صورة جمال

 

بقلم ياسر عبد العزيز ٢٠/ ٧/ ٢٠٠٨

صورة تسند جداراً مائلاً، وتغطي شروخه وعطبه، وتمنح بسطاء شعبنا أملاً متجدداً في البقاء… إنها صورة جمال عبد الناصر، حيث تحل الذكري السادسة والخمسين لاشتعال وهجه الأول بعد .


ثلاثة أيام من الآن.

في موسم الحديث عن الثورة… خيباتها وانتصاراتها، ما بقي منها وما زال أثره، دعونا نتحدث قليلاً عن صورة قائد تلك الثورة وموقد شعلتها، التي استعصت علي الخفوت، ومانعت النسيان، رغم هول الأحداث الجسام، وتحول الأيام، وقسوة الهجمات وتتابعها
تبقي صورة جمال معلقة في صدارة «حجرة الجلوس»، في بيت موظف بسيط، يتحايل علي خبطات الزمان، ويصارع جوره وطغيانه، ويقاوم التحلل والاندثار. تبقي صورة جمال هناك، تتوسط صوراً لرب الأسرة، وأبيه المزارع الأجير، الذي مكنته الثورة من إرسال أبنائه إلي المدارس، لينعتقوا من غبار الحاجة الكثيف، ويشرعوا في رحلة صعود اجتماعي مضنية، جعلتها الثورة ممكنة عبر التعليم والعرق والاجتهاد. تتحلق صور أخري حول صورة «الزعيم»، لأبناء وأحفاد، بعضهم لقي حظه، وبعضهم ما زال ينتظر… «عقد عمل» في الخليج، أو فرصة هجرة إلي الشمال، تاركين وراءهم وطناً كان رأسه يطاول السحب، وأحلامه تجترحها وتزهو عليها قبل خمسين عاماً من الآن.

صورة جمال «بياعة» ما زالت، تتصدر كتاباً فتنفد نسخه في الحال، تحتل رأس صفحة أولي في جريدة، فتتجه إليها العيون وتهفو لها الأرواح، تعلو شاشة بيضاء في قاعة عرض مظلمة، فتخطف الأبصار، لتسري رعدة في الأبدان، وتتحرك الأشواق إلي زمن جميل كانت تلك الصورة مركزه ودعامته وأمله السادر في حقيقته وتجسده.

صورة جمال تناضل، يرفعها عمال النسيج في اعتصامهم لتحسين الأجور، وعطشي الدلتا في تظاهراتهم لتأمين حقهم في الماء… والحياة، وطلاب الجامعة في فورتهم دفاعاً عن مهابة الوطن واعتباره وصلابته المفترضة في مواجهة المخاطر وتربص الأعداء، ومواطنون يطحنون يومياً في منازلات الخبز، التي تحولت أبدية من دون أمل في الانعتاق من مهانتها وقسوتها.

صورة جمال تحت زجاج مكتب مثقف تذكره بأبيه الروحي، وترمز للوطن كما أراده أن يكون، وعلي جدار متآكل في بيت فلاح، وهبته الحياة رئيساً مكّنه من زراعة أرض يملكها، وتعليم أولاده، والعيش بكرامة وقامة مفرودة رغم ضيق الحال.

صورة جمال معلقة علي زجاج سيارة أجرة في صنعاء، يقول قائدها إن مصرياً علّمه اللغة والحساب وحدثّه عن العروبة والمستقبل والأمل، وفي بيت «محاصر» في غزة، تلقي صاحبه تعليمه في جامعة مصرية، حيث تفتح وعيه علي الفن والجمال والحداثة ومناقب شعب معتز بوجوده، ومقتنع بمكانته، وأعباء حضوره في الزمان والمكان.

الصورة نفسها تعلو بناءً عريقاً في دمشق، وتتصدر ميداناً في الشارقة، وتزين مقر حزب ناصري في تونس، وتطل من خلف مكتب مثقف لبناني، حصل علي الجنسية الأمريكية، ويقيم في لندن، ويضعها طالب كويتي بين كتبه الدراسية، وتدسها ناشطة جزائرية في حافظة نقودها وأوراقها الثبوتية، ويزين بها موظف مصري مكتبه الكئيب، حيث تتنحي جانباً لصورة أكبر حجماً، حكمت الأحوال أن تتصدر المكان.

صورة تجسد أفضل ما في شعبنا من خصال، سمرة لوّحتها شمس العمل في الميدان، وأناقة محتشمة تجلّلها البساطة، وعينان عميقتان تنضحان مهابة وتحدٍ واعتزاز وأمل، وشيب منمق يتحدث عن أهوال ومخاطر مضت، وينتظر المزيد من الاختبارات والمعارك بحكمة وجلد واقتناع، وكتفان عريضان مستعدان لأي نزال محتم، واستقامة في الخطو والنظر والحال والمآل، وثقة في عدل السماء وصلابة الأنصار، وإيمان بالله وبالذات وبنا، ونزوع نحو مستقبل، يرونه عزيزاً محالاً، ويراه صاحب الصورة قريباً في المنال… وهكذا يجب أن نراه.

يقول «محمد أبو أمين» الإطفائي الذي حارب مجنداً في حرب السابع والستين: «أسرونا الصهاينة، قيدونا، وهددونا بالقتل برصاصة واحدة في الرأس.. ثم عادوا وفتحوا لنا باب الأمل، قائلين: سبوا جمالاً، وسنترككم أحياء».

ماذا فعلتم يا عم محمد؟، سألته. نظر الرجل إلي الصورة المعلقة في صدارة «المندرة»، وأجاب بأسي: «شتمناه». وهل طاوعك قلبك يا عم محمد؟ سألت مجدداً، فأعاد نظره إلي الصورة، وقال: «نعم… طاوعني، فالحياة حلوة، وتستحق، كما أنه أكيد عارف إن اللي في القلب في القلب».

نم قرير العين يا جمال في صورتك التي ألهمتنا، وتلهمنا، وستظل، لأن «اللي في القلب… في القلب»، و«مهما الأمور جابت».

المصرى اليوم ٢٠/٧/٢٠٠٨

عن admin

شاهد أيضاً

اعادة إكتشاف عبد الناصر - بقلم الأخواني السابق: أحمد بان

.. وفى الليلة الظلماء يفتقد البدر، فى مثل هذه الأيام رحل عن عالمنا هذا الراحل …

تعليق واحد

  1. سيظل زعيمنا خالدا في قلوبنا وعقولنا رغم أنف الحاقدين

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *