Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf
الـحـــديث الصــحــفـى
أسرار «الخطة أوميغا»
الرامية لتغيير ملامح الحياة في مصر
 
كتاب
 نـاصر محـارباً
تأليف
لورا جيمس 
 
- 1 -
 
"... أدليت للمؤلفة بمعظم البيانات الواردة أدناه توثيقا لتاريخ ثورة 1952
لذلك ، أعيد عرضهم على القارىء العربى مرة أخرى لتكملة سطور التاريخ ..."
سامى شرف
 
 

 

كتاب ناصر محارباً الحلقة1


أسرار «الخطة أوميغا» الرامية لتغيير ملامح الحياة في مصر


 
هل بقي في تاريخ الزعيم العربي جمال عبدالناصر والحركة الناصرية جوانب لم تحظ بالقدر الذي تستحقه من البحث والتحليل والتأمل؟ إن هذا الكتاب الماثل بين أيدينا يستمد أهميته ـ في المقام الأول ـ من أنه يتصدى للإجابة عن هذا السؤال بتأكيد أن هناك العديد من الجوانب التي تستحق إلقاء المزيد من الضوء القوي والواضح والصريح على ما تطلق عليه المؤلفة، لورا جيمس، وصف «الميراث الناصري». 
 
 
 
وتتضاعف هذه الأهمية من خلال معرفتنا بالحقيقة القائلة إن المؤلفة تتصدى لهذه المهمة على وجه الدقة من خلال المقاربة المباشرة، أي عبر ما يزيد على ثلاثين حواراً مباشراً أجرتها المؤلفة مع الشخصيات التي شاركت في صنع أحداث هذا الكتاب أو على الأقل كانت شهوداً عليها بمن في ذلك نائب سابق للرئيس ورؤساء وزراء ووزراء وقادة عسكريون وسفراء، بالإضافة إلى مواد فرضت عليها السرية حتى وقت جد قريب في الأرشيفات العربية والغربية، فضلاً عن نطاق هائل من المصادر والمراجع والمواد البحثية.ومن المحقق أن القارئ سيدرك، بلمحة عاجلة، الأهمية الفائقة والطبيعة الاستثنائية لهذا الكتاب من مجرد إلقاء نظرة على عنوانيه الرئيسي والفرعي.العنوان الرئيسي يشير بشكل قاطع إلى «ناصر يخوض الحرب» أو «ناصر محارباً» حسب التعبير الذي أثرناه، وعلى الرغم من الأهمية الفائقة لهذا الجانب في تجربة التحديث الناصرية، فإن ذلك لا يقلل بحال من أهمية الجانب الآخر الذي يشير إليه العنوان الفرعي . 
 
وهو «الصور العربية للعدو» فالباحثة تحرص أشد الحرص على امتداد الكتاب على إلقاء الضوء على التفاعل بين الصورة التي يشكلها العرب عن أعدائهم وبين التجليات المختلفة لديناميات الصراع مع هؤلاء الأعداء، وهي تشهد على أن جانباً كبيراً من توجهات الصراع والطريق الذي يشقه إنما يرجع إلى الصورة العربية عن الخصم وليس سلوكيات الخصم نفسه ومواقفه. وهي رؤية ـ على الرغم من أنها تبدو موضع مناقشة حقاً ـ إلا أنها تظل جديرة بالاهتمام والمتابعة.ولكن من هي حقاً هذه المؤلفة التي تتصدى لموضوع على هذا القدر الكبير من الأهمية وبهذه الجرأة وعبر هذا الجهد البحثي الميداني والمكتبي الهائل؟مؤلفة هذا الكتاب، لورا إم. جيمس، هي محللة لشؤون الشرق الأوسط من وحدة المعلومات بمجلة «الايكونوميست» اللندنية العتيدة، والكتاب هو صياغة مطورة لأطروحتها لنيل درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية في مجدالين كوليج بجامعة أكسفورد، وقد عملت محاضرة في جامعة أكسفورد، كما قامت بتدريس اللغة الإنجليزية في القاهرة، وعملت مستشارة للأمم المتحدة في روما. 
 
