![]() |
سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر
لا يـصـح إلا الـصـحـيـح
ـ 1 ـ
بحثت عن مراجع للكلام الذى نشر فى إحدى الصحف القومية على شكل حلقات وفيما يبدو تمهيدا لصدور كتاب يدافع عن الرئيس السادات ، وكما يقولون فى لغة المال محاولة لعملية غسيل صورة .
لفت نظرى أن الأسلوب وطريقة العرض للمسائل التى تناولتها هذه الحلقات مكتوبة بيد أحد كبار المطبعين مع العدو الصهيونى وبتوقيع منسوب لشخص آخر ، وأعتقد أن هذه الملاحظة لن تخفى على طالب فى السنة الأولى فى كلية الإعلام .
والملاحظة الثانية أن الكاتب الذى حرر هذه الحلقات ، والآخر الذى وقعها باسمه ، خلطا عن عمد بين ما جاء فى أحد الكتب الفرنسية وبين رأيهما الشخصى فى بعض المسائل الحيوية و كذا بعض القضايا الساخنة وبعض البديهيات بحيث يبدو للقارئ وهو ـ أى المصرى بالذات ـ دائما أذكى مما يتصور من يريد أن يفوت عليه فرية ، أن ما كتب هو تحليل و إقرار لحقائق .
والملاحظة الثالثة أننى لم تقع عيناى على مرجع رسمى أو تاريخى أو وثائقى واحد لما ورد حول بعض القضايا الهامة المصيرية ، بل نسب لقادة كبار كلام غير مسند ، والوثائق والتاريخ يكذبان ما جاء فى هذه المقالات منسوبا لهؤلاء القادة ، الشىء الذى سأحاول أيضا أن أفنده وأضع الحقائق موثقة ومسندة تحت أنظار القارئ الكريم .
يقولون فى مصر الآن تعبير دارج : هات من الآخر .
وسأبدأ من آخر حلقة .
الكاتبان يقولان ما معناه أن الوضع الاقتصادى كان ممتازا فى عهد الرئيس السادات وانه حقق تنمية 8% ( ! ) ، بعكس ما كان فى عهد الرئيس عبد الناصر .
وأقول :
لقد بدأ الرئيس جمال عبد الناصر بوضع إصبعه على حقيقة مشكلة مصر منذ الأيام الأولى لقيام ثورة 23يوليو52 وهى التى بدأ فى التسعينات أنها تشكل جوهر التنمية ، التى آمن بها من قبل قيام الثورة ، وهى بناء المجتمع السليم الذى ينتفى فيه اغتراب الفرد ويختفى منه التسلط سواء الملك أو الإقطاعى أو الرأسمالى المحتكر الذى كان يستغل الشريحة الكبرى من المواطنين ويفرض على العامل أكثر من خمسين ساعة عمل أسبوعيا مقابل أجر لا يتجاوز جنيهين لا يكفيانه هو وأسرته .
و كان قرار الرئيس جمال عبد الناصر هو طريق الحرية السياسية والحرية الاقتصادية ، وقال لقد ذهبنا إلى عدد من قادة الرأى من مختلف الطبقات والعقائد وقلنا لهم : ضعوا للبلد دستورا يصون مقدسا ته ، و كانت لجنة وضع الدستور ومن أجل ضمان الحياة الاقتصادية فى المستقبل ذهبنا إلى أكبر الأساتذة فى مختلف نواحى الخبرة وقلنا لهم : نظموا للبلد رخاؤه واضمنوا لقمة العيش لكل فرد فيه ، وكان مجلس الإنتاج . تلك حدودنا لم نتعدها إزالة الصخور والعقبات من الطريق مهما يكن الثمن واجبنا . والعمل المستقبل من كل نواحيه مفتوح لكل ذوى الرأى والخبرة فرض لازم عليهم وليس لنا أن مستأثر به دونهم ، بل إن مهمتنا تقتضى أن نسعى لجمعهم من أجل مستقبل مصر . . مصر القوية المتحررة .
