![]() |
تفاصيل “العملية جونسون” ”
لإحباط “مؤامرة المشير
سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف
ـ 12 ـ
الجزء الأول - البداية الأولى
الحلقة الثانية عشر
..............."
إنتهى نقل هذا الجزء
يحى الشاعر
- يتبع -
حاول جمال عبدالناصر بطرق مباشرة وغير مباشرة بواسطة صلاح نصر وعباس رضوان ومحمد حسنين هيكل وعبدالمحسن أبو النور وشعراوي جمعة وشمس بدران وسامي شرف وحلمي السعيد وآخرين أن يلفت نظر المشير عامر إلى خطورة ما يقوم به وكان في هذه الاتصالات يركز على نقطتين أساسيتين:
* الأولى هي الميثاق غير المكتوب بين أعضاء مجلس قيادة الثورة بأن من يترك المسيرة لا يقوم بأعمال أو نشاط من شأنه النيل من الثورة ومبادئها وقيمها ولا ينقلب عليها بتآمر أو غيره من الأعمال غير الشرعية أو غير الأخلاقية.
والثانية هي أن مثل هذه الأعمال غير المسؤولة وخارج نطاق الشرعية، هي دعوة إلى العصيان ويكفي ما حدث في يوم 5 يونيو (حزيران) وأن التمادي في هذه الأمور سيورط آخرين في أعمال أقل ما توصف به أنها غير شرعية.
ولكن المشير عامر أدار ظهره لكل هذه الاتصالات والمحاولات الناصحة وبدأ بممارسة سلسلة من الأعمال التي أخذت شكل تحد صريح للسلطة بأن قام بعض المحيطين به وبموافقته وبعلمه بإعلان نوع من العصيان حيث تجمع عدد من الضباط وقاموا بمظاهرة في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة وتصدى لها الفريق أول محمد فوزي وأمرهم بالانصراف وإلا قام بتشكيل مجلس عسكري عال ميداني في الوقت والساعة لمحاكمتهم (هذا المجلس يعنى في قانون الاحكام العسكرية أن يشكل فورا في نفس المكان ويحاكمهم ويصدر الحكم لينفذ، هكذا القانون العسكري).
ثم قام في نفس الوقت بعض ضباط حراسة المشير عامر بمظاهرة عسكرية بالعربات المدرعة وكان على رأسها النقيب أحمد أبو نار وغادروا منزل المشير بمنطقة الحلمية واتجهوا إلى مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في مدينة نصر مارين بمنطقة منشية البكري حيث توقفوا بجوار منزل عبدالناصر مرددين هتافات تنادي بعودة المشير عامر للقيادة، وقد تصدى لهم الفريق محمد فوزي والشرطة العسكرية وتم إعادة الأمور إلى نصابها الإنضباطي.
وبدأت بعد ذلك عملية استدعاء بعض ضباط الصاعقة للقاءات تتم في منزل المشير بالجيزة كان المسؤول عنها كل من جلال هريدي وأحمد عبدالله وحسين مختار.
ثم تم استئجار فيلا وشقة في الدقي، (أحد أحياء الجيزة)، كانت تتم فيهما لقاءات بين عباس رضوان وبعض الضباط خصوصا من الرتب الكبيرة مثل اللواء سعد عثمان على سبيل المثال، وكان الضابط الذي يتم تجنيده يحدد له موعد ليلا لمقابلة المشير عامر في المشتل المجاور لمنزله في الجيزة وذلك لتأكيد الدور الذي سيقوم به من التكليفات. وكانت التكليفات تتفاوت من ضابط لآخر فمنهم من كان يكلف بنشر شائعات معينة أو توزيع الاستقالة أو الترتيب للمشاركة الإيجابية في التحركات المستقبلية، كما كان المشير ومن كان يعاونونه يطلبون تقارير رأي عام من داخل القوات المسلحة علاوة على أوضاع الوحدات العسكرية.
