تتباهي صفحات الملك فاروق علي الفيس بوك و موقعه الأليكتروني بأن القاهرة كانت المدينة الأجمل في العالم و بأن الموضة كانت تظهر في القاهرة قبل باريس و أن الجرسون كان يونانيا و الترزي ايطاليا و المصور كان أرمانيا و البواب سودانيا و المربيات من أسكتلندا !! و تناست هذه الصفحات ان هؤلاء كانوا يخدمون قوات الأحتلال الأنجليزي و طبقة النصف في المائة و تناست هذه الصفحات أن معظم الشعب المصري كان من الفلاحين العراة و الحفاة و الأميين و فى 9 أغسطس عام 2007 كتب المؤرخ الراحل د.يونان لبيب رزق دراسة ممتازة فى الأهرام بعنوان “مقاومة الحفاء فى مصر”.. قال فيها إن المصريين قبل 1952 كانوا شعبا من الحفاه.. وأن الفلاح المصرى لم يعرف إرتداء الحذاء، إلا عندما كان يتم تجنيده فى الجيش المصري !!. حيث أنه لم يكن ممكنا أن يخوض الجيش حروبه بجنود من الحفاة.. وأنه بعد إنتهاء تجنيده، كان الجندى يسلم “الجزمة الميرى” باعتبارها عهدة.. ثم يعود حافيا إلى قريته مثلما جاء منها حافيا !!.. لكن الميسورين من أهالى الريف (مثل العمد والمشايخ) فقد كانوا يرتدون “البلغة”.. وكان الفلاحون يذهبون إلى حقولهم شبه عراة.. وكان سكان المدن يسترون أجسادهم بالكاد بملابس مهلهلة.. وعندما أصبح حسين سرى باشا رئيسا للوزراء، فقد تبنى مشروعا قوميا لمقاومة الحفاء.. وتعهد فى خطاب العرش بأن يرتدى المصريون النعال فى أقدامهم مثل الدول المتقدمة !!. وفى 2مارس 1941 أعلنت الأهرام عن تكوين لجنة مركزية برئاسة عبد الخالق بك حسونة، لوضع الخطط التفصيلية لشكل الحذاء المنتظر.. وأطلقوا عليه إسم “الزنوبة”.. وتقرر أن يتم توزيع الدفعة الأولى من “الزنوبة” على تلاميذ وزارة المعارف فى يوم عيد جلوس الملك.. ولكن لم يتحقق أى شئ مما وعد به رئيس الوزراء حسين سرى باشا.. وظل الشعب المصري يمشى حافيا فى الشوارع !! وفى عام 1950 عندما تولى النحاس باشا رئاسة الوزراء، فقد أعلن هو أيضا فى خطاب العرش، عن مشروع قومى ضخم لمقاومة الحفاء !!. وقد علق على ذلك الدكتور محمد عوض بمقال ساخر فى جريدة الزمان بعنوان “ياابن الحافية” !!
فى دراسة قيمة للمؤرخ الراحل د.رؤوف عباس بعنوان “الحركة الوطنية فى مصر 1952-1918″، كتب يقول كانت نسبة الأمية بين المصريين تتجاوز ال90%.. وأكثر من 70% كانوا مصابين بالبهارسيا.. ونسبة المعدمين في الريف عام 37 كانت 76% إرتفعت إلى 85% عام 52.. وأن دخل الفرد عام 36 كان 7جنيهات فى العام.. وقال أن أفلام ذلك الزمان قد ركزت على جمال ونظافة الشوارع والعمارت الفخمة.. ولكنها كانت بعض شوارع القاهرة والاسكندرية والإسماعيلية التى كانت حكرا على الباشوات والجاليات الأجنبية فقط..
