![]() |
المقاومة الفلسطينية..
معركة عبدالناصر الأخيرة
سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف
ـ 14 ـ
الجزء الأول - البداية الأولى
الحلقة الرابعة عشر
..............."
إنتهى نقل هذا الجزء
يحى الشاعر
- يتبع -
لقد انحازت ثورة 23 يوليو/تموز 1952 بقيادة جمال عبدالناصر إلى قضية الشعب الفلسطيني قبل الثورة بخمس سنوات فقد قررت اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار مساندة حركة المقاومة العربية في فلسطين، فاختارت بعض أعضائها كمتطوعين وانضم بعضهم من دمشق إلى جيش الإنقاذ الفلسطيني بقيادة فوزي القاوقجي. وقال جمال عبدالناصر يومها:”لو فرض القتال في فلسطين فإن ذلك لن يكون حربا في أرض غريبة بل هي واجب مقدس للدفاع عن النفس وعن مصر. وعندما شاركت القوات المصرية سنة 1948 في حملة فلسطين كان هناك الكثير من الضباط الأحرار الذين تأثروا باستهانة الحكومة في الإعداد للحرب وسوء التنظيم والإدارة والفساد في التسليح والمعدات وكانت هذه الحرب بمثابة تجربة هائلة للجيش الذي عاد ليصحح أوضاع الوطن من جذورها ومن قلب الأمة العربية، من القاهرة.
وفي منتصف الستينات حرصت مصر الثورة على إبراز الكيان الوطني الفلسطيني بدعم ومساندة منظمة التحرير الفلسطينية بدءا من دعوتها للقمة العربية في يناير/كانون الثاني 1964 في القاهرة، مرورا بمساندتها لقيام جيش التحرير الفلسطيني وبعد ذلك دعمت الثورة الفلسطينية على امتداد تاريخ طويل لم تنته فصوله.
ووضع الرئيس جمال عبدالناصر -بصفة خاصة- المقاومة الفلسطينية في موقع مهم في استراتيجيته للتصدي للعدوان “الإسرائيلي”، وفي تقدير الموقف الذي وضعه في أوائل يوليو/تموز 1967 وسبق الإشارة إليه أكد أن العمل الفدائي الفلسطيني هو أحد العناصر الرئيسية في المواجهة. وتنفيذا لذلك فقد عمد إلى احتضان هذه المنظمات وكان يلتقي بقادتها دون ما أن يفرق بين ميولهم أو اتجاهاتهم السياسية أو العقائدية، بل كانت نظرته في التعامل معهم كلهم باعتبارهم يمثلون المقاومة ورفض الاحتلال وبالتالي فهم في وضع شرعي بالنسبة للمجتمع الدولي قبل أن يكونوا أصحاب قضية حق بالنسبة للعالم العربي الذي احتضن عناصر المقاومة راضيا ومشجعا سواء كان بهدف مبدئي أو أخلاقي كما فعلت مصر أو لأسباب أخرى كالاحتواء مثلا لذلك فقد عمد الرئيس عبدالناصر إلى اصطحاب أبو عمار (ياسر عرفات أو عبد الرؤوف القدرة) رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في أول زيارة له لموسكو بعد وقوع العدوان وكان ذلك عام 1968 حيث قدمه للقادة السوفييت، وكان لهذا اللقاء تأثيره الضخم في توفير دفعات قوية للمقاومة على الصعيدين السياسي والعسكري .
كما سعى الرئيس عبدالناصر لتنظيم العلاقة بين الحكومة اللبنانية والوجود الفلسطيني في لبنان حتى تم توقيع اتفاقية القاهرة عام 1969 والتي كانت توفر حماية كاملة للعمل الفدائي الفلسطيني ضد “إسرائيل” من الأراضي اللبنانية وظلت هذه الاتفاقية سارية حتى قامت الحكومة اللبنانية بإلغائها في العام 1987. أما على الساحة الأردنية فقد كان جهد مصر متواصلا لتأمين حرية المقاومة الفلسطينية في العمل من الأراضي الأردنية مع الحرص في الوقت نفسه على عدم تجاوز السيادة الأردنية على أراضيها بأي حال من الأحوال، ومع ظهور أي خلافات مع السلطة الأردنية كان الرئيس جمال عبدالناصر يعمل على تحجيمها ومحاولة إقناع الملك حسين بتجنب التصرف بعنف ضد المقاومة فقد كانت العلاقات بين الطرفين مشحونة بالفوران والصدامات، تهدأ أحيانا، وتفور وتثور في أغلب الأحوال، وقد تفجر الصدام بينهما في شهر يونيو/حزيران 1970 وجرى تبادل إطلاق النار بين الطرفين وسقط عشرات القتلى والجرحى نتيجة لذلك، ولم تتم السيطرة على الأحداث إلا بعد عقد لقاء مباشر بين الملك حسين وأبو عمار.