وبالتبليغات السابقة وبالمزيد من المعلومات التي بدأت تصل تباعا وبكثافة علاوة على أن عملية الاختراق داخل منزل المشير عامر كانت تحقق نجاحا مضطردا يوما بعد يوم أصبح لدينا صورة حقيقية واقعية من داخل المنزل من اتصالات ومقابلات وأسماء وترتيبات ونوايا، والأهم أنه أمكن الحصول على أوراق وخرائط منها أوراق بخط يد المشير شخصيا والتي كانت تحمل تعليمات محددة إما من المشير أو من آخرين من الذين كانوا يقيمون معه. ولقد تم عرض كل هذه الأوراق والوثائق على عبدالناصر فور استلامها، وكانت البلاغات الشفوية الأخرى يكتب بها تقارير بخط يدي أو بخط يد مقدم المعلومة أو نتيجة المراقبة، وكل هذه التقارير محفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات (أرشيف سري للغاية بالدور الثاني من مكتبي بمنشية البكري والذي كان مسؤولا عنه توفيق عبدالعزيز أحمد و محمود نصر).
وتبلورت كل هذه الأنشطة في نتيجة واحدة هي أن المشير عامر ورجاله يقومون بالإعداد لمؤامرة لقلب نظام الحكم يتم تنفيذها يوم 27أغسطس (آب) 1967.
وهنا فقط اقتنع الرئيس جمال عبدالناصر بأن هناك تآمراً وأفعالاً وليست نوايا أو إرهاصات.. أفعال هدفها الاستيلاء على السلطة وكانت الأوامر التي أصدرها الرئيس لإيقاف هذه العملية وإفشالها وأن تتولى الشرعية مسؤولياتها وتمارس حقها المشروع في مواجهة هذه الأمور غير المحسوب نتائجها وكلفني الرئيس جمال عبدالناصر بتشكيل مجموعة عمل ثلاثية من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لوضع خطة لمواجهة وإفشال هذه المؤامرة.
وكانت العملية في غاية الصعوبة سواء بحكم طبيعة الشخصيات والأهداف التي تقرر متابعتها أو في ضوء بعد أجهزة الدولة بما فيها مؤسسة الرئاسة عن القوات المسلحة، ومن ثم ظهرت مشكلة كبيرة حول تحديد الأجهزة التي تتولى البحث والأفراد الذين سوف يكلفون بالمهمات وأساليب التنسيق والمواصلات وغير ذلك من تفصيلات فنية معقدة كثيرة، وبعد لقاء مع الرئيس تقرر أن تشكل مجموعة عمل للمشاركة في البحث وتجميع المعلومات والتنسيق والمتابعة والتقييم وتحديد الأهداف والواجبات مع تأمين كل هذه العملية على الأقل في مراحلها الأولى.
وبناء على ذلك فقد إسأذنت الرئيس عبدالناصر في أن تشكل مجموعة العمل من كل من شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين هويدي وزير الدولة والفريق أول محمد فوزي القائد العام للقوات المسلحة واللواء محمد احمد صادق مدير المخابرات الحربية واللواء محمد الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري واللواء حسن طلعت مدير المباحث العامة، وكان التلقين على الوجه التالي:
هناك تطورات في الموقف الداخلي تقتضي اليقظة التامة وبحث موقف القادة والضباط ومدى العلاقات مع العناصر موضع الشك مع الاستعداد للقيام بأي مهمة قد تكلف بها أي من هذه الجهات في أي لحظة على مدار الأربع والعشرين ساعة اعتبارا من ساعة هذا اللقاء على أن تكون التصرفات والتحركات من جانبنا بأسلوب هادىء ويجب ألا نلفت الأنظار لأي نشاط من جانبنا قد ينبه أطرافاً أخرى، كما طلب التبليغ - كل من ضباطه - عن أي اتصالات تجرى معهم مهما كانت بسيطة والتأكد من أن الأوامر التي تصدر إليهم تكون من الجهة المسؤولة والشرعية فقط.
