Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

مؤامرات ضد الثورة وقائدها

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

ـ 26 ـ

الجزء الأول - البداية الأولى

الحلقة 26


قد يكون من المناسب هنا أن أتعرض بشيء من التفصيل لما تعرضت له ثورة 23يوليو/ تموز1952 من مؤامرات ومحاولات مستميتة لضربها وإجهاض الدور الذي كان يقوده جمال عبد الناصر من أجل التحرر والاستقلال في هذه المنطقة الحيوية من العالم.

في العالم السري للمخابرات البريطانية، كان هناك فرع يطلق عليه “إدارة العمليات الخاصة” مهمتها القيام بالقتل والاغتيال وتتمتع بمهارة خاصة في تصوير الاغتيال على أنه حادث أو مصادفة.

وحين طرد الجنرال جلوب من قيادة الجيش الأردني في أول مارس/ آذار 1955 أصيب رئيس الوزراء البريطاني أنطوني إيدن بحالة من الجنون، وحمّل عبد الناصر مسؤولية هذا العمل. وكان رده عنيفا وأعلن حربا شخصية على عبد الناصر وقال: “إما هو أو نحن”. وقد عارض تفكير أنتوني ناتينج في كيفية حل الصراع العربي “الإسرائيلي” حيث كان يميل ناتينج إلى حل المشكلة في إطار الأمم المتحدة وهو ما يفيد بريطانيا أيضا إلا أن إيدن رفض قائلا له “ألا تفهم ! إني أريد تدميره ! أريد قتله ! ولا أريد بديلا.. وقد حاول وكيل الخارجية البريطانية” إيفون كيركباتريك بعد ذلك بأيام المحاولة نفسها إلا أن إيدن قال له: “لا أريد بديلا” فرد عليه وكيل الخارجية قائلا : لا أعتقد أن هناك فرعا في الوزارة لهذا النوع من العمليات. وإذا كان لدينا مثل هذا الفرع فإنه ليس تحت إدارتي بالتأكيد”.

يقول جوردو بروك، وهو أحد ضباط المخابرات البريطانية : “إن القيام باغتيال ناصر لم يكن أبدا عملية سهلة وإن بعض المسؤولين في المخابرات كانوا لا يؤيدونها لأن المخابرات في تلك الأيام وبعد الحرب العالمية الثانية لم تعد تعيش في عصر “جيمس بوند”. ولكن إيدن تجاوز وزارة الخارجية وتجاهل سلوين لويد وزير خارجيته الذي يقال انه تخلص من ملف خاص بعملية قتل ناصر كان في مكتبه وذهب مباشرة إلى المخابرات واتصل بأحد كبار المسؤولين فيها وهو “باتريك دين” الذي كان يتفق مع رأي إيدن في ضرورة إزاحة ناصر من المسرح السياسي بأية وسيلة ممكنة ويقول الكاتب انه يبدو أن إيدن وباتريك دين لم يحوالا الحصول على موافقة مدير المخابرات البريطانية “جون سينكلير” الذي كان ينظر إليه على أنه شخصية ضعيفة واعتمد على “جورج يونج” الذي كان يتمتع بشهرة واسعة بعد اشتراكه في الانقلاب الذي أطاح بحكومة محمد مصدق في إيران سنة 1953.

