Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

سنوات مع عبد الناصر - سامي شرف

 كـتـاب

فـلـسفـة الـثـورة

بقلم

جمال عبدالناصر

الجزء  الأول

ـ 1 ـ

 

للرئيس جمال عبدالناصر

 "...... إن هذه الخواطر ليست محاولة لتأليف كتاب
ولا هي محاولة لشرح أهداف ثورة 23 يوليو وحوادثها .... إنما هي شئ آخر تماما....
إنها أشبه ما تكون بدورية استكشاف
إنها محاولة لاستكشاف نفوسنا لكي نعرف من نحن وما دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات
ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر لكي نعرف في أي طريق نسير
ومحاولة لاستكشاف أهدافنا و الطاقة التي يجب أن نحشدها لنحقق هذه الأهداف
ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا ، لنعرف أننا لا نعيش في جزيرة الماء من جميع الجهات
هذا هو الذي قصدت إليه
مجرد دورية استكشاف في الميدان الذي نحارب فيه في معركتنا الكبرى من أجل تحرير الوطن من كل الأغلال
".....

 
ليست فلسفة - محاولات لم تتم - ليست مجرد تمرد - كنا في فلسطين وأحلامنا في مصر-
أحمد عبد العزيز قبل أن يموت - درس من إسرائيل - أيام التلمذة - الحقيقة والفراغ-
لماذا كان لا بد أن يتحرك الجيش - الصورة الكاملة - الطليعة والجموع - أقفصى الأماني
نموذج من أعضاء مجلس الثورة - أزمات نفسية - ثورتان في وقت واحد - لكيلا يقع تصادم على الطريق

قبل أن أمضي في هذا الحديث أريد أن أقف قليلاً عند كلمة ((فلسفة))إن الكلمة ضخمة و كبيرة.. وأنا أحس و أنا واقف حيالها أني أمام عالم واسع ليس له حدود ، و أشعر في نفسي برهبة خفية تمنعني من أن أخوض في بحر ليس له قاع ، و لا أرى له على بعد ، من الشاطئ الذي أقف فيه شاطئاً آخر انتهى إليه والحق أني أريد أن أتجنب كلمة فلسفة في هذا الذي سأقوله ثم أنا أظن أنه من الصعب علي أن أتحدث على فلسفة الثورة
من الصعب لسببين: أولهما
إن الحديث عن فلسفة ثورة 23 يوليو يلزمه أساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا
وقصص كفاح الشعوب ليس فيها فجوة يملؤها الهباء وكذلك ليس فيها مفاجآت تقفز إلى الوجود دون مقدمات
إن كفاح أي شعب ، جيلاً من بعد جيل ، بناء يرتفع حجر فوق حجر
وكما إن كل حجر في البناء يتخذ من الحجر الذي تحته قاعدة يرتكز عليها ، كذلك الأحداث في قصص كفاح الشعوب
كل حدث منها هو نتيجة لحدث سبقه ، وهو في نفس الوقت مقدمة لحدث مازال في ضمير الغيب
ولست أريد أن أدعي لنفسي مقعد أستاذ التاريخ..... ذلك أخر ما يجري به خيالي
ومع ذلك فلو حاولت محاولة تلميذ مبتدئ ، في دراسة قصة كفاح شعبنا ، فأنا سوف أقول مثلاً أن ثورة 23 يوليو هي تحقيق للأمل الذي راود شعب مصر ، منذ بدأ في العصر الحديث يفكر في أن يكون حكمه بأيدي أبنائه ، وفي أن تكون له نفس الكلمة العليا في مصيره
لقد قام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم تزعم السيد عمر مكرم حركة تنصيب محمد علي والياً على مصر ، باسم شعبها
وقام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذي تمناه ، يوم حاول عرابي أن يطالب بالدستور
وقام بمحاولات متعددة ، لم تحقق له الأمل الذي تمناه في فترة الغليان الفكري التي عاشها بين الثورة العرابية و ثورة سنة 1919 وكانت هذه الثورة الأخيرة _ ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول _ محاولة أخرى لم تحقق له الأمل الذي تمناه

