Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

طلب جمال عبدالناصر من يوسف إدريس

 في مجلة “حـوار”  التوقف عن الكتابة

 لارتباطها بالمخابرات الأمريكية

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

ـ 25 ـ

الجزء الأول - البداية الأولى

الحلقة 25


لا أستطيع أن أنهي هذه الفقرة من دون التعرض لقصة عبدالناصر مع يوسف إدريس.. ففي مكالمة تليفونية بيني وبين الرئيس قال لي: أنت تعرف يوسف إدريس؟

فقلت: أعرفه كأديب وكاتب، لكني لم أقابله شخصياً.

فقال: طيب اتصل به وقابله وبلغه على لساني الرسالة التالية: “إنه حرصاً من عبدالناصر على شخص يوسف إدريس الذي يحترمه ويحبه ويقدره ولا يحب أن ينال منه شخص أو اتجاه مريب، فإن مجلة “حوار” اللبنانية لا يليق بأن تكون بها صفحات عليها توقيع هذا الإنسان النظيف الشريف يوسف إدريس، وأن جمال عبدالناصر على أتم استعداد لأن يقف بجانبه مهما كانت الظروف”.

طلبت من منير حافظ باعتباره كان على اتصال بيوسف إدريس وقت أن كان منير رقيباً في “روزاليوسف” قبل أن يعمل مساعداً لسكرتير الرئيس للمعلومات أن يدعوه لمقابلتي. وفعلاً حضر يوسف إدريس في اليوم التالي إلى مكتبي وتقابلنا حيث أبلغته رسالة الرئيس عبدالناصر، والتي كان لها صدى وتأثير كبيران في الرجل، ولكن يوسف إدريس استفسر مني عن السبب في رغبة الرئيس في عدم الكتابة في هذه المجلة بالذات. فقلت له: إن هذه المجلة لها ارتباطات وثيقة بالمخابرات المركزية الأمريكية (CIA) وللحقيقة فإن يوسف إدريس لم يكن يعلم فعلاً بهذه الصلة المريبة بين المجلة والمخابرات المركزية الأمريكية، الشيء الذي كنا نحن متأكدين منه. وكانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي كتب فيها يوسف ادريس مقالاً لمجلة “حوار”، بل إنه أعلن رفضه للجائزة التي خصصتها المجلة له بعد أن علم بتوجهاتها المشبوهة وقد قرر عبدالناصر أن تمنحه مصر قيمة هذه الجائزة، وقد سلمتها له فعلاً.


الفنون الثقافة



في فترة الصبا كتب جمال عبدالناصر روايته الوحيدة “في سبيل الحرية”، ولم تتم الرواية للأسف. ولقد أقيمت فيما بعد مسابقة لإتمامها لكن هذه الرواية تدل على الحس الفني العميق لدى جمال عبدالناصر. ولم يكن مشروع الرواية فقط هو الذي ينبئ عن هذا الحس المبكر، كانت هناك قراءاته التي لم تتوقف عند السياسة والاستراتيجية والتاريخ بل تجاوزتها إلى الأدب. وربما كانت رواية “عودة الروح” لتوفيق الحكيم من أكثر الكتب تأثيراً في وجدان جمال عبدالناصر.

وقبل وبعد الثورة عرف عن جمال عبدالناصر اهتمامه بالثقافة والفن، ولم يذكر في عهده أنه كانت هناك أولوية تسبقهما رغم تسابق الأولويات آنئذٍ.

وكان الناس يعرفون ولع جمال عبدالناصر بمشاهدة الأفلام السينمائية، ولو أنه تمت دراسة عن الأفلام التي شاهدها الرئيس عبدالناصر أو كرّر مشاهدتها لخرجنا بنتائج مهمة.

ولكنني لاحظت إعجابه الشديد بالممثل الكبير “جيمس ستيوارت” وشاهد فيلمه “It is a Wonderfull Life” أكثر من مرة، وكان يرى أن الأفلام التي يقوم ببطولتها تجسد القيم الإنسانية والمثل العليا والروابط العائلية.

وأذكر أنه أبدى إعجابه الأكبر بفيلم “يحيا زاباتا” “Viva Zapatta” للمخرج إيليان كازان وبطولة مارلون براندو وأنتوني كوين وذلك لأنه كان يصور تحرير الفلاحين من عبودية الإقطاع، وكان يحب مشاهدة أفلام بيتر سيلرز ولويس دي فينيس.