وحاول الرئيس جمال عبدالناصر التدخل مرة أخرى لاحتواء التوتر والحيلولة دون تفجر الموقف وفي يوم 21 اغسطس/آب 1970 وصل الملك حسين إلى الإسكندرية في زيارة كان الموقف من المقاومة الفلسطينية هو موضوعها الرئيسي، وبالطبع تم بحث التطورات المتعلقة بالأزمة مع إسرائيل ككل وما أعقب قبول مبادرة روجرز من تطورات، وفي الاجتماع الذي عقد بين الرئيس عبدالناصر وحسين قام كل طرف بشرح رؤيته بصراحة تامة وأعرض فيما يلي ملخصاً لمحضر هذا الاجتماع فهو وحده الذي يوفر الصورة كاملة. .
الرئيس جمال عبدالناصر، رحب بالحاضرين، ثم قال:
“إننا في الجمهورية العربية المتحدة لا ننسى موقف الأردن في يونيو/حزيران 1967 عندما دخلتم الحرب معنا.. ولو أنني كنت غير راغب في نفس الوقت بإقحام الجيش الأردني في الحرب.. ولو كانت سمحت الظروف لي في تلك الأيام لكنت رفضت إشراك قواتكم في العمليات مثلما حدث خلال حرب .1956. عموما هذا التحرك منكم لا ننساه ونعيه في مصر وعيا تاما. لقد اشترك الأردن في الحرب من أجلنا مثلما اشتركنا في هذه الحرب من أجل سوريا.. وبالتالي يصبح من الوجهة العملية أن الأردن دخل الحرب من أجل سوريا.. ولكن نؤكد أن شعبنا في مصر لا ينسى ما تحمله شعب الأردن من أجله”.
-الملك حسين:
“نحن لم ندخل الحرب إلا تلبية لواجبنا.. وما تمليه المسؤولية العربية علينا، وهي مسؤولية واحدة ونحن في الأردن نقدر زعامتك ومواقفك الوطنية التي تعبر عن شعور كل عربي أصيل تعبيرا صادقا. والمهم الآن هو أن نبذل أقصى جهدنا ونزيد من تعاوننا ونزيد من ثقة كل منا في الآخر .
وسأعرض عليكم مشكلاتنا السياسية والعسكرية لنجد معا الحل المناسب لها”.
- عبد المنعم الرفاعي:
(وزير خارجية الأردن، بناء على إيماءة من الملك ليتكلم ): '' نحن في الأردن نفتقر إلى وضوح الرؤية بالنسبة للموقف السياسي في الوقت الحاضر. ورغم أننا تقدمنا خطوات على الطريق إلا أننا لدينا بعض التساؤلات نريد قدرا من الوضوح بشأنها وهي:
* هل حدث اتفاق سياسي أخيرا بين روسيا وأمريكا؟
* هل هناك تصور لدى الاتحاد السوفييتي عن كيفية حل المشكلة؟
وعلى ضوء الإجابة عن هذين السؤالين أعتقد أنه يمكننا كعرب تحديد خطواتنا السياسية المقبلة إذ أن الواضح لنا من سياسة ومواقف أمريكا والاتحاد السوفييتي أو حتى الدول الكبرى جميعها أنها غير جادة في إيجاد الحل السياسي للقضية رغم مضي شهر من موافقتنا على مبادأة روجرز.. لهذا نحن في الأردن أوقفنا أخيرا خطنا الإعلامي عن المبادأة. والواضح لنا أيضا أن المشكلة ليست رهن إرادتنا فقط، وإنما رهن قوى أخرى عديدة بحيث أصبحنا غير قادرين على تحديد سياستنا العربية”.