وليس صحيحاً أن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التي أسفرت عنها حرب فلسطين ، وليس صحيحاً كذلك أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة التي راح ضحيتها جنود و ضباط وأبعد من ذلك عن الصحة ما يقال أن السبب كان أزمة انتخابات نادى ضباط الجيش
إنما الأمر في رأيي كان أبعد من هذا و أعمق أغوارا

ولو كان ضباط الجيش حاولوا أ ن يثوروا لأنفسهم لأنه قد غرر بهم في فلسطين ، أو لان الأسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهم لما كان الأمر يستحق أن يكون ثورة, ولكن أقرب الأشياء إلى وصفه أنه مجرد تمرد, حتى وإن كانت الأسباب التي أدت إليه منصفة عادلة في حد ذاتها
لقد كانت هذه كلها أسبابا عارضةوربما كان اكبر تأثير لها أنها تستحثنا على الإسراع في طريق الثورة, ولكننا كنا من غيرها نسير على هذا الطريق
وأنا احاول بعد كل ما مر بي من أحداث, وبعد سنوات طويلة من بدء التفكير في الثورة, أن أعود بذاكرتي وأتعقب اليوم الأول, الذي اكتشفت فيه بذورها في نفسي إن هذا اليوم أبعد في حياتي من أيام شهر نوفمبر سنة 1951 أيام ابتداء أزمة نادي الضباط, ففي ذلك كان تنظيم الضباط الأحرارا قائما يباشر عمله ونشاطه, بل أنا لا اغالي إذا قلت أن ازمة إنتخابات النادي أثارها أكثر من أي شيىء آخر في نشاط الضباط الأحرار, فقد شئنا في ذلك الوقت أن ندخل معركة نجرب فيها قوتنا على التكتل وعلى التنظيم
وهذا اليوم - في حياتي أيضا - أبعد من بدء فضيحة الأسلحة الفاسدة, فقد كان تنظيم الضباط الأحرار موجودا قبلها, وكانت منشوراتهم أول نذير بتلك المأساة, وكان نشاطهم وراء الضجة التي قامت حول الأسلحة الفاسدة.بل إن هذا اليوم في حياتي أبعد من يوم 16 مايو سنة 1948 ذلك اليوم الذي كان بداية حياتي في حرب فلسطين وحين أحاول الآن ان أستعرض تفاصيل تجاربنا في فلسطين أجد شيئا غريبافقد كنا نحارب في فلسطين, ولكن أحلامننا كلها في مصر, كان رصاصنا يتجه الى العدو الرابض أمامنا في خنادقه, ولكن قلوبنا كانت تحوم حول زطننا البعيد الذي تركناه للذئاب ترعاه
وفي فلسطين كانت خلايا الضباط الأحرار تدرس وتبحث وتجتمع في الخنادق والمراكز
في فلسطين جاءني صلاح سالم وزكريا محي الدين و اخترقا الحصار الى الفالوجة, وجلسنا في الحصار لا نعرف له نتيجة ولا نهاية, كان حديثنا الشاغل وطننا الذي يتعين أن نحاول إنقاذهوفي فلسطين جلس بجواري مرة كمال الدين حسين وقال لي وهو ساهم الفكر شارد النظرات هل تعلم ماذا قال لي أحمد عبد العزيز قبل أن يموت ؟قلت...ماذا قال ؟قال كما ل الدين حسين
وفي صوته نبرة عميقة وفي عينيه نظرة أعمق :لقد قال لي : إسمع يا كمال , إن ميدان الجهاد الأكبر هو في مصر...ولم التق في فلسطين بالأصدقاء الذين شاركوني في العمل من اجل مصر, وإنما التقيت ايضا بالأفكار التي أنارت أمي السبيل. وأنا اذكر أيام كنت أجلس في الخنادق وأسرح بذهني إلى مشاكلنا