وحبّ عبدالناصر للغناء معروف. وعلاقته، حتى على المستوى الشخصي، بأم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وغيرهم معروفة.

والذي لا يعرفه الكثيرون ولع الرئيس بالمسرح ولكن الظروف منعته من التردد عليه، فكان يكتفي بإيفاد أحد من الأسرة أو ممن حوله المسرحية ويجلس معه ليتحدث إليه فيها، وقد يكرر هذا مرات كأنه يريد أن يرى المسرحية وهو لم يرها.

ولسنا في حاجة لأن نكرر ما يقوله الجميع عن الازدهار الثقافي والفني في فترة الستينات، وإن كنا نؤكد أن هذه النهضة بدأت منذ الخمسينات.

في هذه الفترة، بلغ المسرح أوجه بكتابات نعمان عاشور ويوسف إدريس وسعدالدين وهبة الذي كان أحد ضباط الشرطة الأكفاء الذين ساندوا ثورة يوليو/ تموز من بداياتها الأولى وتوفيق الحكيم وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهما، وكانت كثير من المسرحيات تنتقد النظام: “الفتى مهران والسلطان الحائر” و”سكة السلامة” وغيرهما.

أيضاً السينما بلغت مستوى راقياً، خاصة بإنشاء معهد السينما. ولقد تحوّل كثير من الإنتاج السينمائي إلى القطاع العام.

وأشير هنا إلى فيلم “ميرامار” الذي تهكم على الاتحاد الاشتراكي العربي، و”شيء من الخوف” الذي طعن في شرعية الثورة، و”المتمردون” الذي دعا إلى ثورة أخرى، وأيضاً أفلام “القضية 68” و”الناس اللي جوة” و”الاختيار” وغيرها.

باختصار شديد كانت الفترة ثرية بالإنجازات الثقافية والفنية، فلقد كانت الثورة تعرف أن الصراع السياسي والبناء الاقتصادي لا بد لهما من روح قوية، وهذه الروح لا يمكن بناؤها إلا بالفن والثقافة.

إن عبدالناصر هو الذي فكّر واقترح وقرّر الإنجازات التالية على وجه التحديد:

إذاعة القرآن الكريم، وأن يقتصر دورها على إذاعة آيات الذكر الحكيم فقط.

إذاعة أم كلثوم.

إنشاء معهد الباليه والكونسرفاتوار (الملحق الوثائقي).

إذاعة صوت العرب.

إذاعة البرنامج الثاني ليذيع روائع الفن العالمي من أعمال موسيقية وأدبية.. إلخ.

إذاعة الشرق الأوسط بطابعها الخفيف السريع.

بدء الإرسال التلفزيوني في مصر في بداية الستينات رغم الصعوبات الفنية والسياسية التي أبديت في ذلك الحين للحيلولة دون تنفيذ هذا القرار.

إنشاء وكالة أنباء الشرق الأوسط.

إصدار كتاب كل أربع وعشرين ساعة ثم كل ست ساعات على أن يكون سعره قروشاً قليلة وفي متناول أي شخص.

إنشاء مصلحة الاستعلامات.


التعليم



إصدار قانون تطوير الأزهر الشريف (103 لسنة 1961) ليصبح الدعاة متخصصين في مختلف مناحي الحياة اليومية كأطباء ومهندسين ومحاسبين.. إلخ، بالإضافة إلى الدراسة الأساسية في علوم الفقه والتفسير والدعوة.. إلخ.

قرار انتساب البنات لكليات الأزهر الشريف وذلك حتى يتسنى تخريج الأم المسلمة الصالحة. أم الأجيال التي ستتولى مقاليد الأمور في مصر مستقبلاً.