(4). فى عام 1931 تبنى كل من أحمد حسين وفتحى رضوان (حزب مصر الفتاة) مشروعا أطلقا عليه إسم “مشروع القرش”. وكان الهدف هو إنقاذ الإقتصاد المصرى من الانهيار.. وذلك بأن يتبرع كل مصرى بقرش واحد.. وتحمست حكومة صدقى باشا للمشروع وقدمت كل التسهيلات المطلوبة.. وكتب أحمد شوقى قصيدة لحث الناس على التبرع قال فيها:–
علم الآباء واهتف قائلا
أيها الشعب تعاون واقتصد
إجمع القرش إلى القرش
يكن لك من جمعهما مال لبد
وكتب المؤرخ الكبير د.عاصم الدسوقي -نقلا عن الوثائق البريطانية- شارحا وموضحا حقيقة تلك الخرافة.. فقال أن بريطانيا قد إستولت بالقوة أثناء الحرب العالمية الثانية، على كمية من المحاصيل الزراعية المصرية قيمتها 3 ملايين جنيه إسترلينى، ووعدت بتسديد المبلغ فيما بعد.. (ولكنها بالطبع لم تسدد منه مليما واحدا حتى اليوم) !!.. ومن ناحية أخري، فقد قامت الحكومة البريطانية بخطف عدة آلاف من الفلاحين المصريين من قراهم، وجندتهم لخدمة المجهود الحربى البريطانى !!.. وهؤلاء ماتوا ودفنوا خارج مصر !!. ووعدت الحكومة البريطانية بتقديم تعويضات لأسر الضحايا قيمتها 2 مليون جنيه إسترلينى.. ولكنها أيضا لم تدفع مليما واحدا من هذا المبلغ حتى اليوم !!. وبذلك يكون إجمالى المبلغ المطلوب من بريطانيا 5 مليون جنيه إسترلينى.. وهكذا فمن الواضح أن المبلغ المذكور لايعبر بأى حال عن القوة المزعومة للإقتصاد المصرى، ولا عن ضعف الاقتصاد البريطانى.. ولكنه يعبر عن إستعمار بريطانى بغيض إستنزف مصر، ووضعها في خدمه مصالح بريطانيا..
(2). وهؤلاء الذين يحنون إلى حياة ماقبل ثورة 1952، أدعوهم إلى قراءة كتاب عميد الأدب العربي د.طه حسين “المعذبون في الأرض”.. والكتاب عبارة عن مجموعة قصصية من إحدى عشرة قصة.. تصور كيف إنقسم المصرييون إلى فريقين.. أحدهما يمثل الأغلبية الساحقة البائسة التى تعانى الجوع والعرى والذل والهوان، وهؤلاء هم المعذبون في الأرض.. وأما الفريق الآخر فهم أقلية من الأثرياء تحيا فى تخمة ونعيم.. وفى مقدمة الكتاب كتب طه حسين الإهداء التالى:– إلى الذين يحرقهم الشوق إلى العدل.. وإلى الذين يؤرقهم الخوف من العدل.. إلى الذين يجدون مالاينفقون.. وإلى الذين لايجدون ماينفقون.. ولم يتمكن طه حسين من نشر كتابه طوال زمن الملك فاروق وتمت مصادرته..
وختاما فلقد كان ضروريا أن نتذكر تلك الصورة البائسة لمصر قبل 52، وأيضا حتى ننعش ذاكرة هؤلاء الذين يحنون إلى أيام الملك، ويزعمون أن مصر كانت دائنة لبريطانيا “العظمى” !!!!!
