Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

عبدالناصر في عيون الأمريكيين

مايلز كوبلاند: أراد من الوحدة إذلال كل من أذلّ العرب

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

ـ 24 ـ

الجزء الأول - البداية الأولى

الحلقة 24




قصدت أن أبرز ما كتبه الأمريكيون بالذات، وهذا لا ينفي أن آخرين كثيرين من دول أوروبية وآسيا وأمريكا اللاتينية قد أدلوا بدلوهم حول ثورة عبدالناصر أيضاً.

ثورة يوليو/ تموز 52 وعبدالناصر في الكتابات الأمريكية بعد خمسين سنة (2000) سأحاول في هذه الفقرة أن أستعرض ما تحت يدي من كتابات استطعت أن أحصل عليها من مئات الكتب، بل الآلاف منها حيث سجلت مكتبة جامعة أوكسفورد من تسعة أعوام أنه كُتب عن عبدالناصر ما يزيد على الثلاثة آلاف كتاب بلغات مختلفة، هذا بخلاف الدراسات والندوات والرسائل الجامعية والمحاضرات والأحاديث في الفضائيات المرئية والمسموعة مما يصعب حصره عملياً، أقول هذا ما استطعت أن أحصل عليه بوسائلي الخاصة لما كُتب عنه بوساطة ساسة وكُتّاب ومفكرين وصحافيين من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، لعلها تفيد الباحثين في إلقاء الضوء على تجربة الرجل الإنسان التي وضعته في دائرة الضوء منذ قيام الثورة أو عقب قيامها بفترة قليلة ومن اليوم وباكر كما هو مرئي ومنتظر.

مع مطلع القرن الماضي كانت ولادة المشروع النهضوي الأول الذي مرّ بمراحل متعددة كانت قمة امتداده وعطائه في الخمسينات وكان جمال عبدالناصر هو ممثله الأهم والأبرز. ففي شخصية عبدالناصر تكاثفت أهم قضايا النهضة:

الوحدة العربية، الصراع العربي - “الإسرائيلي”، السلام، الحياد، التنمية والتحول الاجتماعي، الديمقراطية، نمو المجتمع المدني.

وأهم ما كُتب ومن كتبوا هم:

- الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون في كتبه “القادة” و”الفرصة السانحة” و”نصر بلا حرب”.

- هنري كيسنجر كتب: “سنوات في البيت الأبيض” “White House Years” الجزءان الأول والثاني.

- جون بادو سفير أمريكا السابق في مصر كتب “ذكريات الشرق الأوسط”

“The Middle East Remembered” وهي سلسلة محاضرات لطلبة معهد الشرق الأوسط في جامعة كولومبيا الذي كان يرأسه “ويلبور كرين إيفلاند” كتب “حبال من رمل” “Ropes Of Sand”.

- ستيفنز كتب “حوار حول ناصر”.

- مايلز كوبلاند كتب “لعبة الأمم” “The Game Of Nations”.

- ويلتون وين كتب “ناصر العرب”.

- كيرك ج.بيتي كتب “مصر خلال سنوات ناصر” “Egypt During The Nasser Years”.

- بوب وودوارد كتب “الحجاب” الهدف الشرق الأوسط “Veil”.

- الكاتب سالزبيرجر: “مجموعة مقالات وأحاديث شخصية مع الرئيس”.

- الكاتب روبرت سان جون كتب “الرئيس”

“The Boss”.

- وبالنسبة لعبدالناصر فقد تفاوتت الآراء حوله:

فقد كتب ستيفنز: “لقد كان ناصر أهم رجل أنجبته الصحوة العربية، وكان أحد أقطاب الثورة ضد الاستعمار وهي إحدى الحركات الكبرى في القرن العشرين”.

- وكتب ويلتون وين: “لقد أصبح ناصر زعيماً لكل العرب لأنه يمثل شعورهم اليوم أصدق تمثيل”.

