Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

 جمال عبدالناصر

الى

أعضاء المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية

الميثاق الوطني

الباب الرابع

 درس النكسة

 
البــاب الـرابـع 
درس النكسة

لقد كانت فترة الخطر الحقيقى على نضال الشعب المصرى الطويل؛ هى هذه الفترة الحافلة بالخديعة، ما بين انتكاسة سنة 1919 إلى حين تنبهت القوى الشعبية للخطر الذى يتهددها من منطق المساومة والاستسلام؛ ومن ثم بدأ التأهب النفسى لثورة يوليو سنة 1952.

إن هذه الفترة كانت قادرة؛ لولا صلابة الشعب، ومعدنه الأصيل، أن تحمل البلاد إلى حالة من اليأس، تخنق كل حوافز الرغبة فى التغيير، أو تلحق بها الشلل الذى يمنعها من الحركة.

إن هذه الفترة التى يمكن أن ننظر إليها الآن باعتبارها فترة الأزمة الكبرى كانت حافلة بالواجهات المضللة التى تخفى وراءها الأطلال المتهاوية من بقايا ثورة سنة 1919.

لقد كانت القيادات الباقية من ذكريات الثورة مازالت واقفة فى المقدمة، ولكن هذه القيادات فقدت كل طاقاتها الثورية، وأسلمت كل الشعارات التى رفعها الشعب سنة 1919 إلى كبار ملاك الأرض الذين كانوا دعامة التنظيمات الحزبية القائمة، وأشركوا فيها بعض الانتهازيين الذين اجتذبتهم عملية تقسيم الغنائم بعد انتكاسة الثورة، ولقد ظهرت فى هذا الجو فئات طفيلية.. لقد استطاع هذا الانحراف أن يجذب إلى الجو الحزبى الفاسد جماعات من المثقفين كان فى قدرتهم أن يكونوا حراساً على أمانى الثورة الحقيقية، لكن الإغراء كان أقوى من مقاومتهم.

كذلك استطاع هذا الانحراف أن يمهد لفئة من الرأسماليين ورثوا - فى حقيقة الأمر - نفس دور المغامرين الأجانب فى القرن التاسع عشر، بكل سطحيته التى لا تهتم بتطوير الوطن ذاته قدر اهتمامها باستغلال أكبر جزء من ثروته، ونزحها فى أقل وقت ممكن.

ثم انتهى المطاف بهذه الأحزاب جميعاً إلى الحد الذى دفعها للارتماء فى أحضان القصر تارة، وفى أحضان الاستعمار تارة أخرى. وفى الواقع كان القصر والاستعمار بحكم مصالحهما فى صف واحد؛ وإن بدت الخلافات السطحية بينهما فى بعض الظروف، لكن الحقيقة الكبرى أن كليهما كان يقف فى الصف المعادى لمصالح الشعب، والمضاد لاتجاه التقدم.

إن سلطة الشعب كانت خطراً على أوضاعهما الدخيلة، واتجاه التقدم كان محققاً أن يجرفهما معاً إلى نفس المصير، وفى ذلك الوقت أيضاً كانت هناك واجهة ديمقراطية مضللة؛ استعانت بها الفلول المنهزمة من ثورة 1919 لتخدع بها الشعب عن حقيقة مطالبه.

إن الديمقراطية بالطريقة التى جرت بها ممارستها فى مصر تلك الفترة كانت ملهاة مهينة. إن الشعب لم يعد صاحب السلطة؛ وإنما أصبح الشعب أداة فى يد السلطة، أو بمعنى أصح ضحية لها. ولم تعد أصوات الجماهير هى التى تقرر خط السير الوطنى؛ وإنما أصبحت أصوات الجماهير تساق وفقاً لإرادة السلطات الحاكمة وأصدقائها.

ولقد كان ذلك نتيجة طبيعية لإغفال الجانب الاجتماعى من أسباب ثورة الشعب سنة 19. إن الذى يحتكر رزق الفلاحين والعمال، ويسيطر عليه؛ يقدر بالتبعية أن يحتكر أصواتهم، وأن يسيطر عليهم، ويملى فوقهم إرادته.

إن حرية رغيف الخبز ضمان لابد منه لحرية تذكرة الانتخابات. إن هذه الأزمة العنيفة فتحت أمام سلطات الأسرة المالكة أبواباً جاهد النضال الشعبى طويلاً لكى يسدها، لكن انتكاسة الثورة شجعت الأسرة المالكة على تجاوز كل الحدود، وفى جو الأزمة لم يعد الدستور، الذى رضيت به القيادات الثورية منحة من الدخيل ومنة؛ إلا مجرد قصاصة ورق بهتت عليها الحقوق الشكلية التى كانت قد ألقيت للشعب لينشغل بها ويتلهى.