 
 
من ناحية الشكل يقع هذا الكتاب في 240 صفحة من القطع المتوسط، ويتسم إخراجه الفني بالتقشف الذي عرف عن إصدارات بلجريف ماكميلان المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط، ويلفت نظرنا غلاف الكتاب المنقول عن جدارية مرسومة بعيد رحيل الزعيم العربي في 29 سبتمبر 1970، وقد محيت العين من الجدارية،


ربما في تأكيد على الطابع الخلافي للمناقشات التي شهدها الشارع المصري في وقت من الأوقات حوله.وربما يلفت نظرنا هذا الاختيار إلى توجهات الباحثة نفسها، فعلى الرغم من صلتها الوثيقة بالعديد من المصادر في مجال بحثها، وهي مصادر تتصدرها قيادات ناصرية بارزة، إلا أن الباحثة لا تتردد في صدر الكتاب في الإعراب عن شكرها على ردود الأفعال على البحث من جانب آفي شلايم أحد الأسماء البارزة في حركة المؤرخين التنقيحيين اليهود، والذي تقول المؤلفة عنه إنه «شكَّل الاتجاه الأصلي لبحثي». 
 
 
وهي تقول أيضاً إن بحثها الأصلي قام بتمويله مجلس الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، وفي الوقت نفسه تعرب عن شكرها لكل من د. ثروت عكاشة وأحمد سعيد لإمدادها بمواد بحثية إضافية، وكذا امتنانها لأحمد حمروش وأمين هويدي وسامي شرف الذين ردوا على أسئلتها في العديد من المناسبات بالإضافة إلى كثيرين غيرهم
 
 
الجايين والرايحين 
 
 
على الرغم من أن الكتاب صياغة مطورة لرسالة دكتوراه في العلاقات الدولية، إلا أنه يظل يحمل قدراً ليس باليسير من التعقيد الذي يسم العديد من الرسائل التي تعد لنيل هذه الدرجة العلمية.هكذا فإننا سنجد أن الكتاب يشمل، بالإضافة إلى المقدمة التي تدور حول التعريف بموضوعه ومنهاجه والخاتمة التي تدور حول الميراث الناصري تسعة فصول متوالية. 
 
 
أول هذه الفصول يحمل العنوان الدال المقتبس عن عبدالناصر نفسه، أي «الجايين والرايحين» والمراد بالفريق الأول الأميركيون كمرادف للمستقبل في المنطقة على نحو ما بدت في أوائل الخمسينيات. إن الفريق الثاني المراد به البريطانيون الذين علقت الآمال على أن يحملوا عصاهم على كاهلهم ويرحلوا للأبد.في الفصل الثاني نحن على موعد مع تصفية الماضي، وهو التوصيف الذي اختارته المؤلفة لتتناول تحته تأميم عبدالناصر لقناة السويس. 
 
 
الفصل الثالث هو الساحة التي يمتد عليها تحليل المؤلفة لتلك المرحلة من العدوان الثلاثي التي شرعت فيها القنابل في التساقط على المدن المصرية، وكيف خرج عبدالناصر من مواجهة العدوان الثلاثي بطلاً لا لمصر وحدها وإنما للعالم العربي بأسره، بل وللعالم الثالث بكامله. حرب اليمن تقوم المؤلفة بتقديم تحليل ضاف لها في الفصل الرابع الذي اختارت له عنوان «التدخل في اليمن». 
 
 
الصراع الذي شهدته هذه المرحلة من الستينيات، وخاصة محاولة بريطانيا الإبقاء على آخر معاقلها في العالم العربي يشغل الفصل الخامس من الكتاب الذي يحمل العنوان الدال «غابة كبيرة للغاية: أسود ونمور ودببة».في الفصل السادس ستتابع كيف تضمن الخطاب الناصري مطابقة بين الاستعمار والصهيونية والرجعية. 
 