وجاء فى دستور 1956 من مقدمة نصت على الثورة مسئولة عن تحقيق عدالة اجتماعية وأن التضامن الاجتماعى أساس المجتمع وان مصر دولة عربية وان السيادة للأمة ، وجاءت مجموعة من المواد ترسم المعالم الاقتصادية للمجتمع الجديد وهى :
المادة السابعة : " ينظم الاقتصاد القومى وفقا لخطط مرسومة تراعى فيها مبادئ العدالة الاجتماعية وتهدف إلى تنمية الإنتاج ورفع مستوى المعيشة . "
المادة الثامنة : " النشاط الاقتصادى الخاص حر على ألا يضر بمصلحة المجتمع أو يخل بأمن الناس أو يعتدى على حريتهم وكرامتهم . "
المادة التاسعة : يستخدم رأس المال فى خدمة الاقتصاد القومى ، ولا يجوز أن يتعارض فى طرق استخدامه مع الخير العام للشعب . "
المادة العاشرة : يكفل القانون التوافق بين النشاط الاقتصادى العام والنشاط الاقتصادى الخاص تحقيقا للأهداف الاجتماعية ورخاء الشعب . "
المادة الحادية عشر : الملكية الخاصة مصونة وينظم القانون أداء وظيفتها الاجتماعية ، ولا تنزع الملكية إلا للمنفعة العامة ومقابل تعويض عادل وفقا للقانون . "
المادة السابعة عشر : تعمل الدولة على أن تيسر للمواطنين جميعا مستوى لائقا من المعيشة ، أساسه تهيئة الغذاء والسكن والخدمات الصحية والثقافية والاجتماعية . "
المادة الثانية والعشرين : " العدالة الاجتماعية أساس الضرائب والتكاليف العامة . "
والعناصر التى تضمنتها المادة السابعة عشر هى نفس العناصر التى بدأ الفكر التنموى يتجه إليها فى الستينات .
وفى أعقاب الوحدة ، صدر فى دمشق فى الخامس من مارس 1958 الدستور المؤقت وتضمن نفس المبادئ مع شىء من إعادة الترتيب حيث تقدمت المادة السابعة لتصبح المادة الرابعة بينما تقدمت المادة الحادية عشر إلى الترتيب الخامس ، وأصبحت المادة 22 هى المادة رقم 6 .
وأصبح بعد ذلك يتردد ، وما زال حتى اليوم ـ كما جاء فى سلسلة المقالات التى نشرت أخيرا فى الجريدة القومية ـ أن ثورة يوليو52 بما أتت به من اشتراكية ومن تغليب للاعتبارات الاجتماعية على القواعد الاقتصادية السليمة اعترضت مسيرة ناجحة للاقتصاد المصرى وقضت على مبادرات فردية كان يمكن أن تقود البلاد إلى نهضة اقتصادية تجنبنا ما نعانيه الآن من مآزق اقتصادية . هذه الآراء تتذرع أيضا بأننا نعود مضطرين إلى السيرة السابقة على عهد الثورة ، وبأن تجارب يقال أنها مشابهة لما انتهجته فى الستينات ، قد انتهت إلى الفشل .
ولعل خير دليل على فساد هذه المقولات مجموعة مقالات كتبها أحد الاقتصاديين البارزين ثم جمعها فى كتاب طبع فى بداية الخمسينات وهو الدكتور محمد على رفعت الذى كان من غلاة المتحمسين لنظام السوق إلى درجة تجعل صندوق النقد الدولى يتوارى خجلا ، وهى تظهر أن ما يطلق عليه حاليا " النداء الجديد " هو نداء شديد القدم . قد يكون من المناسب أن نقتبس بعض العبارات التى كتبها الدكتور محمد رفعت وهى تلخص آراؤه تحت عنوان " الأوضاع الاقتصادية عشية الثورة " ، فأوضح بجلاء ما يلى :
أولا : فساد السياسات الاقتصادية ، وتدهور الأوضاع ، وتزايد العجز .
ثانيا : قصور مدخرات الأفراد واتجاه معظمها للمضاربات العقارية .
ثالثا : نقص الاستثمارات الأجنبية على المستوى العالمى نتيجة لما خلفته الحرب العالمية ، والمطالبة بضمانات ومحفزات له بعد زوال الامتيازات الأجنبية سنة 1937 .
