Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر

الريس .. الأسطورة والتاريخ

بقلم

 دكتور لبيب يونان رزق

 

الريس .. الأسطورة والتاريخ
الأسطورة تصنع الألهة والشياطين - عبد الناصر لم ينسلخ في أي وقت رغم "أبهة السلطة" عن الطبقة التي خرج منها

كان حريصا في حياته الخاصة علي تناول أنواع الأغذية التي اعتاد علي تناولها أبناء الطبقة الوسطي

إدراكه لإنتمائه الطبقي وفر له أسبابا كثيرة للشعبية افتقدها خلفه أنور السادات الذي كان مولعا بمظاهر الأبهة

خيارات عبد الناصر الوطنية والقومية والتحررية أقدم عليها عن إدراك وبلا تردد

كان الأستاذ "محمد حسنين هيكل" محقاً عندما نبه في أعقاب وفاة عبد الناصر في مقال شهير بأن الرجل "ليس أسطورة"، فمن الأساطير يصنع البعض (الآلهة)، ومن الأساطير يصنع الآخرون (الشياطين)!

وما حدث، خاصة الثمانينيات، من (هوجة) شارك فيها قطاعات عريضة من خصوم الناصرية، وتكرر في أكثر من مناسبة، الي حد أثر علي عقول صغار الشبان من أبناء الجيل الذي لم يعاصر "عبد الناصر" يتأكد ذلك، إذ بين الهجمة والهجمة المضادة تختلط الأمور وتنمو الأسطورة.. وما دامت الأسطورة هي النقيض للحقيقة العلمية، فمن النتائج الوخيمة التي يمكن أن تترتب علي كل ما قيل، وبل ما يمكن أن يقال هو ضياع، أو علي الأقل مسخ الحقيقة التاريخية.

ومع الصعوبة البالغة في إصدار حكم تاريخي علي شخصية، كانت وستظل محل جدل، بل والخلافات المريرة، فإن الاحتكام الي الأصول العلمية لإصدار مثل هذا الحكم قد يعين علي تجاوز مثل تلك الصعوبة..

أول ما تقوله هذه الأصول ان إصدار حكم تاريخي علي شخصية ما يتطلب قبل أي شيء التعرف علي الظروف التاريخية التي ظهرت فيها مثل هذه الشخصية، مع الوعي بأن العلاقة بين الشخصية وتلك الظروف هي التي تحدد في نهاية الأمر مكانتها التاريخية، فبقدر استيعاب هذه الشخصية واستجابتها لمعطيات الفترة التي برزت خلالها علي مسرح الأحداث تحتل من مساحة في ذمة التاريخ.

وتصل هذه الأصول الي التنبيه الي خلل قد تصاب به كثير من الأحكام، وهو اجتزاء جانب معين من الشخصية أو من مسيرتها التاريخية يرتكز عليه المجتزئ في تقديم الصورة الشائكة التي يود إبرازها..

احتكاما لهذه الأصول، وقبل تطبيقها علي "عبد الناصر وعصره"، يمكن قبل ذلك اعطاء المثل بتطبيقها علي شخصية تاريخية لعبت دورا في التاريخ المصري، ولا نظن أن خصوم عبد الناصر أو حتي أنصاره يمكن أن يختلفوا كثيرا علي هذا الدور..

الشخصية هي "محمد علي باشا" والي مصر المحروسة (1805 1848) ومؤسس الدولة الحديثة في مصر، باعتراف المؤرخين الأجانب قبل المصريين، والأهم من هذا الاعتراف بتقرير الحقيقة التاريخية ذاتها.

الظروف التاريخية التي واجهها الرجل تؤكد أن مصر كانت تعيش فترة المخاض التي كانت تتآكل خلالها القسمات الأساسية لنظام اقطاعي استنفد أغراضه، بكل ما يتصل بهذا النظام من أبعاد.