- ووصفه السفير “هنري بايرود” سفير أمريكا في القاهرة خلال الخمسينات “بأنه القائد الوحيد في العالم العربي الذي يمثل الاتجاه الجديد، والذي يمكن لدبلوماسي غربي أن يجري معه مناقشات مفيدة متزنة”.

- ويكتب عن الوحدة العربية فيقول: “إن ناصر لا يسعى للوحدة العربية بل يود أن يرد الصاع صاعين للغرب”.

- وقال: “لا أعرف إذا كان ناصر على حق أم على باطل، لكني أعرف أنه لا بد منه. لو حدث انتخاب حقيقي في سوريا أو الأردن أو العراق لفاز ناصر بنسبة كاسحة”.

- إلا أن نيكسون على الجانب الآخر وصف عبدالناصر بقوله: “إنه سريع الغضب والاشتعال، نافد الصبر، ديكتاتور، تمتلكه المصالح الحمقاء التي سارت به إلى الأبد في طريق المزيد من حاجات شعبه الدنيوية قليلة الشأن”. ويقول: “رأيت الشباب والشيوخ أغنياء وفقراء ينصتون لصوته بنظرات يعلوها الابتهاج الغامر”.

- وعن الوحدة العربية يقول: “لقد أعطى ناصر للمرة الأولى خلال قرون من الزمن لشعبه حكومة من أبناء مصر وسعى في الوقت نفسه لتوحيدها مع أشقائها العرب، وكانت تلك فكرة ثورية تامة مع انها تجذب إلى حد كبير لكنها غير مجدية ولا عملية”. ثم يقول: “بنى ناصر دعوته القومية على أساسين، أولهما: العداء ل “إسرائيل”، والثاني: عدم الثقة بالغرب، وكلاهما عاملان هدامان بدلاً من أن يكونا عاملين بناءين”.

- ويقول: “لقد سعى ناصر دائماً لتحقيق الوحدة العربي ليكون على رأسها، وهو يرى أن القومية العربية تعني ولاء له وعداء للغرب”.

- وقال أيضاً: “تدخل بشكل مكروه في شؤون بلدان عربية أخرى بالإعداد للانقلابات وحياكة المؤامرات وأعمال الاغتيال! (هكذا)، وأولع نيران الثورات وغاص عميقاً في الحرب الأهلية في اليمن..”، وكتب أيضاً يقول: “إن ناصر يهدد موارد دولته النادرة لخدمة مغامراته في الخارج لدعم موقفه المتشدد من أجل محاربة “إسرائيل””.

وكتب يقول: “لقد وضع ناصر بلاده في صنارة في يد موسكو. وكان نظام حكمه استبدادياً قاسياً غير انه كانت لقسوته ليونة لأنه كان قائداً ثورياً محبوباً”.

- “كان ناصر قائداً عاطفياً قادراً على الرؤية داخل قلوب شعبه.. وقد سبّب موته المفاجئ نار الأسى ومظاهر الحزن التي لم يشهد العالم لها مثيلاً”.

- وكيسنجر يرى عبدالناصر في كتاباته: “عنيد يفاخر بعناده ويراه أساسياً في سبيل توحيد العرب، ولأجل ذلك كان يرى نفسه مجبراً دوماً على معارضتنا”.

- وعن الوحدة العربية يقول: “إن فكرة الأمة العربية هي مجرد تفكير رمزي، ورؤيا شبه نبوية، وحلم يستلهم من المؤمنين الحقيقيين أعمالاً بطولية، لكنها نادرة التحقيق..”.

- وكتب أيضاً يقول: “إن ناصر لم يعرف كيف يوفق بين الطموحات الدولية التي يمارسها وحدسه الذي كان يظهر له أن لدى مصر وسائل محدودة في سبيل تحقيقها”.

- وكتب يقول: “كان السوفييت يعتبرون ناصر أداتهم الرئيسية في الشرق الأوسط”.