كما أمر الرئيس جمال عبد الناصر بتشكيل لجنة ثلاثية تضم كلا من شعراوي جمعة وأمين هويدي وسامي شرف لتجميع وتقييم المعلومات وللتنسيق مع مجموعة العمل السابق الإشارة إليها، وعرض التوصيات وتكون مسؤولة عن المتابعة، وكنا في حالة إجتماع شبه دائم حيث اللقاءات تعقد بيننا باستمرار صباحا ومساء وفي اوقات متقاربة أثناء اليوم وفي خلال أيام قليلة كانت أبعاد الموقف قد تبلورت على النحو التالي:
1- وجود حراسة خاصة كاملة التسليح في منزل المشير عامر بالجيزة.
2- وجود ميليشيات من أبناء قرية اسطال مسقط رأس المشير عامر تقيم في المنزل بالجيزة وكل أفرادها مسلحون.
3- اختفاء العقيد علي شفيق صفوت (السكرتير العسكري للمشير عامر) وتواجده مع عائلته بالإسكندرية.
4- تواجد شمس بدران وعباس رضوان بصفة شبه دائمة في منزل المشير عامر بالجيزة.
أحب أن أقرر هنا.. والآن أن جمال عبدالناصر لم يكن من الأشخاص الذين يفقدون ثقتهم بسهولة في الآخرين إلى أن تثبت إدانتهم بالأدلة القاطعة التي لا تحتمل الشك أو الغموض لدرجة أنه لم يكن يصدق أن هناك تآمراً على النظام يقوده المشير عبدالحكيم عامر ومن معه من الذين كانوا في الخلايا الرئيسية للضباط الأحرار ومن خلية الرئيس نفسه، وظل على هذا الاعتقاد إلى أن وضعت أمامه أمر العمليات بخط يد المشير عبدالحكيم عامر والذي حدد فيه يوم وساعة التحرك وأسماء المشتركين ومسؤولية كل منهم وواجبات العناصر الرئيسية والأهداف التي يتم السيطرة عليها... الخ هنا فقط بدا الاقتناع على الرئيس وقرر اتخاذ الإجراءات الواجبة لمجابهة عملية إنقلابية تستخدم فيها القوات المسلحة ضد الشرعية.
ومرة ثانية وللتدليل على قولي هذا فإنه بعد أن تم اعتقال عباس رضوان قبل سفر عبدالناصر إلى الخرطوم تحدث الرئيس مع شعراوي جمعة بحضوري وقال له: “يا شعراوي عايزك تروح النهاردة للمعتقل بالقلعة وتقابل عباس رضوان وتعرف منه شخصياً دوره إيه بالضبط وما حقيقة موقفه ومدى تورطه” - وكانت تربط الإثنين شعراوي وعباس زمالة وصداقة متينة وقوية جدا، وكان تقدير الرئيس أن عباس رضوان لا يمكن أن يشترك في مؤامرة بهذا الشكل خصوصا أنه كان على علاقة خاصة جدا مع الرئيس عبدالناصر كما أن الأخير كان يعتبره أخاً وإبناً يمتاز بدرجة عالية من المبادىء والأخلاق والتمسك بالشرعية، إلا أن شعراوي جمعة عاد بعد جلسة مع عباس رضوان امتدت أكثر من ست ساعات ليؤكد أنه متورط في المؤامرة بإعتراف ضمني يكاد يكون صريحا من عباس رضوان شخصيا. (هذا اللقاء مسجل في معتقل القلعة وتفريغ التسجيل محفوظ في أرشيف إدارة المباحث العامة وأرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري).
عند هذا الحد من الحكاية أرجو أن يسمح لي القارىء بأن نرسم سوياً صورة بانورامية مجمعة للموقف عقب النكسة والهزيمة العسكرية من وجهة نظر ما أسمّيه بأزمة أو مأساة الرجل الثاني.
