصبح الجو مشحوناً بالتوتر والخلافات، مما يفسد فرحة اللقاء. عندئذ يعود المرء ويفرح من جديد برحيل هؤلاء الضيوف المزعجين المتعبين، وهذا ماحصل تماماً للشعب الألماني. Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: ألماني يرفع علم المانيا الاتحادية وعلم ولايته تورنغن احتفالا بالوحدة
نجحت المانيا الشرقية بالتحررمن الديكتاتورية الإشتراكية، وقد ساعدها على ذلك الإتحاد السوفيتي بما يخص هذه المسألة. أما المانيا الإتحادية فانتهزت فرصة تخلص ألمانيا الديمقراطية من معسكر الشيوعية وعجّلت في تنفيذ قرار الوحدة. وفي حين قامت المانيا الإتحادية بتقديم الدعم المالي لألمانيا الشرقية، قام الألمان الشرقيون، ورداً على هذا الجميل، بمنح أغلبية أصواتهم للحزب الديمقراطي المسيحي (CDU) برئاسة هيلموت كول في أول إنتخابات ألمانية موحدة.
وقد دلت المظاهرات في مدن ألمانيا الشرقية سابقاً والتي نظمت حديثاً على منوال مظاهرات عام 1989 على حدوث تغير واضح في موقف الألمان الشرقيين من الوحدة. ففي حين قام الشرقيون بالتظاهرمن اجل المطالبة بإصلاحات والوقوف في وجه نظام متصلب متجمد، نراهم يتظاهرون - بعد الوحدة – ضد الإصلاحات قاسية التي قامت بها حكومة المستشار جيرهارد شرودر، يعلمون أنه لا بد من تطبيقها. وبينما كان الألمان الشرقيون عام 1989 يعارضون الحزب الحاكم آنذاك وهوحزب الوحدة الإشتراكية الألمانية (SED)، نراهم اليوم يؤيدون خلفه حزب الإشتراكية الديمقراطية (PDS) من جديد.
Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: مكتب العمل في برلين ورحلة البحث عن وظيفة
“استبعاد متعمد للسياق التاريخي”
54 - Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: سيارة “ترابي” لتي اشتهرت بها ألمانيا الشرقية سابقا الدكتورة داجمار شيبانيسكي رئيسة برلمان ولاية تورنجين ( وهي عالمة شبّت في ظل النظام الشيوعي وترأس لجنة، مهمتها مراجعة جوانب النجاح والفشل في عملية إعادة بناء الولايات الشرقية ) تقول في تعليقها على كيفية التعامل مع تاريخ ألمانيا الشرقية: “أسال الناس فيما إذا كانوا يريدون العيش في شقة قديمة صغيرة المساحة شبيهة بعلبة الكبريت، ومبنية بالخرسانة المسلحة منذ أيام ألمانيا الشرقية، الجواب يكون بالنفي طبعا حيث الغالبية تعيش الآن في شقق فاخرة وتمتلك سيارات جميلة”. ولا تخفي شيبانسكي غضبها عما تعتبره ” شيبانيسكي ” ترى أن هناك حاجة للتعاطي مع تاريخ ألمانيا المقسمة عبر إصلاح المناهج والممارسات التعليمية. وقد رددت دعوتها دراسة حديثة أخرى تقيم مستوى المعرفة عن تاريخ ألمانيا الشرقية والغربية. وعن الدراسة قال كلاوس شرودر الأستاذ الجامعي المشرف عليها” “إن الطلاب لا يعرفون شيئا تقريبا عن تاريخ ألمانيا المعاصر، مثلا أقل من النصف يعرفون من بني جدار برلين”. ويضيف شرودر أن القليل الذي يعرفونه تعلموه من أسرهم أو من برامج التلفزيون التي رسمت صورة مشوهة.
حملة لمناهضة الحنين إلى الماضي
55 – Bildunterschrift: Großansicht des Bildes mit der Bildunterschrift: شوكولاتة ألمانيا الشرقية وصرح جان ريدمان العضو في القسم المسؤول عن الشبيبة في الحزب المسيحي الديمقراطي: “الطلاب أبلغونا أن ألمانيا الشرقية غالبا ما تحذف في الدروس. ويعود هذا أيضا إلى أن التعامل مع الماضي الألماني يعني بالنسبة لقسم كبير من المدرسين التعامل مع سيرتهم الذاتية”.