في 15 مارس/ آذار 1956 بعث إيدن برسالة سرية للغاية إلى أيزنهاور يحذره فيها من خطط ناصر للسيطرة على العالم العربي كما أن المخابرات البريطانية ألحقت ذلك بمعلومات أن ناصر قرر محاربة “إسرائيل” وأنه اختار شهر يونيو/ آذار لبدء الهجوم. وعلى أساس معلومات المخابرات البريطانية التي لم تكن موثقة ومشكوك في صحتها قرر مجلس الوزراء البريطاني في 21 مارس/ آذار 1956 الموافقة على اقتراح وزير الخارجية بالعمل لإقامة حكومة صديقة للغرب في سوريا وبعد ذلك بثلاثة أيام وفي واشنطن درست لجنة خاصة من وزارة الخارجية والمخابرات المركزية الأمريكية ممثلة برئيسها آلن دالاس وجيمس إنجلتون وكيرميت روزفلت قدرة ناصر على حشد التأييد العربي لحربه ضد “إسرائيل” وتأثير ذلك في إمدادات البترول العربي، واحتمالات تزايد النفوذ الشيوعي. وفي 28 مارس/ آذار اتفق على تشكيل لجنة أمريكية بريطانية مشتركة تحت اسم “أوميجا” كان هدفها الأول تحذير عبد الناصر من نتائج تعاونه مع الاتحاد السوفييتي. ويقول “كيث كامبل” ضابط المخابرات إنه بحث أيضا تنفيذ عمليات سرية ضد ناصر وتقرر اتخاذ إجراءات عنيفة وتم الاتفاق على مؤامرة أنجلو أمريكية لزعزعة ناصر تشمل احتمالات قيام بانقلاب عسكري في سوريا إذا استمرت دمشق في تأييد ناصر وأطلق على هذه العملية اسم كودي “استراجل”.

في 31 مارس/ آذار 1956 التقى جورج يونج عددا من رجال المخابرات المركزية الأمريكية من بينهم جيمس آيكل بيرجر مدير مكتبها في القاهرة وتتابعت الاجتماعات، وكان رأي المخابرات البريطانية أنه يجب البدء بعمليات شاملة ضد ناصر وأنه يجب اعتبار مصر أداة في يد الاتحاد السوفييتي ودعوا الأمريكان للتخلي عن الوقوف على السياج وأنهم إذا لم يتحركوا على الفور فذلك يدل على ضحالة المعلومات الأمريكية والتي وصفتها ب “الزبالة” وكانت وجهة نظر الإنجليز أن سوريا هي مفتاح المنطقة وأن مصير الأردن ولبنان يتوقف على ما يجري في سوريا.

في أول إبريل بعث مندوبو المخابرات المركزية الأمريكية بتقرير إلى واشنطن يوجزون فيه الموقف البريطاني والذي يلخصه كلام أحد ضباطهم : “مستعدة لخوض معركتها الأخيرة، ومهما تكن التكاليف فسوف ننتصر”، وفي الوقت نفسه لم تكشف لندن للأمريكان عن عملياتهم السرية المزمع القيام بها ولو أنها أوضحت أن هدفها الرئيسي هو إقامة حكومة سورية صديقة للهاشميين في العراق، واستنتج الأمريكيون أن بريطانيا قد تحدثت مع تركيا والعراق بشأن خططها. ومما جاء في تقرير المخابرات الأمريكية: “نعتقد أن الحكومة البريطانية تدرس استخدام الخطط التالية أو بعضها: الصرف من الأموال العراقية لتأييد الأحزاب الصديقة للعراق في سوريا، التأييد النشط لشق حزب البعث، إثارة القلاقل القبلية في منطقة الجزيرة والاضطرابات الحدودية مع تركيا و”إسرائيل” مما يستدعي المساعدة العراقية لإعادة الاستقرار إلى سوريا والاستعانة بالأحزاب الصديقة للتسلل من لبنان. ولكن ضابط المخابرات الأمريكية “ويلبور كرين إيفلاند وهو بالمناسبة مؤلف كتاب “حبال من الرمال”، الذي كتب التقرير سخر من هذه الخطط البريطانية واستبعد قدرة العراق على تنفيذها. وأضاف إيفلاند في تقريره أن المخابرات البريطانية تتوقع أن تقوم “إسرائيل” بعمليات خاصة ضد مصر وتدمير أسلحتها الجديدة التي استوردتها من الاتحاد السوفييتي وأن تشن هجوما ضد غزة، ولكن الذي لم يعرفه إيفلاند حينذاك أن بن جوريون كان قد اقترح بالفعل على إيدن القيام بعملية مشتركة ضد ناصر مما مهد للتواطوء الذي تم بعد ذلك في الهجوم على مصر سنة 1956.

