![]() |
سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر
تحدث إلي شعبه بصدق شديد ونبل أشد أعلن استقالته
ناصر بعيون فرنسية
مقال للمفكر جان لاكوتير لم ينشر بالعربية من قبل لم يكتف جمال بحث الآخرين علي النضال الوطني ففي 12 نوفمبر 1935 جرح في جبينه أثناء مظاهرة كان يقودها أمام بيت الأمة، المقر السابق لسعد زغلول. وعندما وقعت مصر مع لندن معاهدة 1936، وهي معاهدة الاستقلال التي ظلت مقيدة بتحالف مع إنجلترا، كان جمال ينظم ويقود المظاهرات ضد ما كان يراه عارا أو تنازلا مخزيا كان جمال عبدالناصر، ابن ساعي البريد المنحدر من صعيد مصر، وطنيا منذ نعومة أظافره، فأدرك مبكرا أن من واجبه أن يقود بلاده نحو الاستقلال، وترسخ في وعيه أن مصير مصر لا ينفصل عن مصير الأمة العربية، كان يحلم بتوحيد هذه الأمة وأن يصبح صلاح الدين الجديد. كانت مصر تبدو في بداية 1918 وكأنها مصابة بنوع من الموت المدنى، منهكة من تاريخها الأطول في التاريخ ومكبلة بدسائس القوي الكبرى، وتغط في نوم شعبها العميق الذي كان مبعدا عن مسئولياته. وكانت بريطانيا التي كانت بدورها في حالة حرب منذ ثلاث سنوات قد فرضت عليها انتدابا بغيضا إحلالا للحكم المباشر ونظام اللورد كرومر الاستعماري المباشر. ولأن الحرب تلعب دورها في ولادة الثورات، كانت هناك في أعماق البلاد ترتسم ملامح حركة ليبرالية قومية ستعرف في نهاية ذلك العام باسم الوفد التي ستحرك لمدة ثلاثين عاما جسد مصر الثقيل. ففي الوقت الذي كان سعد زغلول يعد للانتفاضة التي انتزعت مصر من أنياب الاستعمار، وُلد في الاسكندرية يوم 15 يناير 1918، الابن الأول لمستخدم في هيئة البريد اسمه عبدالناصر حسين. كانت جذوره مثالية إذ أن هذا المستخدم الصغير نفسه كان ابنا لفلاح من بني مُر، وهي قرية في صعيد مصر، قريبة من أسيوط في قلب الصعيد، وهو جنوب وادي النيل الذي أهدي للبلاد ابناءه الأكثر توهجا والأكثر عنادا، فهكذا كان أجداد الرئيس فلاحين ممن التهبت أقدامهم من ماء الترع الطينية،أي من كانوا يفلحون الأرض وهؤلاء الموظفون الصغار الذين تم إرسالهم إلي المدن من مجتمع في طريقه للتمدن. * في مدرسة النهضة كان يمكن لجمال عبدالناصر أن يظل قابعا طويلا في قريته مثل غيره من المصريين النابهين، كسعد زغلول أو طه حسين، إلا أن مهنة أبيه دفعت به من اقليم لآخر، فبعد الاسكندرية حيث ولد وحيث استشعر بشكل كامل لأول مرة في مدرسته تبعية وطنه، فالمدينة المتوسطية كانت بحكم موقعها كوزموبوليتية أي يقطنها الأجانب وبعد ذلك تتبع أبيه في إحدي قري الدلتا وهي الخطاطبة وهي قرية فقيرة ومنسية إلي حد أنه لم يكن بها حتي مدرسة ابتدائية. وعندما بلغ جمال الثامنة وبعد موت أمه عهد به والده إلي خاله خليل، وهو أيضا موظف صغير ولكن توجهاته السياسية كانت أعمق من عبدالناصر حسين، وهكذا وجد الصغير جمال نفسه في أحد معاقل الوطنية المصرية في مدرسة النحاسين، علي مقربة من الجامع الأزهر في الحي الأكثر حيوية والأكثر ضجيجا