ولقد استسلمت القيادات التى تصدت للنضال الشعبى أمام سلطة القصر المتزايدة؛ بسبب ضعفها المتزايد، وركعت جميعاً تلتمس الرضا الذى يصل بها إلى مقاعد الحكم، وتخلت بذلك عن الشعب، وأهدرت كل قيمة له؛ ناسية بذلك أنها تتخلى طواعية عن مصدر قوتها الوحيد، ومنبعها الأصلى، وانتهى الأمر إلى حد أنهم هانوا على الشيطان الذين باعوه أرواحهم، فوصل بهم الهوان إلى حد أن تغيير الوزارات أصبح له ثمن معلوم يدفع للقصر ولوسطائه. إن القيادات الوطنية حين تخلع جذورها من التربة الشعبية تحكم على نفسها بالذبول وبالموت.

ولسوف يبقى الوطن زماناً طويلاً يشعر فى حلقه بمرارة الذل الذى أحسه فى هذه الفترة المتأزمة؛ من جراء استهانة الاستعمار بنضاله استهانة فاقت كل حدود الاحتمال البشرى.

إن الثورة على الاستعمار حق طبيعى لكل الشعوب المستعمرة، لكن الكراهية المرة التى يشعر بها شعبنا تجاه المستعمرين، والتى مازال يشعر بها حتى الآن رغم بعد أسبابها؛ تستمد مبرراتها من هذه الفترة.

إن الاستعمار فى هذه الفترة لم يكتف بإرهاب شعوب الأمة العربية كلها؛ وإنما استهان بنضالها وبحقها فى الحياة.
إن الاستعمار تنكر لكل عهوده التى قطعها على نفسه خلال الحرب العالمية الأولى، وكانت الأمة العربية تتصور أنها قريبة من يوم الاستقلال ويوم الوحدة.

إن الأمل فى الاستقلال تلقى ضربات قاسية؛ فإن البلاد العربية قسمت بين الدول الاستعمارية وفق مطامعها، بل وفق نزواتها، واخترع ساسة الاستعمار كلمات مهينة لتغطية الجريمة التى أقدموا عليها ككلمات الانتداب، والوصاية.
إن قطعة من الأرض العربية فى فلسطين قد أعطيت من غير سند من الطبيعة أو التاريخ لحركة عنصرية عدوانية؛ أرادها المستعمر لتكون سوطاً فى يده؛ يلهب به ظهر النضال العربى إذا استطاع يوماً أن يتخلص من المهانة، وأن يخرج من الأزمة الطاحنة كما أرادها المستعمر فاصلاً يعوق امتداد الأرض العربية، ويحجز المشرق عن المغرب، ثم أرادها عملية امتصاص مستمرة للجهد الذاتى للأمة العربية؛ تشغلها عن حركة البناء الإيجابى.

إن ذلك كله تم بطريقة تحمل طابعاً استفزازياً؛ لا تقيم وزناً لوجود الأمة العربية أو لكرامتها. إن سخرية القدر من الأمة العربية وصلت إلى حد أن جيوشها التى دخلت فلسطين لتحافظ على الحق العربى فيها؛ كانت تحت القيادة العليا لأحد العملاء الذين اشتراهم الاستعمار بالثمن البخس، بل إن العمليات العسكرية تحت هذه القيادة العليا كانت فى يد ضابط إنجليزى؛ يتلقى أوامره من نفس الساسة الذين أعطوا للحركة الصهيونية وعد "بلفور"؛ الذى قامت على أساسه الدولة اليهودية فى فلسطين.

إن سنوات طويلة سوف تمضى قبل أن تنسى الأمة العربية مرارة التجربة التى عاشتها فى هذه الفترة، محصورة بين الإرهاب والإهانة. إن الأمة العربية خرجت من هذه التجربة بإصرار عميق على كراهية الاستعمار وعلى هزيمته.. إنها خرجت بدرس عظيم الفائدة عن حقيقة أن الاستعمار ليس مجرد نهب لموارد الشعوب؛ وإنما هو عدوان على كرامتها وعلى كبريائها.

إن الشعب المصرى بدأ يتأهب لاستئناف دوره التاريخى؛ حتى قبل أن تنتهى الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تنزاح الأشباح الكئيبة لدبابات الاحتلال عن مدنه الكبرى.