وشهدت هذه الفترة عودة التعاون الوثيق بين المخابرات البريطانية والمخابرات “الإسرائيلية” وشغلت امرأة رئاسة مكتب المخابرات البريطانية في تل أبيب. بعد ذلك بدأت الحكومة البريطانية في إعداد الرأي العام البريطاني والدولي وتهيئته لتنفيذ مؤامرتها ضد مصر وسوريا، فقامت المخابرات البريطانية بتسريب أخبار عن تدفق الأسلحة السوفييتية والتشيكية إلى سوريا، ونقل بعضها مراسل جريدة “الديلي تلجراف” في بيروت الذي كان عميلا سريا للمخابرات البريطانية وقد قامت المخابرات الأمريكية بالتحقق من هذه المعلومات فوجدتها زائفة.

وبعث إيدن في 15مايو/ ايار برسالة إلى أيزنهاور تتضمن معلومات المخابرات البريطانية بأن جمال عبد الناصر يخطط لقلب أنظمة الحكم في العالم العربي خاصة صديقة الغرب. وبدأت المؤامرة ضد سوريا. ففي يونيو/ حزيران بدأ السفير البريطاني في دمشق “جون جاردنر” بدعم الفئات الصديقة للعراق بتقديم الأموال للضباط المناوئين لليسار حتى يتمكنوا من التعاون مع السياسيين ميخائيل إليان وجلال السيد وكذلك مساعدة بعض الفئات القبلية على الحدود السورية - العراقية.

كذلك عمل السفير البريطاني - الكاتب والرحالة ورجل المخابرات البريطانية “د. فريا ستارك” على ضمان تأييد الإخوان المسلمين.

ولكن ميخائيل إليان وبقية المتآمرين اضطروا للفرار من سوريا حين ارتد عليهم رد الفعل الوطني في سوريا. بعد ذلك قابل رئيس الأركان العراقي اللواء غازي الداغستاني في جنيف أديب الشيشكلي الذي سبق أن سقط حكمه سنة 1954 كذلك اجتمع الشيشكلي بعدد من ضباط المخابرات البريطانية في بيروت الذين كانوا يعدون جماعات ضاربة لاغتيال الضباط اليساريين يعني الوطنيين .

في منتصف يوليو/ تموز 1956 سحب العرض الغربي بتقديم قرض لبناء سد أسوان (السد العالي)، وكان رد عبد الناصر التفكير بتأميم شركة قناة السويس واحتياطيا بعث بمجموعة من ضباط المخابرات إلى مالطا وقبرص وكانت العلاقات بين عبد الناصر والأسقف مكاريوس وطيدة جدا وكانت مصر تؤيد نشاط منظمة أيوكا باعتبارها إحدى حركات التحرير، كما كانت العلاقات جيدة مع دوم منتوف رئيس وزراء مالطة وذلك لتقييم احتمالات الرد العسكري البريطاني ولمعرفة تفاصيل حجم ووضع القوات البريطانية في المنطقة.