ففي البعد الاقتصادي كان هذا النظام قد أثبت عجزا بالغا خلال القرن السابق علي الأقل مما يستطيع أي قارئ عادي أن يتابعه من خلال المجاعات المتكررة التي سجلها المؤرخ المعاصر الشهير الشيخ عبد الرحمن الجبرتي في موسوعته التاريخية المعروفة باسم "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"

وفي البعد السياسي ظل هذا النظام مصدر آلام شديدة عاني منها المصريون من جراء حالة "اللامركزية السياسية" التي كانت من بين سماته" والتي وصلت في كثير من الأحوال الي حد الاقتتال في شوارع القاهرة خاصة بعد الضعف الذي ألم بالسلطة المركزية في استنبول خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر وبامتداد القرن التالي.. ووصل الأمر الي حد اقتسام السلطة في مصر بين الأميرين المملوكين، مراد بك وابراهيم بك، خلال الفترة التي سبقت قدوم الحملة الفرنسية عام 1798.

وفي البعد الفكري أدت غلبة "النقل علي العقل" الي أن يرين الجمود، وهو ما اكتشفه المثقفون المصريون بعد احتكاكهم مع السلوكيات والقيم الثقافية الواردة في ركاب الحملة الفرنسية مما عبر عنه الشيخ الجبرتي في أكثر من موقع من كتاباته.

وقد أدرك "محمد علي" كل هذه الحقائق وتعامل معها بهدف تقويض البناء الذي لم يعد ملائما للمرحلة التاريخية وإقامة البناء الآخر المناسب.

ومن هنا جاءت مجموعة الاجراءات التي قادت الي التخلص من البناء المتداعي، بدءا بإلغاء نظام الالتزام ووصولا الي التخلص من كل ما يؤدي الي استمرار حالة "اللامركزية السياسية" التي كانت قائمة سواء تمثلت في الزعامة الدينية التي تخلص منها عام 1808 أبعد، أن شحن أقوي زعمائها، السيد عمر مكرم، الي دمياط وأمره بالبقاء بها وألا يعود منها إلا بأذنه، أو تمثلت في العمل الخالي من الرحمة بتدبير "مذبحة القلعة، الشهيرة التي خلصته من سطوة المماليك الذين كانوا بمثابة الأمراء الاقطاعيين الذين سبقه الي التخلص منهم ملوك أوروبا في سعيهم لبناء الممالك القومية التي كانت المرتكز للخريطة السياسية لأوروبا في العصور الحديثة.

ومع ان البعض من هواة القراءة المجتزأة للتاريخ قد نعوا علي "محمد علي" الأساليب اللاانسانية في تقويضه لأركان النظام القديم فإن أحداً من هؤلاء أو من غيرهم لم يستطع الانكار أو التقليل من أهمية، بل وضرورة ما قام به الرجل في هذا الصدد.

ومن خلال هذه العملية الجراحية بدأت مصر أثناء العقود التالية التي أعقبت مذبحة المماليك في استقبال الجديد واستيعابه بعد أن أصبحت مهيئة له، وكان "محمد علي" علي مستوي فهم متطلبات المرحلة التاريخية الجديدة، ولم يكتف فقط بتلبيتها، بل تصدي لقيادة حركة التغيير المطلوبة وفقا لحركة التاريخ.

كان أول ما فعله الرجل في هذا الصدد إزاحة الركام الذي أضعف من دور "الدولة المركزية" في مصر، ولم يكتف في هذا الصدد بمجرد الامساك بزمام الأمور بين يديه بل تجاوز ذلك الي بناء مؤسسات هذه الدولة الجديدة، سواء كانت مؤسسات إدارية فيما تمثل في مجموعة الدواوين التي أقامها، أو كانت مؤسسات عسكرية تجسدت في جيش وطني وأسطول يرفع لأول مرة العلم المصري.

كان مما فعله ايضا أن دفع بعملية التحول إلي "الاقتصاد الرأسمالي"، فعرفت مصر "الحاصلات النقدية"، وعرفت ايضا "نظام المصنع"، وشاركت بدرجة ملحوظة في السوق الرأسمالية العالمية، في الحدود التي كانت عليها هذه السوق خلال تلك الحقبة التاريخية.

جاء بعد ذلك إدراك حتمية تغيير التوجهات الثقافية والأخذ بالعلوم العقلية مما بدا في إقامة جهاز تعليمي حديث واستقدام الخبراء والمعلمين من أوروبا وارسال البعثات إليها.. وبمرور الوقت أخذت مدرسة التفكير العقلاني تزاحم الفكر التلقيني الذي غلب علي الثقافة المصرية لقرون عديدة قبل ذلك.