كانت الفالوجة محاصرة ، وكان تركيز العدو عليها ضربا بالمدفع و الطيران تركيزا هائلاً مروعاًوكثيرا ما قلت لنفسي (( ها نحن هنا في هذه الجحور محاصرين ، لقد غرر بنا ، دفعنا إلى معركة لم نعد لها ، ولقد لعبت بأقدارنا مطامع ومؤامرات و شهوات ، و تركنا هنا تحت النيران بغير السلاح )) وحين كنت أصل إلى هذا الحد من تفكيري كنت أجد خواطري تقفز فجأة عبر ميدان القتال ، وعبر الحدود ، إلى مصر ، وأقول لنفسي:هذا هو وطننا هناك
انه ((فالوجة)) أخرى على نطاق كبير .إن الذي يحدث لنا هنا صورة من الذي يحث هناك. صورة مصغرة.وطننا هو الآخر حاصرته المشاكل و الأعداء ، وغرر به ودفع إلى معركة لم يعد لها ، ولعبت بأقدار مطامع و مؤامرات وشهوات ، وترك هناك تحت النيران بغير سلاح !.
وأكثر من هذا ، ولم يكن الأصدقاء هم الذين تحدثوا معي عن مستقبل وطننا في فلسطين ولم تكن التجارب هي التي قرعت أفكارنا بالنذر والاحتمالات عن مصيره ، بل أن الأعداء أيضاً لعبوا دورهم في تذكيرنا بالوطن و مشاكله ومنذ أشهر قليلة قرأت مقالات كتبتها عني ضابط إسرائيلي أسمه (( يردهان كوهين )) ونشرتها له جريدة (( جويشن أوبزرفر )) وفي هذه المقالات روى الضابط اليهودي كيف التقى بي أثناء مباحثات و اتصالات عن الهدنة وقال :
(( ولقد كان الموضوع الذي يطرقه جمال عبد الناصر معي هو كفاح إسرائيل ضد إنجليز ، وكيف نظمنا حركة مقاومتنا السرية لهم في فلسطين وكيف استطعنا أن نجد الرأي العام في العالم ورائنا في كفاحنا ضدهم )) ثم أن هذا اليوم _ اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في نفسي _ أبعد من حادث 4 فبراير سنة 1942 الذي كتبت بعده خطاباً إلى صديق قلت له فيه :
(( ما العمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خانعين؟ ))الحقيقة أني أعتقد أن الاستعمار يلعب بورقة واحدة في يده بقصد التهديد فقط ، ولكن لو أنه أحس أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلون القوة بالقوة لانسحب كأي امرأة من العاهرات.
وطبعاً هذا حاله أو تلك عادته . أما نحن ، أما الجيش ، فقد كان لهذا الحادث تأثير جديد على الروح المعنوية ، فبعد أن كنت ترى الضباط لا يتكلمون إلا عن الفساد واللهو اصبحوا يتكلمون عن التضحية و الاستعداد لبذل النفوس في سبيل الكرامة ، أصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا _ مع ضعفهم الظاهر _ ويردوا للبلاد كرامتها ، ويغسلوها بالدماء ، ولكن غداً لناظره قريب...لقد حاول بعضهم بعد الحادث أن يعملوا شئ بغية الانتقام ، ولكن الوقت كان قد فات ، أما القلوب فكلها نار و أسى