في 26 يوليو/تموز 1956 أعلن عبد الناصر في خطاب جماهيري، وصف في لندن بأنه “هستيري”، تأميم شركة القناة ومن وجهة النظر القانونية لم يكن ما قام به أكثر من شراء أسهم الشركة. في تلك الليلة لم يخف إيدن مرارته من هذا القرار وهو يستقبل زائريه الملك فيصل ملك العراق ورئيس وزرائه نوري السعيد وكانت نصيحته لإيدن: “لم يبق أمامك سوى طريق واحد هو أن تضرب وأن تضرب بعنف الآن، وإلا فسيكون كل شيء متأخرا” وما أن غادر ضيوفه حتى عقد إيدن مجلسا للحرب (مجلسا عسكريا) استمر حتى الساعة الرابعة صباحا، ومما قاله إيدن في تلك الليلة: لن أسمح لناصر أن يضع يده على “زورنا” (قصبة تنفسنا) لابد من تدمير موسوليني المسلم.. أريد إزاحته ولا اكتراث على الإطلاق إذا سادت مصر الفوضى والدمار. وشكل إيدن على الفور ما سمي “بلجنة مصر” للإشراف على الرد وإدارة الأزمة خاصة إذا تقرر أن تنتهج بريطانيا وحدها سياسة مستقلة دون مشاركة أمريكية أو بقية الحلفاء الغربيين برئاسة سكرتير مجلس الوزراء “نورمان بروك” وعضوية بعض الوزراء وكبار الموظفين وكان الهدف الرسمي لهذه اللجنة هو أن يؤدي استخدام الدبلوماسية الحاسمة وعرض القوة العسكرية معا لإسقاط ناصر، اختير عدد من العسكريين لوضع مشروع خطة أطلق عليها “موسكتيرز” حصر تداولها بين عدد قليل من كبار المسؤولين وللأعين فقط ولم تبلغ واشنطن حليفة بريطانيا الأقرب، ونسقت مع المخابرات الفرنسية بسرية تامة لتحقيق الخطة. وفي الوقت نفسه شكلت لجنة أخرى “لجنة دووس باركر” الاستشارية من الخارجية البريطانية لاستخدام الوسائل غير العسكرية في الدعاية والإعلام ومواجهة الإعلام المصري. وتبنت اللجنة خطة “للدعاية السوداء” واختراق وسائل الإعلام الإقليمية بهدف تقليل نقد السياسة البريطانية في المنطقة حتى أنه طلب من هيئة الإذاعة البريطانية المعروفة باستقلالها ولو نظريا على الأقل بتبني سياسة إعلامية أشد عدوانية، وأطلقت هذه اللجنة وغيرها من فروع المخابرات البريطانية حملة من الدس والوقيعة وبث المعلومات الخطأ بواسطة الجرائد ووكالة الأنباء العربية وهي وكالة أنباء كانت مدعومة من المخابرات البريطانية ومختلف وسائلها في كل الشرق الأوسط. بل عمدت هذه الحملة إلى طباعة منشورات مزورة باسم هيئة الاستعلامات المصرية تدعو فيها إلى السيطرة على الأقطار العربية وعلى صناعة النفط بواسطة مصر، ومن اختراعات الدعاية البريطانية التي استخدمت في هذه الحملة فضح وجود معسكرات اعتقال مصرية يشرف عليها النازيون السابقون.

وافتتح في عدن ما سمي “صوت مصر الحرة” بدأت تبث برامجها في 28يوليو/ تموز 1956 واعتقدت السلطات في مصر حينذاك أن هذه الإذاعة تعمل في فرنسا وهو ما سارعت إلى تأييده المخابرات البريطانية للتعمية والتمويه، إلا أنه اتضح بعد ذلك أن الذين كانوا يديرون هذه المحطة هم آل أبو الفتح. الذين كانوا يتعاونون مع جميع الأجهزة الغربية الإنجليزية والفرنسية والأمريكية والسعودية كذلك على حد سواء.

وتتابعت خطوات المخابرات البريطانية في حملتها ضد جمال عبد الناصر وهدفها الأول هو التآمر على اغتياله ويتساءل البعض إذا كان أنطوني إيدن قد أصدر أمر مكتوبا للمخابرات باغتيال عبد الناصر أو أنه اكتفي بتعليمات وأوامر شفوية.

ولكن بعض ضباط المخابرات البريطانية كانوا يشكون في جدوى هذه السياسة وينتقدونها ويعتقدون أنها لن تنتهي بأية نتيجة، وفي أول يوم حضر فيه إلى “برودواي” (اسم أحد مكاتب المخابرات “ديك وايت” مدير المخابرات الجديد حذره ضابط المخابرات “جاك أسيتون” مما يجري في الشرق الأوسط من عمليات يجب أن تتوقف و”أن أكثرها ليس سليما أو أمنيا”.

ولكن الذي حدث هو انه استبعد كل الذين لا يؤيدون رئيس الوزراء والمخابرات في سياستهم العدائية والدموية ضد عبد الناصر، وحدث ما هو أكثر من ذلك.

فقد تطورت العلاقة البريطانية مع الموساد و”إسرائيل” إلى درجة التواطؤ، وأرسل “نيكولاس إليوت” مندوبا للمخابرات البريطانية إلى تل أبيب لإقامة نظام اتصال مأمون، وأقيم خط مباشر للاتصال بين إيدن وبن جوريون والمخابرات العسكرية “الإسرائيلية” وجرى استخدام نظام اتصال سري للغاية يتجاوز وزارة الخارجية للاتصال مع الفرنسيين أيضا.