وقد انعكست كل تلك المتغيرات علي جني الثمار مما حدث في حصول مصر علي درجة من الاستقلال عن الدولة العثمانية بمقتضي تسوية 1840 1841 والتي أعقبت سلسلة الحروب الناجحة التي خاضتها ضد الدولة التي استمرت إحدي ولاياتها لثلاثة قرون متوالية.

ويقينًا فإن "محمد علي" لم يصنع كل ذلك فالفرد لا يستطيع أن يصنع تاريخا ولكن يستطيع أن يعيه، ومن خلال هذا الوعي يتمكن من المشاركة في دفع عجلته في الاتجاه الصحيح، وهذا بالضبط ما فعله الرجل!

وتمر مياه كثيرة تحت الجسور، ولقرن كامل، تغيرت خلاله، كثير من خطوط الخريطة بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية..

ويمكن القول إن معالم هذه الخريطة كانت قد تحددت بشكل لا لبس فيه خلال السنوات القليلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبعد قرن بالتمام والكمال من نهاية تجربة محمد علي.

أهم جانب في هذه الخريطة ما اتصل بنمو الطبقة الوسطي الصغيرة وتطلعها الواضح للمشاركة في السلطة..

وبوضع "الطبقة الحاكمة" موضع الدراسة خلال ذلك القرن نري أنها قد بدأت أولاً، بشكل يكاد يكون خالصا، من العناصر التركية من كبار الملاك مثل شريف ورياض، أو حتي من العناصر المشتركة مثل نوبار بينما كان نصيب المصريين يكاد يكون معدوماً وفي عهد الاحتلال البريطاني، وحتي قيام ثورة 1919، يمكن رصد تسلل المصريين الي بعض مواقع السلطة، ويقدم "سعد زغلول" نموذجاً مثاليا لهذا التسلل حين ولي نظارة المعارف عام 1906 وان كان يجب تسجيل ملاحظتين حول هذا التسلل.. أولاهما: أنهم دخلوا نادي الحكام من خلال صلة وثيقة مع الطبقة التركية، وثاينهما: الانتماء الي طبقة كبار الملاك.. وكما انطبق هذان الشرطان علي زغلول فقد انطبقا ايضا علي بطرس غالي أول رئيس وزراء من أصول مصرية.

ومع قيام ثورة 1919 والتطورات التي لحقتها تحول التسلل الي هيمنة شبه كاملة من طبقة كبار الملاك من المصريين حيث أخذ في التآكل وجود أقرانهم الأتراك في مقاعد السلطة سواء بسبب انقطاع الصلات مع تركيا بعد إعلان الحماية البريطانية علي مصر عام 1914 أو بسبب تمصر الأجيال الجديدة من الأتراك الذين استقروا في مصر..

وتشهد السنوات التالية اتساع قاعدة "الطبقة الوسطي الصغيرة"، ويري الدكتور راشد البراوي أنها كانت تتشكل من موظفي الحكومة الصغار والمتوسطين، بمن في ذلك معلمو المدارس وضباط البوليس والجيش، كذا موظفو الفئات الدنيا والمتوسطة المشتغلون في جهات غير حكومية، وضم إليها طلبة المعاهد الدراسية العليا، وأخيرا الحرفيون والتجار الصغار والمتوسطون.

وقد أسهمت هذه الطبقة اسهاماً كبيرا في الحركة الوطنية سواء خلال الثورة أو في أعقابها، ولنا هنا أن نسجل ملاحظة وهي أن هذا الاسهام لم يترجم طوال الفترة التي سبقت عام 1952 الي مشاركة في السلطة، فقد استمر كبار الملاك مستأثرين بالسلطة السياسية، وعلي مختلف المستويات.. الوزارية والبرلمانية والحزبية.

وكان من الضروري أن يعبر أبناء هذه الطبقة التي أسماها الدكتور البراوي ايضا "الطبقة المتوسطة الثورية الجديدة" عن طموحاتهم السياسية خارج نطاق النظام التقليدي الذي هيمن عليه "كبار الملاك".. من هنا جاء تشكيل الجماعات الأيديولوجية خلال الثلاثينيات والأربعينيات بالأساس من هؤلاء، فيما رصده الباحثون في جماعات مصر الفتاة والإخوان المسلمين والماركسيين.