والواقع أن هذه الحركة..... إن هذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد ، وعرفتهم أن هذه كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها وكان درساً قاسياً .وكذلك فان هذا اليوم أبعد فبي حياتي من الفوران الذي عشت فيه أيام كنت طالبا أمشي مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور سنة 1923وقد عاد الدستور 1923 بالفعل _في سنة 1935.. وأيام كنت أسعى مع وفود الطلبة ، إلى بيوت الزعماء نطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر ، وتألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود وأذكر أنني في فترة الفوران هذه كتبت خطاباً إلى صديق من أصدقائي قلت فيه ، وكان التاريخ 2 سبتمبر سنة 1935 :
(( أخي…خاطبت والدك يوم 30 أغسطس في التليفون وقد سألته عنك فأخبرني أنك موجود في المدرسة …لذلك عولت على أن أكتب إليك ما كنت سأكلمك فيه تليفونياً قال الله تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ))فأين تلك القوة التي نستعد بها لهم ؟إن الموقف اليوم الدقيق ، ومصر في موقف أدق ونحن نكاد نودع الحياة و نصافح الموت ، فان بناء اليأس عظيم الأركان ، فأين من يدم هذا البناء ؟

ثم مضيت في هذا الخطاب إلى آخره ..وإذن فمتى كان ذلك اليوم الذي اكتشفت فيه بذور الثورة في أعماقي ..؟ انه بعيد فإذا أضيف إلى هذا كله ، أن تلك البذور لم تكن كامنة في أعماقي وحدي ، وإنما وجدتها كذلك في أعماق كثيرين غيري هم الآخرون بدورهم لا يستطيع الواحد منهم أن يتعقب بداية وجودها داخل كيانه ، لا تضح إذن إن هذه البذور ولدت في أعماقنا حين ولدنا ، وإنها كانت أملاً مكبوتاً خلقه في وجداننا جيل سبقنا
ولقد استطردت وراء هذا كله لأشرح السبب الأول الذي من أجله وجدت من الصعب على أن أتحدث عن فلسفة الثورة وقلت إن هذا الحديث يلزمه أساتذة يتعمقون في البحث عن جذورها الضاربة في أعماق تاريخ شعبنا