- و”مايلز كوبلاند” يقول عن عبدالناصر: “إنه لا يتصرف بداعٍ من الحقد أو الهوى أو غير ذلك من الدوافع الدنيا. إنه من أكثر الزعماء جرأة، لا يقبل الرشوة، لكنه لا يؤمن بعلم الأخلاق. متعصّب للمبادئ على طريقته الخاصة، لكنه ميّال للخير العام والإصلاح الاجتماعي، وما أظن أنني التقيت من الزعماء من يفوقه في ذلك”.

وعن الوحدة العربية يقول: “إن ناصر أراد من الوحدة العربية إذلال كل من أذلّ العرب وسعى حثيثاً لتقوية أسطورة الوحدة العربية ليحاصر الحكام العرب ويضعهم تحت نفوذه”.

وقال أيضاً: “يقول السفير بايرود إن معظم رجال السياسة الأمريكيين الذين أتيح لهم الاحتكاك بناصر كانوا يوقنون أنه لا يطمح في حكم العالم العربي أو الإسلامي. وأن ناصر يعتقد منذ البدء أنه لا يمكن حمل أي فرد أو مجموعة أو أمة على فعل شيء باتباع أساليب الترغيب والترهيب، وإنما بخلق ظروف معينة تحمل الموجود في خضمها على أن يطالب بفعل ذلك، فرغبات الجماهير ومتطلباتها هي التي تحفز على التحرك وليست رغبات قائدها أو حاجاته. إننا لن نواجه أي متاعب مع ناصر لو أنه يهتم بشؤون بلاده فقط ويقلع عن التدخل في أمور الدول الأخرى”.

ويقول: “إن من أهم أسباب غضب العرب اعتقادهم أننا كنا نساعد الصهيونية -وهذا صحيح مهما كان المبرر لذلك- ومن ثم “إسرائيل” بشكل مفضوح لا تحرج فيه، حيث موقفنا المؤيد للصهيونية لا مفر منه”.

وقال: “لقد أدركنا استحالة قيام انقلاب يجعل منه سوكارنو آخر.. فناصر لن يسقط بتذمر أو شكوى، ولن يتقوّض نظامه وينهار إلا بضربة عنيفة مدوية”.

وقال: “مجتمع الكفاية والعدل مجتمع الكل للفرد، والفرد للكل لا وجود له إلا في جزيرة الأحلام”.

وكتب يقول: “إن العرب يرفضون المنطق والقيم الغربية رغم تأخرهم وحرمانهم وعدم امتلاكهم أحسن منها للتمسك بها..”.

ويقول على لسان “كيرمت روزفلت”: “إن الوزير دالاس يعتبر كل عمل لا يتفق مع سياسته عملاً غير أخلاقي، لذلك اعتبر حياد ناصر عملاً غير أخلاقي بينما حياد تيتو هو عمل أخلاقي، وأن اعتراف ناصر بالصين الشيوعية عمل غير أخلاقي بينما سكت عن اعتراف بريطانيا و”إسرائيل” بها. وإن أي فحص لوثائق وزارتي الدفاع والخارجية والمخابرات المركزية تظهر مثاليتنا في العلن وانتهازيتنا في السر. إن ما هو خير للولايات المتحدة فهو خير للعالم أجمع حسبما يقول الوزير دالاس”.

أما “ستيفنز” فقد كتب يقول: “إن ناصر لا يلقي اهتماماً بأية وحدة عربية إلا في إطار الحاجة إلى سياسة موحدة ضد الغرب”. وقال عن عبدالناصر: “لقد كان ناصر أهم رجل أنجبته الصحوة العربية، وكان أحد أقطاب الثورة ضد الاستعمار وهي الحركات الكبرى في القرن العشرين”.

وقال: “إن علاقة ناصر مع الاتحاد السوفييتي يحكمها صراعه مع “إسرائيل””.

كما يقول: “إن تحدي ناصر للنفوذ الأمريكي في أهم معاقله -الجزيرة العربية- أحد أهم العوامل التي أدت إلى كارثة 1967 في الحرب مع “إسرائيل””.

وقال بعد ذلك: “ربما كان أهم تراث خلّفه ناصر للعرب هو الثقة في القدرة على مواجهة العالم المعاصر، والسير نحو الهدف لتحقيق المجتمع الذي كان يحلم به..”.