فعبدالحكيم عامر لم يقبل أن يتخلى عن مناصبه ولم يقنع بمنصب نائب رئيس الجمهورية بل أصر على الاحتفاظ بكل سلطاته معتمدا على تأييد ومساندة قادة الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة الذين أقطعهم ثم ساندوه بعد ذلك في إعتداءاته المتكررة على الشرعية قبل النكسة، و أصبحوا في مركب واحد إن تركها القائد غرقت بمن فيها ويبقى وضعهم في قفص الإتهام سهلا ومن ناحية أخرى، فالخوف من المصير المشترك جعلهم يتكتلون مع بعضهم البعض من ناحية ومع المشير عامر من جهة أخرى وهذا ما دفعه ليكون متصلبا في مواقفه بعد عدوان 1956 وما جعله يفكر في قلب نظام الحكم بعد هزيمته العسكرية 1967 في الوقت الذي كان فيه الآلاف من أبناء مصر يذبحون ويقتلون ويؤسرون على أرض سيناء بعد النكسة ومع هذا لم يشأ أن يتخلى متحملا مسؤولية مصائر هؤلاء وعائلاتهم...
وبعد أن قبل التنحي ليلة 8/9 يونيو1967 عاد فتمسك بسلطاته ومناصبه حيث أفهم كما قدر هو أيضا وقد يكون السببان معا أن تفسر الاستقالة على أنها إقرار منه بمسؤوليته عن النكسة وكانت النوايا هي التركيز على تحميل القيادة السياسية المسؤولية كاملة وهو ما تمسك به كل المقربين منه حتى يوم انتحاره ويمكن حتى اليوم وغدا أيضا.
فكان تمسكه بمناصبه وسلطاته وعدم قبول منصب نائب رئيس الجمهورية وقام بتحويل منزله في الجيزة إلى ثكنة عسكرية نقل إليها الكثير من العناصر والمعدات ووصل به الأمر لاستدعاء حوالي الثلاثمائة رجل من “إسطال” للمشاركة في حراسته علاوة على بعض أفراد من الشرطة العسكرية وبمعنى آخر تحدى السلطة الشرعية بشكل ظاهر مما ترتب عليه بوادر انقسامات في القوات المسلحة وفي مجلس الأمة لدرجة أن بعض الوحدات العسكرية تحركت في شكل مظاهرات يقود بعضها ضباط هاتفين بحياة عبدالحكيم عامر.
كما تم في 21يوليو1967 نقل الأسلحة التي كانت موجودة في منزل المشير عامر بمنطقة حلمية الزيتون إلى منزله بالجيزة، وحدثت بعض الصدامات وتبادل إطلاق نيران بين من كانوا في بيت المشير وبعض قوات الأمن.
وفي الخامس من أغسطس 1967 وقع اشتباك بين حرس المشير وبين قوات الأمن التي كانت تطارد أحد الضباط من الذين كانوا يقيمون في الجيزة وكان مطلوبا للتحقيق معه في إحدى القضايا المدنية.
وبدأ في نفس الوقت توزيع ما سمي باستقالة المشير عبدالحكيم عامر وهي الاستقالة التي سبق أن تقدم بها للرئيس عبدالناصر في ديسمبر1962 وهي ما عرفت بأزمة مجلس الرئاسة الخاصة بتعديل قانون ترقيات قادة القوات المسلحة من رتبة العقيد فما فوق.
واستلم صلاح نصر كمية من الذهب ومبلغ ستين ألف جنيه من المصروفات السرية من التي في عهدته في خزينة جهاز المخابرات العامة، والتي لم يوقع إيصالا باستلامها كما تقضي الأصول والتعليمات المعمول بها. والذي يهمنا هنا هو أن المشير عبدالحكيم عامر سلم عباس رضوان في منتصف شهر يونيو (حزيران) 1967 خمسة أكياس وكل كيس يحتوي على ألف جنيه ذهب وقد قام عباس رضوان بإخفاء هذه الأكياس في بلدة “الحرانية” بلدته في محافظة الجيزة، كما سلمه المشير أيضا أربعين رشاشا قصيرا وخمسة صناديق ذخيرة لها ومائة وثمانية مسدسات واعترف عباس رضوان في التحقيقات بأنه استلم هذه المبالغ وهذه الأسلحة والذخيرة من صلاح نصر.