عرفت المخابرات المركزية الأمريكية أن بريطانيا تخفي شيئا، و”تتقوقع داخل صدفة”، وأن ضباطها لا يريدون إشراك زملائهم الأمريكيين في المعلومات.

في هذه الأيام الخطيرة اجتمع النائب البريطاني المحافظ “روبرت بوتين” برئيس الوزراء البريطاني وسمع منه خططه وسياساته نحو مصر وعبد الناصر، وبعد هذه المقابلة قام النائب المحافظ بزيارة وكيل وزارة الخارجية البريطانية “إيفون كيركباتريك” وقال له : “أعتقد أن رئيس وزرائنا مجنون !” فرد عليه كيركباتريك “كنت أستطيع أن أؤكد ذلك منذ أسابيع!”.

ولم تتوقف المحاولات البريطانية عن استعداء أمريكا ضد عبد الناصر، واعتباره خطرا يجب استئصاله.

قام “جورج يونج” بثلاث زيارات لواشنطن لإقناع الأخوين دالاس أحدهما “جون” وزير الخارجية، والثاني “آلن” مدير المخابرات بأن عبد الناصر هو الذي يفتح أبواب الشرق الأوسط أمام الاتحاد السوفييتي. وفي أحد الاجتماعات قام “يونج” بإبلاغ المخابرات الأمريكية بأن بريطانيا والعراق سوف يقدمان على تدبير انقلاب في سوريا، وعندئذ وافقت المخابرات الأمريكية على وجهة نظر المخابرات البريطانية في هذه النقطة، وأصرت على عودة عملية “استراجل”، والتي تهدف إلى تنفيذ الانقلاب. وطلب ميخائيل إليان من “إيفلاند” ومن “آرشي روزفلت” مندوب المخابرات المركزية الأمريكية مبلغ نصف مليون دولار وفسحة ثلاثين يوما لإقامة نظام جديد وتحدد توقيت الانقلاب في نهاية شهر أغسطس/ آب 1956.

ومضت المخابرات البريطانية في تشكيل “حكومة ظل” مصرية بعد أن منحها إيدن تفويضا في هذا الاتجاه، فاتصلت ببعض المحيطين باللواء محمد نجيب الذي كان قد عزل من منصبه كما اتصلت ببعض رجالات حزب الوفد وبعض السياسيين، كما سبق أن أوضحت، لكن السفير البريطاني في القاهرة والمخابرات العسكرية البريطانية كانوا يعتقدون بأنه لا يوجد في مصر أي بديل يمكن أن يتصدى لجمال عبد الناصر.

وفي 27 أغسطس1956 قام عدد من المسؤولين ورجال المخابرات البريطانيين بلقاء عدد من الشخصيات المصرية في جنوب فرنسا، وفي جنيف تم لقاء آخر بين ضباط في المخابرات البريطانية وأعضاء من حركة الإخوان المسلمين في مصر.

وقيل في هذه الاجتماعات إن اللواء محمد نجيب سينطلق من بيته، المعتقل فيه، للاستيلاء على الرئاسة وإن بعض الضباط المنشقين يتفاوضون مع بعض المدنيين لاغتيال جمال عبد الناصر وإقامة حكومة جديدة برئاسة محمد صلاح الدين وزير الخارجية الوفدي السابق، وذكر أيضا اسم علي ماهر وأن في جيبه أعضاء الوزارة الجديدة، وبرزت أسماء مجموعة من الضباط المتآمرين بقيادة البكباشي حسن صيام قائد إحدى كتائب المشاة.