|
الحلقة695
|
||||||
|
لعل قارئ أهرام اليوم يندهش عندما يعلم أن مصر كلها قد انشغلت خلال ما يزيد عن عام بمشروع أسماه رئيس وزرائها مقاومة الحفاء, ولم تكد تخلو صفحة من جريدتنا أو الجرائد الأخري التي تصدر في البلاد خلال ذلك العام من خبر عن المشروع, حتي يخيل لقارئ هذه الصحف أن المصريين قد تحولوا وقتئذ إلي مجموعة من الحفاة! دعانا ذلك إلي التقليب في المصادر القديمة التي عنيت بما كان يرتديه المصريون عموما, وما ينتعلونه في أقدامهم علي وجه الخصوص, وكان أول ما استعنا به الملاحظات الدقيقة التي قدمها علماء الحملة الفرنسية خلال فترة وجودهم في البلاد في السفر العظيم الذي أصدروه تحت عنوان’ وصف مصر’, وفي المجلد الأول الذي جاء تحت عنوان المصريون المحدثون. تحت عنوان’ الملبس’ وفي الجزء الذي وضعه ج.دي.شابرول تحت عنوان’ دراسات في عادات وتقاليد سكان مصر المحدثين’, كتب العالم الفرنسي عما يرتديه المصريون رجالا ونساء أكبر كثيرا مما كانوا لا يرتدونه, وهذا أمر طبيعي! عما يغطي الجسد تحدث عن السروال والقميص والقفطان والجبة والبنيش والحزام والطربوش والشال الذي يلف حول الطربوش والصديري والعمة والقاووق والطرحة التي تلف حول الطربوش وتستقر أخيرا علي الكتفين, وتوقف أخيرا عند القدمين, الأمر الذي ننقله هنا بنصه:’لا يقل الحذاء تعقيدا عن بقية الملابس, وهو يتكون من المست وهو من جلد الماعز يغطي كل القدم, ثم البابوش والصرمة وهو أيضا من جلد الماعز وتوضع فيه القدم, وعند الدخول إلي مسكن مفروش بالسجاجيد يخلع البابوش والصرمة حسبما يقضي الذوق, وينتعل الناس عند ركوب خيل أو حتي عند القيام بجولات في شوارع المدينة- الخف- وهو من جلد السختيان الأصفر أو الأحمر, وهذا مشترك بين الرجال والنساء’! ولم يكن القارئ في حاجة إلي ذكاء كبير ليعلم أن’ شابرول’ كان يصف ملابس الطبقة العليا من الرجال, وأنه لم يقترب إلي ملابس العامة إلا في عبارة قصيرة, ولكنها كاشفة, جاء فيها:’ من نافلة القول أن نلفت انتباه القارئ إلي أن الزي الكامل الذي بينا كل أجزائه, إنما هو زي الكبار والأثرياء. أما الطبقات الشعبية فلا تكلف نفسها كل هذا العناء, فخزينة ملابسهم لا تحتوي علي أكثر من ثلاث أو أربع قطع من الملابس( هذا إذا كان لديهم خزينة من الأصل) لا تتغير إلا إذا أصبحت مهلهلة الأطراف, فالفلاحون رجالا ونساء يذهبون إلي حقولهم شبه عارين, أما عمال الطبقات الدنيا وكذلك جمهرة سكان المدن فيسترون أجسامهم بالكاد ببعض الهلاهيل’, وبالطبع لم تتضمن هذه الهلاهيل غطاء للقدم مهما كان نوعه! لم يتغير الحال كثيرا بعد بناء الدولة الحديثة في النصف الأول من القرن التاسع عشر, ولم يعرف الفلاح المصري, الذي يشكل الغالبية العظمي من السكان, أن ينتعل شيئا في قدميه إلا إذا تم تجنيده, وارتدي الزي العسكري الكامل, فلم يكن معقولا أن يخوض الباشا الحروب التي خاضها بجيوش من الحفاة, الأمر الذي لم يكن محل ترحيب من هؤلاء الجنود القادمين من الأرياف! يتأكد ذلك من أن الجندي بعد انتهاء مدة خدمته ووقت تسليم عهدته, يقدم من بين ما يقدم’ الجزمة الميري’ وكانت كبيرة ذات رقبة, ويعود إلي بلدته كما جاء منها, حافيا(!), وكان منها الصور