![]() |
الصراع العربى الإسرائيلى
ـ 1 ـ
إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربى الإسرائيلى هى فى الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية الراغبة فى التحرر السياسى والاجتماعى وبين الاستعمار الراغب فى السيطرة وفى مواصلة الاستغلال . وفيما مضى فلقد كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزيق ، وبعد حربين عالميين ومع تعاظم الإيمان بالوحدة العربية فقد لجأ الاستعمار إلى إضافة سلاح التخويف إلى سلاح التمزيق وكان أن استغل فى ذلك الدعاوى الأسطورية للحركة العنصرية . وهكذا سلم وطنا من أوطان الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح لكى يتم تكريس تمزيق الأمة العربية وليتحقق تخويفها باستمرار عن طريق إيجاد قاعدة فى قلبها لتهديدها ، فضلا عما يتبع ذلك من استنزاف كل إمكانيات القوة العربية فى صراع محكوم فيه تاريخيا ولقد زاد من حدة التناقض بين الأمة العربية والاستعمار ظهور الحركة القومية العربية بقيادة الفلاحين والعمال العرب ، الأمر الذى دفع الاستعمار إلى مغامرات عنيفة ومخيفة عبرت عن نفسها سنة 1956 بالعدوان ضد مصر والذى عرف فيما بعد بحرب السويس . ثم عبرت عن نفسها مرة ثانية سنة 1967 ، التى عرف فيما بعد بحرب الأيام الستة . ومن ناحية أخرى فإن الذين يتصدون اليوم لحماية العدوان الإسرائيلى يقولون فى كل مناسبة وبالحرف تقريبا ، أنهم خلقوا إسرائيل ، وانهم يتحملون مسئولية أمنها . لقد سلموها الجزء الأكبر من وطن الشعب العربى الفلسطينى . وبعد هذا العدوان الأول والأكبر ساندوا المسلك العدوانى المتصل ، والأمثلة على ذلك عديدة وصارخة : لقد ضربت إسرائيل عرض الحائط بقرارات الأمم المتحدة سنة 1947 وسنة 1948 وسنة 1949 وفى ظل قرارات الهدنة التى فرضها مجلس الأمن احتلت إسرائيل ما احتلته من الأرض الفلسطينية وأبرزها ميناء " إيلات " الذى بنته على موقع أم " الرشراش " العربى . ولم تكتف إسرائيل باعتقال أعضاء لجان الهدنة الذين كانوا يمثلون الأمم المتحدة عندما أرادت احتلال منطقة " العوجة " منزوعة السلاح ، وإنما وصل العدوان إلى حد اغتيال الوسيط الدولى للهدنة الكونت برنادوت لأن تقريره لم يكن متفقا مع مطامعها . وفى حرب السويس عام 1956 قامت إسرائيل بدورها المرسوم لها كأداة صنعها الاستعمار ، وكان دورا مخزيا كما هو واضح الآن من كل ما أذيع عن أسرار حرب السويس . لقد كان تقدير الرئيس جمال عبد الناصر للسياسة الأمريكية صانعة هذا الكيان عام 1957 يتلخص فى النقاط التالية أولا :تصفية المشكلة على أساس الأمر الواقع أى تحويل خطوط الهدنة مع إسرائيل إلى خط حدود دائمة وإهدار كل حقوق اللاجئين العرب . ثانيا : فرض تنظيم دفاعى يخدم المصالح الأمريكية وحدها . ثالثا : الانحياز إلى السياسة الأمريكية فى جميع المشكلات الدولية بحيث تتحول الدول العربية بالفعل إلى منطقة نفوذ للولايات المتحدة الأمريكية عن طريق استخدام وسائل مختلفة بمسميات مختلفة أيضا كمشروع الدفاع المشترك عن الشرق الأوسط وحلف بغداد ثم احتكار السلاح فحرب الأعصاب ثم الحرب الفعلية كما حدث ضد مصر عام 1956 ومن بعدها مشروع أيزنهاور الذى كان فى صلبه هو محاولة جديدة لتحقيق نفس الأهداف الثلاثة والخطوات التى تمت لتطبيق هذا المشروع حاولت أن تحقق : أ – تحويل الأنظار عن خطر إسرائيل . ب- خلق أخطار وهمية من بعض العرب ضد البعض الآخر . ج- إعطاء سلاح لا يخيف إسرائيل لبعض الدول العربية . د- ربط بعض الدول العربية فى نطاق واحد مع إسرائيل . والمشروع فى صميمه حلف عسكرى بمعنى الكلمة ، وهو ما قاومته مصر الثورة . وبعد السويس فإن السجل العدوانى ، المدعم من المعسكر الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية متصل ومتصاعد حتى بلغ ذروته فى عدوان يونيو1967 . وتتابع مسلسل العدوان بشكل صارخ ، من ضرب لبنان عام 1978 ، إلى تدمير المفاعل النووى العراقى عام 1982 ، إلى ضرب مواقع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على التراب الوطنى التونسى ثم اغتيال أبو جهاد على نفس الأرض التونسية . ومن ثم فإنه فى إطار الوضوح الشامل لطبيعة الصراع لم تعد إسرائيل فى مواجهتنا شيئا والاستعمار من حولنا شىء آخر يختلف ولقد كانت هناك محاولات للتجزئة تريد تفتيت المشاكل وتصور بالوهم أن إسرائيل هى مشكلة لاجئين تحل فلا يبقى من قضية فلسطين شىء . وتصور بالوهم أن القوة التى صنعت إسرائيل يمكن أن تكون صلة بيننا وبين إسرائيل أو حكما أو طرفا محايدا ، تحطمت هذه الأوهام . إن خطر إسرائيل هو وجود إسرائيل كما هى موجودة الآن وبكل ما تمثله ، وأول ما تمثله ـ كما يثبت استقراء