(أرجو الرجوع إلى نصوص محاضر التحقيقات التي قامت به المخابرات الحربية والنيابة العامة برئاسة علي نور الدين النائب العام في هذه القضية كما أرجو الرجوع إلى تفاصيل المحاكمة أمام محكمة الثورة برئاسة حسين الشافعي ولقد كانت المحاكمة علنية ومنشورة ومحاضرها وتسجيلاتها الصوتية التي قام بها العميد إبراهيم سلامة من المخابرات الحربية والتي كانت محفوظة في مبنى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة).
وتبلورت كل هذه الأنشطة في نتيجة واحدة هي أن المشير عامر ورجاله يقومون بالإعداد لمؤامرة لقلب نظام الحكم يتم تنفيذها يوم 27 أغسطس (آب) 1967 وحددت المعلومات تفاصيل هذه المؤامرة من ورقة كتبت بخط يد المشير عبدالحكيم عامر حدد فيها الأهداف والغرض من التحرك والأشخاص الرئيسيين وحدد المسؤوليات بالشكل التالي:
1 - تحرك معنوي داخل القوات المسلحة لإحداث بلبلة وإنقسامات ومحاولة نيل أكبر تأييد ممكن والتهيئة لتقبل الإنقلاب الذي كان هدفه كما لقنوهم الديمقراطية والحريات.
2 - مرحلة تنفيذ محاولة الاستيلاء على الحكم وكما جاء في الورقة التي تحصلت عليها بخط يد المشير عامر من غرفة نومه بمثابة أمر عمليات وتحرك للاستيلاء على السلطة - وهذه الورقة كانت محفوظة في الأرشيف السري للغاية في سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكري - وكان ملخصها:
“يؤمّن المقدم أحمد عبدالله من الصاعقة القوات لوصول المشير عبدالحكيم عامر إلى إنشاص مقر قيادة الصاعقة والقاعدة الجوية التي كان من المفروض أن يتم تأمينها لصالح العملية التآمرية ثم يتحرك المشير عامر إلى قيادة المنطقة الشرقية بالإسماعيلية تحت حماية الصاعقة وبعض ضباط القيادة الشرقية الذين تم الإتفاق معهم على تأييد مطالب المشير عامر ومن الإسماعيلية يوجه المشير عامر نداء للرئيس جمال عبدالناصر بمطالبه التي لم تخرج عما جاء في الاستقالة المزعومة. وكان التقدير أن الرئيس لن يقبل أو يستجيب لهذه المطالب فيتم تحرك المشير عامر على رأس قوات عسكرية إلى القاهرة وجاء في الورقة عبارة “منشية البكري”.
- 7 -
خطة لمواجهة وإحباط المؤامرة
الحقيقة كانت مهمة صعبة وقاسية على نفوسنا جميعا كما كانت واجبة، فالهدف كان تثبيت وتأكيد الشرعية في وقت كانت الأرض فيه محتلة والعدو على بعد كيلومترات معدودة من القاهرة.
ومن ناحية أخرى كان المستهدف من الخطة المشير عبدالحكيم عامر الذي كنا كلنا بدون استثناء نحبه بصدق ونقدره بل وكنا نعتبره كشخص جمال عبدالناصر تماما ومن ثم كان الرجل يحوز في نفس الوقت على ثقة أجهزة حساسة بالإضافة إلى شعبية كبيرة في القوات المسلحة فقد كانت المخابرات العامة وعلى رأسها صلاح نصر قد حسم موقفه إلى جوار المشير عامر والمعلومات المتوفرة الموثوق بها والمؤكدة تفيد أن قطاعا كبيرا من الشرطة العسكرية والصاعقة ووحدات من المدرعات وعناصر من المخابرات الحربية علاوة على قادة الأسلحة الرئيسية فيما عدا الفريق أول محمد فوزي رئيس الأركان، كانت كلها محسوبة إلى جانب المشير عبدالحكيم عامر بالإضافة إلى بعض العناصر المدنية وبعض أعضاء مجلس الأمة خصوصا أعضاء محافظة المنيا وقلة من ضباط الشرطة.