ووصل التناقض مداه خلال السنوات السبع التي أعقبت قيام الحرب العالمية الثانية وحتي ثورة 1952 حيث بدا واضحا تماما ان تلك القوي ممثلة في الطبقة الوسطي الصغيرة تسيطر علي الشارع السياسي المصري ولا تترجم هذه السيطرة الي مشاركة في السلطة بينما عض "كبار الملاك" علي السلطة بالنواجذ في الوقت الذي انحسر وجودهم في الشارع السياسي المصري الي حد بعيد. مما خلق المأزق الذي عرفته مصر خلال تلك السنوات السبع.

واذا كان الجانب الأول من المتغيرات التي أصابت الخريطة متصلا بالمصريين، فقد كان الجانب الثاني متصلا بمصر، فقد شهد عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية عددا من المعطيات وفرت لمصر دورا كانت مؤهلة لأن تلعبه..

كان أول ما عرفه هذا العالم التسارع في حركة انهيار الامبراطوريات الاستعمارية القديمة مما تمخض عنه ظهور عالم جديد هو "عالم الدول الصغيرة" الحديثة الاستقلال.

وبينما كان يظهر هذا العالم كانت بقية الشعوب التي لم تتخلص بعد من الوجود الاستعماري تخوض حركات كفاح وطني ارتدت الي مناطق لم يكن أكثر المتفائلين يتصور أن تمتد إليها قبل سنوات قليلة، وحتي منتصف الاربعينيات.

ولا شك في أن مصر بحكم تجربتها الممتدة في مجال الكفاح الوطني، بالاضافة الي موقعها كانت تتطلع الي القيام بدور رائد في قيادة العالم الجديد جنبا الي جنب مع تحالفها المنطقي مع حركات التحرير الوطني.

كان مما شهده ايضا هذا العالم ما اتصل بالعالم القريب الذي تشكل مصر جزءاً لا يتجزأ منه.. العالم العربي، الذي دخلت علي علاقتها به تطورات ملحوظة كان أهمها تأسيس جامعة الدول العربية عام 1945 بمبادرة من المصريين وبمصر دولة المقر.

غير انه بعد أن وضعت هذه التجربة موضع التطبيق، خاصة خلال حرب فلسطين عام 1948، وأثبتت عجزاً بالغا فقد كان مطلوباً البحث عن صيغة أخري، ولم يكن هناك سوي مصر من يقدر علي وضع هذه الصيغة موضع التنفيذ.

ثم كان ما عرفه عالم ما بعد الحرب الثانية من ظهور القوتين العظميين والانقسام الكبير الي كتلتين متواجهتين وما تبع ذلك من احتدام "الحرب الباردة" بينهما.

ولقد صحب هذا الاحتدام الذي تزامن مع حركات الاستقلال الوطني وما تمخض عنها من ظهور الدول الحديثة الاستقلال أن سعت كل من القوتين العظميين الي استقطاب هذه الدول الي جانبها مما كان يفرغ استقلالها من كل مضمون، وكانت الخيارات أمام الدول الصغيرة الجديدة محدودة للغاية.

بسبب هذه الأوضاع وفي أحضانها تحرك أبناء الطبقة الوسطي الصغيرة من المصريين ليلة 23 يوليو عام 1952، وكان أول ما نجحوا فيه الإزاحة التدريجية لطبقة كبار الملاك من سدنة السلطة.. وبعد صراعات استمرت زهاء العامين وقعت ثمرة السلطة بشكل يكاد يكون تاما في حجر قائد الضباط الأحرار "جمال عبد الناصر".

تبع ذلك ان كان علي الرجل التعامل مع حركة التاريخ، وبعيدا عن الانفعال والافتعال، فبقدر وعيه بهذه الحركة والتعامل معها، ان سلباً أو ايجابا، وبقدر تعبيره عن المرحلة التاريخية، يتم اصدار الحكم، كما يمكن في نفس الوقت توفير الحيثيات اللازمة لمثل هذا الحكم التاريخي.