التاريخ والتجربةـ هو أنها بغير الاستعمار لا تكون هى له ولخدمته ولأهدافه فى السيطرة والاستغلال . يرتبط بذلك أن وجودها هو امتداد للوجود الاستعمارى . ومعنى ذلك أن الصراع الأساسى والتاريخى فى المنطقة هو الصراع العربى / الغربى ، وأن قيام إسرائيل لم يغيّر من الطبيعة الجوهرية لذلك الصراع ، وإنما أضاف فقط طرفا جديدا إلى أطرافه ، وأضاف أداة جديدة ، ويتضمن ذلك ، بطبيعة الحال ، أن تسوية الصراع العربى / الغربى هى الأساس لتسوية الصراع العربى الإسرائيلى . لقد أدركت قوى الردة على ثورة يوليو هذه الحقيقة حين تقدمت بمبادرة 4فبراير1971 لإعادة فتح قناة السويس أمام الملاحة الإسرائيلية ، وحين شرعت فى فتح قنوات الاتصال السرية مع الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل منذ ذلك العام . . ولكنها وجدت الأبواب مغلقة لأن كل إنجازات عبد الناصر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية كانت ما تزال راسخة فى عمق أرض مصر وفى وعى شعبها وضميره ووجدانه ، وعلى امتداد الأمة العربية كلها . وأن هذه الإنجازات بكل ما تمثله مصدر الصراع الأساسى ، ولذلك سارعت قوى الردة على الفور ، بعد أن فهمت الرسالة جيدا فى تصفية رجال عبد الناصر والناصرية بشكل عام . لقد كانت هذه العملية التاريخية المضادة فى حقيقتها هى بداية رحلة الهوان إلى إسرائيل ، بعد أن كانت تسوية الصراع العربى / الغربى بتصفية الناصرية قد حققت الشرط الأساسى لها ، وأصبح من الممكن الشروع فى تسوية الصراع العربى الإسرائيلى وفقا لمصالح وتوجهات نظام السيطرة والاستغلال العالمى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية . وفى هذا السياق ، وحده ، ينبغى وضع سياسات وتوجهات قوى الردة عن خط عبد الناصر سواء فى المجالات الوطنية أو القومية أو العالمية . لقد كان من الضرورى أولا تفكيك النظام الناصرى ، وبناء قاعدة اقتصادية ـ اجتماعية مغايرة ، والانعزال عن الوطن العربى وحركة عدم الانحياز . ومن نافلة القول أن قضية الحرية لا تتجزأ ، والنضال من أجلها لا يمكن عزله عن أصوله العالمية ومن هذا المنطلق فإن النضال الشعبى المصرى ، والنضال الشعبى للأمة العربية كلها يجرى فى إطار الثورة العالمية كلها لحركة التحرير الوطنى ، ولا يصدر الصراع فى هذه الدائرة العالمية ـ فى الإدراك الناصرى آنذاك ـ عن مجرد الانتماء إلى حركة التحرر الوطنى ، وإنما يصدر فى الأساس عن الدور الذى مارسته مصر فى هذه الحركة العالمية . لقد استطاعت ثورة يوليو 52 بطبيعتها العربية وبخطها الوطنى وبعدها الاجتماعى أن تصنع تأثيرات بعيدة المدى على أرض الأمة العربية ، وفى آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية ، حيث تقوم حركة التحرير الوطنى والاجتماعى بأشرف الأدوار دفاعا عن حقوق وكرامة الإنسانية والإنسان إن المبادىْ والأهداف التى وضعتها قوى الثورة العربية أمامها ، والشوط الطويل الذى قطعته على طريق الوفاء بها ، خلق وكان لابد أن يخلق عداء مستحكما بينها وبين القوى المعادية للتقدم ، قوى الاستعمار والإمبريالية والعنصرية الصهيونية المتواطئة معها إلى درجة العمالة . فى ضوء ما تقدم من محددات هل ما يزال الصراع العربى / الإسرائيلى جديرا بهذا التوصيف بعد كل ما جرى وما يجرى ؟ إن من الضرورى بداية أن نحدد المعيار الصحيح لتحديد الحالة القائمة ، وهل هى صراع ، أم نزاع ، أم وفاق ، أم تعاون ؟ وهل يتمثل هذا المعيار فى الطبقة الحاكمة من حيث مصالحها وإدراكها وتوجهاتها واختياراتها وموقفها أحمالا من الصراع ، أم يتحدد فى مصالح الجماهير العريضة وفى إرادتها وتطلعاتها المشروعة ؟ حتى إذا كانت بعيدة عن دائرة الوعى والفعل ؟ إن اتفاقيات كامب دافيد تعطينا دليلا مباشرا على خطورة اعتماد معيار الطبقة الحاكمة فى مثل هذه الحالات . إن مقتضى تلك الاتفاقيات أن مصر قد انتقلت من دائرة الصراع إلى دائرة السلام مع إسرائيل ، فهل يمكن القول أن التسوية السلمية بين مصر وإسرائيل تقف على أرض صلبة ؟ الإجابة بالنفى القاطع . . . لماذا ؟ . . . لأن طبيعة أهداف العدو الإسرائيلى تضعه فى مواضع الصراع الحتمى مع الأمة العربية كلها ، ومع مصر فى المقدمة منها بالذات . لأن حقائق التاريخ والجغرافيا ردت مصر بالضرورة إلى العرب ، نزولا على مقتضيات روابط وتفاعلات قرون طويلة وضرورات أمن واعتبارات مصلحة . ولأن عملية غسيل الدماغ التى تعرض لها الشعب المصرى هى إلى زوال ، فقد ذهب إلى " السلام من أجل الطعام " ، كما قيل له آنذاك ، ولكنه يكتشف الآن أنه خسر الهدفين معا . ولأن أى قوة متفوقة عسكريا على الحدود الدولية ، بمعيار الأمن القومى المجرد ، تعتبر قوة معادية بصفة مبدئية ، فما بالنا لو أضفنا إلى ذلك طبيعة العنصرية المجنونة التى تنطوى عليها العقيدة الصهيونية وتطلعاتها الحقيقية إلى إخضاع الأمة العربية كلها . من هنا يكتسب اصطلاح الصراع العربى / الإسرائيلى جدارته على امتداد المستقبل ، وخاصة إذا عمدنا إلى التعبير عنه اجتماعيا بدلا من التعبير عنه دوليا ، أى بمعيار الجماهير بدلا من معيار الطبقة الحاكمة ، باعتبار أن أى صراع هو بالأساس صراع اجتماعى يدور حول مصالح وموارد مادية . ويثور هذا الصراع على شكل دوائر تتسع شيئا فشيئا : تبدأ داخل كل قطر عربى ، وتتسع لتشمل الأمة العربية كلها ، بين كل القوى الراغبة فى بناء الحرية والتقدم والوحدة فى الوطن العربى ، والقوى المعادية لهذه التطلعات المشروعة ، من الرجعية العربية إلى إسرائيل إلى الغرب . من الصحيح أن إسرائيل ليست هى الطرف الأساسى على الخريطة الشاملة للصراع ، ولكنها الطرف المباشر فى صراع محدد وله خصائصه المميزة على هذه الخريطة ، هو الصراع العربى الإسرائيلى . وهو صراع قد يكون أكثر خطورة فى الأجلين القصير والمتوسط ، لأنه يمثل المشروع الاستعمارى المباشر الذى يعمد كل يوم إلى خلق وقائع جديدة على الأرض العربية ، كما أن دائرة عدوانه لا تقف عند حد . لذلك فقد آن الأوان أن نفهم ما فهمته إسرائيل منذ البداية من أنه ليس هناك حل سريع أو سهل . فهناك صراع بين طرفين على أرض غير قابلة للتقسيم ، أولهما لديه الحق ويمكن أن تكون لديه القوة ، والثانى لديه القوة ولا يمكن أن يكون لديه الحق . وإما أن تكون الأرض لصاحب الحق الباقى ـ الشعب الفلسطينى والأمة العربية ـ وإما أن تكون لصاحب القوة المؤقتة ـ إسرائيل والصهيونية العالمية ومن وراءهما من قوى دولية ـ . لقد كان دافيد بن جوريون أول من عبّر عن هذه الحقيقة حين انتهى إلى أنه ليس هناك حل . . . الأرض واحدة ولا يمكن تقسيمها ، والصراع على الأرض بين اثنين ، وهى لابد أن تكون لأحدهما فقط ، ولابد أن يكون الشعب الإسرائيلى هو الذى يحصل على هذه الأرض بمفرده . والحل الوحيد بالنسبة له ـ إذا كان هناك حل ـ أن يسعى بكل الوسائل ، بما فيها القوة والسياسة وحتى الخديعة ، لكى يجعل الطرف الآخر يرضى بالهزيمة ويتنازل عن مطلبه . أى أن هدف أية جهود وكل الجهود ـ من وجهة نظر إسرائيل ـ هو جعل الطرف الآخر يرضى بالتنازل عن حقه فى فلسطين لكن بعض العرب لا يفهمون ذلك , يتصورون أن التنازلات الجزئية هى الطريق إلى الحل . والحقيقة أن التنازلات الجزئية ليست طريق الحل إلا على منطق إسرائيل ، أى تنازل جزئى تحصل عليه إسرائيل معناه الاقتراب من التنازل الكلى ولقد أعطى العرب " من أجل السلام " تنازلات لم تكن تخطر على بال ، والنتيجة هى ما نراه اليوم . ومن هنا أهمية ما أظهرته التجربة العملية طوال الفترة الماضية من " ممارسة نموذج كامب دافيد " عن طبيعة الحل الممكن للصراع العربى الإسرائيلى . إن الخط البيانى العربى ، ومن ضمنه الفلسطينى طبعا ، من مسألة الاعتراف بالعدو الصهيونى والتعايش معه ، شهد انحدارا مستمرا منذ نكسة 1967 وحتى الآن . فيما نجد أن الخط البيانى الصهيونى من مسألة الاعتراف بالشعب الفلسطينى وحقوقه وممثله الشرعى ظل محافظا على ذات الاتجاه ولم يشهد أى انحدار مهما كان ضئيلا . إن الاعتراف والتعايش هو مسألة الاستراتيجية الرئيسية فى الصراع العربى الإسرائيلى وفى المسائل الاستراتيجية الرئيسية لا يناور ، ولا يساوم أما العرب فقد أخضعوا هذه القضية المركزية الاستراتيجية للمناورات والتنازلات دون تحقيق أى مكسب صغير على الأرض . وبينما العدو الصهيونى يسارع خطاه من أجل " خلق الحقائق على الأرض " باستمرار ، نجده على امتداد السنوات الماضية كلها لا يتزحزح خطوة واحدة باتجاه الاعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية . فإذا كان المغتصب سالب الأرض وطارد الشعب الفلسطينى من وطنه يتمسك بكل هذا الحزم باستراتيجيته ، ولا يقبل المساس أو العبث بها ، فكيف يرضى صاحب الحق والأرض أن يمس مبادئه الاستراتيجية ، ويحول برنامج التحرير إلى برنامج للتسوية ؟ أيتجرءون فى الباطل . . ونستخذى فى الحق ! ! وهنا يمتد نطاق لا واقعية الواقعيين العرب إلى حد التباهى بالعدو الصهيونى ، ويتجلى هذا فى الحديث عن " ثمن " السلام الواجب دفعه من خلال الالتزام بما يضمن " أمن إسرائيل " ، وحق جميع دول المنطقة فى العيش بسلام . ويتناسى المرددون لهذه الشعارات مقدار الزيف الذى تنطوى عليه ، سواء فيما يتعلق بمن عانى ويعانى مشكلة الأمن أو بالتناقض الكلى بين حق الصهاينة وحقوق الشعب العربى فى فلسطين . إن هذه هى بالفعل " إرادة التسوية " إرادة التخلى عن الصراع لاتقاء مخاطره . إذا وضعنا كل ما يدور فى إطار التسوية المطروحة الآن من اقتراحات واقتراحات مضادة فى السياق التاريخى للصراع العربى الإسرائيلى ، لاتضح أن جميع القوى الفاعلة حاليا ، بما فى ذلك القوى العربية الرسمية ، ترى أن مسئولية مضاعفات وعد بلفور عام 1917 وقرار التقسيم عام 1947 أثقل من أن تحمل ، وأفدح من أن تترك لمضاعفاتها الطبيعية ، وأنه آن الأوان لمحاولة طمس نهائى لآثار ما ارتكب فى 1917 و1947 . أما ما يبدو من خلافات داخل هذا الإطار العام للتسوية ، فهو فى السياق التاريخى للقضية ـ ليس أكثر من اعتراف ضمنى من قبل جميع الأطراف بأن الحل النهائى لهذه القضية لابد من أن يتأسس على الاعتراف النهائى بوجود إسرائيل ، وبعد هذا الاعتراف ، كحجر زاوية أساسى للتسوية ، يحاول كل طرف الحصول على ما يستطيع . فإذا كانت أوربا الغربية مقتنعة بحكمة وعد بلفور وواقعيته ، وإذا كانت أوربا الغربية والشرقية مقتنعة بحكمة قرار إنشاء دولة إسرائيل ، فإن الوضع العربى الرسمى قد انضم الآن للعالم بالاقتناع بحكمة وواقعية التسوية المبنية على تحول إسرائيل نهائيا إلى جزء من المنطقة العربية . معنى ذلك فى إطار مسيرة الصراع ، أن الوعد الأوربى المتحفظ عام 1917 ، قد تحول بعد ثلاثين سنة إلى قرار حاسم أجمع عليه المجتمع الدولى . ثم نال بعد ثلاثين سنة أخرى توقيع رئيس أكبر دولة عربية ، ذهب لزيارة إسرائيل ، وهى ما تزال تحتل كل أرض فلسطين وأجزاء شاسعة وهامة من أراضى مصر وسوريا والأردن و لبنان . إذن وبرغم مرحلة ثورة عبد الناصر ، وبرغم إنجازات التحدى فى معركة احتكار السلاح ، وفى معركة تأميم قناة السويس أمام إمبراطوريات الاستعمار القديم ، وبرغم بقاء قرار التحدى مرفوعا على أنقاض نكسة 1967 ، وبرغم بناء القوات المسلحة المصرية القادرة على التحدى فى حرب استنزاف حقيقية ، ثم فى معركة عبور مشرفة 1973 ، فإن بدايات الأمور وخواتيمها ـ حتى الآن ـ توحى بأنها مراهنة الغرب على ديمومة العجز العربى هى الأكثر واقعية . لقد ادعى المجتمع الأوربى الحكمة والواقعية عندما أصدر وعد بلفور ، و ادعى المجتمع الدولى ـ بغربه وشرقه ـ الحكمة والواقعية عندما أصدر قرار التقسيم ، ادعى حاكم أكبر وأهم دولة عربية الحكمة والواقعية ـ ومن ورائه الوضع العربى الرسمى بأشكال مباشرة وغير مباشرة ـ فى الاعتراف بإسرائيل كأمر واقع نهائى فى هذه المنطقة . ولكننا نلاحظ أن واقعية القرارين الدوليين ظلت أقرب إلى الادعاء منها إلى الحقيقة ، حتى جاء الإقرار العربى بشرعية المشروع الغربى الصهيونى . فهل هذا الإقرار العربى يشكل حجر زاوية حقيقى يمكن أن يبنى عليه سلام حقيقى ثابت ومستمر فى المنطقة ؟ يبدو أن الغرب قد استوعب جيدا كل دروس المراحل السابقة ، فلم يعد يسمح لنفسه بأى وهم فى تقييم مدى ثبات الأسس التى بنى عليها مشاريعه فى المنطقة . من هنا ، وعلى الرغم من كل التهليل الذى أحاط به الغرب شخصية الرئيس السادات ومنهجه ومنطقه وخطواته فإن الدوائر الغربية والإسرائيلية ، تدرك أكثر من غيرها أن ما تم حتى الآن ليس الرضى العربى التاريخى النهائى بمشروع إسرائيل ، بل الاعتراف العربى الرسمى بالعجز أمام المشروع الإسرائيلى . والفارق بين الاثنين كبير فالأول صامد ثابت والثانى متحرك زائل . وصحيح أن الغرب ما زال يبنى مشاريعه ويقيس واقعيتها على أساس العجز العربى ولكنه تعلم من مرحلة الخمسينات والستينات ، أن العجز العربى حالة لا يمكن أن تستمر إلا بفرض وتعميق وترسيخ ظروف استمرارها . ومع ذلك فينبغى الإشارة إلى أنه ليس هناك " موقف مبدئى " ضد التسوية ، أية تسوية ز ففى مجرى عملية الصراع الطويل والمعقد ، قد تنشأ فى لحظة ما إمكانية أو ضرورة القيام بمساومة أو بتسوية ما ، غير أن مثل هذه المساومة أو التسوية لا تكون بديلا عن برنامج الثورة أو الهدف الاستراتيجى الذى تحدده طبيعة التناقض بين الأطراف المتصارعة . هذا الفهم لمسألة التسوية ، باعتبارها مجرد إجراء عملى مؤقت ينشأ فى مجرى الصراع الطويل ، يأخذ فى الساحة الفلسطينية والعربية شكلا مقلوبا ، حيث تحولت التسوية إلى برنامج سياسى للأنظمة والمنظمة ن وخاصة منذ قمة فاس 1982 ، حيث أصبح هناك تطابق تام بين البرنامج السياسى العربى والبرنامج السياسى الفلسطينى . ولذلك فإن الجوهر الحقيقى للخلاف حول مسألة التسوية لا ينطلق من كون البعض يرفض التسوية والبعض يقبلها ، ولكن جوهر الخلاف الحقيقى ينطلق من معيارين : الأول : هل التسوية برنامج سياسى ترفعه الأنظمة والمنظمة على مدى جيل أو أجيال ، أم هو عملية إجرائية مؤقتة ، يمكن القبول بها فى لحظة ما من لحظات الصراع الطويل ؟ الثانى : أن الموقف من التسوية ، فى لحظة ما ، لابد أن يكون محسوبا على أساس موازين القوى الفعلية فى اللحظة المحددة ، وبالتالى فى حساب النتائج المادية والسياسية التى ستفرضها هذه الموازين . ولذلك فإن أخطر ما نشهده الآن يتمثل فى تدهور النظرة التاريخية للقضية الفلسطينية بالذات ، وفى صفوف قيادات منظمة التحرير الفلسطينية بالتحديد . وتكفى الإشارة إلى التناقض فى التحرك ، وأحيانا القفز ، من مبدأ " تحرير فلسطين " ـ كما حدده "الميثاق الوطنى الفلسطينى " ، حتى وصلت المنظمة إلى حد الاعتراف بإسرائيل ، وهى تحتل كامل التراب الوطنى الفلسطينى . لقد أقر المجلس الوطنى الفلسطينى فى دورته رقم 11 عام 1972 المبدأ السياسى التالى : " لا يحق لأية جهة من أى جيل من أجيال الشعب مهما تألبت عليه الظروف أن تتنازل عن أى حق من حقوقه الثابتة والطبيعية " وبالتالى فقد دعا إلى النضال ضد عقلية التسوية ، وما تفرزه من مشروعات ضد نضال شعبنا فى تحرير وطنه ، أو مسخ هذه القضية بمشروعات الكيانات أو الدولة الفلسطينية على جزء من أرض فلسطين ، والتصدى لهذه المشروعات بالكفاح المسلح وبالنضال الجماهيرى المرتبط به . غير أنه فى الدورة التالية مباشرة للمجلس ، بات من يقاوم دعوات التسوية متهما بالخروج على الإجماع الوطنى وعلى شرعية منظمة التحرير . ففى الدورة الثانية عشر عام 1974 أقر المجلس " برنامج النقاط العشر " الذى يدعو إلى إقامة سلطة وطنية " على جزء من أرض فلسطين " . وفى الدورة الثالثة عشر عام 1977 تحولت " السلطة " إلى " الدولة الفلسطينية المستقلة " ، لتصل فى الدورة السادسة عشر عام 1983 إلى " دولة كونفدرالية مع الأردن ن ثم تتابع انحدارها إلى إقامة " كيان فلسطينى " فى ذلك الجزء من أرض فلسطين يرتبط كونفدراليا مع الأردن ( اتفاق عمان عام 1985 ) . ثم جاءت دورة الجزائر الأخيرة عام 1988 ليعلن المجلس إقامة " الدولة الفلسطينية المستقلة " من ناحية ، وقبول التسوية على أساس القرار 242 ـ من ناحية أخرى . وعلى هذا الأساس أعلن السيد ياسر عرفات الاعتراف بإسرائيل وقبول القرار رقم 242 وإدانة عمليات المقاومة المسلحة ، كما أعلن أن نص " الميثاق الوطنى الفلسطينى " بشأن القضاء على إسرائيل أصبح " لاغيا " . لقد انقلب البرنامج الفلسطينى إلى نقيضه ، وأصبحنا إزاء برنامجين متناقضين ، ومنظمتين متناقضتين لا يجمعهما إلا نفس الاسم ونفس القيادة ن إنها منظمة للتحرير ، ومنظمة للتسوية . إن هذه التحديدات للموقف الفلسطينى ، وهى تحديدات متدرجة باتجاه الهبوط ، تبنتها جميعا منظمة التحرير الفلسطينية فى مدى يقل عن عشرين عاما ، وبالطبع من غير المتصور أن يكون المعطى التاريخى ، وهو المحدد الأساسى للقضية الفلسطينية كغيرها من القضايا قد تعرض لتغييرات على هذا النحو فى هذا المدى الزمنى القصير . ومع كل ما تقدم ، ينبغى الإشارة إلى خطورة الانزلاق إلى الحديث عن جدوى المفاوضات أو عدم جدواها ، لأن المفاوضات أصبحت واقعا أقرته كل الأطراف وانخرطت فيها بإرادتها ، بدأت بالفعل ما تسمى عملية أو مسيرة السلام . والأكثر أهمية فى هذا السياق أنه مازال هناك فارق هام وخطير بين السلام الذى تريده إسرائيل ، والسلام الذى يريده العربي ـ أو بمعنى أصح الأطراف العربية ـ فإسرائيل تريد السلام الذى يعكس توازن القوى الحالى وبالتالى هى تفسر " السلام العادل " بأنه السلام الذى يعطى لكل ما يستحق وفقا لذلك التوازن القائم ، أما السلام الذى تريده الأطراف العربية فهو السلام المنبثق من الحقوق التاريخية الثابتة والمؤكدة ، فضلا عن مواثيق حقوق الإنسان والشعوب والمواثيق الدولية التى تبنى على حق الشعوب فى تقرير مصيرها ، وتفسر السلام العادل بأنه السلام الذى يعطى لكل ذى حق حقه . وقد يكون هذا الاختلاف فى مفهوم السلام هو أهم العقبات التى تواجه هذه المفاوضات . وبدون الدخول فى مناقشة الجوانب الفنية أو التكتيكية فى المفاوضات الجارية يمكن التأكيد على بعض الجوانب الاستراتيجية فى هذه المفاوضات انطلاقا من قراءة متأنية فى خبرة المفاوضات السابقة ، وأيضا بمعرفتنا بأهداف إسرائيل وحلفاءها تجاه قضايا التفاوض ، وكذلك بإلمامنا بواقع المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية التى تمثل محددات لا يمكن تجاهلها فى تصور أفق محدد للعملية التفاوضية برمتها . أولا : نقطة البداية أن عملية التفاوض عملية طويلة ومعقدة ، وأن أحدا منها لا يستطيع أن يحقق كل أهدافه ، وأنها تقضى التعامل بمرونة ، وقد يستدعى مجرد الحرص على استمرارها تقديم تنازلات مستمرة وبالتالى فلابد أن تكون هناك خطوط حمراء تقف عندها هذه التنازلات ، ويبقى تحديد هذه الخطوط تحديدا قطعيا