وبدأ ريدمان قبل ثلاث سنوات حملة مناهضة للحنين إلى الماضي، انضم إليها حتى الآن 700 شخص. وفي إطارها عرضت برامج عن ألمانيا الشرقية لأول مرة على شاشات التلفزيون الألماني. يشكو بيتر تويبر أحد المشاركين في الحملة من الحديث عن السعادة التي تبعثها في النفس قيادة سيارة ترابي، في الوقت الذي لا يتحدث فيه أحد عن سنوات الانتظار الطويلة التي كانت لازمة للحصول عليها.
دروس الوحدة الألمانية
56 - ربما يكون من المبالغة القول بأن الفوارق الثقافية بين الشرق والغرب الألمانيين قد تلاشت بشكل تام، بحيث لم يعد بالإمكان حتى ملاحظتها. لم تكن البداية سهلة. الانقلاب الفكري، وهجرة جيل الشباب من شرق ألمانيا سعيا وراء أماكن الدراسة وفرص العمل، الخسارة الصافية للتبادل بين الشرق والغرب التي تعادل قرابة 2 مليون إنسان، وتلاشي حوالي ثلثا القطاع الصناعي في ألمانيا الديمقراطية، الانفجار الذي شهدته أعداد العاطلين عن العمل، انتقال شركات القطاع العام إلى ملكية القطاع الخاص (أو تلاشيها بشكل كامل) من خلال لجنة الوصاية على القطاعات الاقتصادية، كل هذا يعتبر وصفا لحقيقة صعبة مرة. الغالبية الساحقة للسكان في الشرق التي كانت تتطلع بكل شوق إلى الاندماج السريع وكانت تتمنى استبدال المارك الشرقي بالمارك الغربي بمعدل واحد لواحد، هذه الغالبية نفسها، فقدت بين عشية وضحاها كل ضمانات البقاء، وصار لزاما عليها أن تتعلم وأن تتأقلم مع نوع جديد تماما من أساليب وعلاقات الحياة. لهذا السبب نشأت في السنوات العشر الأولى ظاهرة يمكن تسميتها “خوف الشرق”، وهي عبارة عن نوع من الحزن والخيبة، ليس للفوز بالحرية (وضمان المعاش التقاعدي)، وإنما للشعور بفقدان الكثير. وقد كان من الصعب إدراك ذلك في الغرب، ببنيته المتطورة والرخاء الذي كان يتمتع به، ونظام وأسلوب الحياة السائد، والذي كان يتميز بالوضوح والاستقرار والتخطيط والتنظيم. كان الجدار من وجهة النظر هذه “جدارا في العقول”. وهذا الجدار هو الذي كان موضع الحوار لفترة طويلة. وكان هذا الجدار فيما يبدو في الغرب أعلى منه في الشرق، حيث أظهر “الاندماج” هنا بعضا من المنافع المادية الإيجابية، إضافة إلى الفوز بالحرية التي لا تقدر بثمن.
57 - لم يندمج الشرق بشكل كامل ونهائي حتى الآن. الرواتب والأجور مازالت حتى اليوم تقل بوضوح عن مثيلاتها في الغرب، الناتج المحلي الإجمالي يقل بمعدل حوالي 30% عنه في الغرب. حتى الآن لم تتلاشى فكرة وجود مناطق في شرق ألمانيا لن تشملها الرعاية لتحولها إلى “الحدائق الغناء” التي وعد بها هيلموت كول. ولكن في ذات الوقت: تغير وجه “الولايات الألمانية الجديدة” والعاصمة برلين على مدى العشرين سنة الماضية بشكل مدهش ومفاجئ، من خلال “صندوق الوحدة الألمانية” الذي استثمر في السنوات الأربع والنصف الأولى 115 مليار مارك ألماني. وكذلك من خلال اتفاق (صندوق) التكافل الأول (الذي كان يهدف إلى تحقيق التساوي في مستويات المعيشة) والذي انطلق منذ العام 1993، وتم تمديده حتى اليوم. وقد بلغ مجموع التحويلات من الغرب إلى الشرق خلال 20 سنة ما يقرب من 1,6 بليون يورو، تم إنفاقها على صناديق التقاعد والقطاع العام وبناء الشوارع وإصلاح المدن، أو لجذب الاستثمارات.