أعود إلى سياق الحديث بعد هذه الجملة الاعتراضية الطويلة فأقول إن عبدالناصر كان كثير الاهتمام والمتابعة لكل إنتاج وعروض فرقة رضا وفرقة الفنون الشعبية والمسرح القومي وهي المؤسسات التي قام بتشجيعها ودعمها بكل الإمكانات عن طريق وزارة الثقافة وأجهزتها. وكان يحلم بعد قيام معهدي الكونسرفاتوار والباليه أن ترقى فنون الغناء بكل أنواعه وأشكاله خاصة الكلاسيكية منها باعتبارها المدخل الصحيح للذوق الرفيع والتذوق الراقي لباقي أنواع الفنون الأخرى، وإن كان هذا لم يمنعه بشكل خاص من أم كلثوم باعتبارها ثروة قومية ليس لها مثيل في التاريخ الحديث على مستوى العالم العربي، كما كان معجباً أيضاً بمحمد عبدالوهاب وكان أحد أحلامه الذي تحقق أخيراً في 1964 أن يجتمع هذان القطبان في عمل مشترك يجسد الأصالة والعظمة للفن المصري والعربي. وكانت البداية في “انت عمري”. وقد كانت لها قصة أخذت من الوقت والجهد والإصرار من جانب عبدالناصر، كما شُرفت أن أشارك فيه بنفسي معهما حتى يتحقق هذا الحلم. وفي الحقيقة فإنني قد فاتحت محمد عبدالوهاب سنة 1963 بناء على مكالمة بيني وبين عبدالناصر الذي قال لي: “اعرض على عبدالوهاب أن يلتقي مع أم كلثوم في عمل مشترك”، ثم في الوقت نفسه نبهني ألا أضغط عليه لأن مثل هذه الأمور لا تولد بالرغبات أو بالتعليمات، ولكن تنبع من ذاتهما بقناعتهما الشخصية، وأذكر أنني عندما فاتحت عبدالوهاب في هذه الفكرة أن قال لي: “هذه الفكرة قد تنجح وقد تفشل.. وأنا أحلم بها فعلاً، وفي نفس الوقت آمل أن يجيء هذا اليوم الذي ألتقي فيه مع ثومة”.

ولما نقلت رأي عبدالوهاب للرئيس، قام بمفاتحته هو وأم كلثوم في عيد العلم سنة 1963 وقال لهما: “إمتى حانسمع لك لحن تغنّيه الست؟” وكان ردّ عبدالوهاب: “حاضر يا سيادة الريس”. كما كان ردّ أم كلثوم: “يا ريس أنا مستعدة وجاهزة أغني أي لحن لمحمد”. وكانت “انت عمري”، والتي تبعها بعد ذلك لمدة عشر سنوات روائع أخرى أسهم فيها هذان العملاقان.

ولقد كان تعليق عبدالناصر على لقاء العملاقين: “لقد استطاع فن محمد عبدالوهاب وفن أم كلثوم ان يجمع العرب من المحيط الى الخليج”.

كانت علاقة أم كلثوم بعبدالناصر منذ قيام الثورة علاقة قوية وكانت تتردد على منشية البكري في أي وقت وفي كثير من الأحيان بلا مواعيد تلتقي بالعائلة او بأي أحد منا، تتصل تليفونياً لتعرض رأياً او فكرة او مشكلة او نقد قد يعن لها ان ينقل للرئيس بلا حساسيات.

ولعل الكثيرين لا يعلمون ان أم كلثوم قد أدت أغنية يوم 10 يونيو/ حزيران 1967 بعنوان “ابقى” وسمّاها البعض “حبيب الشعب” وهي من تأليف صالح جودت وتلحين رياض السنباطي ولدي شريط خاص بتسجيل هذه الأغنية تم في صالون منزل أم كلثوم في هذه الليلة. كما اني احتفظ بشريط آخر لأم كلثوم يسجل لها أغنية “رسالة الى الزعيم”، تم تسجيلها بعد رحيل عبدالناصر وهي من تأليف نزار قباني ومن تلحين رياض السنباطي.

وبالمناسبة فإن أم كلثوم قد قدمت أغنية “باسم مين يا خارجين”، وذلك في أوائل شهر اكتوبر/ تشرين الأول سنة 1961 وبالذات يومي 3 و4 اكتوبر/ تشرين الأول، عقب الحركة الانفصالية بين مصر وسوريا والتي كان من كلماتها: “باسم مين يا خارجين ع الشعب قمتم باسم مين؟.. باسم “اسرائيل” والاستعمار؟ ولا باسم المأجورين.. ولا باسم الشعب والشعب منكم بريء.. ده مستحيل تفريق قلوب المولى جمعها في طريق..”.

مساء أحد الأيام من العام 1961 بلا موعد مسبق أبلغني محمد السعيد سكرتيري الخاص ان الست وصلت وانها تجلس في الصالون الملحق بمكتبي، فقمت وتوجهت الى الصالون لأجد أم كلثوم تجلس وبيدها مروحة كانت الابتسامة الهادئة على وجه الست عندما جلست الى جوارها وبادرتني قائلة:

أنا آسفة يا أستاذ سامي اني جيت من دون موعد ولكنك انت الليل قلت لي من قبل ان مافيش مواعيد بيني وبينك واني أقدر أقابلك.