 
في الفصل السابع نحن على موعد مع استحضار تفصيلي لتلك المرحلة الكئيبة من تاريخ المنطقة التي جلبت معها صباح الاثنين الكئيب الخامس من يونيو 1967. تحت عنوان «كابوس واحد مستمر» تناقش المؤلفة ما أعقب الهزيمة المدوية ومجمل المواقف العربية والإسرائيلية والأميركية منها. 
 
 
في الفصل التاسع الذي يحمل عنوان «لا بديل عن المعركة سنلتقي بتحليل المؤلفة لحرب الاستنزاف والخطط التي أعدها عبدالناصر لتحرير الأرض العربية بالقوة، وهي الخطط التي لم يقدر له أن يرى تنفيذها، حيث غادر عالمنا في 29 سبتمبر 1970، تاركاً لنا ما تسميه المؤلفة بـ «الميراث الغامض». 
 
 
لقد تعمدنا أن نقدم هذه البنية الهيكلية التي رسمتها المؤلفة، لكننا نعتقد أن جوهر هذا التحليل الذي قدمته لورا جيمس يصب في ثلاثة مسارات، هي على التوالي العدوان الثلاثي، حرب اليمن، حرب 1967، ووقائع حرب الاستنزاف وصولاً إلى مبادرة روجرز، ولما كان المسار الثاني يهم بعض فئات المؤرخين والباحثين أكثر مما يهم القارئ العربي، فإن تركيزنا ـ بالطبع ـ سينصب على المسارين الأول والثالث. 
 
 
ونحن نضع أيدينا على جوهر الكتاب، حيث تشير المؤلفة إلى أن عملها يتضمن تقويم كيف أن تغيير خصوم ناصر قد أثر على القوة الاستعمارية السابقة، بريطانيا، والديناميات المريرة للتنافس فيما بين العرب، وكيف أن الصراع العربي الإسرائيلي وصل أخيراً إلى جمود لا مجال معه للحلول الوسط، والأكثر أهمية أن الكتاب يستكشف إعادة التمديد التي قام بها عبدالناصر تدريجياً للولايات المتحدة من القوة متعاونة متعاطفة إلى عدو امبريالي فائق، وهي صورة لم يقدر لأميركا قط التخلص منها على الساحة العربية. 
 
 
والمؤلفة تلفت نظرنا إلى أنها تحرص على تحليل عملية صناعة القرار في مصر خلال عهد عبدالناصر، وذلك من منظور محدد هو التركيز على تغير صور العدو، وتبرر تبنيها لهذا المنظور بالإشارة إليه أنه عندما يواجه بلد ما حرباً، فإن الاهتمام يتركز بشدة على الخصم. والقادة يشكلون السياسة الخارجية وقراراتها بالإحالة إلى نوايا العدو وقدرته، إلا أنهم لا يمكنهم الاستجابة إلى فكرتهم هم أنفسهم عن هذا العدو، التي ستكون بالضرورة تمثيلاً تبسيطياً وانتقائياً لواقع معقد. 
 
 
وهي تذهب إلى أنه يمكن التوصل إلى الأشكال المتشابهة التي تتطور بها مثل هذه الصور عن العدو وتتفاعل وتتواصل، وهي تميل إلى مقاومة التغيير، حيث إن صانعي السياسات يميلون إلى تفسير المعلومات التي يتلقونها على نحو يتوافق مع معتقداتهم الموجودة بالفعل والمرتبطة بهذه الصور. 
 
 
وفي هذا الصدد تبرز المؤلفة «الصلات الودية» على حد تعبيرها بين الضباط الأحرار وبين الأميركيين التي تجلت في إرسال رسالة لسفارتهم في 23 يوليو 1952 في الساعات المبكرة من قيام الثورة عن طريق علي صبري، وهي الرسالة التي تلقاها السفير الأميركي جيفرسون كافري بالفعل، وقد كانت بداية لاتصالات مماثلة أعقبت ذلك، على الرغم من أن هذا الجانب لا يزال خلافياً حتى اليوم. 
 