ونبدأ بذلك البعد من الخريطة المتعلقة "بالطبقة الوسطي الصغيرة".. وهناك في هذا الصدد أكثر من حقيقة تفرض نفسها. ويمكن ترتيبها علي الوجه التالي:

أولاً: ان عبد الناصر لم ينسلخ في أي وقت، ورغم إغراءات أبهة السلطة عن هذه الطبقة التي خرج منها، وكان واعيا للحقيقة بأنه بقدر التصاقه بهذه الطبقة يستمر معبرا عن المرحلة التاريخية، وهو أمر يمكن التثبت منه من خلال رصد البعض من سلوكيات الرجل..
1) فالرجل لم يأنف في أي وقت من التذكر أو التذكير بأصوله الاجتماعية التي تعود الي هذه الطبقة، ونشير في هذا الصدد بالذات الي القصة المعروفة التي جرت خلال الحرب الإذاعية التي شنها عليه بعض خصومه من الملوك العرب، والذين تصوروا ومن منطق ملكي بالأساس انه مما يشين الرجل تذكيره بأصل أبيه المتواضع كموظف صغير في مصلحة البريد، فسلطوا عليه من إذاعاتهم أغنية مشهورة للمطربة رجاء عبده، وهي أغنية "البوسطجية اشتكوا"، فما كان من عبد الناصر، كما يروي المقربون منه، إلا أن أصدر أوامره لتكرر الاذاعات المصرية الأغنية بدورها وعلي رأسها إذاعة "صوت العرب"، تعبيرا عن فخره بالانتساب الي هذه الشريحة الاجتماعية من صغار الموظفين

2) ثم ان الرجل في حياته الخاصة كان حريصا ما أمكن علي عدم الانسلاخ عن النسق المعروف لأبناء الطبقة الوسطي الصغيرة: الزوجة ربة البيت المنصرف همها إلي توفير راحة الزوج، والتي لا تظهر إلا في المناسبات التي يتطلب "البروتوكول" ظهورها.. كان حريصا ايضا علي تناول أنواع الأغذية التي اعتاد علي تناولها أبناء الطبقة الوسطي الصغيرة.

حول هذا الحرص يروي الأستاذ محمد حسنين هيكل في بعض رواياته عن عبد الناصر انه كان بعد أي عشاء رسمي لا يتناول فيه إلا القليل ينفرد بنفسه ليتناول عشاءه الحقيقي الذي لم يكن يزيد علي قطعة من الجبن الأبيض المصري وكسرة من الخبر الجاف

بالإضافة الي كل ذلك فقد كان عبد الناصر حريصا في انتقاء صوره التي تعرضها الصحف في مناسباته العائلية أن تكون من ذلك النوع الذي اعتاد ابناء الطبقة الوسطي الصغيرة عليه، كالاحتفال بعيد ميلاد أحد أفراد الأسرة، أو مولد حفيد.. وما الي ذلك من مناسبات..

وتبدو أهمية كل ذلك بالمقارنة بسلوكيات خلفه السادات الذي كان مولعا بمظاهر الأبهة مما بدا معه انسلاخه شبه الكامل عن الطبقة التي خرج منها.. سواء في حياته الاجتماعية حين استهجن كثيرون من أبناء الطبقة الوسطي ذات الطابع المحافظ الأنشطة الاجتماعية التي كانت تمارسها السيدة جيهان السادات والتي ذكرتهم بممارسات زوجات المسئولين من طبقة كبار الملاك قبل الثورة والذين تصوروا أنهم قد تخلصوا منها، أو في بعض ما ترامي الي الاسماع من أن الرئيس يستورد بعض وجباته من باريس، أو حتي ما حدث حين خرجت "أخبار اليوم" بمجموعة من الصور عن الحياة اليومية للرئيس، بإذن منه بالطبع أو ما نشر عن كونه من "أشيك عشرة رجال في العالم"، وكانت جميعها تؤكد أن الرجل قد انسلخ تماما عن الطبقة الوسطي الصغيرة، وانضم بدرجة أو بأخري إلي الطبقة التي ثارت عليها.. الطبقة الارستقراطية بكل رموزها وسلوكياتها!

والمقصود بالمقارنة هنا عبد الناصر وليس السادات، وذلك بالتأكيد علي أنه كان واعيا طوال الوقت بانتمائه الطبقي، حريصا علي الإبقاء عليه، ولا شك في أن ذلك قد وفر له كثيراً من أسباب الشعبية التي افتقدها خلفه.
3) يلاحظ من أخضعوا خطب عبد الناصر للدراسة أنه عندما كان يرتجل وكثيرا ما كان يفعل كان يختلف كثيرا عن ذلك النمط من الساسة في فترة ما قبل عام 1952، فقد كان أغلب هؤلاء من المحامين الذين درسوا أصول الخطابة، وكانت لديهم ثروة لغوية كبيرة تمكنهم من انتقاء الألفاظ واستخدامها بشكل خاص، وهو ما لم يفعله الرجل.