ومع كل ذلك يمكن لهذه الأرقام إعطاء صورة خاطئة. فقد أصبحت جمهورية ألمانيا الاتحادية أكثر تنوعا، وبالتأكيد أكثر تفاوت اجتماعي، بين الشمال والجنوب، بين المدن الكبيرة والأرياف، بين برلين وميونيخ، وكذلك تظهر الفوارق أيضا بين الشرق والغرب. من الأمور التي حسمت الآن، مسألة فيما إذا كان لمشروع عودة الوحدة أن يجري بطريق وتطورات مغايرة. إذ أنه يمكن القول بأن الظروف لم تكن تسمح “بالتردد أو التفكير”، حسب ما أشار إليه الرئيس الاتحادي آنذاك ريشارد فون فايتسيكر. ولكن الكثير من المثقفين في شرق ألمانيا، علاوة على غالبية الشعب هناك كانوا يدفعون باتجاه مشروع عودة الوحدة بسرعة البرق، وكان المستشار هيلموت كول على رأس هذه الحركة.
58 - وقد جاء بعد ذلك التقارب بين الشرق والغرب في العديد من المجالات. فالجامعات في هالة ويينا وحتى فرانكفورت على نهر أودر وغرايفسفالد لم تعد مجرد جذابة للطلبة والدارسين من المناطق المجاورة، وإنما أصبحت تقدم برامج متخصصة متميزة، ومناخ عمل جيد، وتقنيات حديثة. زاكسن وبراندنبورغ إضافة إلى مناطق في مكلنبورغ فوربومرن وتورينغن أصبحت تتفوق في ديناميكية التطور والنمو على مناطق عريقة في الولايات الغربية مثل بايرن أو نوردراين فيستفالن. لم يعد بالإمكان تصوير الشرق على أنه “منطقة أزمات اجتماعية ” بعد الآن. بغض النظر عن أن مناطق الغرب يمكن أن تقع أيضا ضحية للأزمات. أزمة المناخ؟ الأزمة المالية؟ أزمة الموازنة؟ لقد طغت التطورات والحقائق على فروقات الماضي.
59 - لا تعني الإشارة إلى هذا الأمر تجاهل التناقضات والاختلافات. فيلهيلم هايتماير الباحث في أمور الأزمات من بيليفيلد يؤكد وضوح الانكسارات والشقاقات الاجتماعية التي تقع بسبب عدم الاعتراف، في الشرق والغرب على السواء، رغم أنها تكون أكثر آثارا وأكبر سلبية في الشرق. يقول ثلثا السكان في الشرق بأنهم يشعرون أنهم يعاملون كمواطنين من الدرجة الثانية . بل إن ثلاثة أرباع هؤلاء يعتقدون بالفعل أنهم يعانون من عدم المساواة مع الناس في الغرب. ولكن في ذات الوقت، وضمن هذا السياق فإن الغالبة الساحقة في الشرق على يقين من أن “ثورتها السلمية في تشرين الأول/أكتوبر 1989” كانت قمة النجاح. كذلك تعبر هذه الغالبية في الشرق والغرب عن نظرتها الإيجابية للنظام الديمقراطي السائد.