- الرئيس جمال عبدالناصر:
“طبعا الموضوع معقد كثيرا وليس سهل الحل، وإنما أساس المشكلة هو أن هناك تفوقا عسكريا “إسرائيليا”، وفي نفس الوقت هناك تفكك عربي.. فمثلا إذا حسبنا حجم وقوة جيوش الدول العربية نجد أنفسنا متفوقين على “إسرائيل”، ولكن نحن عدة جيوش وعدة قيادات، بينما هم جيش واحد وقيادة واحدة، بالإضافة إلى أن هناك بيننا من يريد أن يتجاهل الاشتراك أو المساهمة الإيجابية في المعركة بحجة أن فلسطين من مسؤولية الفلسطينيين فقط.. عامة، إحنا خطتنا الإستراتيجية في مصر الآن هي كما يلي:
العمل على إزالة آثار العدوان وتحرير الأرض العربية المحتلة مع عدم التنازل عن أي شبر منها بما في ذلك القدس.
تنفيذ قرارات مجلس الأمن بشأن فلسطين.
بالنسبة للإعداد العسكري، فإننا نعمل على بناء قواتنا المسلحة لتصل إلى مليون مقاتل.. وفعلا ستصل قواتنا خلال شهر ديسمبر/كانون الأول إلى ثلاثة أرباع مليون مقاتل.
من هنا كان عبور القناة وتحرير سيناء ليس هدفا وإنما واجب علينا..
أما عن العمل السياسي فقد هاجمني البعض في تحركي السياسي الأخير متسائلين: كيف لنا أن نقبل وجود “إسرائيل”؟ علما بأن الجميع يدركون تماما أننا كعرب سبق أن وافقنا على وجود “إسرائيل” في اتفاقية عام ،1949 وقد سبق أن قلت لكم (للملك حسين) أن تذهب لأمريكا وترجو جونسون أن يعيد الضفة الغربية، ولكن أمريكا تجاهلتكم لأن لديها ما هو أهم من ذلك، وهو رغبة حليفتها “إسرائيل” في ضم أراض عربية جديدة إليها...
وفي رأيي أن نجاح الحل السلمي ما زال بعيدا، والأمريكان ناس كدابين، ولكن رغم ذلك قبلنا المبادأة السياسية الأخيرة لسبب رئيسي وهو أن نستكمل إعدادنا العسكري، وأن ننتهي من التحضيرات اللازمة لخطتنا العسكرية، لأننا في الآخر إحنا حانحارب.. وقد وافقت على هذه المبادأة اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي ثم اللجنة المركزية ثم المؤتمر القومي بعد حوار طويل وعن قناعة تامة.
طبعا ثقتي في الولايات المتحدة الأمريكية ضعيفة، ولكن يحتمل ولو بنسبة نصف في المائة أن تكون هناك لعبة دولية قد تؤثر في حل المشكلة لمصلحتنا...
أما عن سؤال الأخ عبد المنعم الرفاعي عن احتمال وجود اتفاق بين روسيا وأمريكا بشأن قضيتنا.. فالإجابة: لا.. ليس هناك وجود لمثل هذا الاتفاق، كما أننا نسجل بكل تقدير مساعدة الروس لنا ومشاركتهم العسكرية معنا بشكل إيجابي. ولهذا قررنا في مصر أنه عندما نخرج من هذه الأزمة سنقيم للشعب السوفييتي نصبا تذكاريا تخليدا لمساعدتهم ووقوفهم الصريح معنا. وعن السؤال الثاني بتاع الأخ عبدالمنعم الرفاعي، وهو هل لدى الروس تصور ما لحل القضية؟
فالإجابة أن الروس يتحركون الآن بناء على الحوار معنا، وبعد موافقتنا على كل خطوة، كما أن الروس يرفضون ما نرفضه ويوافقون على ما نوافق عليه. أما عن السؤال الأخير، هل هناك حل متفقون عليه مع الروس؟
الإجابة أيضا، لا.. قد نكون متفقين معهم على أهمية الحل السلمي، ولكن كل واحد منا ينظر إلى هذا الحل من زاويته الخاصة. إننا نرى أن الحل السلمي بعيد جدا، ولابد أن نصمد اكثر وأكثر، ولابد أن يشعر الأمريكان أن يدهم ليست مطلقة الحركة في الموقف العربي .