رابعا : لم يتضح أو يرد مصطلح التنمية إلا بعد قيام ثورة يوليو 52 وتوجيهها الاهتمام إلى هذه القضية التى أصبحت الشغل الشاغل لكل الدول التى حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية والتى خصصت لها الأمم المتحدة نشاطا قائما بذاته من خلال برنامج التنمية وعددا من الدراسات لمتطلبات تنمية اقتصاديات الدول المتخلفة .
كما قدم الدكتور عبد المنعم القيسونى ـ وزير الاقتصاد السابق ـ وهو من الاقتصاديين المؤمنين أيضا بما يسمى النظام الليبرالى ، فى بيانه أمام مجلس الأمة فى 27 أغسطس1957 وجاء فيه ما يلى :
" وبمراجعة تاريخ مصر الاقتصادى فى السنوات الماضية ، نجد أن معدل زيادة السكان كان دائما يلاحق النمو فى الإنتاج القومى ويمتصه ، وأنه كان ثمة ثلاث فرص تهيأ فيها الاقتصاد المصرى للنهوض والوصول إلى درجة التقدم المستمر لولا سوء الأداة الحكومية وفساد النظام السياسى .
كانت الفرصة الأولى فى مستهل هذا القرن عندما أنشئ خزان أسوان ، وحدث ما يمكن تسميته بالثورة الزراعية الأولى ، وزادت رؤوس الأموال فى مصر ، ولكن الفرصة ضاعت بسبب المضاربة وسوء التقدير فضلا عن العوامل الخارجية مما أحدث أزمة شديدة سنة 1907 .
وكانت الفرصة الثانية فى العقد الثالث من هذا القرن بعد أن تجمعت أرصدة خارجية فى فترة الحرب العالمية الأولى ، ثم زاد الطلب على القطن وارتفعت أسعاره وحدث توسع فى الخدمات العامة وارتفع مستوى الدخل الفردى ارتفاعا ملموسا وبمعدل أكثر من معدل زيادة السكان ، ولكن الزيادة فى الثروة كانت سيئة التوزيع وتجمعت فى أيد قليلة وكان النفوذ الأجنبى هو المستفيد فرهن الأراضى الزراعية وتمكن من الاقتصاد القومى ، ثمن جاءت الأزمة العالمية فعجزت البلاد عن مجابهتها وضاعت الفرصة الثانية للنمو .
أما الفرصة الثالثة فكانت بعد الحرب العالمية الثانية التى نقص الاستهلاك خلالها نقصا كبيرا وادخرت البلاد أرصدة أجنبية ، ثم ارتفعت أسعار القطن بفعل عوامل سياسية خارجية فزادت الصادرات زيادة كبيرة ، وكان يمكن لحكومة رشيدة أن تفيد من هذه الفرصة لكى تثبت أقدام الاقتصاد القومى وتوجهه وجهة التنمية المطردة ، ولكن الأرصدة بعثرت وتمت مضاربات فردية فى أقوات الناس وثروات الشعب وتصارعت الأهواء والصراعات السياسية الداخلية ما بين الملك والاحتلال البريطانى والأحزاب ا فضاعت الفرصة الثالثة .
والمعنى الذى يستشف من بيان الدكتور القيسونى هو أن الفرص تقاس بما يتجمع لدى الدولة من موارد مالية ، وهو الرأى الذى ساد بين الاقتصاديين لفترة طويلة ، والذى جعل الالتجاء إلى التمويل الأجنبى ضرورة يفرضها نقص رؤوس الأموال المحلية .
كان الرأى السائد بين الاقتصاديين التقليديين والأكاديميين يتلخص فى الآتى :
أولا : الاستعمار أضر باقتصاديات المستعمرات والاستقلال السياسى يمكنها من تحرير تلك الاقتصاديات من التبعية .
ثانيا : التخصص فى المواد الأولية المترتب على ذلك أدى إلى انخفاض الدخل ومن ثم فإن التصنيع هو السبيل لرفع الدخل وكسر احتكار الدول الصناعية .
ثالثا : انخفاض الدخل والسياسات الفاسدة تنقص المدخرات . إذن هناك حاجة لتجميع المدخرات والحكومة تلعب دورا محفزا ولكن ليس بديلا للاستثمار الخاص .