أما السبب الثاني : فهو أنني كنت بنفسي داخل الدوامة العنيفة للثورة
والذين يعيشون في أعماق الدوامة قد تخفى عليهم بعض التفاصيل البعيدة عنها . وكذلك كنت بأيماني وعقلي وراء كل ما حدث ، وبنفس الطريقة التي حدث بها ، وإذن فهل أستطيع أن أتجرد من نفسي حين أتكلم عنه ، وحين أتكلم عن المعاني المستترة وراءه ؟ أنا من المؤمنين بأنه لاشيء يمكن أن يعيش في فراغ .. حتى الحقيقة لا يمكن أن تعيش في فراغ ..والحقيقة الكامنة في أعماقنا هي : ما نتصوره أنه الحقيقة أو بمعنى أصح : هو الحقيقة مضاف إليه نفوسنا …..نفوسنا هي الوعاء الذي يعيش فيه كل ما فينا وعلى كل هذا الوعلء سوف يتشكل كل ما يدخل فيه, حتى الحقائق
وأنا أحاول بقدر ما تستطيع طاقتي البشرية أن أمنع نفسي من أن تغير كثيرا من شكل الحقيقة ، ولكن إلى أي حد سوف يلازمني التوفيق ؟ هذا سؤال….. وبعده اريد أن أكون منصفا لنفسي, ومنصفا لفلسفة الثورة, فأتركها لتاريخ يجمع شكلها في نفسي, وشكلها في نفوس غيري, وشكلها في الحوادث جيمعا, ويخرج من هذا كله بالحقيقة كاملة ….
وإذن فما الذي أريد أن أتحدث عنه إذا كنت قد استبعدت كلمة (( فلسفة )) ؟ الواقع إن الذي أملكه في هذا الصدد شيئان
أولهما : مشاعر اتخذت شكل الأمل المبهم ، ثم شكل الفكرة المحددة ، ثم شكل التدبير العملي ، موضع التنفيذ الفعلي في منتصف 23 يوليو حتى الآن .. وعن هذه المشاعر والتجارب أريد أن أتحدث .....لطالما ألح على خواطري سؤال ، هو (( هل كان يجب أن يقوم ، نحن الجيش ، بالذي قمنا به في 23 يوليو سنة 1952 ؟ )) لقد قلت منذ سطور ، أن ثورة 23 يوليو كانت تحقيق لأمل كبير راود شعب مصر ، منذ بدأ العصر الحديث يفكر أن يكون حكمه في أيدي أبنائه ، وفي أن تكون له نفس الكلمة العليا . في مصيره وإذ كان الأمر كذلك ، ولم يكن الذي حدث يوم 23 يوليو تمرداً عسكرياً ، وليس ثورة شعبية ، فلماذا قدر للجيش ، دون غيره من القوى ، إن يحقق هذه الثورة ؟ ولقد آمنت بالجندية طول عمري ، والجندية تجعل للجيش واجباً واحدا ، هو أن يموت على حدود وطنه ، فلماذا وجد جيشنا نفسه مضطراً للعمل في عاصمة الوطن ، لا على حدوده ؟ ومرة أخرى ، دعوني أنبه إلى أن الهزيمة في فلسطين ، والأسلحة الفاسدة ، وأزمة نادي الضباط …لم تكن المنابع الحقيقية التي تدفق منها السيل ، لقد كانت كلها عوامل مساعدة على سرعة التدفق ، ولكنها – كما سبق أن قلت – لا يمكن أبداً أن تكون هي الأصل و الأساس
وإذن لماذا وقع على الجيش هذا الواجب؟ قلت : إن هذا السؤال طالما ألح على خواطري ألح عليها ونحن في دور الأمل والتفكير والتدبير بعد 23 يوليو وألح عليها في مراحل كثيرة من التجربة بعد 23 يوليو ولقد كانت أمامنا مبررات مختلفة قبل 23 يوليو تشرح لنا لماذا يجب أن نقوم بالذي قمنا به
كنا نقول : إذا لم يقم الجيش بهذا العمل فمن يقوم به ؟ وكنا نقول : كنا نحن الشبح الذي يؤرق به الطاغية أحلام الشعب ، وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو..وكنا نقول غير هذا كثيراً ، ولكن الأهم من كل ما كنا نقوله ، إننا كنا نشعر شعوراً يمتد إلى أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا ، وإننا إذا لم نقم به فإننا نكون كأننا قد تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها
ولكني اعترف أن الصورة الكاملة لم تتضح في خيالي إلا بعد فترة طويلة من التجربة عقب 23 يوليو ... وكانت تفاصيل هذه التجربة ، هي بعينها تفاصيل الصورة
وأنا أشهد أنه مرت علي بعد يوم 23 يوليو نوبات اتهمت فيها نفسي و زملائي وباقي الجيش بالحماقة والجنون الذي صنعناه في 23 يوليو ... لقد كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة ، وإنها لا تنتظر إلا الطليعة تقتحم أمامها السور ، فتندفع الأمة وراءها صفوفاً متراصة منتظمة تزحف زحفاً مقدساً إلى الهدف الكبير ... وكنت أتصور دورنا على دور طليعة فدائيين ، وكنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات ، ويأتي بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير ، بل كان الخيال يشط بي أحيانا فيخيل إلي أني أسمع صليل الصفوف المتراصة وأسمع هدير الوقع الرهيب لزحفها المنظم إلى الهدف الكبير ، أسمع هذا كله ويبدو في سمعي من فرط إيماني به حقيقة مادية ، وليس مجرد تصورات خيال