وتبدو مظاهر الاختلاف من تلقائية عبد الناصر في استخدام المفردات اللغوية المتداولة بين أبناء الطبقة التي جاء منها والتي عبر عنها، ولعل أشهر ما قاله في هذا الصدد ما جاء في خطبته التي ألقاها في بورسعيد في 23 ديسمبر عام 1964 وهو يهاجم الأمريكيين من قوله "اللي مش عاجبه يروح يشرب من البحر وان ماقضاش البحر الأبيض يروح يشرب من البحر الأحمر"، ثم انه كان لا يأنف من إطلاق النكات أو القفشات أثناء خطبه.

وبالرغم من كل الانتقادات التي واجهها الرجل من خصومه بسبب هذا السلوك، وبغض النظر عن مدي الصواب والخطأ فيها، فإنه تبقي حقيقة ان عبد الناصر في خطبه انما كان تجسيدا حقيقيا للطبقة التي جاء معبرا عن مصالحها، ثم ان هذا النهج علي أي الأحوال وفر له قدرا كبيرا من الشعبية بين ابناء هذه الطبقة الذين شعروا بأن أحدهم هو الذي يعتلي المنصة وليس شخصية غريبة عنهم أو عن طبقتهم.

ثانيا: أدرك عبد الناصر منذ البداية أن وجود الطبقة الجديدة واستمرارها في السلطة مرهون بضرب الطبقة القديمة وقص أجنحتها ما أمكن..

وبعقد مقارنة بين ما فعله "محمد علي" في التخلص من الحكام الاقطاعيين، ومافعله "عبد الناصر" من التخلص من طبقة كبار الملاك الحاكمة، نلاحظ أن كلا الرجلين قد استخدم أدوات العصر، فقد كانت دعوة الباشا لبعض خصومه الي القلعة "ليتاويهم" فيها "علي حد تعبير الجبرتي" أمراً شائعا في عصر محمد علي، ومن ثم فأن يأتي الرجل ويفعل ما فعله في الممالية لم يكن أمراً شائنا في السياق العام لسلوكيات الحكم في ذلك العصر.

وقد فعل عبد الناصر نفس الشيء.. ولكن بأدوات عصره، قوانين تتزيا برداء الشرعية، ومحاكمات ثورية، ومصادرات لعناصر القوة للطبقة الغاربة..

ويبدو حجم ادراك الرجل لأهمية قص أجنحة الطبقة الارستقراطية من كبار الملاك منذ الأيام الأولي من الثورة، ومن خلال اصرار لا يلين علي تطبيق قانون الاصلاح الزراعي وهو في هذا لم يحجم عن خوض معركة مع عناصر هذه الطبقة ممن تمت الاستعانة بهم في الحكم خلال الشهور الأولي التي أعقبت قيام الثورة (علي ماهر وحكومته)، كما انه لم يتردد في الدخول في خلافات مع بعض زملائه منهم محمد نجيب نفسه.

يعترف الرئيس نجيب في مذكراته بأنه كان من أنصار "الضريبة التصاعدية" وانه قد اعترض أولا علي قانون الاصلاح الزراعي الا انه وافق عليه في النهاية "نزولا علي رأي الأغلبية في مجلس قيادة الثورة".

ويتضح من هذا الاعتراف ان "عبد الناصر" كان أكثر ادراكا بالحقيقة التاريخية، وهي أن "الطبقة الوسطي الصغيرة" التي يمثلها كان من المحتم ان تجرد الطبقة الحاكمة القديمة من أهم أسلحتها، ومن ثم جاء كل تصميمه علي إصدار القانون واتمام هذا التجريد.

والحقيقة أن الرجل كان متنبها لهذا الأمر.. بامتداد سني حكمه، حتي انه عاد في يوليو عام 1961، وبعد تسع سنوات من صدور قانون الاصلاح الزراعي الأول الذي جعل الحد الأقصي للملكية الزراعية 200 فدان ليصدر قانون الاصلاح الزراعي الثاني الذي جعل هذا الحد مائة فدان فقط.

وبعد عام واحد من صدور قانون الإصلاح الزراعي الأول، وفي سبتمبر عام 1953 بدأت "محكمة الثورة" في محاكمة السياسيين القدامي، وتؤكد أعمال هذه المحكمة أنها قبل أن تستهدف هؤلاء السياسيين قد استهدفت رموز الطبقة الارستقراطية في داخلهم.