أما عن تحرير فلسطين فإني أعتقد أنه لن يتم في ستة أيام ولا في ست سنين... إذن مين اللي سيحرر من النهر إلى البحر ؟ وفي كام سنة ؟ هذه أمور لابد من توضيحها إلى جماهيرنا العربية بصراحة تامة .
أنا أعتقد أن علينا الآن واجب أن نزيل آثار العدوان ونعيد الأرض العربية التي احتلها اليهود، ثم بعد ذلك من الممكن أن نناضل تحت الأرض لتحرير فلسطين... لتحرير حيفا.. وتحرير يافا .
وعن موقف المقاومة الفلسطينية.. أنا قابلت قيادات المقاومة وقلت لهم إن من حقكم أن ترفضوا مبادأة روجرز وأن ترفضوا الحل السلمي، حتى لو وافقت عليه جميع الدول العربية لأنه من حقكم كفلسطينيين أن ترفضوه. أما عن موضوع “إذاعة صوت فلسطين” فلم يكن في نيتي أصلا قفله رغم هجومهم اليومي علينا بالإذاعة وخاصة إذاعة القاهرة. ولكن ما حدث هو أننا استمعنا إلى برقية مرسلة من قيادتهم لفرعهم في القاهرة تطلب منهم التوسع في مهاجمتنا من إذاعة القاهرة مع المزيد من سبنا وتوجيه الشتائم إلينا، على أساس أنهم تصوروا أننا سنخاف من التعرض لهم. طبعا كان تصورهم خطأ وتقديرا غير سليم. أعود لأقول إنه من حقهم أن يرفضوا المبادأة، وأن يرفضوا أي تحرك سلمي، ولهذا أرجو من الملك حسين ألا يهاجمهم أو أن يعمل ضدهم، كما أرجو أن يحول دون تشنج بعض المسؤولين الأردنيين ضد المنظمات الفلسطينية لأن المستفيد في هذه الحالة هو العدو.. “إسرائيل”...
جلالة الملك أرجو أن تأخذهم بالصبر حتى ولو غلطوا وذلك من أجل شعبكم ومن أجل الشعب الفلسطيني ولا تنس أن سيدنا أيوب كان من سكان نهر الأردن... ولهذا أنا باعتقد أنك حاتكون أقدر على حسم الأمور باتزان وحكمة رغم وجود بعض المتطرفين الفلسطينيين، وإنما في نفس الوقت توجد بينهم أيضا عناصر كثيرة متزنة.. عامة أرجو أن نتشاور دائما في هذا الموضوع لأني باعتبره أهم موضوع عربي في الوقت الحاضر . كما عليكم أن تختاروا قيادات أردنية تحوز ثقة الفلسطينيين مثل الدكتور النابلسي والمهم أن نستمر في التحاور بشأن هذا الموضوع ولا ننفعل أو نخطئ الخطوات وأنا مستعد دائما لأن أستقبل أي مندوب عنكم للتشاور معه بشأن موضوعات المقاومة .
وقد أبلغني أخيرا الأخ فاروق أبو عيسى من ثورة السودان أنه اجتمع مع اللجنة المركزية لمجموعة حواتمة وكان حديثهم معه معقولا وبنّاء.
توصية أخيرة هي أن تتعاملوا في هذا الموضوع بالعمل السياسي وليس بالعمل البوليسي وهذا ليس معناه عدم الوقوف سلبيا ضد العناصر الفلسطينية السيئة أو الانتهازية، ولكن هذا يتطلب منكم القيام بتحرك سياسي ضخم.. آسف أني تحدثت معكم في شؤونكم الداخلية، ولكن لسبب بسيط وهو أن أي ضربة عندكم ستكون لها ردود فعل عديدة على جبهتنا”. -الملك حسين:
“سيادة الرئيس.. عن صبر أيوب فهذا شعار سياستنا منذ أمد طويل، ولكن هناك ولا شك للصبر حدود.. إن وجود منظمات المقاومة على أرضنا نقل إلينا كل التناقضات الموجودة في العالم العربي، كذلك فإن المتاجرة بشعار” من النهر إلى البحر “هو عملية مغرضة القصد منها نسف ما هو باق لدينا من إمكانيات عربية لتحرير أراضينا. والملاحظ أن العمل ضدنا من أفراد المقاومة يتزايد يوما بعد يوم محاولين إثارة الشك والبلبلة في صفوفنا، حتى داخل القوات المسلحة الأردنية... ولكن الحمد لله فالوحدات العسكرية مازالت سليمة حتى الآن .