ثم فاجأني الواقع بعد 23 يوليو
قامت الطليعة بمهمتها ، واقتحمت سور الطاغيان ، و خلعت الطاغية ، ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير... وطال انتظارها
لقد جاءتها جموع ليس لها آخر.. ولكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال ! . كانت الجموع التي جاءت أشياعاً متفرقة ، وفلولا متناثرة ، وتعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير ، وبدت الصورة يومها قاتمة مخيفة تنذر بالخطر .. وساعتها أحسست وقلبي يملؤه الحزن وتقطر منه المرارة أن مهمة الطليعة لم تنته في هذه الساعة
وإنما من هذه الساعة بدأت.. كنا في حاجة إلى النظام ، فلم نجد وراءنا إلا الفوضى ..كنا في حاجة إلى الاتحاد ، فلم نجد وراءنا إلا الخلاف.. وكنا في حاجة إلى العمل ، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل .. ومن هنا وليس من أي شئ آخر ، أخذت الثورة شعارها
ولم نكن على استعداد ..وذهبنا نلتمس الرأي من ذوي الرأي ، والخبرة من أصحابها. ومن سوء حظنا لم نعثر على شئ كثير... كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا إلى قتل رجل آخر
وكل فكرة سمعناها لم تكن تهدف إلا إلى هدم فكرة أخرى
ولو أطعنا كل ما سمعناه ، لقتلنا جميع الرجال وهدمنا جميع الأفكار ، ولما كان لنا بعدها ما نعمله إلا أن نجلس بين الأشلاء الأنقاض نندب الحظ البائس ونلوم القدر التعس
وانهالت علينا الشكاوي والعرائض بالألوف و مئات الألوف ، ولو كانت أن هذه الشكاوي والعرائض كانت تروي لنا حالات تستحق الأنصاف ، أو مظالم يجب أن يعود إليها العدل ، لكان الأمر منطقياً و مفهوماً ، ولكن معظم ما كان يرد إلينا لم يزد أو ينقص عن أن يكون طلبات انتقام … كأن الثورة قامت لتكون سلاحاً في يد الحاقدين و المبغضين !ولو أن أحد سألني في تلك الأيام ، ما أعز أمانيك ؟ قلت له على الفور :- أن اسمع مصريا يقول كلمة إنصاف في حق مصري آخر.وأن أحس أن مصريا قد فتح قلبه للصفح و الغفران والحب لإخوانه المصريين .وأن أرى مصريا يكرس وقته لتسفيه أراء مصري آخر.وكانت هناك بعد ذلك كلمة أنانية فردية مستحكمة …كانت كلمة (( أنا )) على كل لسان …كانت هي الحل لكل مشكلة ، وهي الدواء لكل داء … وكثيرا ما كنت أقابل كبراء - أو هكذا تسميهم الصحف - من كل الاتجاهات والألوان ، وكنت أسأل الواحد منهم عن مشكلة ألتمس عنده حلالها، فلم أكن أسمع إلا (( أنا ))..مشاكل الاقتصاد (( هو )) وحده يفهمها ، أما الباقون جميعاً فهم في العلم أطفال يحبون .ومشاكل السياسة (( هو )) وحده الخبير ، أما الباقون جميعاً فما زالوا في (( ألف باء )) لم يتقدموا بعدها حرفاً واحداً .وكنت أقابل الواحد من هؤلاء ، ثم أعود إلى زملائي فأقول لهم في حسرة :لا فائدة .. هذا الرجل لو سألناه عن مشكلة صيد السمك في جزائر هاواي لما وجدنا عنده إلا كلمة " أنا " !
أذكر مرة كنت أزور فيها إحدى الجامعات ودعوت أساتذتها وجلست معهم أحاول أن أسمع منهم خبرة العلماء .وتكلم أمامي منهم كثيرون .... وتكلموا طويلا ...ومن سوء الحظ أن أحد منهم لم يقدم لي أفكار ، وإنما كل واحد منهم لم يزد على أن قدم لي نفسه ، وكفاياته الخلقية وحدها تعمل المعجزات ، ورمقني كل واحد منهم بنظرة الذي يؤثرني على نفسه بكنوز الأرض و ذخائر الخلود !. وأذكر أني لم أتمالك نفسي فقمت بعدها أقول لهم :(( إن كل فرد منا يستطيع في مكانه أن يصنع المعجزات ، إن واجبه الأول أن يعطي كل جهده لعمله ، ولو أنكم ،كأساتذة جامعات ، فكرتم في طلبتكم ، وجعلتموهم - كما يجب - عملكم الأساسي ، لا ستطعتم أن تعطونا قوة هائلة لبناء الوطن .إن كل واحد منا يجب أن يبقى في مكانه ويبذل فيه كل جهده .لا تنظروا إلينا ، لقد اضطرتنا الظروف أن نخرج من أماكننا لنقوم بواجب مقدس ، ولقد كنا نتمنى لو لم تكن للوطن حاجة بنا إلا في صفوف الجيش كجنود محترفين ، وإذن لبقينا فيه )) .ولم أشأ ساعتها أن اضرب لهم المثل في أعضاء مجلس قيادة الثورة ولم أشأ أن أقول لهم أنهم قبل أن يدعوهم الطارئ الذي دعاهم إلى الواجب الأكبر كانوا يبذلون فبي عملهم كل جهدهم