لأنها تدخل فى نطاق الحقوق المشروعة الثابتة للشعوب وللإنسان. وأولها : حق تقرير المصير للشعب الفلسطينى لأن المطروح من الجانب الإسرائيلى حتى الآن هو نمط من التسويات الداخلية على غرار ما سبقتن محاولته فى دول الجنوب الإفريقى ، وفشل بفضل حركة التحرر الوطنى ووعى شعوب إفريقيا وتماسك نظامها الإقليمى ـ " منظمة الوحدة الإفريقية " ـ والمساندة الدولية النشطة مما اضطر النظم العنصرية البيضاء إلى التراجع عن التلاعب بمصير المنطقة والانتقال إلى التفاوض الجاد تحو حق تقرير المصير . ومنها أيضا حف العودة أو التعويض للشعب الفلسطينى ـ وبغض النظر عن القرارات العديدة التى تعطى الفلسطينيين هذه الحقوق فستبقى هذه الحقوق ركنا من أركان حقوق الإنسان غير القابلة للتصرف ، كما وصفتها بحق اللجنة التى شكلتها الأمم المتحدة لهذا الغرض ، بل سميت اللجنة ذاتها بهذا التوصيف (لجنة الحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطينى ) ، ومنها احترام حقوق الإنسان فى جميع الحالات ، فرغم مسيرة السلام ، ورغم تغير حكومة شامير ، فما زالت سلطات الاحتلال تمارس الانتهاكات واسعة النطاق ضد كافة صور التعبير السلمى للمطالبة بحق تقرير المصير بدأ من فرق الموت والاعتقال الإدارى الذى يشمل أعدادا ليس لها نظير ، والحرمان من ممارسة كافة الحقوق السياسية ومصادرة الأراضى لأغراض الاستيطان الذى لم يتوقف حتى الآن وقانون العودة الإسرائيلى الذى يعطى حق المواطنة لكل من ينحدر من أم يهودية حتى إن لم يكن قد رأى أو عاش فى إسرائيل فى لوقت الذى يحرم فيه الفلسطينيين من حق العودة ، علاوة على سياسة الإبعاد والطرد التى تمارسها السلطات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ، ثم هناك سلب الثروات الطبيعية للأراضى المحتلة وخاصة المياه . وثانيها : رغم أننا نعلم أن ميزان القوى عسكريا وسياسيا ، لم يكن فى يوم من الأيام فى صالح إسرائيل كما هو اليوم ، إلا أننا ينبغى أن ندرك أن إسرائيل بحاجة ملحة للوصول إلى تسوية بسبب صعوبات جوهرية تعانيها داخليا ، وأيضا بسبب المناخ الدولى العام وربما الأهم من ذلك كله تطلعها لتغطى مشكلات حيوية فى مجالات المياه ، والتبادل التجارى ، لا تستطيع إنجازها من خلال العمل العسكرى . يضاف إلى ذلك أنه رغم ما يبدو من ضعف الموقف العربى فلا ينبغى الاستهانة بمصادر القوة الكامنة لدى الجانب العربى حتى وإن كان يغمرها طوفان من المشاكل . فهناك الانتفاضة التى ستبقى أهم عوامل الضغط على إسرائيل من اجل تحقيق السلام . وهناك ما أحدثته المتغيرات الدولية من تأثير على دور إسرائيل فى الاستراتيجية الكونية للولايات المتحدة الأمريكية بعد مرحلة الحرب الباردة . ويظل من المؤكد ضرورة إنجاز خطوات محددة لتجاوز العديد من مصادر الضعف العربية ، وفى مقدمتها إحباط مساعى إسرائيل الواضحة فى إثارة الشقاق بين الأطراف المشاركة فى المفاوضات من خلال إظهار تقدم مع أحد أطراف المفاوضات على حساب الأطراف الأخرى . ولاشك أن المشكلة الأساسية تتمثل حقيقة فى أن الأطراف العربية لا تثق فى بعضها البعض ، وهى لم تتخلص بعد من آثار كارثة الخليج ، كما أنه ونتيجة لاتجاه المفاوضات للمسار الثنائى تراجعت قضية فلسطين عن المكانة التى كان يتعين أن تتبوؤها لدى كافة الأطراف . وهنا ينبغى التذكير بأن الترسانة الإسرائيلية النووية ليست موجهة للفلسطينيين ، وإنما هى موجهة ضد كل العرب ، وخاصة مصر وسوريا . ثالثها : أن الرغبة فى إظهار قدر من المرونة فى الموقف العربى لاجتذاب التأييد الدولى وخلق الحوافز أو قوة الدفع اللازمة لاستمرار عملية التفاوض ، يتعين ألا تتعارض مع أفق المطالب العربية الثابتة ، خاصة أن الهامش المتاح أمام المفاوض العربى محدود للغاية بحكم ميزان القوى ، والانحياز الأمريكى للموقف الإسرائيلى ولا أدل على ذلك من أن نحصر الفيتو الأمريكى الذى صاحب جميع القرارات التى صدرت عن المنظمة الدولية يدين إسرائيل . وفى واقع الأمر فإن الأدبيات الإسرائيلية مليئة بالكثير الذى يمكن استغلاله من جانبنا لإرباك دعاواها مثل الربط مثلا بين الأهداف المرحلية من الحكم الذاتى ، والأفاق النهائية لعملية التسوية . رابعها : أن أحد الأهداف الكبرى فى عملية التفاوض الجارية تستهدف أبعادا خارج حدود عملية التفاوض القائمة ربما أهمها وأخطرها هو دور إسرائيل فى المنطقة فى مرحلة ما بعد السلام . وإذا كان التبشير الإسرائيلى قد بدأ مبكرا منذ الستينات نحو الدعوة إلى تأسيس نظام إقليمى شرق أوسطى بديلا للنظام العربى ، فقد تبلور هذا الاتجاه بشكل بارز من زيارة الرئيس السادات لإسرائيل وتوقيع اتفاقيات كامب دافيد . والتحذير