إن الاستفزازات من أفراد المقاومة للسلطة الأردنية لا حدود لها، ومن الممكن إن سمح وقتكم أن أحكي لكم العديد من القصص والاستفزازات التي تتعرض لها سلطاتنا المحلية في المدن والقرى يوميا.. وعلى سبيل المثال وليس على سبيل الحصر، تسير سيارات المقاومة في المدن والطرقات دون أن تحمل أي أرقام أو علامات مميزة.. وبذلك يستحيل على السلطة المحلية أن تقوم بواجبها عند حدوث اصطدام أو وفاة أو إصابة لأي من المدنيين الأبرياء، قصة أخرى حدثت أخيرا فقد أطلق بعض أفراد المقاومة رشاشاتهم داخل مخبز في عمان لمجرد أن صاحب المخبز رفض أن يعطيهم الأسبقية على غيرهم في توزيع الخبز... الخ”.
-الرئيس جمال عبدالناصر:
“لقد سبق أن تحدثت كثيرا مع قيادات المقاومة بشأن ضرورة الامتناع عن عمليات الاستفزاز للسلطات الأردنية المحلية.. وفي الحقيقة كانوا معي مدركين آثار هذا الاستفزاز وما ينجم عنه.. ولكن للأسف هناك بينهم من يريد فعلا الاستفزاز وقد تكون من بينهم أيضا قوى مضادة تخطط عن عمد بهدف تخريب الموقف السياسي في الأردن، عموما من الممكن أن يعاد بحث مثل هذه الأمور دون أن نصل إلى درجة التشنج، على أن نراعي مصالح كافة الأطراف .
وقبل أن ننهي الجلسة، أرجو أن أكرر ما طلبته خلال حديثي معك اليوم أن تتوخى الصبر والحكمة وإني على ثقة من أن ربنا في آخر الأمر سينصرنا في معركتنا مع “إسرائيل” بعد ما صبرنا وعملنا بجد وعرق لمدة ثلاث سنوات متتالية. كما أني أرى أن الموقف العسكري بيننا وبينكم يتحسن يوما بعد يوم ونحن على استعداد للمزيد من التنسيق العسكري بيننا وبينكم وقد أبلغت الفريق فوزي كافة التوجيهات اللازمة لإتمام هذا التنسيق مباشرة بالقدر الذي تطلبونه”.
-الملك حسين:
“شكرا سيدي الرئيس ونحن من جانبنا سنعمل كل ما في جهدنا لتنفيذ نصائحكم التي نقدرها ونعتز فيها”.
ولم تفلح هذه التطمينات وهذه المكاشفة في وقف التفجر بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية وبخاصة ابتداء من 16سبتمبر/أيلول 1970 وهو تاريخ تعيين اللواء محمد داود رئيسا لوزارة عسكرية في الأردن، ففي اليوم التالي لتشكيل هذه الوزارة بدأ هجوم وحشي قادته قوات البادية الأردنية ضد المعسكرات الفلسطينية ومراكز تدريبهم وفتكوا بكل من اعترضهم وملاحقة كل عناصر المقاومة الفلسطينية، وكانت هذه المجزرة مثار تعليقات واسعة في أجهزة الإعلام العالمية والعربية. وكتب مراسل الأسوشيتد برس يقول: “قد دمر جنود الملك العاصمة وكأنهم يزحفون نحو أرض العدو، إن ألوفا من الفلسطينيين سحقوا ونهب جنود البادية المتاجر وأخذوا يطلقون النار في كل الاتجاهات”.
وكتب مراسل الديلي إكسبريس: “إن عمان تموت ميتة بطيئة وطويلة وبشعة”.
وفي يوم21 سبتمبر/أيلول 1970 أصدر الملك حسين أمرا بإيقاف إطلاق النار بعد تسلمه رسالة من الرئيس عبدالناصر وكان في مكتبه ساعتها الفريق محمد صادق والسفير عثمان نوري سفيرنا في عمان .