وكتب يقول: “لقد كان ناصر دائماً في الوسط بين روسيا وأمريكا، بين اليمين واليسار، الوطنيين المصريين والقوميين العرب.. واستطاع أن يوازن بين الجميع”.

ويقول إيفلاند: “من الصعب أن يتخيّل المرء كيف يمكن أن يحقق ناصر الوحدة العربية من دون أن يتمتع بدراية كافية عن أحوال الدولة العربية، ومن دون أن يمتلك شعوراً بالمحبة والعطف تجاهها”.

كما قال أيضاً: “لا بد من منح مساعدات مالية كبيرة حالاً لعملائنا في لبنان والشرق الأوسط، لأننا لا نستطيع أن نتصدى لشعارات ناصر القومية من دون صرف مبالغ كبيرة. لقد تدخلت الولايات المتحدة الأمريكية في سوريا، إنما بصورة مفضوحة مضحكة تدل على حماقة متناهية لمنع قيام الجمهورية العربية المتحدة، وتأكدت أن كيم روزفلت حاول أن يقوم بانقلاب جديد..”.

ويقول: “إن الوزير دالاس غضب غضباً شديداً من قرار ناصر بالانضمام إلى دول الحياد. وإن على الرئيس المصري أن يفهم أن الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تكون قاسية جداً.. وعلى ناصر أن ينتبه فقط لمشاكله الداخلية الخاصة”. كما نقل على لسان عبدالناصر قوله: “إن عدونا هو “إسرائيل” وليس الاتحاد السوفييتي الذي يبعد عن حدودنا بآلاف الأميال، أما “إسرائيل” فهي التي تربض على حدودنا”.

ويقول: “إن لقد فسّر معظم سفرائنا في الشرق الأوسط شعور العرب المعادي للغرب بأنه من فعل تآمر شيوعي، والقليل منهم فقط عزوا ذلك إلى تعاملنا مع قضية العرب و”إسرائيل”.

كان دائم الاستخدام لإثارة العواطف ضده في الغرب بالأخص بعد كسر احتكار السلاح وتأميم القناة وتشبيهه بهتلر متجاهلين التقارير الواقعية التي يبعثها المراسلون الموجودون في المنطقة”.

وعلى لسان “ويلتون وين” يقول: “إن مواقف الغرب كانت طيبة منه حتى اشترى الأسلحة من الشيوعيين، فانقلبت وصبّ جامّ غضبه عليه، وإنه كثيراً ما كانت الصحف الغربية تزوّر الحقائق متعمدة وبخاصة الإنجليزية إبّان أزمة السويس”. كما يقول: “على لسان مساعد وزير الخارجية الأمريكية السابق “انجلتون” إن ناصر كان مسؤولاً عن كل مشكلات الغرب في المنطقة. وليس من المستطاع إزاحته إلا بهزيمة عسكرية للجيش المصري وعندها سيبقى العرب بلا خيار سوى السلام..”.

وقالها صريحة بعد ذلك: “لقد تدخلت الحكومة الأمريكية بشكل سري في حرب 1967. وبإمكاني جمع عدد كبير من الدلائل وكلها تشير إلى التشجيع والتورط الأمريكي في الهجوم “الإسرائيلي”. لقد فوجئنا بأن العرب حتى بعد الهزيمة النكراء التي حلّت بهم ما زالوا يتحدثون بلهجة القوي المنتصر. ويتساءل: هل ربحت “إسرائيل” الحرب؟ ويورد جوابه بشكل غير مباشر على لسان المحلل الاستراتيجي “أندريه بوفر” الذي يعرف النصر بأنه: إما تحطيم العدو تماماً أو أن تجعله في موقف يقبل ما تمليه عليه من الشروط. فيقول: “إذا ما أخذنا بهذا التعريف نجد أن “الإسرائيليين” لم ينتصروا حقاً حينما نراقب الكلام الذي جرى بينهم وبين العرب في أعقاب الحرب.. إن موقف ناصر في بلاده أصبح أشد صلابة من موقفه لو لم تقع الحرب”.