ولكن الوزير البريطاني “جوليان إيمري” كان يفضل اختيار الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديوي السابق عباس حلمي الذي عزلته بريطانيا من الحكم لميوله الوطنية سنة ،1914 وأن يعهد لأحمد مرتضى المراغي برئاسة الحكومة، وكان يقيم في بيروت، بعد أن فر من مصر. وقد قام المتآمرون بإبلاغ “إيمري” أنهم لن يتحركوا إلا بعد أن تزحف القوات البريطانية والفرنسية في اتجاه القاهرة. وكانت أهم شخصية اعتقد الإنجليز أنهم نجحوا في تجنيدها للمشاركة في تغيير نظام الحكم في مصر هي قائد الجناح عصام الدين محمود خليل مدير مخابرات الطيران المصري الذي اجتمع في روما مع أحد أبناء العائلة المالكة محمد حسين خيري وبعد ذلك بأسابيع في بيروت اجتمع خليل مع مدير المخابرات البريطانية في لبنان “جون فارمي”.

وكان عصام الدين محمود خليل يبلغ كل ما يتعلق بهذه الاتصالات وكلفه عبد الناصر بمتابعة الاتصال بهم لكشف مخططاتهم ونواياهم هم والأمريكان والفرنسيون وكان يتسلم في كل مقابلة مبلغاً من الجنيهات الإسترلينية كان يسلمها لخزينة الرئاسة وبعد أن قرر عبد الناصر فضح هذه المؤامرة قمت بأوامر من الرئيس عبد الناصر بتسليم المبالغ كلها وكانت تقارب المائة وسبعين ألف جنيه، وحسبما أذكر 166 ألف جنيه إسترليني، لحسن عباس زكي وزير الخزانة في ذلك الوقت لإيداعه في خزينة الدولة، كما تقرر أن يتم صرف هذه المبالغ لتعويض المتضررين من شعب بور سعيد نتيجة العدوان عليهم. والأوراق الرسمية الخاصة بهذه القضية محفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري وفي مكتب وزير الخزانة (بلاظوغلي) حيث تسلم مني المبالغ هناك.

وفي 27 أغسطس/ آب 1956 تلقت المخابرات البريطانية أولى هزائمها في حربها ضد عبد الناصر، حين أعلنت السلطات المصرية الكشف عن شبكة مخابرات بريطانية والقبض على أعضائها، منهم “جيمس سوينبرن” المدير التجاري لوكالة الأنباء العربية والذي أدلى باعترافات كاملة عن دوره ونشاطاته كجاسوس بريطاني وعدد آخر من البريطانيين الذين كانوا يعملون في مصر تحت غطاء أعمال تجارية. وبعد هذه الضربة التي تلقتها المخابرات البريطانية فقدت رصيدها كله في مصر ولم يبق لها أحد من عناصرها الذاتية.

وفي محاولة جديدة لاغتيال جمال عبد الناصر اضطرت إلى الاستعانة بعميل من خارج اطارها، فاتصلت بالصحافي البريطاني “جيمس موسمان” مراسل الدايلي تلجراف في القاهرة والذي كان يعمل من قبل في هيئة الإذاعة البريطانية ال “BBC” وطلبت منه التعاون معها وحين تردد الصحفي قال له ضابط المخابرات البريطاني في القاهرة “يجب أن تقوم بهذا العمل فنحن على وشك الدخول في حرب مع مصر”، وحين وافق الصحافي على التعاون طلب منه أن يضع رزمة ملفوفة في مكان معين على بعد اثني عشر ميلا من القاهرة، وكانت الرزمة تحتوي على مبلغ عشرين ألف جنيه إسترليني رشوة لطبيب عبد الناصر ليقوم باغتياله بالسم. وهذه كانت أخطر المحاولات البريطانية تلك المحاولة التي اعتمدت على قيام أحد الأطباء بدس السم لعبد الناصر، وكان الميجور فرانك كوين رئيس فرع في المخابرات قد أعد هذا السم وطلب أن يوضع السم في الشوكولاته التي يعدها محل جروبي المشهور في القاهرة، وتم الحصول على دستة من علب جروبي لوضع السم في قاعدة محتوياتها من الشوكولاته، وبعد عدد من التجارب لئلا يفسد السم من تغير درجات الحرارة تمكن “كوين” من التوصل إلى الوصفة الملائمة، وحين أبدى قلقه من أن يتناول الشوكولاتة بعض الأبرياء ممن يحيطون بالهدف قيل له “ألا يقلق فالخطة محكمة”. وتم تسليم العلب بالفعل ولكنها لم تصل أبدا إلى هدفها المطلوب حيث كان الطبيب هو أحد ضباط المخابرات العامة المصرية.