وبدأت تتوالى استجابات الزعماء العرب لدعوة عبدالناصر وكان أول الحضور القذافي واكتمل عقد الرؤساء والملوك يوم23سبتمبر/أيلول بعد وصول الملك فيصل وجرت اجتماعات مكثفة وأوفدت لجنة برئاسة الرئيس السوداني جعفر نميري وأجرى عبدالناصر وبعض الرؤساء العرب اتصالات تليفونية مع الملك حسين لاحتواء الموقف المتفجر، وبدأت القضية تكتسب أبعادا دولية حيث بحث الرئيس الأمريكي نيكسون الموقف مع زعماء الكونجرس وقد كتب في مذكراته فيما بعد أن الولايات المتحدة اقتربت من حد التدخل العسكري في الشرق الأوسط في ذلك الوقت أكثر من أي وقت آخر، ووجه الاتحاد السوفييتي تحذيرا إلى واشنطن بعدم التدخل في أحداث الأردن .
وبدأت تتبلور ملامح مخطط أمريكي -”إسرائيلي” يستهدف القضاء على المقاومة، وبعث عبدالناصر ببرقية للملك حسين في الساعة الرابعة والنصف من صباح يوم 25سبتمبر/أيلول يكشف أمامه أبعاد المخطط... وكان الرئيس يحرص طوال فترة الأزمة على الاتصال بالملك حسين رغم اعتراض بعض الرؤساء على ذلك.
واقترح أحد الرؤساء إرسال قوات مصرية مع قوات عربية للأردن وكان رد عبدالناصر “لقد أرسلت من قبل قوات إلى اليمن واستشهد هناك أكثر من عشرة آلاف شهيد، وما زالت “إسرائيل” تحتل أرضنا ولست مستعدا الآن لأن يستشهد جندي مصري واحد على الأرض الأردنية ومن يريد أن يرسل قواته فليتفضل هو بإرسالها”!
وفي ظهر يوم26 سبتمبر/أيلول 1970 اتصل الملك حسين بالرئيس جمال عبدالناصر معلنا رغبته في الحضور إلى القاهرة لتوضيح موقفه أمام الرؤساء والملوك العرب، وبعد مناقشات ساخنة بين عبدالناصر وباقي الحاضرين أتفق على دعوة الملك حسين للحضور وقد وصل القاهرة بالفعل صباح يوم 27سبتمبر/أيلول واجتمع مع الرؤساء والملوك ظهر نفس اليوم بحضور ياسر عرفات الذي تم تهريبه من عمان بواسطة اللجنة التي أوفدت إلى عمان برئاسة نميري وبترتيب من عناصر المخابرات المصرية وكان يصحبه حسين الشافعي ومحمد صادق والباهي الأدغم والشيخ سعد الصباح وقد نجحوا في تهريب أبوعمار حيث ألبسوه زي كويتي وعاد معهم إلى القاهرة دون أن يكتشف أمره . وبعد حوالي ست ساعات من الاجتماعات المتصلة الساخنة وبعد نقاش حامٍ توصل المجتمعون إلى اتفاق ينص على:
وقف إطلاق النار في جميع الساحات .
انسحاب الجيش الأردني وأفراد المقاومة الفلسطينية من كافة المدن قبل غروب نفس اليوم.
تكليف لجنة برئاسة الباهي الأدغم بالسفر إلى عمان الاثنين 28سبتمبر/أيلول 1970 لمتابعة تنفيذ الاتفاق.
وأعلن الاتفاق في جلسة علنية حضرها كل الوفود ورجال الصحافة والإعلام.
وبعد إتمام الاتفاق توجه جمال عبدالناصر بحديث خاص إلى أبو عمار قال له فيه:
“يا أبو عمار، لقد حرقت دمي خلال الأيام الأخيرة لكي أحافظ عليكم، وكان أسهل الأشياء بالنسبة لي أن أصدر بيانا إنشائيا قويا أعلن فيه تأييدي لكم ثم أعطيكم محطة إذاعة تقولون فيها ما تشاؤون ضد الملك، ثم أريّح نفسي وأقعد أتفرج.. لكن بضميري وبمسؤوليتي لم أقبل هذا الأسلوب، إن موقفي منذ اللحظة الأولى كان من أجلكم ومن أجل حمايتكم وحماية الناس الذين لا ذنب لهم والذين هم الآن قتلى لا يجدون من يدفنهم، وجرحى لا يجدون من يعالجهم، وشاردون بين الأنقاض، وأطفال ونساء يبحثون في يأس عن أبسط حقوق للإنسان وهو حق الأمن على حياتهم”.