رابعا : وبسبب محدودية المدخرات وندرة رجال الأعمال ( المنظمين ) يجوز للحكومة أن تسهم فى النشاط الاقتصادى ولكن بعيدا عن الروتين الحكومى ، وعلى أن تتخلص منه فى أقرب فرصة لتعيده إلى مكانه الأصيل وهو القطاع الخاص .
وخامسا : ونظرا لأن البدء من دخل منخفض يجعل المدخرات المحلية متواضعة فهناك ضرورة للاعتماد على رأس المال الأجنبى .
ولم يوضح أحد من هؤلاء السادة كيف أن رأس المال الأجنبى الذى تمتلكه الدول الغنية ( الاستعمارية) يمكن أن يتحول بين عشية وضحاها من أداة سيطرة إلى أداة بناء صرح الاقتصاد المتحرر !
وكانت التجربة العملية التى خاضها الرئيس جمال عبد الناصر بثورة 23يولو1952 موضحة للحقائق بالبيان العملى وليس بالاستدلال النظرى .
ووفقا للمنهج الذى حدده جمال عبد الناصر ، قائد الثورة ، جرى من البداية إصدار عدد من القرارات استهدفت القضاء على الإقطاع والاحتكار ، وكان فى مقدمتها قانون الإصلاح الزراعى وتنظيم الإيجارات التى أنهت تسلط الملاك على المنتجين والمستأجرين فى الريف والمدينة ، وحدّت بالتالى من المبالغة فى التكالب على الملكية العقارية وما يترتب على ذلك من عزوف المدخرات الخاصة عن الدخول فى مجالات الإنتاج المثمر ، وبخاصة الصناعى ، وتحمل مخاطره .
أما بالنسبة لرأس المال الأجنبى فقد بادرت الثورة ـ بعد أسبوع واحد من قيامها ـ وفى يوم 30 يوليو1952 ، بالاستجابة لنصائح الاقتصاديين الذين كانوا يرون أن قانون الشركات المساهمة (138لسنة1947) لا يشجع المستثمرين الأجانب لأنه يحرمهم غالبية الملكية فأصدرت المرسوم بقانون رقم 130 لسنة1952 بتعديل المادة السادسة من ذلك القانون وكانت تنص على ألا تزيد نسبة رأس المال الأجنبى فى الشركات المساهمة عن 49% فأصبحت تنص على أنه يجب تخصيص 49% لى الأقل من أسهم الشركات المساهمة للمصريين عند التأسيس أو زيادة رأس المال ، ويجوز زيادة النسبة بقرار من وزير التجارة والصناعة بالنسبة للشركات ذات الصبغة القومية ، وإذا لم تستوف النسبة فى مدة لا تقل عن شهر فى حالة الاكتتاب العام جاز تأسيس الشركة دون استيفاء النسبة . وكان الهدف من هذا التعديل اجتذاب رأس المال الأجنبى للمساهمة فى التنمية الإنتاجية فى الميادين التى تتكلف الكثير وتتطلب الخبرة وتنطوى على عناصر المخاطرة ، كما هو الشأن مثلا فى حالة الثروة المعدنية ، وذلك مع المحافظة على سيادة الدولة والمصلحة القومية العليا .
على أن أهم خطوة فى هذا الشأن كانت إصدار القانون رقم 156لسنة 1953 فى 2إبريل ستة 1953 والذى حدد أسلوب معاملة رأس المال الأجنبى حيث حدد القنوات الشرعية التى يرد من خلالها ـ سواء نقدا أم عينا أو فى شكل حقوق معنوية ـ وحدد شروط تحويل الأرباح بما لا يتجاوز 10% بالعملة الأصلية ، وأجاز تجاوز هذه النسبة فى حدود ما يحققه الاستثمار من عملة أجنبية ، وأجاز إعادة تحويل رأس المال الأجنبى بعد خمس سنوات بما لا يتجاوز خمس القيمة المسجل بها . وحددت المادة الثانية شروط الانتفاع بهذا القانون أن يوجه رأس المال الأجنبى إلى الاستثمار فى مشروعات التنمية الاقتصادية ( الصناعة ـ الزراعة ـ القوى المحركة ـ النقل ـ السياحة ) وذلك بعد العرض على لجنة خاصة تشكلت فى وزارة التجارة والصناعة ويمثل فيها وزارة المالية والاقتصاد والمجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومى والبنك المركزى ، على أن تبت فى الطلب المقدم لها خلال ثلاثة شهور من تاريخ تقديمه ، ويعتمد وزير التجارة والصناعة قراراتها .