التي قدمتها الروايات المكتوبة, والتي صورت بعد ذلك كشرائط سينمائية, والتي اقتصر فيها لبس الحذاء علي الغفير بحكم منصبه الأميري, وكان يتسلمه في هذه المناسبة كعهدة. الأمر الذي كان يناسبه ليدب به علي الأرض لتخويف الخارجين عن القانون, أما بقية الفلاحين فقد كانوا من عراة الأقدام إلا الميسورين منهم( العمد ومشايخ البلد) الذين كانوا يرتدون البلغة الفاسية التي اكتسبت شهرة واسعة بحكم متانتها وجمال شكلها, هذا فضلا عن المركوب الذي يرتديه المستورون منهم, خاصة من رجال الدين. وقد ساد التحقير بالتهديد باستخدام الأخيرة لضرب من لا يروق لصاحبها, وهو الأمر الذي توارثه البعض حتي يومنا هذا, فيما جري مرتين خلال الشهور الأخيرة, مرة في مجلس الشعب, وأخري في مباراة كرة قدم كبيرة أخيرة, الأولي عندما خلع أحد أعضاء المجلس حذائه ووضعه أمامه تهوينا من شأن خصومه, والأخري حين خلع رئيس ناد كبير الحذاء الذي يرتديه احتجاجا علي عدم فوز ناديه, ووضعه علي المنصة إلي جوار الكأس الذي سيحصل عليه خصمه! علي أي الأحوال نترك لابسي الأحذية والبلغ والمراكيب لنبحث في شأن بقية المصريين الذين كانوا لا يجدون ما يرتدونه في أقدامهم, فقد حدث خلال القرن التاسع عشر, وحتي منتصف القرن العشرين مجموعة من المتغيرات كان يصعب معها استمرار هؤلاء علي حفائهم.. |
||||||
أول ما يلاحظ في هذا الشأن التحول من نمط الحياة الريفية إلي الحياة المدينية, وإذا كان مقبولا أن يسير ابن الريف ويعيش حياته في قريته حافي القدمين, فإن نمط الحياة في المدينة لم يكن يسمح بمثل ذلك السلوك, وقد حدث هذا التحول ببطء شديد أيام محمد علي وزاد قليلا في عصر إسماعيل إلي أن جاء الاحتلال البريطاني, وما صحبه من قدوم رءوس الأموال وإنشاء المشاريع المختلفة التي أدت إلي الحاجة إلي أيد عاملة رخيصة, فبدأ تيار الهجرة من الريف إلي المدينة يزيد علي نحو كبير, كما تؤكد الإحصائيات.فقد شهد العقدان الأخيران من القرن التاسع عشر تزايدا عظيما في أعداد سكان المدن, ففي الوقت الذي تذكر الإحصاءات أن عدد السكان في مصر قد ارتفع في الفترة بين عامي1882 و1897 بمقدار43% زاد عدد السكان في المدن بمقدار68%. ومن إحصاء في عام1907 ثبت أن ثلث سكان كل من القاهرة والإسكندرية لم يولدوا فيها وبلغت نسبة هؤلاء في بورسعيد60%. الملاحظة الثانية: أن هذه الأعداد الهائلة من الأجانب الذين جاءوا بأزيائهم الأوربية, دفعت العديد من المصريين إلي تقليدهم فخلعوا الملابس القديمة, ومنها البلغ والمراكيب, وتزيوا بالملابس الأوربية, ومنها الأحذية بالطبع, الأمر الذي أدي إلي انتشار محال بيع هذه الأحذية, سواء كانت مستوردة أو من الصناعة المحلية, وقد انتشرت مع ذلك محال صناعتها التي اشتهر بها بعض أبناء الأقليات مثل الأرمن واليونانيين وبعض الشوام, ولم يتأخر المصريون كثيرا في دخول هذا الميدان, الأمر الذي نلاحظه في الإعلانات التي كانت تحفل بها الأهرام عن محال أصحابها الذين يبيعون الأحذية أو يصنعونها! ملاحظة ثالثة: وهي أن وجود أعداد كبيرة من الأجانب, خاصة في العاصمة والمدن المصرية الكبيرة, وهم يرون المصريين الذين بين ظهرانيهم, خاصة ممن يعملون لحسابهم حفاة, بدا