ولقد عبر الشعب المصرى عن نفسه؛ برفضه العنيد أن يشترك فى الحرب التى لم تكن فى نظره إلا صراعاً على المستعمرات والأسواق، بين العنصرية النازية وبين الاستعمار البريطانى - الفرنسى؛ جرت على البشرية كلها ويلات لا حدود لها من القتل بالجملة والدمار الشامل.

لقد رفض الشعب المصرى كل الشعارات التى رفعها المتحاربون أعلاماً فوق رءوسهم ليخدعوا بها الشعوب، وسحب الشعب المصرى كله البقايا الباقية من تأييده للذين تعاونوا مع سلطة الاحتلال؛ طمعاً فى مكاسب السوق السوداء التى فرضتها الحرب وظلالها القاتمة، وعمت الشباب المصرى موجة من السخط والغضب على كل الذين مدوا أيديهم للاحتلال وقبلوا وجوده. ولقد ترددت فى مصر ذلك الوقت أصداء طلقات الرصاص، وتجاوبت أصداء انفجارات القنابل، وكثرت التنظيمات السرية بمختلف اتجاهاتها وأساليبها، ولم تكن تلك هى الثورة؛ وإنما كان ذلك هو التمهيد لها.. كانت تلك هى مرحلة الغضب التى تمهد لاحتمالات الثورة.

إن الغضب مرحلة سلبية. إن الثورة عمل إيجابى يستهدف إقامة أوضاع جديدة. إن غضب الشعب المصرى الممهد للتغيير بدأ يجاوز النطاق الفردى إلى النطاق الجماعى. إن ثورات الفلاحين ضد استبداد الإقطاع وصلت إلى حد الاشتباك المسلح بين الذين ثاروا على عبودية الأرض وبين سادة الأرض المتحكمين فيها، وفى أقدار الذين ارتبطت حياتهم بها منذ أقدم العصور؛ وإن كانوا منذ أقدم العصور قد حرموا منها. وحريق القاهرة مهما يكن وراءه من تدبير المدبرين كان يمكن إطفاؤه لكن ثورة السخط الشعبى زادته اشتعالاً. إن الفئة المتحكمة فى العاصمة لم تكن تشعر باحتياجات الشعب، وكانت غارقة فى حياتها المترفة؛ لا تشعر بعذاب الجوع أو آلامه.

إن شرار الغضب أشعل من الحرائق فى القاهرة أكثر مما أشعلت يد التدبير الخفية التى بدأت عملية الحريق.
إن الجماهير فى القرية وفى المدينة كانت قد عبرت بما فيه الكفاية عن إرادتها الحقيقية مع مطلع السنة الحاسمة فى تاريخ مصر؛ سنة 1952.

إن أعظم ما فى ثورة 23 يوليو سنة 1952 أن القوات التى خرجت من الجيش لتنفيذها لم تكن هى صانعة الثورة؛ وإنما كانت أداة شعبية لها.


لقد كانت المهمة الكبرى للطلائع الثورية التى تحركت فى الجيش تلك الليلة الخالدة؛ هى أنها استولت على الأمور فيه، واختارت له المكان الذى لا مكان له غيره، وهو جانب النضال الشعبى. إنها قامت بعملية تصحيح للأوضاع بالغة الأهمية والخطر فى تلك الظروف؛ متحدية بذلك إرادة كل القوى الحاكمة التى أرادت عزل الجيش عن النضال الشعبى.
إن الثورة تفجرت تلك الليلة العظيمة من انضمام الجيش إلى مكانه الطبيعى تحت قيادة الشعب وفى خدمة أمانيه.

إن الجيش فى تلك الليلة أعلن ولاءه للنضال الشعبى، ومن ثم فتح الطريق أمام إرادة التغيير. إن انضمام الجيش إلى النضال الشعبى صنع أثرين هائلين فى نفس الليلة؛ لقد سلب قوى الاستغلال الداخلى أداتها التى كانت تهدد بها ثورة الشعب؛ كذلك فإنه سلح النضال الشعبى فى مواجهة قوى السيطرة الأجنبية المحتلة بدرع من الصلب قادر أن يصد عنه ضربات الخيانة والغدر.

إن الثورة لم تحدث ليلة 23 يوليو؛ ولكن الطريق إليها قد فتح على مصراعيه تلك الليلة العظيمة، ولقد أثبت الوعى الثورى فى مصر قدرته على تحمل المسئولية الكبرى التى ألقتها تطورات الظروف عليه.