 
وتتحدث لورا جيمس عن أول لقاء لعبدالناصر بوزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس في مايو 1953، مشيرة إلى أن الولايات المتحدة لم تكن في هذه المرحلة مدرجة بين أعداء مصر الاستعماريين، بل إن عبدالناصر حرص على تجنب إيراد أميركا في مثل هذا السياق في كتابه «فلسفة الثورة» حيث كان ينظر إليها على أنها تمثل المستقبل غير الاستعماري.في هذا السياق على وجه التحديد جاءت الإشارة إلى الأميركيين باعتبارهم «الجايين» في مفارقة لوضعية الإنجليز الذين يشكلون «الرايحين». 
 
 
لكن المؤشرات السلبية بدأت في البروز في وقت أكثر تبكيراً مما توقع المتفائلون بملامح الصورة الأميركية، فها هو وليام فورستر مساعد وزير الخارجية الأميركي يزور القاهرة في نوفمبر 1953 ويعد بأسلحة تفوق ما يمكن أن يقدم لمصر بأي معيار، وعندما انطلق علي صبري إلى أميركا حاملاً قائمة بالمواد المطلوبة كانت النتيجة صفراً كبيراً، وبالفعل رفض أيزنهاور تقديم أي مساعدات لمصر، ويتذكر الكثيرون التعليق الشهير لعبدالناصر آنذاك، حيث قال إن الشيء الوحيد الذي سيجيء إلى مصر من أميركا هو .. علي صبري. 
 
 
في أكتوبر 1954 عرضت الولايات المتحدة مساعدة عسكرية على مصر قيمتها 20 مليون دولار، لكن ذلك لم يكن إلا خمس ما كانت مصر تتوقعه، ثم إن هذه المساعدة كانت مقترنة ببعثة إشراف عسكرية أميركية حسب اللوائح الأميركية، وهو أمر كان عبدالناصر يرى أن من المستحيل قبوله. 
 
 
حاولت «السي. آي. إيه» الالتفاف على هذا القيد القانوني بتقديم حقيبة تحتوي علِ ثلاثة ملايين دولار، وهو ما نظر إليه عبدالناصر على أنه إهانة تتضمن محاولة رشوة، وهكذا صودر المبلغ وأنفق عن آخره في تشييد برج القاهرة العتيد.كان أهم محور في هذه المرحلة كان تشديد ناصر في المناقشات غير المثمرة مع المسؤولين الأميركيين على التحذير من ارتباط الأميركيين بإسرائيل والذي حرص على وصفه بأمر خطير بالنسبة لمصر في المدى الطويل.كأن الرجل الكبير كان يطل في علم الغيب، ويقرأ في دفاتر هؤلاء «الجايين». 
 
 
الخطة أوميغا 
 
 
من منظور المؤلفة فإن عام 1955 كان هو العام الذي وضعت فيه أسس حرب عام 1956، حيث تدهورت علاقات مصر بأعدائها بشدة، وهي تلفت نظرنا إلى عدد من المتغيرات المهمة في هذا السياق. 
 
 
ـ طلقة البداية هي حلف بغداد الذي وقعته تركيا والعراق في 24 فبراير 1955، والذي اعتبره ناصر محاولة تقودها بريطانيا لاستدراج الدول العربية الأخرى إلى هذا الحلف وعزل مصر، وتجديد الوجود الاستعماري تحت عنوان آخر، ومن هنا كان من الطبيعي أن يمنى بالفشل اللقاء الوحيد بين ناصر وايرن الذي كان في عشاء عمل في السفارة البريطانية، بالقاهرة في فبراير 1955، حيث خرج بالانطباع أن وإيدن كان يتصرف خلال اللقاء مثل «أمير يتعامل مع مشردين». 
 
 
ـ في 28 فبراير 1955 وقعت الغارة الإسرائيلية على غزة التي شكلت منعطفاً بالغ الخطورة في تطورات الأحداث، حيث كان لها تأثير هائل على صور إسرائيل في ذهن القادة المصريين، حيث كان عبدالناصر ينظر دوما إلى إسرائيل على أنها يحتمل أن تكون عدوانية لكن هذه الغارة جعلته يرى فيها خطراً وشيكاً، ونظراً إلى الغارة نفسها كجزء من مؤامرة ممتدة لإضعاف العرب، وهكذا أصبحت القضية الفلسطينية بالنسبة له «مسألة حياة أو موت». 
 