أمرا مثيرا للسخرية, وهو ما استشعره الأفندية من أبناء الطبقة الوسطي, وسعوا إلي تغييره. في نفس الوقت حدثت مفارقة غريبة بعد ما أصاب التعليم من حركة تطور, فقد كان ابن القرية يذهب إلي’ كتاب’ سيدنا, حافيا, ولم تكن من مشكلة في ذلك, فهو أمر اعتاده الجميع, غير أن ما حدث من الدعوة إلي التعليم الإلزامي, وافتتاح عدد غير قليل من المدارس في المدن الإقليمية أدي إلي بروز هذه المفارقة.. تلميذ المدرسة وقد ذهب إليها وعلي جسده المريلة التي سلمتها له وزارة المعارف, وفوق رأسه طربوش حصل عليه من نفس المصدر.. كل هذا بينما يسير حافي القدمين, فلم يكن من مهام الوزارة أن تمد تلاميذ هذه المدارس بالأحذية!! وتضم أوراق وزارة الخارجية قصة طريفة في هذا الشأن, فقد حدث بعد انتهاء الحرب العالمية الأولي, وفي المفاوضات التي جرت في لوزان1923 بين حكومتي مصر وأنقرة لتتنازل الأخيرة عن كل سلطاتها القديمة في مصر المحروسة, أن طالب المفاوض التركي بحصول بلاده علي الامتيازات شأنها في ذلك شأن الدول التي تمتعت بها. رفض الجانب المصري الطلب علي اعتبار أن مصر بعد أن حصلت علي استقلالها بعد تصريح28 فبراير1922 كانت في طريقها لسحب هذه الامتيازات بالنسبة لتلك الدول. ما يهمنا في هذا الموضوع الذريعة التي قدمها المفاوض التركي للحصول علي هذه الميزة, وكانت لها علاقة بحفاء المصريين, فقد أعرب هذا المفاوض عن مخاوفه أن يتعرض أي مواطن من الأتراك للمحاكمة لجرم ارتكبه ويودع في السجن مع سائر السجناء من’ المصريين الحفاة’, وأنه قد يضطر إلي السلوك مسلكهم!!علي أي الأحوال كان هذا هو الأمر الواقع حتي قيام الحرب العالمية الثانية في سبتمبر1939, وفي هذا الوقت, أو بعده بقليل طرحت قضية مقاومة حفاء المصريين!! ولم تذكر الأهرام ولا غيرها ما إذا كان هذا التقري قد لقي أي صدي, فقد جري ذلك في أواخر عهد حكومة علي ماهر بينما كان السفير البريطاني يضغط لإجباره علي الاستقالة, والتي تبعها حكومة حسن صبري, التي لم تعمر سوي أكثر من عام, وانتهت بالوفاة الدرامية التي داهمت الرجل أثناء إلقائه خطبة العرش في البرلمان, وهرول الجميع للبحث عن رئيس وزراء جديد يكون محلا للاتفاق بين قصري عابدين والدوبارة, ووقع الاختيار علي حسين سري باشا, وزير الأشغال في الحكومة السابقة. لم يكن للرجل أية ميزة سياسية تؤهله لتولي المنصب الكبير, فقد كانت كل مؤهلاته أنه مهندس وإداري وغير منحاز لأية قوة سياسية, فضلا عن علاقة مصاهرة تربطه بالأسرة المالكة, وغير ذلك لم يكن محسوبا علي أية قوي سياسية, فلم يكن في يوم من الأيام عضوا في حزب, كبيرا أو صغيرا, أو صاحب موقف سياسي من القضية الوطنية أو غيرها من القضايا! وفي هذا الجو العام ظهرت الدعوة لمشروع وصفه أصحابه بالقومي, وهو مشروع مقاومة الحفاء, فقد اكتشف المصريون فجأة ما يسببه الحفاء من كوارث وعلي رأسها ما نتج عنه من استدعاء بعض الأمراض التي تأتي من اختراق ديدانها لأقدام الفلاحين من الحفاة, خاصة الانكلستوما, إلي الحد الذي اكتسبت معه الجنسية المصرية, وأصبحت من الأمراض المتوطنة!! وفي هذا الجو العام بدأت الحملة القومية لمقاومة الحفاء, ويقينا فإن هذا المشروع قد بدأ الترويج له لصرف أنظار الناس عن مجريات الحرب التي بدأت تقترب من الإسكندرية, وما صحب ذلك من توتر داخل البلاد, فقد رآها نفر من المصريين فرصة للتخلص من القوات البريطانية التي ظلت جاثمة علي صدورهم طول الستين سنة السابقة.