وحتى صدور تعليمات عبدالناصر بالتحضير لمقابلة تحرك المشير لم يكن قد وصلني أي أخبار أو معلومات عن توقيتات محددة أو تقريبية للتحرك وإن كنا قد استنتجنا،وهذا واجب طبعا، توقيتات قريبة وهذا ما جعلنا نتوخى وسائل الحرص الشديد وصبغ ما سنبحثه بصبغة السرية المطلقة بقدر الإمكان فاتفقنا بصفة مبدئية أن تتم لقاءاتنا في مكان منعزل من نادي الشمس الرياضي الذي كنت في ذلك الوقت أتشرف بتولي مسؤولية رئاسته وإنشائه بتكليف من الرئيس عقب زيارتنا لنيويورك سنة 1960 ومشاهدة الرئيس للحديقة المركزية هناك فطلب مني أن أبحث إمكانية تنفيذ مشروع مماثل في صحراء مصر الجديدة (مشروع نادي الشمس).
أعود لأقول إننا اتفقنا نحن الثلاثة على أن تكون هذه البقعة المنعزلة هي مكان اللقاء في وقت متأخر من الليل حتى يسهل اكتشاف أي اختراق أو تتبع لنا كما تم في نفس الوقت تأمين المكان الذي نلتقي فيه من كافة الجوانب والاحتمالات بما في ذلك تأمين الاتصال الذي تفادينا معه التليفون حيث أنه وسيلة لو اكتشفت يمكن تحديد المكان بل كان الاتصال يتم عن طريق جهاز اللاسلكي من سيارتي ولم تكن وسائل كشف مثل هذا الاتصال متقدمة كما هي الآن كما كانت التعليمات لمكاتبنا أن يقتصر الاتصال على حالات الضرورة القصوى وبواسطة مندوب من مكتبي يحضر إليّ ليبلغنا أي رسائل عاجلة إذا اقتضى الأمر ذلك.
وحرصا منا على السرية المطلقة كما أسلفت فقد اتفقنا على إطلاق اسم كودي لهذه الخطة هو: “العملية جونسون” يندرج تحت هذا الاسم الكودي كل ما يتعلق بالعملية من اتصالات أو لقاءات أو تعليمات كما اتفقنا أن تكون الخطة بسيطة ومن دون أي تعقيدات، ويمكن تلخيص حصيلة المناقشات التي دارت بيننا في أن يكون العمود الفقري للخطة هو الانفراد بالمشير عامر بأقل حجم ممكن من الحراسة والتحفظ عليه في مكان تحت السيطرة وأن يتم في نفس الوقت تصفية أي جيوب كمنزل الجيزة أو الحلمية وغيرهما من الأماكن التي قد يكون فيها عناصر موالية له.
وبدأنا نبلور هذه الأفكار في شكل خطوات عملية بدأت بالفكرة التالية:
كان المشير عامر يتردد على منطقة مصر الجديدة (منزله في حلمية الزيتون) في المساء ويعود إلى الجيزة عن طريق صلاح سالم لم يكن الحال كما هو الآن من الازدحام بل كان هذا الطريق في ذلك الوقت يقال عنه أنه “مقطوع” ويعتبر مقفرا ليلا وأثناء عودته يتم وضع عوائق في الطريق بحيث يضطر إلى تهدئة السيارة ويتم إيقافها والسيطرة عليه هو ومن معه بسرعة تحول دون أي اشتباك، وحتى لو تم الاشتباك يكون في أضيق نطاق ويكون الهدف الأساسي إحاطة شخص المشير وأخذه إلى سيارة أخرى لينقل إلى مكان متفق عليه يتم تجهيزه قبل إتمام عملية الاعتراض هذه.