فقلت لها: يا ست وأنا ما زلت عند كلامي وأنا تحت أمرك.

فقالت: يا سيدي، محمد الدسوقي عايز منك خدمة، وانت طبعاً عارف وضعه في الشركة.

فقلت: محمد حسب علمي ماشي كويس وما فيش أي شكوى منه خالص.

فقالت: ما هو علشان هو ماشي كويس أنا باترجاك انك تتكلم مع الوزير بتاعه ليرقيه. فقمت ورفعت سماعة التليفون وطلبت الدكتور عبدالعزيز حجازي وزير الخزانة في ذلك الوقت واستفسرت منه في حضور الست عن وضع محمد الدسوقي، فقال لي: انه من العناصر الشابة الواعدة، فلما استفسرت منه عن امكانية ترقيته، قال لي: انه من جانبه لا اعتراض على الترقية بل انه يؤيد ترقيته، ولكن المشكلة انه ليس هناك بند في الميزانية يسمح بتنفيذها، شكرته وأنهيت المكالمة.

اندهشت الست لإنهائي المكالمة دون الوصول الى قرار او مجادلة بيني وبين الدكتور حجازي، فقلت لها: ان حل مشكلة محمد الدسوقي ليس في قدرة الوزير ولكن تحتاج لقرار من الرئيس لكي يتجاوز الوزير أحد بنود الميزانية لتتم ترقية محمد، وقلت للست اني سأعرض الأمر على الرئيس وسأبلغها بما ينتهي اليه قراره، وفي تلك اللحظة أنارت اللمبة الحمراء بما يفيد ان الرئيس على الجانب الآخر من الخط التليفوني المباشر بينه وبيني فقلت: أفندم.. قال الرئيس: فيه عندك حد يا سامي؟ فقلت ايوه يا فندم عندي الست! فطلب التحدث معها، وبعد الاطمئنان على صحتها وأحوالها أبلغته بالموضوع فقال لها الرئيس: طيب اديني سامي.. وأمرني الرئيس بالاتفاق مع حجازي على تسوية موضوع ترقية محمد الدسوقي. وقمت من فوري وأمام أم كلثوم بالاتصال به، وأبلغته بأوامر الرئيس وتمت ترقية محمد الدسوقي.

وبعد نكسة 1967 وعندما قررت أم كلثوم المساهمة بدور ايجابي لدعم المجهود الحربي والقيام بزيارات للخارج لإقامة حفلات يكون دخلها أحد أركان المساهمة في هذا المجهود، قرر الرئيس جمال عبدالناصر ان تُمنح أم كلثوم جواز سفر دبلوماسياً، وكانت سابقة لم تحدث من قبل في تاريخ مصر، ولم تتكرر حسب علمي. وقد قمت بإبلاغ هذا القرار محمود رياض الذي كلف إدارة المراسم في وزارة الخارجية بالتوجه الى منزل أم كلثوم لتسليمها جواز السفر. وعندما اتصلت في الوقت نفسه بأم كلثوم لإبلاغها بهذا القرار، احتبس صوتها تأثراً وهي تشكرني ازاء هذه اللفتة من الرئيس عبدالناصر.

أما عبدالوهاب فإن علاقته بعبدالناصر بدأت مع قيام الثورة وقد قام بعد لقائه الأول معه ان غنى: “كانت الدنيا ظلاماً وهو يهدي بخطاه الحائرينا” للشاعر محمود حسن اسماعيل. ولعلنا كلنا نذكر مقولة محمد عبدالوهاب:

“في عيد الثورة سنة 1954 غنيت في حفل عام بعد انقطاع طويل عن الغناء في الحفلات، لكن بعد ذلك قويت العلاقة كثيراً بيني وبين جمال عبدالناصر وأحبني كثيراً جداً وأحببته كثيراً جداً”. وقد ترجم عبدالوهاب حبه لوطنه وايمانه بعروبته في الكثير من الأغاني والأناشيد التي لا تحصى ويكفي ان أقول انه في سنة 1967 تصادف ان كان عبدالوهاب في بيروت وحالت ظروف الحرب دون ان يعود الى القاهرة، إلا انه أبى إلا ان يدلي بصوته فيما حدث حيث قام مع الأخوين رحباني بتلحين وتوزيع:

“طول ما أملي معايا وفي إيديا سلاحي..”.