وبشكل مقصود وفي إحدي زيارات الملك فاروق بصحبة رئيس وزرائه, صاحب الدولة حسين سري باشا, أبدي الملك رغبته في ألا يمضي وقت طويل إلا ويري جميع رعاياه يرتدون النعال في أقدامهم, شأنهم في ذلك شأن الشعوب المتقدمة, وثني علي ذلك بتقديم هبة ملكية سخية مفتتحا بذلك باب التبرعات لتحقيق هذا المشروع. ولقيت الدعوة استجابة كبيرة, فقد كان مولانا صاحبها, ففي مقال طويل تحت عنوان’ الحفاء’ كتبت جريدة السياسة الأسبوعية أن’ الحفاء خلاف أنه سخرية وأضحوكة فهو مصدر كبير لانتشار المرض. فإذا انتشر المرض في بلد من البلاد ضاعت سطوته, وقل خيره, وعم وباؤه وأضحي في الحضيض بديل السمو والتهذيب’. وأضافت الجريدة معلومة جديدة في هذه المناسبة وهي أن الملك لم يكتف بإعطاء إشارة البدء في حملة جمع التبرعات لمشروع مقاومة الحفاء, بل إن القصر أعلن نيته علي منح ألقاب الباشوية والبكوية لمن يزيد تبرعه عن مبلغ معين, وعبرت جريدتنا عن أن مثل هذا الوعد سيشجع حركة التبرعات لأن المصري يحب الظهور ويميل إلي الرتب والنياشين! ونصحت الجريدة المسئولين بتدبير حملة دعائية لإنجاح المشروع’ بالمساعدة المادية والخطابة في الاجتماعات والإذاعة بالمذياع والوعظ والإرشاد علي المنابر لتكون هذه الدعاية في متناول العقول, ويمكن لكل فرد قادر أن يحسن حال الطبقات الفقيرة ورفع مستوي المعيشة بينها’!! وكان أول ما فعله رئيس الوزراء في هذا الصدد أن بعث كتابا إلي كل من رئيسي مجلسي الشيوخ والنواب تضمن توجيه اهتمام أعضاء المجلسين وموظفيهما إلي هذا المشروع الجليل, وبدأت عملية جمع التبرعات من هؤلاء ومن غيرهم, وجاءت أول قائمة وقد بلغت قيمتها786 جنيها. وكان أحمد عبود باشا أول المتبرعين(500 جنيها) ومائة جنيه من موظفي محال صيدناوي ومبالغ أقل من بعض شخصيات القصر, ونلاحظ أن القائمة ضمت مبلغ عشرة جنيهات من بطريرك الأقباط الأرثوذكس وجنيه واحد من مدام مدين بالإسماعيلية. كما ضمت قائمة أخري ما لا يزيد عن سبعة عشر جنيها بالتمام والكمال دفعها طلعت حرب باشا ودسوقي أباظة بك ومحمد حسن العبد بك ومحال جروبي وبنزايون وعدس! ومع زيادة مبالغ التبرعات التي بلغت أكثر من36 ألف جنيه قررت وزارة الداخلية والمالية إيداعها في بنك مصر, وذلك في حساب باسم رئيس الوزراء نفسه, حسين سري باشا, الذي لم يفتر اهتمامه بالمشروع رغم أن حركات التبرعات كانت تسير ببطء علي غير المأمول. لعل ذلك ما دعا مندوب الأهرام أن يسأل رئيس الوزراء عما إذا كانت النية متجهة إلي إلغاء المشروع, فنفي الأخير ذلك بشدة فيما جاء في قوله’ إن اهتمامي بهذا المشروع لم يفتر ولا صحة لما أذيع أن الحكومة قد عدلت عنه, وأنها قررت التصرف فيما جمع له من المال, وإنما الواقع هو أن قيام الحرب من شأنه أن يجعل أمر تنفيذ المشروع عاجلا, غير ميسور خاصة إذا لوحظ أن هدف الحكومة أن تجعله( مشروعا قوميا) بفكرته وصناعته يتولي المصريون أنفسهم الإشراف علي كلياته وجزئياته, علي