الكاتب الصحفي فريدريش ديكمان تنبأ بحدسه قبل سنوات بأسبقية الألمان الشرقيين مقارنة بنظرائهم الغربيين في معاناة “تجربة الخسارة وخيبة الأمل”. وهذا ما يمكن أن يكون بالفعل ميزة إيجابية. حيث أن مجتمع الشرق المعتاد على الأزمات والحرمان يمكنه تقبل الأزمات بشكل أفضل، والتأقلم معها بشكل أكثر مرونة من أولئك الذين تربوا في المجتمع الغربي المتقدم والأكثر نموا. بالإضافة إلى ذلك، ألا تعتبر نجاحات مدرسة نيو راوخ في الرسم والمدارس الفتية الناجحة في لايبزيغ ودرسدن وغيرهارد ريشتر، والكتاب المبدعين من أمثال توماس بروسيغ وأوفة تيلكامب وإنغو شولتسة وختاما صناع الأفلام الناجحة (“شارع الشمس” و “وداعا لينين”)، أليست كلها دلائل على المقدرة الإبداعية للمقاومة والإرادة القوية للشرق؟
وهكذا نستطيع أن نقول أن تجربة الوحدة الألمانية الأخيرة تلنفي في كثير من وقائعها كثير من الحجج التي طال تردادها فيما يخص تجربة الوحدة المصرية وأسباب إخفاقها وحدوث الإنفصال عام 1961 .. لماذا ؟
من الماضي الى المستقبل
60 - لقد تعلل البعض بأن الوحدة المصرية – السورية كانت وحدة غير مدروسة .. وأن هذا كان السبب الرئيسي في فشل هذه الوحدة بين البلدين العربيين .. ولكننا نكتشف من خلال قراءة التجربة الأمانية مدى التسرع والتعجل وعدم الدراسة الجادة الذي صاحب ورافق تجربة الوحدة الألمانية .. ان الوحدة الألمانية الأخيرة كانت وحدة مفاجئة ورمزية وغير مدروسة .. وهو أمر يجعلنا نتساءل : لماذا إستمرت وحدة ” غيرمدروسة ” أكثر من تسعة عشر عاما بينما إنفصمت الثانية بعد ثلاثة أعوام ؟
61 - وتعلل آخرون بأن سبب الإنفصال هو إختلاف ظروف تطور المجتمعين المصري والسوري .. ولكن ظروف التطور الإقتصادي بين المجتمعين المصري والسوري لم تكن من التفاوت بما يبرر الإنفصال .. فمصر التي كانت قد أممت بعض الشركات البريطانية والفرنسية والبلجيكية عام 1958 , لم تكن تمتلك بنية صناعية متطورة , بما يكفي للقول أن المجتمع المصري كان مجتمعا صناعيا ” متطورا ” مقارنة بالمجتمع السوري شبه التجاري شبه الإقطاعي .
وقد راينا كيف ان مجتمعا صناعيا مبتدئا كما في ألمانيا الشرقية .. استطاع الإندماج في المجتمع الألماني الغربي الأكثر تقدما وحداثة في أوروبا كلها .. وتم دمج مجتمعين لم يعرف أحدهما السوق بمفهومه الصحيح بينما كان الثاني يعيش إقتصاد السوق في أكمل أشكاله الرأسمالية . لقد رأينا مدى هشاشة الإقتصاد الألماني الشرقي مقارنة بنظيره الغربي .. بما لايقارن معه الوضع في سوريا ومصر في الفترة من 1958 - 1961
62– تعلل البعض بأن سبب الإنفصال يعود الى روح الهيمنة والتعالي التي مارسها ” المصري ” على السوري ” .. ولست هنا في مجال مناقشة صواب أو خطأ هذه الدعوى .. ولكننا رأينا كيف أن هناك احساس عميق في داخل الألمان الشرقيين بأنه تم دمجهم قسرا في جميع المجالات: دستوريا وسياسيا وحزبيا وإقتصاديا وتعليميا من قبل ألمانيا الغربية .
فعلى الرغم من التضحيات المادية التي خسرتها ألمانيا الغربية والتي تقدر مابين 1600 مليار و 3000 مليار يورو .. فإن ذلك لم يمنع من الإحساس بالدونية والحنين للماضي ماقبل الوحدة لدي سكان الشطرين !!
ولكن كل هذا لا يوحي بوجود اتجاهات إنفصالية داخل الشعب الألماني تسعي لفصم الوحدة بين الشطرين على الرغم من مرور كل هذه السنين .. ولم تنشأ اي حركات حزبية أو فكرية ذات طبيعة ” إنفصالية ” خلاف مع حدث في التجربة المصرية – السورية .. ودعاوي الإنفصاليين.