وقد رد عليه أبو عمار قائلا:
“يا سيادة الرئيس لك الله... كتب عليك أن تحمل هموم العرب كلهم وخطاياهم أيضا...!”
وكانت هذه الهموم تفوق قدرة الجسد على البقاء، وكانت المفاجأة رحيل عبدالناصر عن الدنيا كلها.
تحذير من الجنرال ديجول
قبل حرب يونيو/حزيران 1967 استدعى الجنرال ديجول السفير عبد المنعم النجار وطلب منه إبلاغ رسالة عاجلة للرئيس جمال عبد الناصر مفادها أن المخابرات الفرنسية لديها معلومات مؤكدة بأنه سيحدث هجوم ساحق على مصر صباح يوم 5 يونيو/حزيران 1967 ورجا أن تقوم الجمهورية العربية المتحدة باستيعاب هذه الضربة ثم الرد عليها حتى يستطيع أن يدعم موقف القاهرة على أساس أن إسرائيل هي البادئة بالاعتداء . كانت هذه المعلومات إلى جانب معلومات أخرى قد وصلت للقيادة المصرية في نفس الوقت من مصادر أخرى مما دعا الرئيس جمال عبد الناصر إلى الاجتماع بالقيادة العامة للقوات المسلحة ، وفي حضور كل القادة نبه الرئيس إلى الاحتمالات المنتظرة وركز في الحديث على القوات الجوية بالذات ولما سأل الفريق محمد صدقي محمود قائد القوات الجوية عن مدى تحملنا لتلقي الضربة الأولى إذا ما صحت المعلومات باحتمال الضربة الجوية التي قدر أنها ستتم يوم 5 يونيو/حزيران بناء على تقديرات الموقف على ضوء تعيين موشي ديان وزيرا للدفاع مما يعني نوايا هجومية للعدو ، فأجاب الفريق صدقي محمود بأن الاحتمالات هي الشلل للقوات الجوية ، ولما ناقشه الرئيس جمال عبد الناصر، بحضور القادة ، حول مدى احتمالات الخسائر تحديدا ، قال الفريق صدقي إنه يقدرها بنسبة 10% . وهنا وبعد مناقشة اشترك فيها أغلب الحضور تم الاتفاق على إمكانية تلقي الضربة الاولى بهذه النسبة من الخسائر وعلى شرط أن يقوم قائد القوات الجوية باتخاذ الترتيبات اللازمة لحماية وانتشار وتوزيع طائراته الشيء الذي لم يحدث وفي رأيي الشخصي وكما ذكر لي بعد ذلك الفريق أول محمد فوزي واللواء حسن البدري واللواء عبد المنعم خليل، أن المشير عبد الحكيم عامر قال بعد مغادرة الرئيس لقاعة الجلسة ، ما معناه ، “هو نبي.. ولاّ يعلم الغيب..؟!”
ومما يؤكد هذا الرأي أن المشير عبد الحكيم عامر استقل طائرة صباح يوم 5 يونيو1967/حزيران متجها للتفتيش على جبهة القتال في سيناء مما ترتب عليه تقييد الدفاع الجوي، والأدهى أن جميع القادة قد اتجهوا لاستقبال المشير عامر في مطار “تمادا” مما ترتب عليه من ناحية أخرى أن عقل القوات المسلحة قد أصابه الشلل والعمى .
اسئلة حول نكسة 1967
لا أستطيع أن أنهي شهادتي حول نكسة 1967 وأنا مرتاح البال والضمير دون أن أطرح على نفسي وعلى القارئ الكريم وعلى مراكز البحث والعسكريين والسياسيين سؤالين:
* السؤال الأول: لماذا لم تسقط أو تضرب طائرة المشير عبد الحكيم عامر وهو في طريق عودته إلى مطار القاهرة قادما من مطار بير تمادا بعد بدء قصف مطارات مصر صباح يوم 5 يونيو/حزيران 1967؟! ولماذا لم يقصف مطار القاهرة الدولي إلا بعد هبوط طائرة المشير عامر به؟!