ولم أشأ أن أقول لهم إن معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا أساتذة في كلية أركان حرب ، وهذا دليل امتياز من ناحيتهم كجنود محترفين . وكذلك لم أشأ أن أقول لهم أن ثلاثة من أعضاء مجلس قيادة الثورة ، هم عبد الحكيم عامر ، وصلاح سالم ، وكما الدين حسين ، رقوا ترقيات استثنائية في ميدان القتال في فلسطين .لم أشأ أن أقول لهم شيئاً من هذا ، لأني لا أريد أن أفاخر الناس بأعضاء مجلس قيادة الثورة وهم أخوتي و زملائي
وأعترف إن هذا الحال كله سبب لي أزمة نفسية كئيبة
ولكن التجارب فيما بعد ، وتأمل هذه التجارب واستخلاص معانيها الحقيقية ، خففت وقع الأزمة في نفسي ، وجعلتني ألتمس لهذا كله أعذار من الواقع عثرت عليها حين اتضحت أمامي - إلى حد ما - الصورة الكاملة لحالة الوطن ، واكثر من هذا أعطتني الجواب على سؤال الذي قلت انه لطالما راودني ، وهو : –(( هل كان يجب أن نقوم ، نحن الجيش ، بالذي قمنا به في 23 يوليو ؟ ))والجواب : نعم ، ولم يكن هناك مهرب أو مفر !.وأنا الآن أستطيع أن أقول إننا نعيش في ثورتين وليس في ثورة واحدة . ولكل شعب من شعوب الأرض ثورتان ثورة سياسية : يسترد بها حقه في حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليها ، أو من جيش معتد أقام في أرضه دون رضاه
ثورة اجتماعية : تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد
لقد سبقتنا على طريق التقدم البشري شعوب مرت بالثورتين ولكنها لم تعشهما معاً . وإنما فصل بين الواحد و الثانية مئات من السنين ، أما فان التجربة الهائلة التي امتحن بها شعبنا هي أن تعيش الثورتان معاً في وقت واحد
وهذه التجربة الهائلة مبعثاً أن لكل من الثورتين ظروفا مختلفة تتنافر تنافراً عجيباً ، وتتصادم تصادماً مروعاً .وان الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة و ترابطها وتساندها ونكرانها لذاتها في سبيل الوطن كله .
الثورة الاجتماعية ، من أول مظاهرها ، نزلزل القيم وتخلخل العقائد ، وتصارع المواطنين مع أنفسهم أفراد وطبقات ، وتحكم الفساد و الشك و الكراهية .. و الأنانية
وبين شقي الرحى هذين ، قدر لنا أن نعيش اليوم في ثورتين :ثورة تحتم علينا أن نتحد ، ونتحاب ، ونتفانى في الهدف ، وثورة تفرض علينا - برغم إرادتنا - أن نتفرق ، وتســـود البغضاء ولا يفكر كل منا إلا في نفسه
وبين شقي الرحى هذين – مثلاً – ضاعت ثورة 1919 ولم تستطع أن تحقق النتائج التي كان يجب أن تحققها .الصفوف التي تراصت في سنة 1919 تواجه الطغيان ، لم تلبث إلا قليلا حتى شغلها الصراع فيما بينها أفراد و طبقات .وكانت النتيجة فشلاً كبيراً ، فقد زاد الطغيان بعدها تحكماً فينا ، سواء بواسطة قوات الاحتلال السافرة ، أو بصنائع الاحتلال المقنعة التي كان يتزعمها في ذلك الوقت السلطان فؤاد وبعده ابنه فاروق ، ولم يحصد الشعب إلا الشكوك في نفسه والكراهية و البغضاء والأحقاد فيما بين أفراده و طبقاته
وشحب الأمل الذي كان ينتظر أن تحققه ثورة 1919... ولقد قلت لقد شحب الأمل ولم أقل تلاشى ، ذلك لآن قوى المقاومة الطبيعية التي تدفعها الآمال الكبيرة التي تراود شعبنا ، كانت لا تزال تعمل عملها وتستعد لمحاولة جديدة
وكان ذلك هو الحال الذي ساد بعد ثورة 1919 والذي فرض على الجيش أن يكون وحده القوة القادرة على العمل .كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد ، يبعد عنهم إلى حد ما صراع الأفراد و الطبقات ، وأن تكون هذه القوة من صميم الشعب ، وان يكون في استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض ، وأن يكون في يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملاً شريفاً حاسماً ، ولم تكن هذه الشروط تنطبق إلا على الجيش .
وهكذا لم يكن الجيش - كما قلت - هو الذي حدد دوره في الحوادث ، وإنما العكس كان أقرب إلى الصحة ، وكانت الحوادث و تطوراتها هي التي حددت للجيش دوره في الصراع الكبير لتحرير الوطن
ولقد أدركت منذ البداية أن نجاحنا يتوقف على إدراكنا الكامل لطبيعة الظروف التي نعيش فيها من تاريخ وطننا ، فإننا لم نكن نستطيع أن نغير هذه الظروف بجرة قلم ، وكذلك لم نكن نستطيع أن نؤخر عقارب الساعة أو نقدمها ونتحكم في الزمن ….وكذلك لم يكن في استطاعتنا أن نقوم على طريق التاريخ بمهمة جندي المرور فنوقف مرور ثورة حتى تمر ثورة أخرى ، ونحول بذلك دون وقوع حادث اصطدام ، و إنما كان الشيء الوحيد الذي نستطيعه هو أن نتصرف بقدر الإمكان وننجو من أن يطحننا شقا الرحى