 
ـ في 27 سبتمبر أعلن ناصر إبرام صفقة السلاح التشيكية وعزمه المضي قدماً فيها على الرغم من الضجة الكبرى التي أثارتها واشنطن بما في ذلك انطلاق حشد كبير من المبعوثين الأميركيين ومن بينهم كرميت روزفلت. 
 
 
في فبراير 1956 بدأت المناقشات حول إرسال أسلحة أميركية إلى إسرائيل، وفي مارس بدا واضحاً أن لجنة أندرسون التي تناقش مسألة السد العالي قد وصلت إلى طريق مسدود وألقى دالاس اللوم في ذلك على مصر.هنا بدأت واشنطن في تنفيذ البديل، والذي لم يكن سوى «الخطة أوميغا» وهي خطة معدة لاحتواء ناصر، وتم بالفعل تعطيل إرسال المساعدات الأميركية إلى مصر والتعجيل بتقديم المساعدات لحلف بغداد. 
 
 
يبدو أن المبادرة الأصلية بشأن «أوميغا» كانت بريطانية، فبعد صفقة السلاح التشيكية كتب ايفلين تشكبورو، وهو دبلوماسي بريطاني بارز ورقة تحدد البدائل المختلفة المطروحة أمام الغرب وتخلص إلى حتمية المبادرة أولا بتخويف ناصر ثم محاولة رشوته وإذا لم ينجح هذا ولا ذاك فلابد من التخلص منه، وبعث ببرقية فائقة السرية في 28 نوفمبر 1955 إلى سير ايفون كير كباتريك الوكيل الدائم لوزارة الشؤون الخارجية أوضحت أن هذه الفكرة ليست بالجديدة بالنسبة لوزارة الخارجية البريطانية. 
 
 
تضمنت المسودة الأصلية للرسالة الفقرة التالية التي حذفت لاحقاً «يبدو إلى حد كبير أن السبل الوحيدة الممكنة لقطع الطريق على المسار الراهن للنظام المصري هي: 
 
 
1ـ موت ناصر 
 
 
2ـ إطلاق يد الإسرائيليين». 
 
 
في 8 مارس 1956، وحسب رواية تشكبورو: «فقدنا نحن والأميركيين بصورة حقيقية الأمل في ناصر وبدأنا البحث عن سبل القضاء عليه». 
 
 
لكن هل كان ناصر على وعي حقا بهذا الموقف الانجلو ـ أميركي؟ من المؤكد أنه لم يغفل عن ملاحظة التردي العام في العلاقات، وفي 31 مارس كشف ضباط في جهاز المخابرات البريطاني «الاس. آي. إس» النقاب عن خطط لقتل ناصر أمام عملاء للسي. آي. إيه. وقد بلغ انزعاج بعض كبار المسؤولين البريطانيين من هذه الخطط إلى حد القيام بتسريب خبرها إلى نظراء مصريين لهم. الأمر الذي «ضايق ناصر كثيراً» على حد تعبير علي صبري. 
 
 
شملت المرحلة الثالثة من «الخطة أوميغا» تحركات أميركية بالغة الخطورة، من بينها إبراز دولة عربية كمنافس لمصر والاستعداد لانقلاب في سوريا يعكس اتجاهها لمناصرة العراق. ويبدو أن عبدالناصر لم يبد اكتراثا كبيراً بالتحركات البريطانية وتشكك في دوافع الولايات المتحدة لتسريب هذه المعلومات. ومن المحقق أنه عشية أزمة السويس كان ناصر يرى في بريطانيا عدواً لابد من التعامل معه بحذر، لكنه لم يبد أنه أدرك النطاق الكامل للعداء الشخصي الموجه ضده في لندن. 
 