ونفس الخطوات اتخذت حيال الضرائب غير المباشرة والرسوم الجمركية وصدرت قوانين وقرارات خلال سنوات 52 و53 بما يحقق الحماية للصناعة المحلية التى كان يقوم بها القطاع الخاص والاهتمام بالإنتاج من أجل التصدير .
( القوانين 325/52 19و 324/1953 و430/1953 و26/1954 و155/1955 ) .
لقد كانت مساهمة رأس المال الأجنبى خلال الأعوام 54و55و56 مذهلة فلقد دخل مجالين اثنين فقط هما صناعة الأحذية والسياحة . وخلال هذه السنوات أيضا استثمر 440ألف جنيه فقط أى أنه بعد هذه القوانين التشجيعية لم يستثمر من رأس المال الأجنبى فى مصر إلا أقل من نصف مليون جنيه .
استعان مجلس الإنتاج بأكبر بيوت للخبرة لعمل مسح شامل لمصر بهدف وضع خطة صناعية تفصيلية للمشروعات الإنتاجية اللازمة للنهوض بالاقتصاد ووضع الخبراء الخطة ووسائل الحصول على الطاقة من كهربة خزان أسوان كما وضعوا مشروعات للنقل واستغلال الثروات المعدنية وبدا تنفيذ خطة العمل الصناعى وأعلن عن الاكتتاب للمساهمة فى الشركات الجديدة بدعم من الحكومة وهى المساهم الأول ، وقامت عدة مشروعات خدمية حيوية لعل أهمها توليد الكهرباء من خزان أسوان ـ ذلك المشروع الذى كان واجب تنفيذه منذ سنة 1912 ـ بقرار مجلس الثورة فى نوفمبر 1952 وبدأ العمل فيه بواسطة شركة فرنسية فى أغسطس سنة 1953 ثم بدأ إنشاء مصنع سماد أسوان ومعمل تكرير بترول بالإسكندرية وتوسيع معامل التكرير ومد خط أنابيب من السويس للقاهرة وبدا فى الوقت ذاته التصنيع الحربى وبناء الترسانة البحرية وكهربة خط سكك حديد حلوان وحرمت الدولة القمار وأصدرت القوانين العمالية وقانون التعاون وأنشئت الوحدات المجمعة فى القرى لتكون مجمعا لوحدات علاجية صحية وبيطرية وزراعية وتعليمية .
وبنيت مدرسة كل ثلاثة أيام ، وأقيم مجلس أعلى لرعاية الفنون وآخر للعلوم وثالث للشباب كما أنشئت لجنة الطاقة النووية للأغراض السلمية . وبدأت خطوات تقريب الفوارق بين الطبقات فخفضا إيجارات المساكن أكثر من مرة وأقيمت المساكن الشعبية التى يستطيع المواطن فعلا أن يسكنها لا أن يتفرج عليها ويتحسر لأنه لا يستطيع أن يقترب منها لا أن يسكنها أو يتملكها . وتم شق كورنيش النيل بطول القاهرة كلها .
وفى عام 1957 بعث مشروع التصنيع الثقيل وقامت به شركة ديماج الألمانية ـ بذلت أمريكا وإسرائيل جهودهما لعدم إتمام التعاقد مع ألمانيا حتى لا تتوجه مصر نحو التصنيع الثقيل ـ وفى يوليو1959 افتتح الرئيس جمال عبد الناصر مصنع الحديد والصلب فى حلوان وصرح بقوله :
" إن إقامة صناعة الحديد والصلب فى بلدنا كانت دائما حلما نعتقد أنه بعيد المنال ، واليوم حققنا هذا الحلم " .