ثم يقول بعد ذلك: “لقد كان أول قائد مهزوم يلقى التأييد الجماهيري، وبخاصة في السودان، حيث تمكّن من فرض لاءاته الثلاث!!”.

وقال: “لقد امتلأت البيوت والمحال في الأردن ولبنان بصور ناصر حتى ان كميل شمعون والملك حسين كانا يشعران بغيرة وحنق شديدين”.

ويقول مدير المخابرات المركزية الأمريكية الأسبق “يوجين جوستين” في كتابه “التقدم نحو القوة”: “مشكلتنا مع ناصر أنه بلا رذيلة، مما يجعله من الناحية العملية غير قابل للتجريح، فلا نساء ولا خمر، ولا مخدرات، ولا يمكن شراؤه أو رشوته أو حتى تهويشه. نحن نكرهه ككل، لكننا لا نستطيع أن نفعل تجاهه شيئاً، لأنه بلا رذيلة وغير قابل للفساد..”.

الكاتب الأمريكي “سالزبرجر” كتب مقالاً في جريدة “النيويورك تايمز” في سبتمبر/ أيلول 1970 عقب رحيل جمال عبدالناصر جاء فيه ما يلي:

“ليست لدى عبدالناصر خطوط مفروضة على تفكيره أو موضوعة مقدماً، لكنه يدير أموره حسب الظروف المحيطة به. وهو شخصية عالمية تتسم بخيال خصب مقرون بشعور عاطفي. إن هذا المصري جمّ النشاط يعيد إلى ذاكرة العرب ملايين العرب في هذا الزمن القائد البطل صلاح الدين الأيوبي الذي ظهر كأسطورة في قلب الصحراء منذ نحو 800 سنة ليهزم ريتشارد قلب الأسد والصليبيين.

والواقع أنه لم تظهر شخصية عربية تمتعت بحب الجماهير في الشرق الأوسط مثل شخصية جمال عبدالناصر الذي تتطلع بلاده إلى القيام بالدور الحائر الذي يبحث عن بطل في الشرق”.

السير “رونالد ليند ساي” سفير بريطانيا في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1932 قال: “إنني أعلم أن الأمريكيين شعب مخيف إذا تعاملت معه، إنهم يقدمون لك دعوات قاطعة ويمنونك بالأحلام وعندما تتورّط يتخلون عنك”.

أما جون بادو السفير الأمريكي السابق في القاهرة (1961-1964 مستقيلاً) فقد ألّف كتابه القيم سنة 1983 “ذكريات الشرق الأوسط” “The Middle East Remembered” بعد رحلة عمل في المنطقة امتدت منذ سنة 1928 حتى نهاية الستينات -ولقد كنت على علاقة صداقة معه طيلة فترة عمله سفيراً لبلاده في القاهرة وكان رجلاً أكاديمياً ولا يميل إلى المراوغة أو الخداع كما لم يكن يميل إلى التعاون مع رجال المخابرات المركزية الأمريكية، وقد ذكرها لي صراحة، لأنهم كما قال يخرّبون ما يقدمه من اقتراحات لتدعيم العلاقات بين بلاده ومصر- وهو من أهم الكتب الأمريكية التي تناولت ثورة يوليو/ تموز وعبدالناصر وكان أهم ما جاء فيه النقاط التالية: “وحينما صدرت القوانين الاشتراكية وكنت سفيراً للولايات المتحدة الأمريكية في القاهرة، ثارت ضجة حولها فقررت تكوين فريق عمل من رجال السفارة لدراستها بدقة، وانتهينا إلى أن حجم القطاع العام الجديد في مصر أقل منه في “إسرائيل” وفي الهند وفي فرنسا وفي بريطانيا بل وفي الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وأنه لا يصادر القطاع الخاص أو يغلق الطريق أمامه، بل على العكس سوف يحفزه ويدفعه للمنافسة في ظل اقتصاد مختلط كما حدث في هذه الدول”.