63– النقطة الأخيرة – والمهمة – تتعلق بموقف القوى الدولية والمحلية المجاورة من قيام الوحدة الألمانية الأندماجية .. فكما يقول الألمان أنفسهم لم يكن من الممكن تحقيق الوحدة الالمانية بمجرد رغبة الالمان في تحقيق وحدتهم او سعيهم اليهم … فموقف القوى الدولية الكبرى كالإتحاد السوفييتي الذي كان محكوما من الرئيس السوفياتي ” جورباتشوف ” .. والولايات المتحدة الأمريكية التي كان يحكمها آنذاك الرئيس ” جورج بوش ” الأب .. لما تعارضا جديا وحدة ألمانيا .. بقي التخوف الرئيسي من موقف فرنسا وبولندا .. بالنهاية استطاعت القوتان الدوليتان اقناع الرئيس الفرنسي السابق أن ما سينشأ هو ” ألمانيا الأووبية ” وليس ” أوروبا الألمانية ” كما تخوفت جيرانها !!
لا يعني ذلك على الآطلاق أن الوحدات القومية لا تنشأ ألا ” بموافقة ” دولية واقليمية .. ولكن يعني تحديدا أن الظرف الداخلي لا يعمل منفردا بدون تاثيرات خارجية .. ان مسألة اي وحدة محدودة أو شاملة في الوطن العربي تعمل وسط مناخ اقليمي وعالمي سيؤثر سلبا أو إيجابا على مصير هذه الوحدات ( أو الإتحادات )
بلغة أخرى : ان قوة عوامل التوحيد الداخلية في الأقطار العربية قد تلعب دورا حاسما في تغيير الإرادات الخارجية وقد تخضعها .. بالمقابل وجود ظرف دولي أو أقليمي مناسب للتوحيد .. قد يتم إهداره مالم تكون المقومات والإرادات الوحدوية نشطة وجاهزة لإستثمار الظرف الخارجي .. من هنا يظهر منطقيا أن خفوت أو تصاعد النزوع الوحدوي سيكون هو المحفز الأساسي لأي عملية توحيد مستقبلية ..
الختام
رأينا من خلال تاريخ ألمانيا وتاريخ انقسامها وتوحدها كثير من الدروس المتشابهة مع تاريخ الأمة العربية – انقساما أو توحدا .
64- يسود الإعتقاد في الفكر الوحدوي التقليدي ان الحزب الوحدوي هو المحفز على عملية التوحيد السياسي وربما يكون المحفز الوحيد ( !! ) .. وهو بإعتقادي ” وهم ” ينبغي كشفه وفضحه فورا .. فوجود ” حزب وحدوي ” لا يعني انه صانع التاريخ !!
لقد شهدت التجارب الثورية .. اندلاع الثورات خارج أسوار الحزب الثوري .. فالثورة المصرية والثورة الكوبية اندلعتا خارج أسوار الأحزاب الشيوعية ذاتها .. بل ان هذه الثورات تقدمت على هذه الأحزاب في إنجازاتها .. فكانت مفاجئة لهذه الأحزاب … وقد أدى ذلك الى قدر كبير من البلبلة والإرتباك في صفوف هذه التنظيمات العريقة والأقدم في العمل السياسي والثوري ..
وقد نستطيع أن نضيف تجربة الثورة الإسلامية في أيران عام 1978 .. فلقد اندلعت الثورة وتم قيادتها من قبل قوى أخرى غير تلك التي تمارس ” التحريض الثوري المنظم “… وهكذا !
وفي التجربة الوحدوية الألمانية .. لم تكن هناك أحزاب تعمل على قضية الوحدة الألمانية بشكل مباشر أو بشكل أيديولوجي .. أنفجار الوضع الخارجي وانهيار سور برلين ووهن وضعف الإتحاد السوفياتي ” المفاجئ ” .. أدت هذه الوقائع وغيرها لحدوث تداعيات كجبل الثلج يكبر بالحركة والتقدم ..
ولكن أكون واضحا بأكبر قدر من الوضوح : ما اقوله لا يعني تهميش فكرة الحزب الوحدوي .. أو نبذ الفكرة من الاساس .. لكن ما أقوله أن كل الآحزاب والمنظمات التي تعمل على فكرة الوحدة , قد تجد نفسها – فجأة – خارج سياق الحدث التاريخي – لو حدث –
إنني أعتقد وبيقين كامل انه لا يوجد ” إرادوية ” مطلقة في الحركة التاريخية .. وان هناك عوامل مختلفة قد تساعد على نجاح أو فشل القصد الوحدوي ..