الواجب هنا قائم ليس على اعتبارات عاطفية ، أو على مشاعر قومية فحسب ، ولكنه قائم أيضا على أسس مصلحية جوهرية حيث تتعارض هذه الدعوة مع طموحات ومصالح حيوية لشعوب الأمة العربية ، كما أن إرساء أسس هذا النظام الشرق أوسطى فى المرحلة الراهنة التى تجاوزت فيها الخصومة فى الصف العربى كل الحدود من شأنه أن يكسب إسرائيل امتيازا فى قرار المنطقة ، لا تستحقه ولا ينبغى أن تحصل عليه . خامسها : أنه مهما كانت المقاصد والمحددات التى تفرض أبعاد عملية التفاوض ونتائجها المحتملة . ومهما كانت درجة المعاناة التى يعانيها الأطراف العربية فإنه لا يتعين التسليم بحوافز تخلق حقوق ارتفاق إسرائيلية لا يمكن التحلل منها ولا تستطيع الأجيال القادمة تقبلها وذلك بالنسبة لقضايا التفاوض حول المياه . بمعنى أنه لا يجب الالتفات إلى مكاسب عاجلة مهما كان بريقها عن مخاطر قادمة تدفع إلى صراع محتوم تبدأ به الأجيال القادمة من نقطة أضعف مما نحن عليه الآن . ويمكن الإشارة هنا على وجه التحديد إلى وعود من طراز مد مياه النيل لإسرائيل ، والتى تمت فى مرحلة من مراحل التسوية المصرية الإسرائيلية وتم إحباطها فى مهدها لحسن الحظ . لقد كان أحد الدروس التى استفدناها من خبرة الصراع الإسرائيلى العربى ، هو أن فرية تخدمها قوة وجهاز دبلوماسى / دعائى نشط ، أكثر رسوخا وتقبلا من حق تنقصه القوة والجدية فى الدفاع عنه . والمؤكد أن النتائج النهائية لأى مفاوضات ترتبط بقوة الإصرار والإرادة السياسية ، بقدر ما ترتبط بميزان القوة ، ويبقى هذا مناط التحدى الحقيقى ومصدر الرجاء فى انتزاع الحق العربى . ولكل ما تقدم ن يظل الصراع العربى الإسرائيلى فى مقدمة القضايا التى يجب أن تتصدى لها أمتنا العربية ، لإنهائه بالصورة التى تحقق استعادة الحقوق العربية المغتصبة ، وتجعل مصير المنطقة غير مرهون بالسياسات العدوانية التى تنتهجها إسرائيل . ولذلك لابد من التنبيه إلى خطورة التهوين من الخطر الذى يمثله الزحف الصهيونى المتواصل والمتصاعد ، وإلى خطورة تبسيط دوافعه ومطامعه إلى درجة تصوير الصراع بين الشعب العربى والحركة الصهيونية المدججة بالسلاح فى إسرائيل ، باعتبارها مجرد " حاجز نفسى " . إن التحديات التى تواجه العرب تتمثل فى مشروع صهيونى أمريكى مركب يهدف فى منتهاه إلى إخضاع المنطقة بأكملها ، وفى مقدمتها مصر للهيمنة الأمريكية والتسلط الإسرائيلى . إن إسرائيل لا تصنع الأسلحة النووية ولا الصواريخ بعيدة المدى ـ بدعم أمريكى غير محدود ـ لكى تردع بها شعب فلسطين أو تضرب بها دمشق وبيروت فقط ، ولكن لكى تكون هذه القدرات والإمكانيات التدميرية سلاحا مسلطا على عنق الأمن القومى المصرى فى الأساس ، وبالتالى على القرار السياسى المصرى ، وليكون الأداة التى تردع أى تصرف أو سلوك أو موقف يتيح لمصر الاضطلاع بمسئولياتها الوطنية والقومية . إن طلب إسرائيل بأن تكون مصادر المياه فى المنطقة من القضايا المطروحة فى إطار المفاوضات الجارية الآن يكشف بوضوح أن حدود الصراع ، ومنطقة الصراع ليست هى القضية الفلسطينية وحدها ، وإنما ساحة الصراع أوسع من ذلك بكثير فهى تشمل مستقبل المنطقة ككل . وهل يكون هذا المستقبل مرهونا بالإرادة العربية ، أو فى خدمة الهيمنة الأمريكية والسياسات الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية ؟ ويظاهر إسرائيل ويدعم سياساتها وموقفها العدوانى العنصرى المتصل ، إغداق أمريكى عسكرى واقتصادى وسياسى وعلمى ليس له حدود . وهذا الموقف الأمريكى لا تمليه اعتبارات إنسانية أو دينية ، ولا يمثل نوعا من التعاطف مع الأمانى الصهيونية ، ولكنه يقوم على حسابات سياسية دقيقة للمصالح الأمريكية فى المنطقة . ولذلك ، فإن المفاوضات الجارية الآن ، تحت الإشراف الأمريكى ، ليست إلا أداة لاستهلاك الوقت وتثبيت الموقف العربى فى إطار تفاوضى لتمكين إسرائيل من استكمال مشروعها الصهيونى الذى يهدف إلى إغراق الأرض المحتلة بالمهاجرين اليهود من دول المعسكر الاشتراكى السابق ونشرهم داخل المستوطنات التى جرى وما يزال يجرى بنائها هناك لخلق أمر واقع جديد يمكن من خلاله إجبار العرب على تقديم مزيد من التنازلات الإقليمية والسياسية ، بل والتفريط فيما بين أيديهم من ثروات مادية وطبيعية ـ المياه والثروات البترولية ـ لحساب إسرائيل . ومن ثم ، فإنه من المحتم على الحكومات العربية أن تقوم باختيار المقاومة و اتخاذ مواقف حاسمة وموحدة حيال هذه الأخطار التى تهدد المصير العربى والتى لن ينجو من عواقبها الوخيمة أى بلد عربى . ويكفى أن العدوان الإسرائيلى العسكرى المباشر ـ بعد أن استولى على فلسطين كاملة ـ قد ضرب حتى الآن ست دول عربية هى سوريا ومصر