وفى العام 1954 بدأت الثورة بتمصير الاقتصاد ووضع لبنات قيام صناعة مصرية وكان تمصير شركة " جريشام " للتأمين على الحياة هو نقطة البداية التى أعقبها صدور أمر عسكرى فى نوفمبر 1956 بفرض الحراسة على المؤسسات البريطانية والفرنسية الدولتين المعتديتين بعد أن جمدت بريطانيا الأرصدة المصرية لديها ، والتى بلغت 1500 مؤسسة من بينها بنوك وشركات للتأمين وشركات البترول ثم أنشئت المؤسسة الاقتصادية بعد ذلك . وفى 14يناير 1957 صد ر قانون ينص على أن لا يقوم بأعمال البنوك وشركات التأمين وفروعها إلا شركات يملك المصريون جميع أسهمها ويكون المسئولون فيها مصريين على أن ينفذ القانون خلال خمس سنوات وسبب ذلك أنه تبين أن البنوك الأجنبية فى مصر كان لا يزيد رأسمالها على الخمسة ملايين ونصف جنيه فى حين أنها تتحكم فى أكثر من مائة مليون جنيه من جملة الودائع فى البنوك التجارية وهى حوالى 195 مليون جنيه وأن البنوك الإنجليزية والفرنسية لا يزيد رأسمالها المستثمر فى مصر على المليون ونصف المليون جنيه بينما ودائع المصريين فيها تقترب من مائة مليون جنيه .
وكان فى مصر 135 شركة تأمين منها 123 شركة أجنبية ومعظمها فروع لشركات كبيرة فى الخارج وكانت أصولها فى مصر 20 مليون جنيه من مجموع أصول شركات التأمين وهى 38 مليونا . وفى عام 1957 تم تمصير تسعة بنوك هى باركليز والكريدى ليونيه والعقارى المصرى والبنك الشرقى ويونيون والعثمانى والرهونات والأراضى والخصم الأهلى بباريس و16 شركة تأمين و40 شركة كانت تتحكم فى شرايين الاقتصاد .
وفى 14 يناير أيضا صدر قانونان الأول يقصر مزاولة أعمال الوكالة التجارية على المصريين والثانى بإنشاء مجلس التخطيط الأعلى ولجنة التخطيط القومى ، وبعدها صدر قرار جمهورى بوجوب استخدام اللغة العربية فى جميع العقود والسجلات والمحاضر وفرض غرامة على من يخالف القرار .
والذين يتحدثون عن العجز فى الميزان التجارى الذى أحدثته الثورة بعد أن كان هناك فائض يغالطون معتمدين على أن أحدا لن يبحث وراء أكاذيبهم فيعود إلى الخمسينات وقبل قيام الثورة . والحقيقة أن العجز فى الميزان التجارى 1951 بلغ 39 مليون جنيه بالضبط ، وبلغ عام 1952 حوالى 73 مليون جنيه بسبب انتكاس سوق القطن ، وفى عام 1953 بلغ العجز 37 مليون جنيه بسبب الحد من استيراد الكماليات وفتح أسواق للمنتجات المصرية ، ثم انخفض العجز عام 1954 إلى 20 مليون جنيه وهكذا .
ويقول المؤرخ عبد الرحمن الرافعى فى مؤلفه " ثورة يوليو52 " أنه حين تسلمت الثورة خزانة الحكومة وجدت عجزا بالميزانية 25 مليون جنيه واحتياطيا هبط من 75 مليون إلى 16 مليون جنيه نقدا وفى أعقاب حريق القاهرة فى 26يناير 1952 تم تهريب 126 مليون جنيه وكانت خزانة الحكومة المصرية مدينة للبنك الأهلى بنحو خمسة ملايين جنيه .
فى بداية الثورة كان تعداد مصر حوالى 20 مليون نسمة ونسبة الزيادة السكانية بمعدل 8ر2 % سنويا وكان الاقتصاد يعتمد أساسا على الزراعة ـ حوالى 6ملايين فدان ـ تكفى احتياجات الغذاء فى إطار نمط الاستهلاك فى ذلك الوقت فى مستو معيشى منخفض والمحصول الرئيسى هو القطن يصدر أكثر من 80% منه للخارج والباقى يستخدم فى صناعات مبتدئة تنتج المنسوجات التى تستهلك محليا .