وكان لابد أن نسير في طريق الثورتين معاً .ويوم سرنا في طريق الثورة السياسية فخلعنا فاروقاً عن عرشه سرنا خطوة مماثلة في طريق الثورة الاجتماعية فقرننا تحديد الملكية
ومازلت أعتقد حتى اليوم انه ينبغي أن تظل ثورة 23 يوليو محتفظة بقدرتها على الحركة السريعة و المبادأة ، لكي تستطيع أن تحقق معجزة السير في ثورتين في وقت واحد ، و مهما يبدو في بعض الأحيان من التناقض في تصرفاتنا
وحين جاءني واحد من أصدقائي يقول لي :(( أنت تطالب بالاتحاد لمواجهة الإنجليز . وأنت في نفس الوقت تسمح لمحاكم الغدر أن تستمر في عملها.)) استمعت إليه ، وكانت في خيالي أزمتنا الكبيرة ، أزمة شقي الرحى :أزمة تقتضينا أن نتحد صفاً واحداً وننسى الماضي
وثورة تفرض علينا أن نعيد الهيبة الضائعة لقيم الأخلاق ولا ننسى الماضي !.ولم أقل لهذا الصديق : إن منفذا الوحيد إلى النجاة ، أن نحتفظ – كما قلت – بسرعة الحركة و المبادأة ، وبالقدر على أن نسير في طريقين في وقت واحد .ولم أشأ أنا ذلك ، ولا شاءه كل الذين شاركوا في 23 يوليو .ولكن القدر شاء ، وتاريخ شعبنا ، والمرحلة التي يمر بها اليوم
..............."
 
- يتبع -

يحى الشاعر

 


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's

Web guest

Thank you for your visit






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US