يتضح ذلك من قسوة الأحكام علي هؤلاء الرموز، مثل الحكم الذي صدر علي فؤاد سراج الدين باشا، بينما تعاضت عن شخصيات ربما لعبت دورا في الحياة السياسية أكبر من دور سراج الدين مثل النحاس باشا نفسه، بل إنها استعانت بآخرين في بعض لجانها مثل مكرم عبيد باشا، ولا يمكن تفسير ذلك إلا بأن الرجلين لم يكونا بحال من رموز الطبقة، رغم دورهما السياسي العريض في فترة ما قبل عام 1952.

ثالثا: ما لم يدركه "عبد الناصر" في هذا الجانب انه ليس بتجسيد الطبقة الجديدة ولا بقص أجنحة الطبقة الحاكمة القديمة يتم انتقال السلطة، وكان هذا خطأه التاريخي الجسيم!

لقد سعي الرجل الي فرض نوع من "الحكم الأبوي" قبلت به "الطبقة الوسطي الصغيرة" ما دام استمر في حركته السياسية يحقق مصالح هذه الطبقة ويعبر عن طموحاتها.

يتضح "الحكم الأبوي" من مجموع السياسات الأوتوقراطية التي اتبعها "عبد الناصر"، والتضخم الظاهر لصلاحيات مؤسسة "رئاسة الجمهورية"، بل إنه يمكن القول ان عبد الناصر هو الذي حول رئاسة الجمهورية الي مؤسسة تطغي صلاحياتها علي سائر المؤسسات التشريعية والتنفيذية والشعبية والتي كان بالإمكان أن تستولي الطبقة التي حكم عبد الناصر من خلالها علي السلطة..

ويتضح قبول الطبقة واستنامتها لهذا النمط من "الحكم الأبوي" في مناسبتين.. أولاهما: المظاهرات التي تفجرت، وهي مظاهرات تلقائية بالتأكيد، يومي 9و10 يونيه عام 1967، وبعد هزيمة يونيو الشهيرة، وبالرغم منها: وثانيتهما: المظاهرات التلقائية ايضا التي تفجرت في أعقاب إعلان وفاة الرجل في 28 سبتمبر عام 1970، والتي قادها أبناء هذه الطبقة. ويؤكد عديد من المراقبين الذين تابعوا الحدث ان الشعور "باليتم" كان يخيم علي جمع المتظاهرين.

وقد ترتب علي هذا الخطأ نتيجة وخيمة تمثلت في ذلك الفراغ في السلطة الذي أعقب وفاته، وهو الفراغ الذي مكن خلفه من تغيير كثير من السياسات التي استنها، ولا شك في ان مثل هذا الخطأ يحسب علي الرجل، وبقوة!

واذا كان ما يتصل بالمصريين علي هذه الدرجة من التعقيد فقد كان ما يتصل بمصر أكثر يسراً بحكم وضوح الخيارات التي وفرتها المرحلة التاريخية..

كان (الخيار الأول) بين منح التأييد للحركات الوطنية التي عج بها العالم الثالث خلال الخمسينيات والستينيات، وبين حجب هذا التأييد، أو علي الأقل الاكتفاء بالبيانات الكلامية ومواقف التأييد أو التنديد السياسية، وقد اختار عبد الناصر الطريق الأول، وكسياسة ثابتة، وبدون تردد.

صحيح ان هذا التأييد كلف مصر التعرض لأخطار جسيمة كان أوضحها عدوان عام 1956، وصحيح أن عبد الناصر قد تعرض لانتقادات شديدة فتراوحت بين السخرية منه لارسال قوات مصرية الي بلاد بعيدة مثل الكونغو، وبين اتهامات صريحة بأنه بدد ثروة البلاد في مغامرات خارجية لا طائل من ورائها..

كل هذا صحيح ولكن الصحيح ايضا أن مصر عبد الناصر قد اكتسبت مكانتها المتميزة في عالم الشعوب الصغيرة من خلال مواقفها الايجابية، وانها لم تؤثر طريق السلامة بالاكتفاء بالبيانات الكلامية فليس بمثل هذه البيانات تصنع الدول مكانتها!

