![]() |
ممتلكات جمال عبدالناصر
عندما توفي يوم 28 سبتمبر 1970 كان في جيبه 84 جنيهاً
سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف
ـ 9 ـ
الجزء الأول - البداية الأولى
الحلقة االتاسعة
..............."
إنتهى نقل هذا الجزء
يحى الشاعر
- يتبع -
ممتلكات جمال عبدالناصر
عندما رحل عن هذه الدنيا كانت كل ممتلكاته كما رصدتها الوثائق الرسمية لا تتجاوز الثلاثة آلاف جنيه مصري من أسهم وسندات وأموال سائلة، وقد سجلت جميعها وسدّدت عنها ضريبة التركات، ثم وزعت حسب القواعد الشرعية على عائلته وأولاده:
جمال عبدالناصر حسين سلطان
رئيس الجمهورية العربية المتحدة
مرتبه الشهري 500 جنيه
بدل التمثيل 125 جنيهاً
الإجمالي 625 جنيهاً.
الصافي الذي كان يتقاضاه هو مبلغ ثلاثمائة وخمسة وتسعين جنيهاً وستين قرشاً وسبعة مليمات (395،60،7 جنيه) بعد استقطاع الخصومات من معاش وتأمين وإيجار استراحة المعمورة.. إلخ (الملحق الوثائقي).
ثروته يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970 كانت كالآتي:
* 3718،273 جنيه مصري رصيد في حسابه رقم 64226/99 بنك مصر.
* 200 سهم شركة كيما.
* 5 أسهم شركة مصر للألبان.
* سند واحد بنك عقاري.
* 600 جنيه شهادات استثمار.
* 10 أسهم في بنك الاتحاد التجاري.
* 100 سهم في الشركة القومية للأسمنت.
* 39 سند تأمين.
* 100 جنيه قرض إنتاج.
* شهادات استثمار بمبلغ 600 جنيه في شركة الحديد والصلب.
* أغلب قيمة هذه الأسهم رمزياً: الأسهم العشرة في شركة النصر لصناعة الأقلام 18،70 جنيه.
بنك الاتحاد 31،5 جنيه.
* وثيقة تأمين على الحياة قوات مسلحة 1500 جنيه.
* وثيقة تأمين على الحياة الشرق للتأمين 1000 جنيه 2500 جنيه.
* وثيقة تأمين على الحياة مصر للتأمين 1000 جنيه.
* وثيقة تأمين على الحياة الأهلية للتأمين 2500 جنيه.
* وثيقة تأمين على الحياة القاهرة للتأمين 2500 جنيه.
* سيارة أوستين التي كان يملكها من قبل قيام الثورة.
* ثمانية أزواج أحذية.
* ثلاث ماكينات كاميرا للتصوير.
* آلة سينما.
* عشر بدل ومجموعة من الكرافتات.
* استبدل من معاشه بما يعادل 3500 جنيه لتجهيز زيجتي ابنتيه.
* كان في جيبه يوم 28 سبتمبر/ أيلول 1970 مبلغ 84 جنيهاً.
* أسرته لا تملك سكناً خاصاً.
* حرم الرئيس ليس لها دخل خاص أو مصدر تقتات منه غير معاش الرئيس الذي رحل.
* دين اضطر الرئيس إلى استدانته عندما كان يجهز ابنتيه للزواج.
* الأسهم المودعة في بنك مصر باسمه والمنوّه عنها مشتراة من ماله الخاص.
* فيلتان للسيدتين هدى ومنى في مصر الجديدة من ماله الخاص وسددت بفوائدها ولم يتجاوز ثمنهما العشرة آلاف جنيه والاثني عشر ألف جنيه.
* حكاية استراحة المعمورة ورد الدكتور خالد عبدالناصر على الدكتور يوسف إدريس في جريدة “الأهرام” 1983 (حكاية ال 400 فدان وديون مصر.. إلخ)، وهو منشور في الصحف.
* يرجع إلى رد الدكتورة هدى عبدالناصر على الأستاذ ممتاز نصار 1983 في مجلس الشعب 7 فبراير/ شباط 1983 وهو منشور في الصحف.