* والسؤال الثاني: لماذا لم يقم سلاح الطيران السوري بقصف المطارات “الاسرائيلية” ليحول دون نزول وإعادة ملء وتموين الطائرات “الاسرائيلية” بعد إغارتها على مطارات مصر؟! ونفس السؤال ينسحب على الأردن أيضا؟! أرجو أن أعرف الإجابة ممن لديه علم، ويستطيع أن يفسر لي هذه الألغاز!
وفي النهاية ان جاز لي أن أقول كلمة حق، إن الحكم على عهد بكامله لا يكون من خلال حادثة بعينها لا سيما وأن تلك الحادثة نالها من اللغط والتشويه - عن عمد وأحيانا عن غير عمد- وعليه فإن الحكم على عهد عبدالناصر يكون منذ (1954-1970) وفي سياق التوازنات الدولية وتوازنات القوى والقضايا المثارة في ذلك الوقت، فهناك ست عشرة سنة كاملة نستطيع أن نقيمها ونحكم عليها بموضوعية ودون تحيز مسبق. فلم يكن عبدالناصر قديسا ولا شيطانا بل كان بشرا يخطئ ويصيب والرجل كان شجاعاً اعترف بالأخطاء والتجاوزات، وأعلن تحمله المسؤولية كاملة، ويكفيه انه حاول وجرب، فشل أحيانا نعم ولكنه نجح كثيرا، ويكفيه ايضا أنه جعل حلم الوحدة العربية حقيقة يوما ما - ذلك الحلم الذي ضاع من العرب مع وفاة الناصر صلاح الدين الأيوبي- وفتح الباب لآخرين ليحاولوا -واثقين ان الحلم ممكن- وليتعلموا من الأخطاء لينجحوا فيما فشل فيه الآخرين، وهذا قدر المعلم دائما يرشد ويوجه، وهذا كان قدر الرئيس جمال عبدالناصر، وقدر كل الزعماء الذين يبغون لأممهم العزة والكرامة.
وانني أؤكد على أن الأمم تظل تنقب في تاريخها السحيق عن شبهة بطولة أو انتصار فتجعل منها أسطورة وتقيم لها الاحتفالات الضخمة، لا لشيء إلا لغرس روح البطولة والنصر في نفوس أجيالها.. هذا ما تفعله الشعوب في الدنيا كلها.
أما عندنا هنا في مصر المحروسة فما زال من بيننا من يسعون إلى أن يهيلوا التراب على صفحات البطولة، ويلطخون صفحات بيضاء مشرقة بالوحل، أولئك الذين أخذوا على أنفسهم ألا يتركوا مصباحا مضيئا في حياتنا إلا ويطفئوه إما بإلقاء الحجارة عليه أو ينفخوا فيه هواء وهوى مسموما ومخلوطا بعشق المهانة.
إن هؤلاء ينجزون ويحققون ما فشل فيه العدو، والفارق الوحيد بينهم وبين العدو هو أن العدو يبذل الجهد والمال وكل ما يملكه من إمكانيات لكي يحيل نهارنا إلى ظلام ولكي يحول انتصاراتنا إلى انكسارات، أما هؤلاء فإنهم يفعلون ذلك مجانا، يجلدون ظهور شعوبهم ويثخنون تاريخ أمتهم بالطعنات والجراح، إنهم عشاق فلسفة تحقير الذات وإضرام النيران في كل ما هو أخضر ونضر ويريدون أن يمشوا بأقدامهم وبقلمهم على البطولات وعلى رفات الشهداء وكأن مياه النيل العظيم لم تجر في عروقهم.
فكان لابد من أشارك من سبقني من عسكريين مصريين وساسة ومثقفين، بل إن مواطنين عاديين من أبناء مصر والأمة العربية، بل وبعض الأجانب سارعوا بغضب في المشاركة في رد الإهانة ورفع الظلم عن التاريخ النقي واستنقاذ الوعي لأجيال لم تكن ولدت بعد أو لم تكن قد أدركت هذه الملاحم العظيمة، ومنها بل وقد لا أكون مبالغا إذا قلت وعلى رأسها ملحمة حرب الاستنزاف 1969/1970 .
ومن أجل مصر سوف أقول الحقيقة، والله على ما أقول شهيد.
الخليج الإماراتي
10.10.2003 "
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
زيارتكم هى رقم
Web guest
Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT,
International Computer Consulting & Training, Germany, US