في القاهرة: حي الجامعة الإسلامية العريقة وخان الخليلي حيث تختلط المعتقدات الدينية والتجارة. في عام 1933 حين بلغ جمال الخامسة عشرة عين أبوه مرة أخري في القاهرة وأقام في حي الخرنفش الشعبي المحاط بحواري باب الشعرية المكتظة: وقد كانت تجربة جديدة في الاختلاط بالشعب والوطنية لجمال الذي دخل مدرسة النهضة حيث أظهر حماسا غير معهود في النقاش وفي مواجهة السلطة، وقد تلقي أول ضربة له من أحد أفراد شرطة راسل باشا في مظاهرة حينما كان يقضي إجازة الصيف في الإسكندرية، ولكنه سرعان ما راح يبحث عن جماعة ينضم إليها حتي يتمكن من النضال بطريقة أفضل. وفي عام 1934 كان انسحاب صدقي باشا من الساحة السياسية من العوامل المشجعة للشباب وللوفد باعتبار أن صدقي باشا كان رجل الدولة المحافظ الوحيد الذي كان باستطاعته أن يعوق المدي التحررى، إلا أن سعد زغلول والنحاس كانا بمثابة الأجداد في عيون جمال، فقد كان أكثر انجذابا لحزب أحمد حسين الاشتراكي وكان مناضلو مصر الفتاة، يرتدون قمصانا خضراء، لكن هل انضم جمال إلي هذا التنظيم ذي الميول الفاشية؟ من المؤكد أنه احتفظ ببعض الوفاء للقائمين عليه فسوف نجد رجالا مثل فتحي رضوان ونور الدين طراف في الرعيل الأول من رجال الدولة في نظام 1952 ولكن يبدو أنه خاض تجربة في هذا الحزب ولم يكن مجرد إبداء للولاء، وهناك وثيقة ترجع لعام 1935 تصف بشكل مذهل شخصية المراهق المتمرد الذي سوف يتحول إلي ثوري! ففي رسالة كتبها لصديقه حسن النشار يقول فيها جمال يقولون إن المصري جبان وأنه يخشي أقل مواجهة.. إنه يحتاج إلي زعيم يقوده في كفاحه من أجل بلده. وهكذا يصبح هذا المصري رعدا يهز صروح الظلم والاضطهاد ... لقد قلنا أكثر من مرة إننا سنعمل معا علي ايقاظ الأمة من ثباتها ... يا عزيزي إني انتظرك من أجل ذلك عندى، في 4 سبتمبر 1935 الساعة الرابعة بعد الظهر، لكي نناقش هذا الأمر. من نص الرسالة يبدو واضحا أن الحلم الكبير لم يؤثر علي حس جمال التنظيمي: هذه الرسالة تعتبر تنبؤا مؤهلا للريس سنعرفه فيما بعد. لم يكتف جمال ببحث الآخرين علي النضال الوطني ففي 12 نوفمبر 1935 جرح في جبينه أثناء مظاهرة كان يقودها أمام بيت الأمة، المقر السابق لسعد زغلول. وعندما وقعت مصر مع لندن معاهدة 1936، وهي معاهدة الاستقلال التي ظلت مقيدة بتحالف مع إنجلترا، كان جمال ينظم ويقود المظاهرات ضد ما كان يراه عارا أو تنازلا مخزيا. * طلبة منقباد عندما بلغ الثامنة عشرة كان عليه أن يختار مسار حياته العلمية. بدأ دراسة الحقوق ولكنه لم يحقق فيها نجاحا يذكر. أشار عليه أصدقاؤه بالانضمام للجيش وكانت حكومة الوفد قد قامت لتوها بفتح أبواب الكلية الحربية أمام أبناء الفلاحين وصغار الموظفين محدثة بذلك ثورة كبرى، وها هو في عام 1937 في الكلية الحربية حيث حصل بسرعة علي رتبة ملازم وفي يونيو 1938 يتم تعيينه لأول مرة في منقباد بالصعيد، التي لا تبعد كثيرا عن بني مُر مهد عائلته. في منقباد يتعرف علي اثنين من زملائه سوف