حول ذمة عبدالناصر
وليسمح لي القارئ العزيز أن أسوق إليه هذه القصة:
نشرت جريدة “الأهرام” يوم 19 أكتوبر/ تشرين الأول على الصفحة رقم 18 مقالاً للأستاذ أحمد بهاء الدين في عموده اليومي “يوميات” نصّه:
“قال لي أستاذ جليل من زملاء المرحوم الدكتور علي الجريتلي اقتصادي مصر العظيم إنه منذ نحو ثلاثين سنة كان يجلس كالمعتاد ليلاً في مقهى “أتينيوس” الشهير في الاسكندرية، وكانت بالصدفة ليلة رأس السنة، والمطر ينهمر بغزارة.. والرصيف يهرع إليه بعض البؤساء.. وجمع الجريتلي من زملائه ما في جيوبهم، بضع عشرات من الجنيهات، واشترى بها كلها “جاتوه” من المحل، وكان يخرج وهو أستاذ الجامعة المرموق في ذلك الوقت في المطر ويقف بعلبة الجاتوه يوزعها على الفقراء ثم يعود ليأخذ غيرها. لذلك كان صحيحاً قول د. لويس عوض في رثائه إنه الاقتصادي الإنساني.
ولقد اختلف د. الجريتلي بعد شهرين من توليه منصب نائب رئيس الوزراء في أول حكومة للثورة وقدم استقالته، ومن يومها آلى على نفسه ألا يشغل أي منصب حكومي ولا مهمة حكومية على الإطلاق”.
وعندما لمته في مرة ليس بعيدة جداً قال لي: “القرار السياسي غير المدروس سيمحو أي قرار اقتصادي، وأنا لست من هذا الرأي”.. وحسبه الكثيرون ضد جمال عبدالناصر، وكان على العكس.
وقبل وفاته بشهور روى لي أن العمل الوحيد الذي قبل أن يقوم به لحساب الدولة خلال عشرين عاماً.. عندما اتهم جمال عبدالناصر باختلاس عشرة ملايين جنيه وكلف ببحث الأمر وكتابة تقرير، وقال لي: لو كان عندي ذرة من الشك في ذمة عبدالناصر لما قبلت المهمة.
وقال لي كان عندي رئيس اتحاد المصارف السويسرية المشهورة بحساباتها السرية، وقال السويسري للجريتلي: لقد أهلكتنا المخابرات الأمريكية و”الإسرائيلية” بحثاً وتنقيباً عن حساب سري لعبدالناصر في بنك سويسري فلم تجد، وكانت لا تصدق أنه لا يملك أي حساب خاص في الخارج”.
أحمد بهاء الدين
قراءات جمال عبدالناصر
جمال عبدالناصر كان منذ شبابه قارئاً نهماً وكان من أهم الكتب التي قرأها “طبائع الاستبداد” و”أم القرى” لعبدالرحمن الكواكبي، و”حماة الإسلام” لمصطفى كامل، كما قرأ أيضاً كتب أحمد أمين، وبصفة خاصة ما كتبه عن حركات التجديد في الإسلام التي تحوي دراسات جمال الدين الأفغاني والإمام محمد عبده، وقرأ كتاب “وطنيتي” للشيخ علي الغاياتي.
وفي الجانب الأدبي قرأ جمال عبدالناصر رواية “البؤساء” لفيكتور هوجو و”قصة مدينتين” لتشارلز ديكينز، كما قرأ في الموسوعات الفرنسية عن أشهر الشخصيات التاريخية الفرنسية والتي تحوي فصولاً عن “فولتير وجان جاك روسو ونابليون بونابرت ومارا وروبسبيير”، ومما هو جدير بالذكر أنه كتب مقالاً في مجلة مدرسة النهضة الثانوية بعنوان “فولتير رجل الحرية”، كما قرأ أيضاً مسرحية “يوليوس قيصر” لشكسبير، واشترك في تمثيلها مع فريق المدرسة في حفل أقيم يوم 19 يناير/ كانون الثاني ،1935 وقام فيها بدور يوليوس قيصر. أما كتاب “عودة الروح” لتوفيق الحكيم فقد ترك أعمق الأثر في شخصية جمال عبدالناصر وإحساسه بأهمية دور الزعيم، وكانت النسخة التي قرأها موجودة في مكتبة الرئيس في منزله في منشية البكري ومخططاً بقلمه تحت بعض العبارات التي لفتت نظره.. ومن بينها المحادثة التي جرت بين عالم الآثار الفرنسي ومهندس الري الإنجليزي حول الشعب المصري الذي يفتقر إلى قائد مصري مخلص يقوده من الظلمات إلى النور.