وفي أحد أيام صيف سنة 1963 اتصل بي تليفونياً الفنان محمد عبدالوهاب طالباً لقائي، ولما عرضت عليه أن أتوجه أنا إليه للقائه في منزله أصر هو على أن يحضر بنفسه إلي في مكتبي.

وبرقّة متناهية وحساسية مرهفة تحدث في حيرة وقلق وبصوت خفيض عن مسألة تعرض لها قبل ثلاثة شهور، ولا يعرف كيف يقوم بحلها لحساسيتها وعدم رغبته في خلق مشكلات يرى انه هو ونحن في غنى عنها.

ولما استوضحته الأمر قال: “كل ما أريده الآن هو ان يكون الرئيس جمال عبدالناصر على علم فقط بما حدث”، فلما ألححت عليه في معرفة تفاصيل ما يقلقه حكى القصة وتتلخص في ان أحد المسؤولين سمّاه زاره دون موعد سابق وقال له: “أنا عارف أنه يوجد عندك أشرطة نادرة لم تذع من قبل وتحوي أغاني ودندنة خاصة بك لمقطوعات قديمة وجديدة ومشاريع ألحان لم تر النور بعد.. فهل يمكنني أن أسمعها”؟. فقال له عبدالوهاب: “بالطبع وبكل سرور.. اتفضل اسمعها”.

فقال له زائره: “لا.. أنا عايز آخدها وأسمعها في بيتي..”.

وأسقط في يد الرجل المهذب الذي أذعن دون مناقشة وأعطاه التسجيلات النادرة.

ويستطرد الاستاذ عبدالوهاب قائلاً: “ودولقت مرت شهور ثلاثة ولم أسمع من هذا المسؤول كلمة، ولم ترد لي هذه التسجيلات، وكل ما أريده هو ان تكونوا على علم بما حدث فقط”.

وعدت الرجل خيراً، ولم أتردد في ابلاغ الرئيس جمال عبدالناصر بتفاصيل ما دار في هذه المقابلة.. وكان رد فعل الرئيس هو الغضب.

استدعى الرئيس جمال عبدالناصر المسؤول واستفسر منه عن هذه الواقعة فلم ينكرها، فطلب منه أن يقوم من فوره ليحضر هذه التسجيلات الآن، فأحضرها.

سلمني الرئيس هذه التسجيلات وكلفني بأن أزور عبدالوهاب لأعيدها إليه، مع نصيحة من الرئيس بألا يفرط في مثل هذه الثروة القومية مرة أخرى.

طلبت الاستاذ محمد عبدالوهاب لأحدد موعداً للقائه وأبلغته بأن لدي أنباء سارة، فما كان منه إلا قال لي: “حط السماعة يا استاذ سامي وأنا جاي لك حالاً”. وحاولت للمرة الثانية ألا يفعل ذلك إلا انه وضعني أمام الأمر الواقع قائلاً: “أنا حا أحط السماعة بعد إذنك”.

سلمت الأمانة للرجل، وأبلغته بناء على تكليف الرئيس جمال عبدالناصر ان يلتقي قمتا الفن في مصر والعالم العربي في عمل مشترك، اضغط عليه عند إبداء هذه الرغبة، إلا انه عندما بدأت في عرض الفكرة عليه بادرني بقوله: “إن هذا المشروع قد ينجح، وقد يفشل”، ولكنه أكد انه يأمل ويحلم بهذا اليوم فعلاً.

أما عبدالحليم حافظ فقد كان يجسد شباب وأحلام وطموحات ثورة يوليو في فنه وتعبيره سواء في أغانيه الوطنية أو العاطفية.. عبدالحليم كان يحضر إلي في مكتبي من دون موعد، كما كنا كثيراً ما نلتقي في عيادة الدكتور زكي سويدان سواء باتفاق أو من دونه. وكان عبدالحليم يتصل بي تليفونياً في بعض الأحيان بعد الثالثة صباحاً ليعرض فكرة أو يقرأ لي كلمات أغنية جديدة بلا حساسيات، وكان يعتبر نفسه أحد أفراد “كتيبة منشية البكري” كما كان يحب ان يصفنا.. وفي الصيف وبالذات خلال شهر اغسطس/آب من كل عام يمر عليّ في منزلي بالاسكندرية حيث كنت أؤجر شقة في عمارة الألفي بسيدي بشر، وكان يقيم في نفس العمارة الفنان الصديق كمال الطويل، عبدالحليم كان إنساناً رقيقاً في كل شيء.. في كلامه وتعليقاته.. وفي ملبسه وفي غنائه.. وحتى عندما كان يتوسط لأي شخص في مطلب أو لحل مشكلة ما فقد كان رقيقاً. وأذكر بهذه المناسبة أنه كان قد توسط لدي لكي أقابل مفيد فوزي، عندما أوقف عن العمل الصحافي، وقابلته فعلاً وعندما عرضت على الرئيس نتيجة المقابلة أمر بأن يلغي قرار الإيقاف ليعود إلى عمله الصحافي، وقمت بتبليغ قرار الرئيس لعبدالقادر حاتم، وتصادف ان كان محمد حسنين هيكل موجوداً في مكتبي في ذلك اليوم وعرف بالقرار فقام من جانبه وسارع بإبلاغ مفيد فوزي به.