وبالنسبة للصناعة فقد كانت هناك بعض مصانع للغزل والنسيج ومصانع للسكر ومعاصر زيوت ومصنعان للأسمنت ومصتنع لسماد الفوسفات وآخر للسماد الآزوتى . وثلاثة مصانع صغيرة لإنتاج حديد التسليح من الخردة وبعض المصانع اليدوية والحرفية . وفى عام 1952 كانت نسبة الإنتاج الصناعى إلى الإنتاج القومى أقل من 10 % وكانت مصر تعتمد على الاستيراد لمعظم احتياجاتها من الخارج من السلع المصنعة ـ القلم الرصاص والورق والسماد والثلاجة والراديو . . الخ حتى المنسوجات القطنية أو الصوفية كانت تستورد .
كانت فرص العمل محدودة ومتوسط الأجور قروش ، والبطالة بين خريجى الجامعة رغم عددهم المحدود ، لكل هذه الأسباب كان التصنيع عنصرا أساسيا لتقف التنمية على قدمين .
وفى خلال شهور ستة من منتصف سنة 1956 شكلت لجان متخصصة لوضع خطة صناعية ومشروع قانون التنظيم الصناعى .
وكان تكليف الرئيس جمال عبد الناصر للدكتور عزيز صدقى للقيام بهذه المهمة التاريخية الخطيرة . شكلت اللجان من خبراء مصريين من الذين برزت كفايتهم فى مجلسى الإنتاج والخدمات من قبل كما ضمت أيضا جميع الكفاءات العلمية والاقتصادية والفنية ورجال القانون ، وعملت ليل نهار تحت قيادة الدكتور عزيز صدقى وفى نهاية المدة المحددة كان قد تم إعداد مشروع برنامج السنوات الخمس للصناعة ومشروع التنظيم الصناعى ، وكانت الخطة طموحة جدا بمقاييس ذلك الوقت وكان قانون التنظيم الصناعى يعنى تحولا كبيرا فى سياسة الدولة إذ ينص لأول مرة على أن تتدخل الحكومة فى الصناعة .
وعندما عرض الدكتور عزيز صدقى نتائج أعمال اللجان على الرئيس جمال عبد الناصر ، لم يوافق على مشروع القانون ولا على الخطة وطلب أن يطرح ما استقرت عليه اللجان لنقاش ودراسة أكثر توسعا وتم ذلك فعلا . ولقد عارض اتحاد الصناعات الممثل للرأسمالية الكبيرة فى ذلك الوقت وفى مذكرة مكتوبة تدخل الدولة فى الصناعة ، وعارض رؤساء شركات الغزل ـ وهم من كبار الرأسماليين أيضا ـ أن تتضمن الخطة إنشاء مصانع جديدة للغزل والنسيج بحجة أن الموجود منها يكفى احتياجات البلاد وزيادة ، وكان لمنطق هؤلاء ما يبرره ألا وهى النظرة الضيقة لمصالحهم الخاصة .
وبعد فترة مناسبة من الدراسات والمناقشات الواسعة وضعت كل هذه الآراء تحت أنظار الرئيس جمال عبد الناصر الذى طلب للمرة الثانية من الدكتور عزيز صدقى الاستعداد لشرح الخطة الخمسية للصناعة أمام مجلس الوزراء الذى لم يشأ الرئيس عبد الناصر أن يدلى برأى مسبق ـ كعادته ـ بل سمح للجميع بإبداء رأيه فبعضهم أيد والبعض عارض ، وعلى مدى أربعة ساعات دار نقاش حى طويل حاد كان عزيز صدقى خلالها يقنع ويشرح الخطة مشروعا مشروعا ومصنعا مصنعا ، وكانت معظم المعارضة تتجه إلى أن الخطة طموحة أكثر من اللازم أو أنها مجرد حلم غير قابل للتنفيذ وكان التساؤل يدور حول : كيف يمكن للدولة أن تدبر 250 مليون جنيه هى قيمة تكلفة مشروعات السنوات الخمس للصناعة .
وبعد حوار طويل وواسع من المناقشة خارج مجلس الوزراء وداخله تم وضع الخطة وإقرارها وكلف الرئيس جمال عبد الناصر الدكتور عزيز صدقى أن يعقد مؤتمرا صحفيا بعد انتهاء مجلس الوزراء ليعلن فيه لأول مرة عن تصنيع مصر وفق خطة متكاملة تشرف عليها الدولة .