ثم تأتي بعد ذلك كلماته الشهيرة في كتابه “فلسفة الثورة” عن الدور الذي يبحث عن بطل يقوم به وبعد أن تكون هوية هذا البطل قد تحددت بالفعل، فهو ينهي كتابه بهذه الكلمات: “... ثم أعود إلى الدور التائه الذي يبحث عن بطل يقوم به.. ذلك هو الدور، وتلك هي ملامحه، وهذا هو مسرحه.. ونحن وحدنا بحكم المكان نستطيع القيام به”.
تلك هي أهم قراءات جمال عبدالناصر الأساسية، ناهيك عن قراءاته التي يصعب أن نحصرها بشكل محدد ويحضرني في هذا المجال أن جمال عبدالناصر أصرّ على بناء مبنى مستقل منفصل في منزله في منشية البكري كانت مساحته نحو أربعين متراً مربعاً خُصص ليكون فقط مكتبة خاصة له، كانت تحوي نحو الخمسين ألف كتاب ودراسة ورسالة دكتوراه وغيرها وكان يحرص على أن يرتادها مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، يجلس فيها على مكتب من الصاج رمادي اللون، من انتاج شركة “إيديال”، ويختار من واقع الفهرس ما يشاء قراءته لمدد كانت تتراوح ما بين ساعتين وثلاث ساعات أو أكثر حسبما يسمح وقته.. وهذا بخلاف تراجم ومختصرات الكتب وأهم الدراسات التي كانت سكرتارية الرئيس للمعلومات تقوم بإعدادها لتكون تحت أنظار الرئيس، ولديّ مجموعة من هذه التراجم وكانت تُوزع في الوقت نفسه على أعضاء اللجنة التنفيذية العليا وبعض المسؤولين كل في ما يخصه، وحسبما يأمر عبدالناصر (1).
الصورة الجماهيرية للرئيس جمال عبدالناصر
إن جماهير الشعب لديها من الفراسة الفطرية ما يمكنها من ان تصدق ما هو حقيقي وأن تلفظ الزيف.. هذه الجماهير لديها حاسة ربانية خطيرة تكتشف بها مهما طال الزمن الحقيقة للصورة الحقيقية للقائد أو الزعيم السياسي؛ ذلك ان الصفات التي تمثلها تلك الصورة، صفات موجودة بالفعل لدى صاحبها وليست مقحمة على شخصيته، فلا يمكن ان يكون الزعيم أو المقربون منه غارقين في الفساد ونحاول تصويره على انه طاهر اليد مثلاً أو أن اسلوب حياته يتسم بالفخفخة والأبهة ونصوره على انه يحيا حياة بسيطة مثل باقي الشعب، ومن هنا نجد ان الجماهير العربية كانت على قدر كبير من الوعي والفراسة الفطرية مكنها من الحكم على صحة صورة جماهيرية حقيقية تمتع بها جمال عبدالناصر أثناء حياته، بل مكنها من التصدي لمحاولات العبث بهذه الصورة النقية بعد رحيله، ويكفي ان نسوق مثالاً واحداً تمثل في محاولة النيل من طهارة يده وسلامة ذمته المالية التي بدأت تتردد بعد رحيله سواء بإيحاء من السادات أو عملاء المخابرات المركزية الأمريكية والجواسيس، ومن آخرين من الحاقدين وأعداء الثورة، إن استرجاع رد فعل الجماهير لهذا الاتهام الذي جاء بعد أكثر من خمس سنوات على رحيل الرجل هو خير دليل على صحة وصدق الصورة التي كانت الجماهير وما زالت تتمسك بها لعبدالناصر، ومن ثم قوتها وصعوبة العبث بها. فالجماهير لديها فراسة طبيعية فطرية تمكنها من ان تصدق ما هو حقيقي وان تلفظ الزيف وقد تصل الجماهير إلى هذه النتيجة بعد فترة قد تقصر أو تطول لكنها محتمة، فالجماهير لديها قدر كبير من الوعي مكنها ليس فقط من الحكم على صحة الصورة التي تمتع بها عبدالناصر أثناء حياته، وإنما مكنها أيضاً من التصدي لمحاولات العبث بهذه الصورة بعد رحيله حكاية البنوك السويسرية واتهامه باختلاس 15 مليون جنيه من حساب خاص، جلال الحمامصي وحكاية عثمان أحمد عثمان وبيوت أبناء عبدالناصر وكلنا نذكر رد الفعل الشعبي العربي قبل المصري والأهم رد الفعل الرسمي للسادات أيامها اتقاء لرد الفعل الشعبي.