 
لكن هذا الوضع لا يبدو شيئاً مقارنة بعدم اهتمام عبدالناصر بالعداء الذي تراكم ضده في باريس وأهمية هذا العداء في تطور أزمة السويس، وذلك بسبب مواقف مصر من حركات التحرير في المغرب العربي وتأييدها القوي لها.وهناك إشارات إلى أن المخابرات الفرنسية قامت بمحاولات لاغتيال عبدالناصر في عام 1954، وعرفت باريس بمعارضتها الشديدة للقاهرة حيث رأت في دعم القاهرة لحركة التحرير الجزائرية سببا رئيس في المعارك التي احتدمت في الجزائر. 
 
 
ويقول د. ثروت عكاشة الذي كان آنذاك يعمل في السفارة المصرية بباريس انه أبلغ عبدالناصر في يناير 1956 بأن المصريين سيتعرضون لهجوم فرنسي في ذلك العام، ولكن عبدالناصر والكثيرين من صانعي القرار في القاهرة استبعدوا هذا الاحتمال، من منطلق أن فرنسا لم تصل في عدائها لمصر قط إلى حد الإقدام على مثل هذه الخطوة. 
 
 
وكان كريستيان بينو وزير الخارجية الفرنسي قد زار القاهرة في مارس 1956 في محاولة أخيرة للتقارب مع القاهرة، لكن هذه المحاولة منيت بالفشل، وهكذا تمت زيادة القوات الفرنسية المرابطة في الجزائر إلى مئة ألف رجل وشحنت أسلحة فرنسية إضافية إلى إسرائيل. 
 
 
كانت القاهرة تنظر إلى باريس باعتبارها معادية وحليفا مهما لإسرائيل ومعارضة للنضال القومي العربي، لكن الاعتقاد ساد بأنها لا يمكن أن تشكل تهديداً مباشراً لمصر. وبعد ستة أشهر برهنت معاهدة سيفر على أن هذا الاعتقاد يعكس سوء تقدير حقيقياً وخطأ فادحاً في الحسابات من جانب القاهرة. 
 
 
اللغز الكبير 
 
 
تؤكد المؤلفة، في معرض تلخيصها لأحداث هذه المرحلة من عام 1956 واتجاهاتها أن تأميم قناة السويس كان على جدول أعمال عبدالناصر، ولكن في مدى مستقبلي غير محدد بوضوح، حيث كان مرتبطاً في ذهنه بصورة وثيقة بجلاء البريطانيين عن مصر، ولم يعد يتوقع أن يمول الأميركيون بناء السد العالمي وشرعت تراوده فكرة التأميم كرد على الموقف الأميركي، غير أنه ليس هناك دليل على وجود خطة تفصيلية أو جدول زمني يقضي إلى التأميم في يوليو 1956، ومعظم الدراسات التي أجريت عن إدارة القناة يبدو بالفعل أنها انطلقت من التوقيع على اتفاقية الجلاء مع الجانب البريطاني في 1954. 
 
 
على هذا الأساس، فإن المرء قد يشعر بالميل إلى ربط تأميم القناة برحيل آخر جندي بريطاني عن منطقة قناة السويس، قبل ما يزيد بقليل على شهر من موعد القاء خطاب إعلان التأميم. غير أن الحقيقة الواضحة القائمة أن وجود القوات البريطانية في منطقة القناة حال دون التأميم لا تظهر أن غياب هذه القوات قد جعل التأميم ضرورياً بصورة حتمية. 
 
 
يكفي أن نتذكر في هذا الصدد أنه في وقت جد متأخر هو الثامن من يونيو 1956 كانت الحكومة المصرية قد توصلت إلى اتفاقية جديدة مع شركة القناة تتضمن الإعداد لمد الامتياز وتدريب المزيد من المرشدين المصريين. ومن هنا تقول المؤلفة إن عبدالناصر ربما كان ينتظر الموعد المناسب للتأميم، لكنه لم يكن في عجلة من أمره، وتنقل عن أحد مصادرها أن موعد ناصر المستهدف للتأميم كان من عام 1960. 
 