وكانت هناك خطة أخرى. فقد وضع فرع “الخدمات التقنية” في المخابرات البريطانية في لندن خطة جديدة لاغتيال عبد الناصر بالغاز لسهولة استخدامه، وادعت المخابرات البريطانية بأن لها عميلا في القاهرة يستطيع الوصول إلى أحد مقرات عبد الناصر، وكانت الخطة هي وضع أنابيب من غاز الأعصاب داخل نظام التهوية، ولكن تنفيذ العملية كان يتطلب كميات ضخمة من الغاز، فاستبعدت على أساس أنها غير عملية. وقد كشف هذه المحاولة مدير المخابرات البريطانية الأسبق “موريس أولدفيلد” والذي كشف أيضا أن إيدن قرر العدول عنها لأنه لم يستطع استخدام الغاز، فمن المعروف أن إيدن اشترك في الحرب العالمية الأولى التي استخدم فيها الغاز السام، وأنه كان يعتبرها من جرائم الحرب، ولكنه في سنة 1956 لم تثقل عليه أي هواجس باستخدام وسائل سخيفة أخرى للاغتيال والقتل.

ثم كانت هناك خطة أخرى أعدتها مؤسسة وزارة الدفاع لأبحاث المفرقعات وتطويرها: علبة سجائر تطلق سهاما سامة وقد جربت هذه الوسيلة على بعض الماشية للتأكد من فاعليتها، وحين أطلق السهم وأصاب الماشية اصطكت ركبها وغمغمت أعينها وعلا الزبد ثم بدأت تتساقط على الأرض وهي تفارق الحياة.

كما أن الفرنسيين و”الإسرائيليين” أعدوا بدورهم عددا آخر من مؤامرات الاغتيال. فقد وضع مدير المخابرات الفرنسية “بيير بورسيكوت” (الاشتراكي)، من رجال المقاومة الفرنسية السابقين خطة تنطلق بموجبها مجموعة من الكوماندوز من مقر السفارة الفرنسية في القاهرة لتعبر النيل بالقوارب المطاطية وتهاجم مقر مجلس قيادة الثورة على الضفة الأخرى من النيل، وحدد الأول من سبتمبر/ ايلول 1956 لتنفيذ العملية ولكن أجل الموعد، ثم عدل عن العملية.

أما المحاولة “الإسرائيلية” فقد استخدمت “جرسوناً” يونانياً كان يقوم بخدمة الحفلات التي يحضرها عبد الناصر وكلفته بوضع حبة السم في فنجان عبدالناصر ولكن حين اقترب الجرسون منه اهتزت يده وتملكته رعشة شديدة فعدل عن فعلته واعترف بما كلف به. وهذه القضية وثائقها محفوظة في سجلات النيابة العامة والمخابرات العامة والمباحث العامة وأرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري.

بعد هذه المحاولات الفاشلة والتي لم يبق أمام إيدن سوى طريق واحد هو الاعتداء العسكري على مصر.

في 22 أكتوبر/تشرين الاول 1956 نظم “بيير بورسيكوت” مدير المخابرات الفرنسية اجتماعا في “سيفر” من ضواحي باريس حضره سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا وباتريك دين من المخابرات البريطانية ودافيد بن جوريون وموشي ديان وشيمون بيريس عن “إسرائيل” ورئيس الوزراء الفرنسي كريستيان بينو ووزير خارجيته جي موليه، استمر الاجتماع من السابعة مساء حتى منتصف الليل وتم فيه التواطؤ بين الأطراف الثلاثة على تفاصيل العدوان الثلاثي على مصر بموجب اتفاقية أطلق عليها اسم المكان “اتفاقية سيفر”. وفي هذا الاجتماع عقد أيضا تحالف فرنسي “إسرائيلي” تعهدت فيه فرنسا ببيع الطائرات النفاثة وتقديم المعلومات العلمية والتقنية لبناء مفاعل نووي في “إسرائيل”.