وعرضت الإطار العام للخطة على الرئيس عبدالناصر الذي طلب بعد أن وافق على الفكرة بصفة عامة مبدئيا، أن توضع كافة التفاصيل على الورق وتم ذلك في جلسات أخرى لاحقة حيث وضعنا خطة كاملة متكاملة شملت كافة خطوات التحرك والتعرض والسيطرة وأسماء وواجبات الأفراد والأجهزة التي ستتعاون في تنفيذ الخطة.
(هذه الخطة كتبت بخط يدي وكانت محفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات السري للغاية في منشية البكري وكان المسؤول عنه توفيق عبدالعزيز أحمد).
وبالمناسبة كان جمال عبدالناصر قد توجه إلى الإسكندرية (المعمورة) لأخذ قسط من الراحة ولمراجعة بعض المسائل الهامة المتعلقة بإعادة بناء القوات المسلحة وكنت في ذلك الوقت أعرض عليه المسائل المهمة بشخصي فكنت أتوجه للمعمورة ثم أعود فور مقابلته إلى القاهرة إما بالسيارة أو بالهليوكوبتر، حاملا التوجيهات.
وفي يوم الخامس من أغسطس (آب) 1967 اتصل بي زكريا محيي الدين تليفونياً وطلب أن أتوجه إلى منزله الساعة الثامنة من مساء نفس اليوم وقال: “تعال لوحدك.. ومش عايز حد يعرف إنك جاي لي، أي حد!”
وفي اللقاء اليومي مع أمين هويدي وشعراوي جمعة كان يتم ثلاث مرات في اليوم في الصباح الباكر وظهرا وفي آخر يوم العمل في وقت متأخر ليلا - اتضح أن زكريا محيي الدين اتصل بهما وطلب منهما التوجه إلى منزله في نفس التوقيت بفواصل ربع ساعة بين كل منهما لكننا اتفقنا على الذهاب سويا وفي سيارة واحدة هي سيارتي رقم 995 ملاكي القاهرة ووصلنا في الثامنة تماما ودخلنا إلى الصالون الذي اسقبلنا فيه زكريا محيي الدين مندهشا ومبتسماً كعادته ولم يعلق بأكثر من هذه الإبتسامة المعبرة وذات المعنى بالنسبة لنا وله.
وقال زكريا محيي الدين: إن الرئيس جمال عبدالناصر أطلعه على الخطة في الإسكندرية وطلب منه العودة إلى القاهرة لمراجعة التفاصيل معنا وبعد المناقشة وافق على الفكرة العامة ولكنه طلب أن تبسّط الخطة أكثر مع الأخذ في الاعتبار أية احتمالات أو مواقف مفاجئة أو غير متوقعة، على أن نعود للاجتماع به بعد ثمان وأربعين ساعة في نفس الوقت ومن دون تأكيد أو اتصالات أخرى.
وعدنا من جديد إلى نادي الشمس لنواصل البحث وتعديل الخطة لتكون أكثر بساطة ونتفادى فيها بقدر الإمكان المفاجآت، والحقيقة أننا كنا في سباق مع الزمن لسببين رئيسيين:
* أولهما: أن أطراف المؤامرة كانوا - وفق المتابعة - قد ضاعفوا من نشاطهم وتوسعت اتصالاتهم نسبيا مما يرجح احتمالات التنفيذ في وقت غير بعيد.
* والثاني أنه لابد من حسم الوضع من جانب الشرعية لقرب إنعقاد مؤتمر الخرطوم في 29أغسطس1967 وإلا فسيكون البديل الذي يجب تفاديه هو أن يصطحب الرئيس المشير عامر معه إلى الخرطوم ولو في هدنة مؤقتة. وكان القرار هو حتمية الحسم قبل الخرطوم.
هذا علاوة على سبب خارجي آخر وهو أن العدو كان يراهن على إنهيار الوضع الداخلي كوسيلة لتحقيق الهزيمة السياسية التي لم يستطع ان يحققها وبقي النظام ولم يسقط، فإذا حقق العدو ما يسعى لتحقيقه على الجبهة الداخلية فإنه سيكون قد حقق أهدافه فكان لابد من مقاومة هذا الهدف وإسقاطه بالإصرار على تماسك الجبهة الداخلية بأسرع وقت ممكن والقضاء على أسباب انهيارها لتعود القوات المسلحة إلى انتظامها والتحام نسيجها وذلك حتى يتفرغ الجميع لإعادة البناء وما يتبعه.