لقد كان لعبدالناصر صورة جماهيرية طبيعية غير مصطنعة نفذت إلى قلوب الجماهير العريضة ووجدانها في حيز جغرافي وأراض لم يكن لعبدالناصر أي سلطان عليها بل كانت حكومات بعض هذه الاقطار وحكامها يسعون للقضاء على صورته إن لم يستطيعوا القضاء على شخصه في غل مكشوف أو من خلف ساتر أو على الأقل إلغاء هذه الصورة في وجدان ناس هذه الاقطار.
كان ارتباط الرجل بتراب الوطن وتاريخه هو الذي صاغ له صورته الجماهيرية هذه، أما التزامه بقضايا الوطن الكبير فقد كان وسيلته لتوصيل هذه الصورة إلى الأمة العربية.
استطاع الرجل ان يمثل أغلبية الناس تمثيلاً صادقاً وأن يدافع عن الأماني القومية دفاعاً حقيقياً. واستطاع ان يتحول إلى رمز للحركة الوطنية المعاصرة التي بايعته بزعامة لم يحصل عليها أي زعيم آخر من قبل لا من حيث اتساع أفقها وشمولها من البحر إلى البحر ولا من حيث نوعيتها، فهذه الزعامة كانت تتركب من انبثاقها عن الشعب، عن مجموع طبقاته، عن مطالبه، عن أفكاره، عن أمانيه عن مطالبه التي نادى بها على مدى سنوات طويلة مضت، وعن أحلامه، وعن تراثه وكيانه القومي وحتى عن مصلحته الذاتية، فالصورة في مجملها يجب ان تشكل مثلاً أعلى للجماهير تسعى لكي تجذبه فإن اخلاصه المتأصل هو الذي جعل منه رمزاً وللكثيرين مثلاً يحتذى.
إن الجموع الهادرة بالملايين التي شيعت جمال عبدالناصر إلى مثواه الأخير.. هذه الجماهير لم تكن تشارك في جنازته فقط، لكنها كانت في الحقيقة تسعى إلى الاتصال بالزعيم والأمل والملهم الذي كانت صورته هي التجسيد المطلق لكينونتها ذاتها، الصورة التي أصبحت ترمز إلى الاحساس بالكرامة. وكم من رئيس وزعيم وملك ولد وعاش ومات دون ان تسمع به لأنه لم يتمكن من ان يقوم بدوره لافتقاره للصفات التي تؤثر وتتأثر بها الجماهير ليتم التفاعل ويتحقق التوازن بين طرفي المعادلة، بين الشعب والزعيم، وهذا في أغلب الأحيان لا يتم إلا بإيمان الزعيم بعظمة الشعب ليس نتيجة شعور عاطفي ولكن نتيجة إحساس وإيمان واقعي بإدراك مواطن قوة الشعب، وبالتالي يصبح الأمل في المستقبل الواعد بمثابة قناعة قائمة على فهم واعٍ للحقيقة والواقع.
وقد كان هذا ما قصده الكاتب الانجليزي الكبير “جون جونتر” حين قال: “إن مصدر قوة عبدالناصر الرئيسي هو أنه يرمز إلى تحرير وتقدم الجماهير، فقد أعطى شعبه ما لم يكن يملكه هذا الشعب من قبل: الأمل...”.