يلعبان الدور الأخطر في حياته: زكريا محيي الدين الذي حاول أن يعينه كخليفة له في 9 يونيو 1967 وأنور السادات نائب الرئيس الحالى. وهناك كما حكي لنا ذات يوم، قام مع زميليه بأول قسم لتحرير مصر. نقل ناصر بعد ذلك بقليل إلي السودان التي كانت تحت السيادة الأنجلو مصرية حيث يجد واحدا من زملاء الكلية الحربية والذي سوف يصبح صديقه الحميم، ظله الوفى، والذي سيطلق اسمه علي ابنه قبل أن يسقط في مؤامرة غريبة: عبدالحكيم عامر. * إغراءات المحور وجاءت الحرب العالمية الثانية ومصر تعتبر الحليف الدائم لإنجلترا. قليل من المصريين لديهم رؤية تاريخية واضحة ليعرفوا أن هنا يكمن طريق التحرر. كثير من المصريين وجودا في المحور ليس نموذجا بالطبع ولكن القوة القادرة علي تدمير العدو الإنجليزى. هكذا كان يفكر معظم شباب الضباط. كثير من رفاق ناصر فيما بعد حسن إبراهيم حسن صبري تم ضبطهم أثناء محاولتهم الانضمام إلي روميل بتحريض من المشير العجوز الموالي للأتراك عزيز المصرى، ولأنه كان أكثر رزانة وتوازنا من الآخرين بدا جمال بمعزل عن هذه المغامرة. ولكنه شارك في السخط العام في يناير 1942، عندما قام المندوب السامي البريطاني باستخدام دباباته لإجبار الملك فاروق علي تعيين حكومة وفدية. إذ أن زعماء الحزب الكبير كانوا مدركين لضرورة التعاون مع لندن ضد المحور وقبلوا أن يفرضوا علي الملك بواسطة الأسلحة الإنجليزية في هذه المرة. وعندما أصبح نقيبا عين جمال عبدالناصر معلما بالمدرسة الحربية بالعباسية وهناك تعرف علي قاض شاب ماركسي التكوين وهو أحمد فؤاد الذي كان له أثر كبير في تطور جمال الفكرى. وحينذاك بدأ يجمع من حوله مجموعة من الرفاق. لم يكن هذا هو التنظيم السري الذي استولي علي السلطة في 1952 ولكن دائرة جمعت رجالا مثل ثروت عكاشة، صلاح سالم، خالد محيي الدين وزميل معسكر منقباد القديم أنور السادات الذي كان قد ارتبط بعلاقات مع الإخوان المسلمين وهي الجماعة القومية المتطرفة وتورط بشكل ما في الإرهاب. * نصف حرب في فلسطين كان لابد من حرب أخري حتي يأتي المخاض يقصد مخاص الثورة. في يوم 15 مايو 1948 تم إعلان قيام دولة إسرائيل. في نفس اليوم أعلنت جيوش الدول العربية أنها ستخوض الحرب. ولدينا نص شديد الأهمية عن حرب فلسطين كتبه جمال عبدالناصر ونشر في مجلة آخر ساعة في مارس 1955، في هذا المقال الذي كتبه وهو بعد قائد عسكري شاب نجده تارة مناضلا متحمسا للقضية الفلسطينية وتارة أخري نراه مريرا متشككا تجاه الحلفاء العرب، مستاء من أداء الجيش المصري ومستنكرا لأداء القيادة ومن حالة الاهمال التي تركت بها القوات. وبعد ثلاثة أشهر من بداية القتال أصيب بطلقة في صدره وما أن تماثل للشفاء حتي وجد نفسه محاصرا في جيب الفالوجا الشهير وحيث أثبت مع مائة من الرجال والضباط، تحت قيادة قائد أسود معروف بشجاعته وهو العقيد طه أن المصريين أيضا يعرفون القتال. * الكفاح الحقيقي يجب أن يكون في مصر عاد الضباط المصريون إلي القاهرة مهزومين، مجرد