وكان (الخيار الثاني) بين القبول بالصيغة العربية التي قادت الي هزيمة عام 1948 وبين البحث عن صيغة أخري تحول العرب الي "قوة متماسكة" ولا نقول عظمي كما روج المتفائلون لهذه الصيغ خلال عقدي عبد الناصر، الخمسينيات والستينيات..

والحقيقة ان هذه "الصيغة الأخري" لم تكن من طرح عبد الناصر، بل كانت من طرح قوي سياسية عديدة في سائر أنحاء الوطن العربي و خاصة في مشرقه.

وللمرة الثانية ينحاز عبد الناصر "للصيغة الأخري" التي تمثلت في شكل من أشكال الوحدة العربية، والتي تم تجسيدها في "الجمهورية العربية المتحدة" عام 1958.

لقد نجح الرجل وتلبية لمطلب فرضته الظروف التاريخية خلال الحقبة التي وجد إبانها في أن يقود الموجة التي خلقها هذا المطلب، بل وأن يصبح رمزاً لها حتي بعد غيابه عن مسرح السياسة، بل وعن مسرح الحياة.

ولا يقلل بحال من قيمة هذه الاستجابة ما أصاب التجربة التي خاضها من انتكاسات. سواء بسبب غلبة الطابع العاطفي أو بسبب عدم الخضوع للدراسة المتأنية، فهذه الاستجابة تبقي في كل الأحوال دليلا علي استيعاب حركة التاريخ والقدرة علي قيادتها.

ويبقي (الخيار الثالث) الذي فرضه عصر "الحرب الباردة" والذي تواكب مع حقبة عبد الناصر، فقد كان أمام الحاكم المصري أحد سبيلين، فاما القبول بالاستقطاب والعيش تحت مظلة احدي القوتين العظميين، بكل ما يستتبعه هذا الخيار بالنسبة للدولة الصغيرة من درجة من درجات التبعية، واما تحدي هذا الاستقطاب واتخاذ سبيل مستقل بالرغم من الصعوبة البالغة لنهج مثل هذا السبيل..

ومرة أخري يكون "الخيار الصعب" هو الخيار المصري الذي جسده الرجل. فمنذ البداية جاء رفضه لقبول الانضمام الي التحالفات، ومعركته ضد حلف بغداد، ثم مشاركته النشطة في مؤتمر باندونج وما استتبعه من ظهور مجموعة الدول "غير المنحازة".

ومع ما وصفت به هذه السياسة من "اللاأخلاقية"، ومع ما قيل عن عبد الناصر انه قد أجاد اللعب علي القوتين العظميين، فانه لا مناص من الاعتراف بأن السياسات التي اتبعتها هذه المجموعة، انما كانت تلبي مطلباً تاريخيا للشعوب الصغيرة في مرحلة بعينها، بل لمصر نفسها منذ ان اتخذت موقفها الحيادي خلال الحرب الكورية، ولا جدال في أن دور الرجل في دفع تلك السياسات لا يستطيع إنكاره أي منصف.

تأسيسا علي كل ما تقدم يمكن الخروج بحقيقتين:
1) إن عنصر الوعي بظروف المرحلة التاريخية الذي يصنع بالاستجابة إليها زعيما متميزا.. هذا العنصر قد توافر بشكل ملحوظ في شخصية عبد الناصر.
2) إن العلاقة الجدلية توافرت بين الرجل وحركة التاريخ، بمعني أن هذه الحركة قد أفرزت زعيما من طراز عبد الناصر، وان الرجل بدوره لم يتوان عن دفع هذه الحركة.

لا تنفي هاتان الحقيقتان بالطبع الخطأ الذي وقع فيه عبد الناصر بالتقصير العرضي في بناء المؤسسات الشعبية التي كان يمكن أن تحمي ثمار التجربة المصرية في الحقبة الناصرية.

ومن خلال هذه النظرة المتوازنة تتآكل الأسطورة التي تصنع الآلهة وتصنع في نفس الوقت للشياطين الي تحطيمها!

........."

إنتهى النقل

يحى الشاعر

 

Graphic by Martin
A Man ... A Nation ...


الـرجوع الى الفهـرس للمتابعة والمواصلة


شـكرا لزيارتكم للموقع

أنتم الضيف

 

 



© 2007  جميع الحقوق محفوظة لكل من سامى شرف ويحى الشاعر.

© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US