دعه يعمل .. دعه يمر !!
65– لو سالنا أنفسنا السؤال البسيط التالي : هل الوحدة العربية منظورة في المدى القريب ؟
كل الوقائع في العالم العربي تجيب بالنفي !!
الوحدة العربية ليست أول بند في جدول أعمال اليوم .. انها مهمة بعيدة المدى .. لو أجابت كل المنظمات الوحدوية على ذلك .. لأدركنا فورا أن الانقسام الحادث في الآحزاب والمنظمات الوحدوية هي انقسامات “مجانية ” .. وربما يتجاوز التاريخ كل هذه المنظمات وتتحقق الوحدة العربية خارج أسوار هذه الأخيرة بأحزاب ومنظمات كانت تعادي الوحدة العربية فكريا ( !! ) – وهو وضع لا أتمناه ولكنه ممكن الحدوث .. لا قدر الله –
لو عدنا لصلب السؤال : متى الوحدة العربية ؟
هي بعيدة الآن .. الممكن والمتاح هو العمل من أجلها فكريا وعقائديا بالدعوة والنشر .. ومواجهة التيارات والأفكار المناوئة لفكرة الوحدة العربية – من اليمين الى اليسار دون استثناء – وهي مهمة كل فرد وحدوي عروبي أيا كان موقعه أو منظمته أو حزبه
وحيث أن تحقيق الوحدة السياسية بعيد في منظور الزمن .. فليعمل كل في منظمته نشرا ودعاية وكفاحا من أجل عقيدة الوحدة العربية ومواجهة القطرية والإقليمية في كل تلاوينها الصريحة أو المراوغة …
لا يوجد الآن – وأركز على كلمة الآن – ما يستأهل الصراع عليه بين كل الوحدويين .. فليبق كل في منظمته وموقعه يؤدي دوه في حدود المهمة الفكرية التي طرحناها .. أمام المهام التنظيمية والخطط والمشاريع .. فتلك ستكون – بالقطع – وليدة التاريخ القادم بكل ما يحمله من مفاجآت – مزعجة أو سارة – ذلك لن يكون بيدنا
ليكن شعار المرحلة : دعه يعمل .. دعه يمر ( laisser passer .. laisser faire )
لست هنا بصدد أعطاء دروس أخلاقية عن ضرورة نبذ الخلافات ” المجانية ” .. لكنني بصدد إيجاد حل موضوع لهذه الخلافات ..
لست منزعجا – الى حد الموت – من انقسامات الحركة الوحدوية بألوانها المختلفة .. لآني على ثقة ان كل منها منفردا .. وكل فرد فيها يعمل من أجل الوحدة العربية .. التي قد لا يراها
فلننشط بالدعوة والفكر والتنظيم والفن والاعلام والنت لمواجهة الفكر القطري والتصدي له والدعوة للوحدة العربية .. في اطار هذه المهمة فلينظر كل فرد ماذا يفعل ويحقق منها .. بدلا من ” المزايدة ” على الآخرين
وليكن شعار الجميع : دعه يعمل .. دعه يمر .. مادام الهدف متفق عليه : الوحدة العربية الشاملة !!
في النهاية
أن عملية التوحيد السياسي ” مسار ” طويل وشاق ومحفوف بكل الصعوبات والمشاعر والإنفعالات المتضاربة .. وتنتقل كل هذه التبعات من جيل الى جيل .. فبعد عشرين عاما من الوحدة الألمانية – والتتي تتوفر لها كل عوامل النجاح بإمتياز – رأينا كيف انها تعاني من الصعوبات والمشاعر والإنفعالات المتضاربة ..
لكن الأكيد في هذه التجربة ان ألمانيا قد نشأ فيها جيل جديد عمره عشرون عاما لم يشهد أو يعايش فيها ألمانيا المقسمة السابقة على نشأة الدولة الألمانية الحديثة .. هذا الجيل ذاته هو ثمرة تاريخ من النضال الوحدوي أمتد على طول ثلاثة قرون من الأمل .. أو إذا شئنا ” ثلاثة قرون من اليأس الخلاق ” !!!
القاهرة – المعادي – السادس من أكتوبر 2010
مجلة الوعي العربي