الحقيقة ان مسألة قوة عبدالناصر تمثلت في عدة عناصر يمكن الاشارة إلى أهمها التي تتمثل في شخصيته ويجسدها وقائع شهيرة لا يختلف اثنان في تقييمها، فإلى جانب حادث المنشية الذي حاول فيه الاخوان المسلمون اغتياله في ميدان المنشية بالاسكندرية وكانت كلماته وقد ظل واقفاً في مكانه يتحدى القتل والقاتل بينما اختبأ البعض ووسط دوي الرصاصات وهي تخطئه استمر يتحدث إلى الناس قائلاً: “اخواني المواطنين.. فليبق كل في مكانه.. إنني حي لم أمت ولو مت فإن كل واحد منكم هو جمال عبدالناصر ولن تسقط الراية..”، أقول إلى جانب حادث المنشية كانت هناك صيحته من فوق منبر الأزهر الشريف حين واجهت مصر العدوان الثلاثي سنة 1956..: “سنقاتل.. سنقاتل.. سنقاتل”. وبهذه المناسبة فقد نادى عبدالناصر من فوق منبر الجامع الأزهر الشريف في سنة 1956 نداء “الله أكبر” قبل ان تتعالى به صيحات المقاتل المصري في اكتوبر/تشرين الأول سنة 1973 بأكثر من سبعة عشر عاماً، والتسجيل موجود لديّ.
كذلك فإن العبارة التي وجهها جمال عبدالناصر إلى أمريكا، في أعقاب أزمة القمح، حين دعاها لكي “تشرب من البحر” إذا لم يكن يروق لها ما يحدث في مصر، فلم تكن كما ادعى بعض المتحذلقين تعبيراً عن عدم الكياسة، وعدم مراعاة أصول البروتوكول، فتلك نظرة ضيقة بل مغرضة الهدف منها النيل من الرجل وهدم صورته. إن دعوة عبدالناصر أمريكا لكي تشرب من البحر وتفعل ما تستطيع إذا لم يعجبها حال مصر، كانت في حقيقة الأمر تجسيداً لروح التحدي المتأصلة في هذا الشعب والتي كان يمثلها جمال عبدالناصر أكثر من أي زعيم أو رئيس أو ملك آخر عرفه العرب منذ صلاح الدين الأيوبي.
أما استخدامه للمثل الدارج “الشرب من البحر” للتعبير عن هذه الروح ضد واحدة من أقوى دولتين في العالم فهو من وجهة نظري لفتة وفلتة عبقرية أخرى في قدرة الرجل على الوصول إلى عقل وقلب المواطن العادي عن طريق التحدث إليه باللغة الدارجة التي يتعامل بها ويستخدمها في يومه وهي في الوقت نفسه لغته هو أيضاً.
يقول جورج فوشيه في كتابه “ناصر وصحبه”، إن قوة الايمان عند عبدالناصر ترجع للفترة المبكرة وهو طفل والتي عاشها مع عمه خليل في القاهرة والتي التحق فيها بمدرسة النحاسين الابتدائية والتي تقع أمام مقابر سلاطين المماليك في حي الحسين وخان الخليلي لأن الجو الديني من مساجد ومشايخ وروائح البخور قد أثر في شخصية جمال عبدالناصر وتوج إيمانه بالدين وقيمه الروحية والأخلاقية ومبادئه النضالية.. وكان جمال عبدالناصر في ذلك أيضاً يتسق تماماً مع طبيعة المجتمع المصري والعربي عموماً في تدينه القوى وإن كان دون تزمت، ودون مظهرية مبالغ فيها لأن المبالغة في هذه الحالة كثيراً ما تعطي انطباعاً معاكساً لدى الجماهير التي لم يكن وما كان بعيداً عنها في يوم من الأيام كما لم يكن منتمياً لطبقة مميزة لا تمثل السواد الأعظم من الشعب.