عهد إلى “بول بولسون” بقيادة طاقم المخابرات البريطانية الذي سينزل على الشاطئ المصري مع أول موجة من جنود الغزو. وكان الطاقم يتكون من وحدة تقوم بتشكيل حكومة دمى بعد الإطاحة بعبد الناصر ووحدة أخرى للقيام بمهام تخريب ضد المنشآت، ووحدة للتحقيق مع الأسرى المصريين، ووحدة لرصد ردود الفعل السوفييتية الدبلوماسية وغيرها. وعقد اجتماع على مستوى عال حضره إيدن ولجنة رؤساء الأركان وبحثت فرضية نجاح التآمر على قتل ناصر، وحين قال في الاجتماع أحد الضباط البريطانيين وهو يضحك: “إن البلطجة ليست على أجندتنا!” افترت أسنان إيدن عن ضحكة واسعة. وفي تلك الفترة كانت المخابرات البريطانية قد فقدت كل عملائها في مصر، فتقرر إرسال طاقم من ثلاثة رماة من لندن لاغتيال عبدالناصر، وبالفعل دخل مصر هؤلاء الثلاثة ولكنهم عجزوا عن عمل أي شيء فغادروا من حيث أتوا. وفي الوقت نفسه وصلت معلومات للمخابرات المصرية بوجود مرتزق ألماني استأجرته المخابرات البريطانية للقيام بعملية، لكنه اختفى قبل أن تقبض عليه السلطات المصرية، ويعتقد انه هرب تحت غطاء دبلوماسي.





دالاس: سنمزقه إلى نصفين



في سنة 1975 قامت لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي بالتحقيق في شائعات عن تجاوزات المخابرات الأمريكية وسوء استخدامها لسلطاتها وأنها استهدفت اغتيال عبد الناصر هي أيضا. فقد نقل عن آلن دالاس قوله لأحد عملاء الخابرات المركزية الأمريكية مهددا: قل للكولونيل ناصر صديقك.. انه إذا زوّدها.. فسنمزقه إلى نصفين! ولا يمكن الاستهانة بهذا التهديد لأن أعوان المخابرات المركزية الأمريكية في القاهرة أصبحوا أكثر عددا مما كان لبريطانيا، ولكن اللجنة لم تستطع الحصول على دليل على هذا الزعم، وعلى أي حال فإن “مايلز كوبلاند” الجاسوس الأمريكي لاحظ أن الإنجليز يقولون عليه الجاسوس حيث انه فعلا لم يكن ضابط مخابرات وأستاذ دس المعلومات الخطأ، يقول انه اختير لإعطاء جمال عبد الناصر علبة سجائر “كنت” التي كان يدخنها بعد أن تم تسميمها على يدي الدكتور “سيدني جوتليب” رئيس دائرة الخدمات التقنية في المخابرات الأمريكية بمادة “بويتلوليزم” التي تضمن القتل بعد ساعة أو ساعتين.

وفي 23 ديسمبر/ كانون الاول 1957 أعلن جمال عبد الناصر في احتفال جماهيري في بور سعيد عن الكشف عن مؤامرة أنجلو فرنسية لإعادة الملكية، وتبين أن الضابط عصام الدين محمود خليل مدير مخابرات القوات الجوية المصرية في ذلك الوقت، قام بتبليغ عبد الناصر بكل ما طلبته منه المخابرات البريطانية من اليوم الأول، واستمر في خداعها بناء على تعليمات من عبد الناصر الذي أعلن أن بريطانيا دفعت لخليل 166 ألف جنيه إسترليني، وأنه قرر صرف هذه الأموال تعويضا للمواطنين المصريين الذين تضرروا من أعمال القصف الذي أصاب بور سعيد من القوات البحرية البريطانية.




الخليج الإماراتية
30.10.2003" "

..............."

إنتهى نقل هذا الجزء

يحى الشاعر

- يتبع -


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's
زيارتكم هى رقم

Web guest

Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US