اضافة


رسالة من عبدالناصر

للمرشحين للوزارة



كلفني جمال عبدالناصر أن أبلغ كل من يدخل مكتبه أو بيته كمرشح لمفاتحته في أي تشكيل وزاري أو عند حلف اليمين في تشكيل الوزارة: ألا ينحني بل يظل واقفاً منتصباً، فالإنحناء لله وحده وأول مرة مارست فيها إبلاغ هذه الرسالة كانت سنة 1956 إلى كل من سيد مرعي وعزيز صدقي وكمال رمزي استينو ثم استمرت بعد ذلك وأصبحت قاعدة تنفذ تلقائياً.



جمال عبدالناصر



عبدالناصر كان بطلاً تاريخياً بلا شك وفي أعلى مقام، ولكنه كان في طليعة موكب مجيد حافل من أبطال القرن منهم غاندي ونهرو وسوكارنو وماو تسي تونج وشواين لاي وهوشي منه وديجول وسيكتوري ونكروما.. وكان الزهد والتواضع أولى فضائله.

وأعدى أعداء عبدالناصر لا يستطيعون إنكار مقوماته الشخصية كزعيم قوي ومؤثر لم يكن يستطيع أحد ان يقوم بهذه الثورة إلا هو حيث جنود الاحتلال يقبعون على بعد مائة كيلومتر ويستطيعون التدخل بعد ساعات قليلة، وحيث الفساد تم تكريسه ويسد المنافذ ويستطيع ان يفشل أي حركة مناهضة، ولكن شجاعة عبدالناصر أصابت القوى المعادية بالصدمة والشلل التام مما أتاح للثورة ان تنجح. وفي هذا يختلف عبدالناصر عن الزعامات التي سبقته ولم توفق في إحداث تغيير حقيقي.

لم يمت عبدالناصر برصاصة من الداخل لأن الحب الجارف للشعب كان أقوى سياج، وحتى الذين عاداهم لمواقفهم المناوئة من الثورة كانوا يعانون صراع الحب والكراهية في آن واحد حيال عبدالناصر وكانوا يخفون في داخلهم مشاعر الرهبة الممزوجة بالإعجاب لأنهم كانوا على يقين من إخلاص عبدالناصر وشدته في الحق.

وكما يقول العالم النفسي الكبير الاستاذ الدكتور عادل فاضل فإنه في يوم 28 سبتمبر/أيلول 1970 ومع توقف دقات قلب عبدالناصر دقت أجراس في أنحاء متفرقة من العالم بعضها تحية لرحيل زعيم عظيم وبعضها إعلاناً عن الفرحة العارمة والشماتة، وربما في هذه الليلة بالذات نام “الإسرائيليون” للمرة الأولى بعمق شديد. إن فلسفة عبدالناصر في نضاله ضد “إسرائيل” تفرض نفسها على الشارع الفلسطيني مفاهيم وروحاً وشجاعة ولا يستطيع أي انسان في العالم إلا ان ينحني أمام هذه الشجاعة الاسطورية لطفل يمسك بحجر أمام جندي مدجج بالسلاح لتحقيق استراتيجية عبدالناصر في ان الانتصار على “إسرائيل” أو حتى تحجيمها لا يتحدد من خلال معركة وإنما بتصدير شيء واحد لها وهو أنها إذا لم تعط الفلسطينيين حقوقهم بالكامل فإن أي “إسرائيلي” لن يستطيع ان ينعم بنوم حقيقي، وان الكراهية تحيط بها من كل جانب ويكفي محاصرتها بالحجارة حتى تستسلم أو ترحل.





الخليج الإماراتية
29.10.2003

..............."

إنتهى نقل هذا الجزء

يحى الشاعر

- يتبع -


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's
زيارتكم هى رقم

Web guest

Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US