أن الجدير بالذكر هو أن كل شيء يسير في هذا المشروع سيرا مرضيا إلي أهدافه’. وتدليلا علي توفر حسن النية نشرت الأهرام في عددها الصادر يوم2 فبراير1941 خبرا تحت عنوان كبير جاء فيه:’ يجود بما عنده لمقاومة الحفاء ويوم الفقير فيتلقي شكرا من رئيس الوزراء’ جاء فيه أن قهوجي من باب الخلق اسمه إبراهيم الأحمد القادري قد أرسل كتابا إلي سري باشا ومعه إذن بريد بمبلغ( عشرة قروش) تبرعا منه لمشروع مقاومة الحفاء, واختتم كتابه بالقول أن’ هذا ما يستطيع فقير مثلي أن يفعله, فيرضي الله وضميره. ولم يتردد سري في الرد علي هذا الرجل البسيط في كلمة جاء فيها’ وصلني خطابكم وبه حوالة بمبلغ عشرة قروش, قيمة ما تبرعتم به لمشروع الحفاء وإني لأشكر أريحيتكم وأقدر وطنيتكم’!! وبدأت الأخبار تصل من الأقاليم عن توالي التبرعات( الإجبارية!) فقد اجتمع500 من نقابة عمال بلدية الإسكندرية ووجهوا شكرهم إلي كل من علي يحيي باشا ومحمد فرغلي باشا علي سخائهم في التبرع للمشروع, وقررت نقابة التعليم الإلزامي في المدينة الاشتراك في المشروع بتقديم واحد في المائة من مرتباتهم لإعانته, وجمعوا مبلغا وقدره850 قرشا(!). في الإسكندرية أيضا وضع المدير السابق للصحة البلدية مشروعا يرمي إلي تأليف لجنة من أعضاء جمعية أسماها’ جمعية مساعدة الفقراء في محرم بك’ لتجربة محاربة الحفاء في منطقة محدودة في المدينة, وكان قد سبقه إلي هذا مشروع قامت به شركة الغزل الأهلية, وأدي إلي القضاء علي الحفاء بين حوالي سبعة آلاف عامل. واتخذت حركة’ مقاومة الحفاء’ في الإسكندرية زخما خاصا بعد أن تشكلت فيها لجنة خاصة برئاسة المحافظ, محمد حسين باشا, ضمت عددا من أعيان المدينة من المصريين والأجانب تلقت علي الفور تبرعات وصلت إلي120 جنيها من شركة الإسكندرية التجارية وشركة نشر الإعلانات والسادة فني ورولو وسوارس. ويبدو أن الغيرة قد انتقلت إلي سائر الأقاليم, فقد جاءت الأخبار من الزقازيق أن مدير الشرقية نجح خلال فترة قصيرة في جمع ألفي جنيه من التبرعات, وكان الفضل في ذلك للجنة التي تولت العملية برئاسة وكيل المديرية ومعه مأمور المركز, وأحد المحامين, الأمر الذي يشكك كثيرا أن هذه التبرعات جاءت رضاء!! ويتأكد عنصر عدم الرضاء من قيام مديري المديريات بجمع التبرعات عنوة, فيما جاءت به الأخبار.. مدير البحيرة قام بتأليف لجنة برئاسة مأمور مركز دمنهور الذي قام خلال فترة قصيرة بجمع مبلغ510 جنيها, وهو ما فعله محافظ منطقة القنال وإن كان قد زاد علي ذلك بتخصيص مكافأة لمن يقدم حذاء نموذجيا يستطيع عامل الشحن والتفريغ أن يستخدمه في أثناء العمل, وقد نال أحد العمال عشرة جنيهات بالتمام والكمال بعد أن قدم النموذج المطلوب. ووصلت العدوي إلي المديريات البعيدة في أقصي الجنوب فقام مأمور مركز منفلوط بجمع500 جنيها من أبناء المدينة, كما جمع مأمور مركز نجع حمادي2200 جنيه للمشروع من أعيان بلاد المركز وسكانه في فترة وجيزة جدا, وهو ما حدث من مأمور مركز ملوي الذي جمع بدوره مبلغ1526 جنيها من أعيان المركز, ومأمور مركز البلينا الذي جمع مبلغ ثلاثة آلاف جنيه, الأمر الذي دعا مدير مديرية جرجا أن يجمع سائر مآمير المراكز ويقدم ثناء خاصا لمأمور