 
كثيرون أبناء الأمة العربية الذين عاشوا هذه الفترة، بحلوها ومرها، لا يزالون يتذكرون قول زكريا محيي الدين ان المصريين لم ينزعجوا كثيراً للقرار الأميركي بسحب عرض تمويل السد وما تضمنه من تبعات مالية، حيث كان بمقدورهم تمويله بوسائل أخرى، وإنما الذي أزعجهم هو الطريقة التي تم بها ذلك. 
 
 
هذا أمر يمكن تفهمه إذا ألقى المرء نظرة على التصريح الذي أصدره جون ستر دالاس وزير الخارجية الأميركي في 19 يوليو والذي أعلن فيه قرار سحب التمويل وقدم تفسيراً له، تطرق فيه إلى «حقوق السودان» الذي سيغرق ماء السد جانبا من أراضية، وكذلك القول بأن المشروع قد يثقل كاهل الاقتصاد المصري، وهي «التبريرات غير المخلصة» التي ضاق بها عبدالناصر ذرعاً. 
 
 
هنا تشدد المؤلفة على الأهمية الاستثنائية لفهم عبدالناصر للقرار الأميركي بسحب تمويل السد على أنه محاولة مباشرة لتقويض نظامه، وهو الأمر الذي يفسر رد فعله الدراماتيكي، الذي كان يرمي في أحد أبعاده إلى إيضاح أن الإطار الأوسع نطاقاً لـ «الخطة أوميغا» فإن صياغة بيان دالاس أمكن في حد ذاتها أن تفسر على أنها عدوان على مصر. 
 
 
هنا، على وجه الدقة، يثور ما يمكن تسميته باللغز الكبير، فإذا كان عبدالناصر مقتنعاً بأن الغرب عدواني ويسعى للإطاحة به، فلماذا يقدم له الذريعة للقيام بذلك إذن؟ 
 
 
للرد على هذا السؤال لابد من الغوص في تفكير الزعيم العربي خلال الأسبوع الذي سبق التأميم، فضابط الأركان السابق بمهارته التقليدية في تقدير الموقف قام بكتابة وثيقة تاريخية بالغ الأهمية في ليل العشرين من يوليو توضح أنه كان يفكر من منظور العداء النشط لبلاده من جانب القوى الغربية. 
 
 
وهو يرد اعتقاده هذا إلى افتقارها في المدى القصير إلى القدرة العسكرية في المنطقة، أما في المدى الطويل فقد توقع أن تحظى مصر بالدعم من العالم الثالث والكتلة السوفييتية.لقد اعتقد عبدالناصر أن خطر التدخل سيصل إلى ذروته وبنسبة احتمال حدوث في حدود 80% في أوائل أغسطس وسيقل هذا الخطر كل أسبوع عبر التحركات السياسية إلى أن يصل إلى 20% في نهاية سبتمبر. 
 
 
هنا يبرز جانبان لابد لهما من أن يلفتا النظر، خاصة وأنهما سيتكرران في المستقبل، فقد تنبأ تقدير الموقف الذي كتبه عبدالناصر بخط يده بأن رد فعل ايدن سيكون عنيفا وأن العنف سيأخذ شكل تحرك عسكري. غير أنه لم يتصرف وكأنه يتوقع هجوماً بريطانياً، وذلك اعتقاداً منه بأن البريطانيين سيردعهم خوفهم من العالم العربي. 
 
 
والسؤال الآن هو: كيف جميعاً؟ 
 
 
عرض ومناقشة: كامل يوسف حسين 
 

__________________


إن النصر عمل والعمل حركة والحركة فكر والفكر فهم وإيمان وهكذا فكل شئ يبدأ  
بالإنسان


 
Graphic by Martin
A Man ... A Nation ...


الـرجوع الى الفهـرس للمتابعة والمواصلة


شـكرا لزيارتكم للموقع

أنتم الضيف

 

رجوع الى بداية الصفحة
 



© 2007  جميع الحقوق محفوظة لكل من سامى شرف ويحى الشاعر.

© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US