إن الذين يتحدثون عن الخير العميم الذى شهدته البلاد قبل الثورة يريدون أن يتناسوا حقائق التاريخ ، فبعد أن كنا نستورد تقريبا كل شىء أصبحنا نعتمد على أنفسنا وننتج معظم ما نحتاجه . أقيمت مصانع الحديد والصلب والألومنيوم والترسانات البحرية والسيارات واللوارى والإطارات والأسمنت والأسمدة والغزل والنسيج . . الخ . ولولا هذه القاعدة الإنتاجية الضخمة التى أقامتها الثورة وإتاحة فرص العمل للملايين من أبناء الشعب لما أمكن تحقيق العدالة الاجتماعية التى كانت هدفا رئيسيا لثورة يوليو52 .
وصدرت التشريعات العمالية لتعيد للعامل حقه بتحديد ساعات العمل والحد الأدنى للأجور والتأمين الصحى والتأمين الاجتماعى وإتاحة الفرص للتعليم للغالبية العظمى من أفراد الشعب الذين كانوا محرومين من هذا الحق قبل الثورة .
لا يمكن الحديث عن ثورة يوليو و الصناعة دون الحديث عن القطاع العام الذى بدأ بتمصير بعض المصالح الأجنبية بعد تأميم قناة السويس ، ثم قامت الدولة منذ عام 1960 بإجراء بعض التأميمات ثم صدرت القوانين الأساسية التى عرفت باسم القوانين الاشتراكية فى يوليو سنة 1961 . بهذه الإجراءات تكون القطاع العام وبدأ ينمو بمكون أساسى الشركات المؤممة ثم قامت الدولة بإقامة مشروعات وشركات تقيمها بأموالها تنفيذا لبرامج التصنيع المتتالية . إن الجزء الذى يمثل ما أمم من أصول بالنسبة إلى القطاع العام اليوم لا يمثل أكثر من 15 % أو 20 % بل إنه ليس حتى فى هذه الشركات آلة واحدة مما كان قائما وقت التأميم لأن عمليات التجديد والإحلال والتوسع المستمرة طورت هذه المصانع إلى ما هى عليه اليوم فمثلا بالنسبة لشركة غزل المحلة أو كفر الدوار للغزل أو مصانع السكر فإن حجم الإنتاج قد تضاعف عدة مرات عما كان عليه عند التأميم ، وتم هذا نتيجة لتنفيذ برامج الصناعة المتوالية و التى تولت الدولة توفير الاستثمارات اللازمة لها . إذن الدولة هى التى مولت هذه المشروعات ولذلك فهى صاحبة الحق فى إدارتها لا لحساب فرد أو أفراد بل لمصلحة الشعب كله .
لقد كانت القضية الأساسية التى تواجه الرئيس جمال عبد الناصر هى بناء الصناعة ، فى الوقت الذى لم يأت فيه رأس المال الأجنبى للمشاركة فى هذا المجال ، وفى نفس الوقت عجز القطاع الخاص عن الوفاء بمتطلبات التنمية فى وقت تتزايد فيه نسبة السكان بمعدل 5ر2 % سنويا ويرج إلى الحياة طفلان كل دقيقة يمثلون أفواها جديدة تحتاج إلى الغذاء وتحتاج إلى الخدمات لسنوات طويلة قبل أن تصبح قادرة على الإنتاج ، فضلا عن ضرورة تحسين مستوى الناس الذين عانوا طويلا .
واجهت مصر الثورة مأزق ضرورة التنمية ، فبعد تدليل رأس المال الأجنبى ، وبعد أن أوقدت مصر أصابعها العشرة شموعا للقطاعين الخاص والأجنبى لكى يشتركا فى التنمية الجادة صناعية أو زراعية كانت المحصلة النهائية لا شىء يذكر .
- يتبع -
..............."
إنتهى نقل هذا الجزء
يحى الشاعر
- يتبع -
You are my today's
Web guest
Thank you for your visit
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT,
International Computer Consulting & Training, Germany, US