جسد، قلوبهم تغلي بغضب جامح ضد الملك ونظامه أكثر مما كان ضد العدو، وقد روي ناصر أن العقيد عبدالعزيز الذي كان الأكثر إعجابا به بين الضباط، همس له وهو يموت بين يديه: جمال إن الكفاح الحقيقي ليس هنا وإنما في مصر في مصر منذ ذلك الحين بدأ الكفاح الفعلي ضد السلطة علي أيدي تنظيم الضباط الأحرار الذي سيشكل ذراع التمرد العسكرى، غير أن ناصر لم يكتف بتنظيم تآمر داخل الجيش ولكنه شن حملة علي الأسلحة الفاسدة التي اعتبرت من أسباب الهزيمة والتي تم الحصول عليها بصفقة مشبوهة من الدوائر المحيطة مباشرة بالملك وشرع في البحث عن حلفاء وعناوين للكفاح، كان أنور السادات هو وسيطه لدي الإخوان المسلمين وكذلك طيار مغامر جسور يدعي عبدالرءوف، وأقام أيضا علاقات مع التنظيمات الماركسية وخاصة حدتو عن طريق أصدقائه التقدميين خالد محيي الدين، يوسف صديق أو أحمد حمروش. أما بالنسبة للوفد فقد كان له فيه صديق عزيز في ذلك الوقت هو أحمد أبوالفتح نقيب الصحفيين وزوج شقيقته الوفي ثروت عكاشة، ثم اتجه للبحث عن ربان قائد للحركة التي يعد لها والتي لم يكن يتوقع اتساع حجمها في مجتمع مثل المجتمع المصري فإن مجموعة من الضباط في الثلاثين من العمر لا يمكنهم أن يوحوا بالثقة. ومن ثم بدأ في الاتصال ببعض من الشخصيات المهمة في الجيش لم يكن الفريق عزيز المصري يوحي بالجدية فحاول مع اللواء صادق الذي رفض ولم يبق إلا اللواء نجيب الذي برز في 1942 ثم في فلسطين الذي لم يقل لا. الحريق وجاء عام 1952 بينما الملك موضع ازدراء، وكانت الجماهير تهزأ به وتسخر منه علنا عند الخروج من صالات السينما. وكان الحزب القومي الكبير الوفد قد وهن وتراخي وانفصل عن السلطة. وكان الجيش يتجرع خيبة وإهانة 1948. وكان السودان علي وشك الانفصال النهائي عن شمال وادي النيل بفعل السياسة البريطانية. وعلي القنال كانت قوات تشرشل تشبثت كما لم تفعل من قبل بالقواعد العسكرية المهمة. إلا أنه في 26 يناير ارتكبت المدفعية مذبحة ضد ما يقرب من مائة شرطي مصري في منطقة القنال. وكانت هذه بمثابة الإشارة لانفجار قومي في القاهرة سرعان ما تحول إلي هياج شعبي ثم إلي فوضي ونهب وسلب ومجازر وأخيرا إلي حريق ليس فقط في أحياء القاهرة الراقية وإنما أيضا في النظام الملكى. ولكن من الذي أشعلها؟ ولحساب من؟ وعندما أخطر أحد الوزراء قائد الجيش المصري بضرورة الاستعانة بالجيش لوقف الاضطرابات أجاب الأخير: استحالة فإن شباب الضباط سوف ينضم إلي المتظاهرين. ولا نعرف بالضبط ماذا كان شعور جمال في هذا اليوم. هل أحس بالمهانة؟ أم بالقلق؟ أم أنه كان راضيا في سره برؤية دولة فاروق تنهار؟. والواقع أن هذه الكارثة الاجتماعية كانت تكتسح أمامها من الجذور نظام حكم ولمدة ستة أشهر، وحاول الملك أن يقاوم من أجل البقاء وبعد أن جرب وزارة تلو الأخري استعان بآخر أدواته: خبرة علي ماهر ودهاء وحنكة حسين سري وسلطة الهلالى. جهد بلا طائل فقد كان الحكم لابد وأن يؤخذ كان ناصر وقتها برتبة بكباشي وقام بعملية جس نبض فقام بترشيح محمد نجيب لرئاسة نادي الضباط. ولكن الملك قابلها بالرفض مدركا أن وراء اللواء نجيب تتواري رؤوس الجيش الساخنة. * الانقلاب يوم 22 يوليو1952 كان فاروق في الإسكندرية ترافقه الحاشية والحكومة التي كانت تتبعه كل عام علي الشاطئ. ولكن علي بعد 200 كم من الإسكندرية، وفي الساعة العاشرة مساء وفي فيللا منشية البكري الصغيرة، في ضاحية القاهرة، أطلق البكباشي عبدالناصر العملية التي بدأت بالقبض علي اللواء فريد رئيس الأركان. وعند منتصف الليل كان المتآمرون قد احكموا سيطرتهم علي مراكز قيادة الجيش. وفي الساعة الثانية صباحا اتصل وزير الداخلية مرتضي المراغي باللواء محمد نجيب وقال له عبر الهاتف: جري إيه يا سيادة اللواء ما تسكت العيال بتوعك.. وقد أجاد نجيب إظهار دهشته بقدر ما كان مازال بعيدا عن أسرار العملية إذ لم يكن دوره يأتي إلا في المرحلة النهائية. وفي السابعة صباحا وبينما كان المصريون يتأهبون للنزول للعمل سمعوا عبر المذياع صوت أنور السادات يقرأ النص الذي كتبه عبدالناصر وعبدالحكيم عامر: مرت مصر في الفترة الأخيرة بأحلك حقبة في تاريخها... * هل تقبل فاروق؟ متآمرو الليل لم يحسموا بعد أمرهم للاستيلاء علي مجمل جهاز الدول ولخلع فاروق. لم يكتفوا بوضع اللواء محمد نجيب الذي عينوه قائدا للجيش في المقدمة ولكنهم بحثوا أيضا عن العجوز علي ماهر لينصبوه رئيسا للوزراء. لكي يمهلوا أنفسهم بعض الوقت للتفكير أم لكي يضمنوا خدمات محام جيد مؤهل أكثر من المتمردين لكي يقنع فاروق بالانسحاب في هدوء؟ وطيلة ثلاثة أيام قُتل الموضوع بحثا: هل يجب قتل فاروق لتأمين الثورة؟ واعترض عبدالناصر. وفي 26 يوليو 1952 اقتيد الملك إلي يخته الذي تعرفه مراسي مونت كارلو وترك لمصيره ولعالمه عالم القمار واللهو والكازينوهات، وهو قرار يمكن أن نستنتج منه نبذ العنف المتأصل لدي هذه الثورة ولدي المصريين والموهبة السياسية لمهندس الحركة ناصر الذي يعرف كيف يدمر خصمه دون أن يقتله. وكم كانوا فخورين حينئذ بثورتهم البيضاء هؤلاء الضباط الشبان! في النهاية فإن الحكم عليها يجب أن يكون من خلال أعمالها. أعمالها؟ هي مشروع الإصلاح الزراعي الذي يحدد الملكية الزراعية بمائتي فدان والذي سيقضي علي الإقطاع ويؤدي إلي انتقال الرأسمال الزراعي إلي الصناعة، ثم تطهير وإلغاء الأحزاب السياسية، التي كانت معظمها قد ضربها الفساد إلا أن مجرد وجودها كان برغم كل شيء ضمانة لنوع من الديمقراطية التعويضية. ثم جاء بعد ذلك إعلان الجمهورية في جو يعكره القلق وحيث الخلافات بين قادة الحركة قد بدأت تستعر. وأخيرا كانت المفاوضات مع البريطانيين من أجل الجلاء عن قاعدة القناة. عن هذه الفترة كتب جمال عبدالناصر في فلسفة الثورة: لقد فتحنا ثغرة ولم يتبعنا أحد. أي رجل كان حينئذ ذلك الذي اطلقوا عليه البكباشي الطلاب اليساريون كانوا يسمونه الكولونيل جيمي هل كان ماردا لونه أسمر ونظرته حادة، قليل الكلام خجول يفتقر إلي أي روح دعابة في حين أن