البلينا علي نشاطه, بيد أنه علي الجانب الآخر وجه كل من مأمور مركز منوف ومأمور مركز أشمون تحذيرا إلي اللجان التي تشكلت في مركزيهما أن لا تجبر الأهلين علي التبرع’ بل يترك الأمر لاختيارهم فلا يكون فيه ما يرهقهم’!! وانتهز البعض فرصة الحملة لترويج سلعته, وهو ما فعله’ حضرة كامل محمد أفندي صاحب أحد مصانع الأحذية الكبري بمصر’, الذي أعلن عن أنه بصدد صناعة أوفق أنواع الأحذية التي تصلح لطلبة لمدارس الإلزامية وعمال المصانع وسكان المدن والأرياف مظهرا استعداده لتقديم أنواع من الأحذية يري أنها أفضل ما يقع الاختيار عليها لتكاليفها البسيطة وقوة احتمالها.الأطرف من ذلك كان صاحب داري سينما ميامي وفيمنا بالقاهرة الذي أعلن تخصيص إيرادات حفلة صباح الجمعة للمشروع الجليل, وأضاف أن الدار الأولي تعرض فيلمي’ النور الذي خبا’ لرونالد كولمان, وفيلم’ رفقاء في البحر’ للوريل وهاردي, بينما تعرض الدار الثانية فيلمي’ الرجل ذو القناع الحديدي’ لجوان بنبيت وجون هوارد و’القط والعصفور’ لبوليت جودارد. ودخل المشروع إلي حيز التنفيذ بعد أن أعلنت محافظة الإسكندرية أنه قدم إليها نماذج من الأحذية المقترحة للطبقات الفقيرة وكانت من الصنادل الخفيفة منها ما هو مصنوع من نعل أبيض عليه قدة صغيرة واحدة من الجلد, وآخر مثل هذا عليه قدتان, ولم يكن بينهما نموذج يكسو القدم, وقد رأت اللجنة المنوط بها الاختيار عدم صلاحية النموذجين, وكانت وجهة نظرها أن الصنادل المكشوفة لا تصلح لمقاومة الحفاء لأنها لا تستر الأقدام’ وإذا كان الغرض من صنع هذه النعال هو أن يعطي الفقير والعامل أرخص ما يمكن صنعه من الصنادل, فإن ذلك لا يحقق الفكرة الأساسية من الوجهتين الاجتماعية والصحية, علي أن العامل الفقير المحتذي لا يستعمل مثل هذه النماذج مطلقا لأنها لا تفيده, ولا بد من مراعاة العرف والعادة في تنفيذ المشروع’!! ويبدو أن المسئولين عن المشروع قد توصلوا إلي حل في شأن شكل الحذاء المقترح وثمنه مما يكشف عنه الخبر الطويل الذي نشرته الأهرام في عددها الصادر يوم5 مايو1941 وجاء فيه أن اللجنة المنوط بها الأمر ستبدأ من اليوم التالي, وبمناسبة عيد الجلوس الملكي, في توزيع15 ألف حذاء علي جميع المستحقين من تلاميذ التعليم الإلزامي في محافظات القاهرة والإسكندرية ودمياط والقنال والسويس ومديرية أسوان وعلي الفقراء والعمال المتعطلين. وخصت اللجنة تلاميذ التعليم الإلزامي بالنصيب الأوفر من أحذية الفقراء فنالوا11 ألفا منها أرسلت لوزارة المعارف لتوزعها بمعرفتها علي المدارس والمكاتب العامة وذلك لارتدائها بمناسبة عيد الجلوس السعيد, ولم تنس الأهرام في هذه المناسبة أنه قد بدئ في المشروع في عيد ميلاد جلالته ويبدأ تنفيذه في عيد جلوسه السعيد! وانتهت حملة مقاومة الحفاء بهذا الخبر, ويقينا فإنها لم تقض عليه كما تصور البعض, فقد كانت القضية في حاجة إلي مزيد من الوقت لتغطية كل أقدام حفاة المصريين, وإن كان بعضهم يكتفي حتي وقتنا هذا بالنعال البلاستيك ذات القدة الواحدة, والتي كان قد سبق للجنة الإسكندرية رفضها, غير أنهم قبلوها بل ودللوها فأسموها’ الزنوبة’, ولا ندري من أين أتوا بهذا الاسم الأخير!! |
||||||
مجلة الوعي العربي