ويقول السفير “بادو” أيضاً: “ولمزيد من الاطمئنان من جانب واشنطن، فقد أوفد الرئيس جون كينيدي مبعوثاً خاصاً هو الدكتور إدوارد ماسون أستاذ الاقتصاد المشهور وبعد أن قام بدراسته المفصلة للقوانين وللأوضاع في مصر، قدّم تقريراً يتلخّص في أنه لم يكن أمام ناصر طريق آخر أو أفضل”.

ويقول أيضاً: إن تعيينه سفيراً في القاهرة، كان نتيجة لسياسة جديدة لجون كينيدي تجاه عبدالناصر، والذي قال له قبل أن يغادر إلى القاهرة: إن هناك ثلاث دول مهمة في العالم الآن -وهو أي كينيدي- يريد أن يبدأ صفحة جديدة من العلاقات معها، وإنه اختار ثلاثة سفراء له في هذه الدول من خارج السلك الدبلوماسي حتى لا يكونوا مرتبطين بمواقف تاريخية سابقة للعلاقات الأمريكية معها، وإن في مقدمة هذه الدول مصر ثم تأتي الهند واليابان.

وكان من أهم الأسس الجديدة التي سنّها كينيدي في علاقته مع عبدالناصر هو أن يثبت احترام الإدارة الأمريكية للقيادة السياسية في مصر، ومن هنا أصبحت الرسائل وإيفاد المبعوثين الشخصيين هي سياسة مقررة ومتبعة في تلك المرحلة ليكون عبدالناصر على علم بكل الخطوات المتعلقة بالشرق الأوسط بما فيها ما يتعلق بالعلاقات بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، وهي كما يعرف الجميع علاقات خاصة جداً، والمثل الحي على ذلك ما تم بالنسبة لصفقة الصواريخ الهوك سنة ،1962 وبالرغم من الظروف الداخلية الصعبة في الكونجرس والضغوط “الإسرائيلية” إلا أن كينيدي أصرّ على إيفاد مبعوث شخصي لإبلاغ عبدالناصر بظروف وأسباب إتمام هذه الصفقة وذلك حرصاً منه على استمرار العلاقات الطيبة التي كانت قد بدأت تؤتي ثمارها بين الرجلين وبالرغم من أن عبدالناصر غضب من إتمام هذه الصفقة وشنّت الصحافة وأجهزة الإعلام المصرية هجوماً عنيفاً عليها، فإن عبدالناصر أبدى تقديره الشخصي لقرار كينيدي بإطلاعه على هذه الخطوة تفصيلاً. كما حدث الشيء نفسه عندما قرّر كينيدي معاودة إجراء التجارب النووية، فقد حرص على إبلاغ عبدالناصر بهذا القرار قبل تنفيذه بيومين.

يقول “جون بادو” إن سياسة كينيدي هذه كانت تلقى معارضة من القوى المؤيدة ل “إسرائيل” داخل دوائر الإدارة الأمريكية ويضرب المثل على ذلك بقوله إن إيفاد المبعوث الشخصي حول موضوع صفقة الصواريخ “الهوك” لم يقرأ عنها شيئاً في واحدة من الصحف الأمريكية. كما ظل الكثيرون من العاملين في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية يتعاملون مع عبدالناصر باعتباره شيوعياً أو أداة للشيوعية، وهكذا فإن برنامج معونة القمح لمصر والذي زاد بشكل كبير في عهد كينيدي حتى أصبحت هي أكبر صفقة قمح أمريكية بعد صفقة الهند وجدت معارضة داخل الكونجرس والمخابرات المركزية خاصة بعد عمليات التأميم التي حدثت في مصر في ذاك الوقت ودعت بعض رجال الكونجرس إلى انتقاد تقديم المساعدات “للاشتراكيين والشيوعيين”، وذلك بالرغم من أن هذه الصفقة لم تكن تكلف الولايات المتحدة شيئاً، حيث كانت كلها مواد غذائية زائدة على الحاجة. وقد أجرى بادو في تلك الفترة دراسة دقيقة عن الاقتصاد المصري وكانت نتيجة ما وصل إليه هو أن 18% من القوى الإنتاجية المصرية هي التي تم تأميمها، ثم قارنت الدراسة هذه النسبة مع مثيلاتها في بعض الدول الأخرى من حلفاء واشنطن، فوجد مثلاً أن القوى الإنتاجية للقطاع العام في “إسرائيل” تبلغ نحو 30% وفي الصين الوطنية نحو 25%، ويقول السفير بادو: “على أن أفضل ما وقعت عليه أعيننا كان مثال الولايات المتحدة نفسها حيث 29% من القوى الإنتاجية تخضع للإشراف الحكومي بشكل أو بآخر”.