وبناء على هذه الأسباب اتفقنا على خطة جديدة بسيطة وشاملة وملخصها الآتي:
1 - يدعى المشير عبدالحكيم عامر للقاء جمال عبدالناصر في منشية البكري وليكن لتناول طعام العشاء مع الرئيس أو لأي سبب آخر قد يراه الرئيس مناسبا وفي هذا اللقاء يبلغ المشير عامر بتحديد إقامته بعد إجراء مواجهة معه حول كل ما حدث وبدر منه ومن الذين يساندونه مع مواجهته بما يثبت أن تصرفاته ضد الشرعية وأن هدفها هو قلب نظام الحكم بالقوة.
2 - تتجه قوة عسكرية إلى منزل المشير عامر بالجيزة لحصاره وتصفية الوضع فيه والقبض على الأفراد المعتصمين هناك على أن تتم هذه العملية قبل فجر اليوم التالي للعملية.
3 - تتم السيطرة على جهاز المخابرات العامة إما في نفس الليلة أو في الصباح الباكر من اليوم التالي.
وافق الرئيس عبدالناصر على هذه الخطة وبدأ على الفور في إجراء بعض الاتصالات بمعرفته مع عباس رضوان ليبلغ المشير عامر أنه يدعوه للعشاء في منشية البكري اليوم التالي وألمح له أن مؤتمر القمة بالخرطوم سيعقد يوم 29 اغسطس (آب) وأن الرئيس يأمل أن يكون فيه دعما لموقفنا ولم يزد عن ذلك.
وفي صباح يوم الخميس 24 أغسطس (آب) 1967 اتصل جمال عبدالناصر بنفسه بالمشير عبدالحكيم عامر في بيته بالجيزة ودعاه لتناول العشاء في منشية البكري في السابعة من مساء يوم الجمعة 25 أغسطس (آب) وافق المشير على الفور ووعد الرئيس بأنه سيحضر في الموعد المحدد.
وعقد الرئيس اجتماعا حضره أمين هويدي وشعراوي جمعة وسامي شرف لمراجعة الخطة بالتفصيل مع تحديد واجبات كل المشتركين فيها فردا فردا وكنت قد كتبت الخطة بخط يدي من نسخة واحدة فقط، واشتملت على تفاصيل التفاصيل علاوة على بعض الاستفسارات التي أردت أن نستوضح الرئيس بشأنها ومنها موقف السكرتارية الخاصة للرئيس وبالذات محمد أحمد الذي تكفل الرئيس بأمره وقال لي أنه سيتولى هو إبلاغه في الوقت المناسب. كما استفسرت من الرئيس عن التوقيت الذي تبدأ فيه ساعة الصفر لأننا سنحتاج لبعض التحضيرات والتبليغات قبل تحرك القوات والأطقم المكلفة بالتنفيذ فرد الرئيس بألا يتم أي تصرف إلا بأمر صريح منه شخصياً وقال على العموم سنلتقي هنا في المكتب الرئيس باكر ظهرا عقب صلاة الجمعة مباشرة.
كما ذكر عبدالناصر بأنه سيتولى هو شخصيا إبلاغ من سيحضر اللقاء مساء الجمعة من النواب وقال أنه سيحضر كل من زكريا محيي الدين وأنور السادات وحسين الشافعي ولم يكن أحد منهم يعلم أي شيء عما سيحدث إلا زكريا محيي الدين فقط الذي كان على دراية بالخطة كلها بالتفصيل.
الخليج الإماراتية
8.10.2003 ' "
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
زيارتكم هى رقم
Web guest
Thank you for your visit
شـــكرا لزيارتكم الكريمة
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT,
International Computer Consulting & Training, Germany, US