والأردن ولبنان والعراق وتونس . أما التحجج بأن القدرات العربية أضعف من أن تنشئ هذا الموقف الرافض للتهديد الإسرائيلى والحصار والاحتواء الأمريكى ، وأن الانقسامات العربية لن تتيح اتخاذ هذا الموقف الموحد ، وأن المحصلة النهائية تقتضى مسايرة أطراف الضغط والتهديد ، فهذه كلها ليست إلا تعلّات لتبرير مزيد من التبعية ولتقديم المزيد من التنازلات . وإن كان هذا الادعاء بشقيه صحيحا ، فبسببه ومصدره الأول بل والوحيد هو تكبيل الحكومات العربية الراهنة للإرادة القومية العربية ، واتخاذها سياسات قهرية ضد الشعوب صاحبة المصلحة لتمنعها من التعبير عن رأيها وعن أمانيها وطموحاتها القومية . أما الانقسام الحادث فهو يخص الحكام العرب وحدهم ، ولا يمس فى جوهره الشعوب من قريب أو بعيد ، وإن الحكام هم الذين أحدثوا هذا الانقسام بدافع المصالح الذاتية الشخصية الضيقة ، ويحاولون الآن تكريسه وفرضه على الشعب العربى على امتداد الوطن العربى الكبير من المحيط إلى الخليج . والسبيل الوحيد أمامنا الآن هو تفعيل المجتمع المدنى بكافة قواه ومؤسساته واتحاداته وجمعياته لتعبئة الجماهير العربية فى إطار جبهة قومية عربية متحدة بهدف التصدى للتحدى الصهيونى الأمريكى من خلال الدعم المطلق وبكل الوسائل غير المحدودة للانتفاضة الفلسطينية . ولمن يقولون لنا : هل تريدون الحرب ؟ وهل تقدرون على أعبائها ؟ نقول : أسئلة خائبة وبالية صارت مضغة فى أفواه من يريدون مداورة مواقفهم ومنطقهم البليد . نحن لا ندعو لحرب . . وكلننا نرفض الاستسلام ، ونطلب السلام الحقيقى العادل والشامل ، السلام الواقعى الذى أقرته الأمم المتحدة . . نحن نعادى إسرائيل الاستعمارية العنصرية مغتصبة حقوق العرب . . . ونحن نكره سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ونختلف مع انحيازها لإسرائيل واتباعها أسلوب وسياسة الكيل بمكيالين . لقد قال الرئيس جمال عبد الناصر عقب صدور القرار رقم 242 ما نصه : " إننا نعرف منذ البداية أننا نحن الذين سنحرر أرضنا بقوة السلاح ،وهى اللغة الوحيدة التى تفهمها إسرائيل ، وأن الأمريكان والإسرائيليين يعرفون جيدا أننا لم نهزم فى الحرب طالما لم نتفاوض مع إسرائيل ، ولم نوقع صلحا معها ، ولم نقبل تصفية القضية الفلسطينية . أختم كلامى باستعراض لاستراتيجية الرئيس جمال عبد الناصر بالنسبة للقضية الفلسطينية ، كما أملاها علىّ ودونتها فى النوتة الخاصة بى : كان الرئيس جمال عبد الناصر مؤمنا عن يقين أن بناء القوة العربية الذاتية الشاملة هى الطريق الوحيد للانتصار على الكيان الصهيونى الاستيطانى وعودة الحق الذى اغتصب من الشعب العربى ومن هنا فقد كان يدرك أن مشكلة إسرائيل تتصل اتصالا وثيقا وعضويا بأوضاعنا الداخلية . وكان يعتبر أن تخلفنا هو الشىء الوحيد الذى يضمن لإسرائيل البقاء على أرضنا العربية ، وأن الخطر الإسرائيلى سيتلاشى حتى قبل المعركة الفاصلة إذا تمكنت الأمة العربية من أن تخلص نفسها من التخلف الذى فرض عليها . وأننا مع كل تغيير يزيد من القوة العربية ، من أجل المعركة ، ونحن ضد أى صراع شخصى أو طائفى أو فكرى لا يكون من شأنه أن يضيف للمعركة وإنما يأخذ منها . وكان يرى أن منطق العصر هو أن الحق بغير قوة ضائع ، وأن أمل السلام بغير إمكانية الدفاع استسلام . وأن المبادأة بدون قدرة على حمايتها مثالية مكانه السماء ، وليس لها على الأرض مكان . وأنه يجب أن نفهم الروابط العربية التى تجعل من أرض العرب منطقة واحدة لا يمكن عزل جزء منها عن كلها ، ولا يمكن حماية مكان بوصفه جزيرة منعزلة لا يربطها بغيرها رباط . وإذا كنا خسرنا معركة فإننا لم نفقد إرادتنا ولا فقدنا العصمة ، والخسارة فى معركة لا يكون بأى حال دافعا للاستسلام . وفى النهاية فإنه كان يرى أننا لا نريد الحرب ، ولكن إذا أرادتها إسرائيل ومن وراء إسرائيل فأهلا وسهلا . الخلاصة فإنه كان يرى أن القضية الفلسطينية هى قضية مصرية قبل أى شىء . أعدت هذه الدراسة بواسطة سامى شرف من واقع معيشته للأحداث وعمله بقرب الزعيم الخالد جمال عبد الناصر وهى تعتبر شهادة اتحمل مسئولية كل كلمة وردت فيها أو رأى أبديته وجاء فيما يبدو أنه على لسان الرئيس جمال عبد الناصر أو يمثل رأيه أو تقويمه .
سامى شرف
سكرتير الرئيس جمال عبد الناصر للمعلومات
ووزير شئون رئاسة الجمهورية الأسبق
..............."
إنتهى نقل هذا الجزء
يحى الشاعر
- يتبع -
-
الصراع العربى الصهيونى
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
Web guest
Thank you for your visit
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT,
International Computer Consulting & Training, Germany, US