ويقول في مكان آخر إنه عندما زاره أحد أعضاء الكونجرس وسأله: لماذا لا نحصل على عائد سياسي لمساعداتنا الغذائية لمصر؟ ردّ عليه “بادو” قائلاً: “وما هو العائد الذي تتصوّره؟”. فقال: “ليس أقل من الاعتراف ب “إسرائيل” فمن دون سلام مع “إسرائيل” يجب أن تقطع هذه المساعدات”. فسأله بادو: “وكم من الأموال أيها السيناتور تتصوّر أنه يجب أن تدفع الولايات المتحدة لكي تغير سياستها تجاه الصين الشعبية؟” فردّ السيناتور قائلاً: “لا تكن أبله، فمال الدنيا كله لا يكفي ليجعلنا نغير سياستنا”. فقال بادو: “ولماذا تتصوّر إذن أن المصريين يمكن أن يغيّروا سياستهم مقابل المال أو الجشع؟!”.

وعن شخصية جمال عبدالناصر يقول السفير بادو: “إنه كان رجلاً تشعر على الفور وبمجرد جلوسك إليه بقدراته القيادية غير العادية، وقد كانت أفكاره واضحة لا غموض فيها، كان دائماً واثقاً في نفسه وهو يتعامل مع قوة عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، لا يخالجه أدنى شك في عدالة قضيته”.

ويقول حول الأزمات التي مرّت بمصر مثل الانفصال السوري وحرب اليمن، إن عبدالناصر لم يكن في أي وقت من تلك الأوقات متوتراً أو عصبياً أو منفعلاً، وإنما كان يبدو هادئاً رصيناً يختار كلماته الإنجليزية بعناية، ولا يفوته أن يظهر الودّ لمحدّثه. وقال بوضوح وصراحة: إن الصورة التي كان يحلو لأعداء عبدالناصر أن يرسموها له كانت صورة زائفة تماماً.

ووصف “بادو” أول لقاء بينه وبين عبدالناصر عندما كان رئيساً للجامعة الأمريكية وكان في قاعة إيوارت حيث كان محمد نجيب يلقي محاضرة عن الثورة. ويقول “بادو” إنه شعر على الفور بأن “نجيب” رغم موقعه الرئاسي وشعبيته في ذاك الوقت، ليس هو القوة المحركة لدفة الأمور، وإن مجموعة الثوار الحقيقية هي تلك التي كانت تضم الضباط الشبان مثل زكريا محيي الدين وأنور السادات وغيرهما، وأنه في قلب هؤلاء كان جمال عبدالناصر هو القائد الحقيقي. وأضاف انه عندما تعرّف إلى جمال عبدالناصر في تلك الفترة وجده خجولاً بعض الشيء يميل إلى الصمت أكثر من الكلام، ويقول بادو صراحة: “والحقيقة أنه لم يثر اهتمامي على الإطلاق في هذا اللقاء الأول، لقد كان له حضور لا يمكن إنكاره، لكنه لم يكن يتحدث كثيراً، وحتى حين عرفته أكثر بعد ذلك كان صامتاً إلى أن جاء وقت الكلام فصار رجلاً مختلفاً تماماً”.






الخليج الإماراتية
27.10.2003

..............."

إنتهى نقل هذا الجزء

يحى الشاعر

- يتبع -


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's
زيارتكم هى رقم

Web guest

Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US