المصريين يعشقون المزحات القصيرة التي يسمونها نكتة كان المصريون يحبون نجيب، الطيب نجيب، الذي كان يذكرهم بسعد زغلول والنحاس في آن. أما ناصر فمظهره الجاد الحاد ودعواته إلي العمل والإدخار ومطالبته بالعدل وبالالتزام فقد كان معلما ومرشدا لا قائدا أو زعيما. * الجنرال والكولونيل وها هما القائدان، الجنرال ذو البايب والكولونيل حزين النظرات، يتواجهان. فنجيب الذي لم يكن إلا عامل الساعة الحادية قد بدأ يأخذ المسألة جد. وقدبلغت شعبيته حدا جعلته يفكر في استخدامها. وبقدر ما كان غير متفق بالنسبة للمضمون: إذ إنه كان يعتقد أن الجيش يجب أن يلعب فقط دور الرافعة ليترك مكانه بعد ذلك للمدنيين. أما بالنسبة لعبد الناصر وقد كان يقولها لنا بوضوح الطبقة السياسية بأكملها كانت مهترئة والنظام الانتخابي لو أعيد لكان قد أدي إلي عودة الإقطاع 'لضباط الضباط الشبان فقط كانوا قادرين علي الاحتفاظ بنوع من الطهارة وأن يطهروا الدولة وبعد ذلك سوف نرى. حاول اللواء محمد نجيب أن يفرض نفسه وطالب بحق الفيتو داخل مجلس الثورة. قام عبدالناصر بتحجيمه فاستقال فسانده ضباط اليسار الذين كانوا من رأيهم أيضا عودة الجيش إلي الثكنات وأعادوه إلي الحكم. وطوال ستة أشهر ظل الحكم يتهته ويثأثئ ويغير إلي أن اعمل عبدالناصر حسه النقابي في نقابة العمال حيث قمع التجمع وخرج من الأزمة رئيسا للوزراء. ولكنه ظل معزولا بالإضافة إلي أن عقد الاتفاق مع البريطانيين الذي فرض عليهم الرحيل مع الإبقاء علي علاقات بين القاهرة والغرب قد أثار ضده غضب من كانوا مثل جمال عام1936 لا يقبلون إلا بتسوية غير مشروطة. وفي نهاية 1954 كان جمال عبدالناصر الذي استقال بعد شهرين من الجيش وخلع الزي العسكري يملك كل السلطات، كل وسائل الإعلام، كل وسائل الضغط بالإضافة إلي جهاز الدولة والإنتاج. وكان يستند إلي الجيش الذي التف في غالبيته حوله وعلي قطاع كبير من الفلاحين الذين كان الإصلاح الزراعي قد حسن قليلا من مستوي معيشتهم خصوصا الإجراءات التي خفضت نسبة الايجار وعلي معظم الطبقة العمالية التي كانت تتكون وبعدها بقليل علي الطبقة الجديدة التي شكلها في آن.. الموظفون والموالون وصغار رجال الصناعة الذين حلوا مكان أثرياء السوريين واللبنانين الشوام والضباط الذين تركوا الخدمة ليتولوا الوظائف الحساسة في القطاع الاقتصادى. كان النظام بهذا الخليط من العمالية والعسكرية والديناميكية الصناعية والقومية يذكرنا في آن واحد بنظام أتاتورك وبيرون ناقص شعبية القائد لأن جمال كان لايزال لا يتمتع بأي شعبية. كان لابد له من مواجهة أزمات كبري دولية لكي يظهر في مواجهة القوي الكبرى، كالمدافع عن الكرامة المصرية ثم العربية وتتحول العلاقة الكئيبة إلي شهر عسل. وفي باندونج في أبريل 1955 حيث يكتشف العالم الثالث إلي جانب شو إن لاي ونهرو تكلم ضد الاستعمار وعن الحياد وعند عودته هتفت له الجماهير لأول مرة. ثم تأتي بعد ذلك اللعبة الكبري: قناة السويس. بدأت القصة في غزة في فبراير 