كان عبدالناصر أول مصري يحكم هذه الأرض الطيبة منذ آلاف السنين كما جاء من بين أفراد الشعب وظل ولاؤه لهذا الشعب ولهذه الأرض طوال حياته ولم يحاول أو يسع أو يفكر في أن يستخدم منصبه وجاهه في محاولة للتشبه بطبقة أخرى غير تلك التي جاء منها، وفي رأيي الشخصي ان هذه النقطة بالذات هي من أكثر الجوانب الايجابية في الصورة الجماهيرية لجمال عبدالناصر التي أدخلته في قلوب الملايين من البشر من البحر إلى البحر والتي في الوقت نفسه لم تستطع المحاولات أو المؤامرات المستميتة أن تقتلعه منها، فكان الابن البار للغالبية العظمى من الشعب العربي، وهو الذي قال في 16 اكتوبر/تشرين الأول 1961:
“لقد قضيت الأيام الأخيرة كلها أفكر، وكنت بمشاعري مع شعبنا العظيم في كل مكان، في القرى وفي المصانع، وفي الجامعات وفي المعامل، وفي المواقع الأمامية في خط النار المواجهة للعدو مع جنودنا وفي البيوت الصغيرة المضيئة بالأمل في مستقبل أفضل، كنت مع هؤلاء جميعاً، مع الفلاحين ومع العمال والمثقفين والضباط والجنود، أحاول أن أتحسس وأن أتفاعل بفكري مع فكرهم، كانت أصابعي على نبض هذه الأمة صانعة الحضارة، صانعة التاريخ، صانعة المستقبل، وكانت أذناي على دقات قلبها الذي ينبض دائماً بالحق والخير والسلام”.
كما قال في سنة 1968:
“كل ما أتمناه دائماً من الله أن أرى طريق الواجب، وأحفظ الصلة بأحاسيس جماهير هذا الشعب وبوجدانه بدون أي عوائق يضعها الحكم أو السلطة، ذلك أنه بدون الصلة المستمرة بإحساس هذا الشعب ووجدانه يصبح الحكم تحكماً، وتصبح السلطة تسلطاً”.
ويقول الكاتب الإنجليزي روبرت سان جون:
“وحتى قيام الثورة كان يأخذ زوجته إلى السينما مرة أو مرتين في الأسبوع، وفي يوم الجمعة لا يذهب أولاد ناصر إلى المدرسة، ولذلك فيمكنهم أن يسهروا ساعتين في ليلة الخميس لكي يشاهدوا معه أحد الأفلام التي يريدونها، لكن والدهم يقول إن ذوقهم لا يماثل ذوقه، فهم يحبون أفلاماً أعنف من الأفلام التي يحبها وخصوصاً أفلام الحرب، ولذا فبعد أن يذهبوا إلى نومهم فعادة ما كان يشاهد الفيلم الذي يريده..”.
هذه النقطة تقودنا إلى إحدى أهم صفات جمال عبدالناصر وهي عزوفه الفطري عن العنف، وهي الصفة التي جعلت من ثورة يوليو/ تموز 52 “ثورة بيضاء”، ولقد كانت تلك الصفة في شخصيته مثار اهتمام عدد كبير من الكتاب والمؤرخين وخصوصاً أولئك الذين اقترنت بلادهم بثورات حلّت بتاريخهم الوطني، امتزجت بالعنف والدماء، وقد عبّر عنهم باقتدار الكاتب الإنجليزي “ديزموند ستيوارت” في كتابه “مصر الفتية” “Young Egypt” الذي أجرى حواراً مع الرئيس عبدالناصر سأله فيه عن الشخص الذي حاز إعجابه من بين قادة الثورة الفرنسية: هل “دانتون” أم “روبسبيير”، فأجابه الرئيس على الفور: “في الحقيقة، لا هذا ولا ذاك، إنني أعجبت بفولتير لأنه كان رجلاً هادئاً ولم يكن قاسياً، أما الباقون فقد كانوا دمويين للغاية، فقد قتل كل منهم الآخر، وماتوا جميعاً عن طريق العنف..” ثم استطرد عبدالناصر شارحاً للكاتب كيف أنه تعلّم من رائعة “تشارلز ديكينز” “قصة مدينتين” “A Tale Of Two Cities” أنه إذا بدأت الثورة بإراقة الدماء، فلن تتوقف عن ذلك، وسيقلدها الآخرون.
ويقول “ديزموند ستيوارت” أيضاً إن ناصر لم يُعجب قط بمؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، فقط لأنه كان عنيفاً وقاسي القلب.
الخليج الإماراتية
5.10.2003
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
زيارتكم هى رقم
Web guest
Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT,
International Computer Consulting & Training, Germany, US