1955 حيث أدت غارة انتقامية إسرائيلية إلي أن يلمس بأصابعه تدني مستوي جيشه، فحاول بكل الوسائل امتلاك أسلحة. لدي الغرب أولا ثم لدي الشرق. في سبتمبر وقع عقد شراء أسلحة مع براج مما أثار قلق واشنطن وغضب وزير خارجيتها فوستر دالاس وتعقدت الأمور بعد إلغاء القرض الأنجلو أمريكي للقاهرة من أجل بناء السد العالي في أسوان. وقد علم عبدالناصر بالخبر أثناء اجتماعه في بريوني يوم 18 يوليو 1956 مع نهرو والمارشال تيتو. وكان رد فعله مرعبا وصاعقا: أثناء إلقائه خطاب يوم 26 يوليو في الإسكندرية أعلن تأميم شركة قناة السويس، ولم ننس محاولة الرد الفرانكو بريطانية والعملية المنسقة بين لندن وباريس وتل أبيب التي انتصرت فقط علي الأرض. كان الرئيس قاب قوسين أو أدني من الهزيمة العسكرية إلا أن واشنطن وموسكو أجبرا الغزاة علي الانسحاب فخرج منتصرا. غير أن خطاب الإسكندرية خلق له في فرنسا وفي بريطانيا صورة شبه شيطانية. فباريس لن تغفر له إلا بعد وقت طويل هذا التحدي وأيضا المساندة التي أبداها للثورة الجزائرية. إلا أن نجاح الرئيس الأكبر تحقق في الداخل. فقد عرف كيف يحول الكارثة إلي انتصار وذهب البكباشي الكئيب إلي غير رجعة: يعيش جمال، يحيا ناصر تحول الرئيس المعلم إلي زعيم، إلي صانع كلمات، صانع انتصار وصانع معجزات.. معلم مصر الفظ الغليظ أصبح أستاذ الأمل في العالم العربي كله. * الانتصار والخطر هذا الانتصار كان مثقلا بخطر داهم: باختياره العروبة، التي فتحت له طريق تحالفات تمتد إلي ملايين من الأشقاء من الدار البيضاء حتي عدن دخل عبدالناصر في لعبة منهكة من التوازنات والانتصارات والانكسارات وإلي الحرب الدائمة مع إسرائيل. وطوال أحد عشر عاما بعد معركة السويس، أجاد اللعب بوجود القبعات الزرقاء القوات الدولية علي حدود سيناء لكي يمارس سياسة اللا سلم واللا حرب، والتي كان قد قام بتعريفها لأول وآخر مرة عام 1957. غير أن العروبة لديها حساسية من الجمود أوعدم الحركة. إحدي عشر عاما بلا حركة بالنسبة للزعيم المحبوب الذي يثير الغيرة احيانا كثيرة. وقد أثبت السوريون له ذلك في مايو 1967 وعلي الرغم من أن جيشه كان مازال في جبال اليمن وعلي الرغم من أن بناء أسوان قد ضخ الموارد الرئيسية للبلاد وبالرغم من أن الجبهة العربية كانت منقسمة كما لم تكن من قبل فقد ارتكب الخطيئة الكبري في حياته كلها. تحدث إلي شعبه بصدق شديد ونبل أشد أعلن استقالته. غير أن الجماهير التي هزها النبأ أبدت تعاطفا شديدا معه لأنها كانت علي قناعة بأنه ليس هناك من يقودها في الهزيمة أفضل من الذي قادها إليها. وتوسلت إليه أن يبقى. في هذه الأمسية من التاسع من يونيو 1967 حيث استفتي في الكارثة كما لم يحدث لأحد من قبله وبلغ جمال عبدالناصر ذروة الإبداع في فن كان يمارسه باستمرار: تحويل الفشل إلي انتصار
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
Web guest
Thank you for your visit
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US