إن الوعى الثورى استمد من حسه الوطنى الصافى قدرته على الرؤية الواضحة البعيدة المدى؛ وبذلك أمكن اجتياز العقبات التى كان يمكن أن تعترض طريق التغيير الثورى فى مثل ظروف التجربة التى عاشتها مصر تلك الأيام.
لقد كان يمكن أن يتحول الحدث الكبير الذى جرى ليلة 23 يوليو إلى مجرد تغيير للوزارة القائمة أو لنظام الحكم، وكان يمكن أن يتحول من ناحية أخرى إلى ديكتاتورية عسكرية تضيف إلى التجارب الفاشية تجربة أخرى فاشلة؛ لكن أصالة الوعى الثورى وقوته سيطرت على اتجاهات الأمور، ومنحت جميع العناصر الوطنية إدراكاً لدورها فى توجيه النضال الوطنى.

إن أصالة هذا الوعى وقوته هى التى فرضت أن يكون الحدث الكبير ليلة 23 يوليو خطوة على طريق تغيير جذرى شامل؛ يعيد الأمانى الوطنية إلى مجراها الثورى السليم الذى ضاع منها بسبب انتكاسة ثورة سنة 1919؛ كما أن أصالة هذا الوعى وقوته هى التى رفضت تماماً كل احتمالات قيام ديكتاتورية عسكرية، ووضعت القوى الشعبية - وفى طليعتها قوى الفلاحين والعمال - موضع القيادة الفعلية.

كذلك ففى هذه الفترة الدقيقة تمرد الوعى الثورى الأصيل على منطق دعاة الإصلاح، واختار طريق الثورة الشاملة. إن احتياجات الوطن لم تكن تكتفى بترميم البناء القديم المتداعى وصلبه بالقوائم تسنده وإعادة طلائه؛ وإنما كانت احتياجات الوطن تتطلب بناءاً جديداً ثابت الأساس، صلباً، شامخاً.

ولقد كانت أكبر حجة ضد منطق دعاة الإصلاح أن البناء القديم انهار أنقاضاً وركاماً فى مواجهة التجربة الجديدة. إن سقوط النظام الذى كان سائداً قبل الثورة هذا السقوط الكامل السريع كان يقطع بعدم جدوى محاولات الترميم، لكن سقوط النظام القديم لم يكن هدف التطلع الثورى. إن التطلع الثورى بكل آماله ومثله العليا يهتم بالبناء الجديد أكثر من اهتمامه بالأنقاض التى تداعت.

إن الباب الذى انفتح على مصراعيه ليلة 23 يوليو ظل مفتوحاً لفترة طويلة؛ قبل أن يدخل منه التغيير الحتمى الذى طال انتظاره.

لقد كانت هناك أنقاض النظام القديم وحطامه تسد الطريق، كما كانت هناك رواسب متعفنة من مطامعه البالية المهزومة، وفى نفس الوقت فإن القيادات السياسية التى كانت تتصدر الحياة العامة سقطت كلها تحت أنقاض النظام القديم؛ الذى شاركت فيه جميعها فى انحرافاتها عن الأهداف الأصلية التى كان يجب التزامها فى ثورة سنة 19.

لقد كانت جميعها شريكة فى سياسة ساوم واستسلم التى صاحبت فترة الأزمة؛ فطبعتها بهذا الطابع المهين، وكانت الأوضاع الطبقية قد أبعدت عناصر كثيرة صالحة للقيادة الفكرية عن صفوف القوى الشعبية المتطلعة للثورة والمطالبة بها. وفى نفس الوقت فإن الطلائع الثورية التى صنعت أحداث ليلة 23 يوليو لم تكن قد أعدت نفسها لتتحمل مسئولية التغيير الثورى الذى تصدت لمقدماته.

لقد فتحت الباب للثورة تحت راية المبادئ الستة المشهورة؛ ولكن هذه المبادئ كانت أعلاماً للثورة وليست أسلوب عمل ثورى ومنهاج تغيير جذرى، ولقد كان الأمر من الصعوبة بمكان؛ خصوصاً فى جو التغيير العالمى البعيد المدى والعظيم الأثر، لكن الشعب المعلم صانع الحضارة راح يلقن طلائعه أسرار آماله الكبرى، ومضى يحرك المبادئ الستة بالتجربة والخطأ؛ نحو وضوح فكرى يصنع التصميم الهندسى لبناء المجتمع الجديد الذى يريده، وراح الشعب الكادح يكدس مواد البناء، ويكتل جميع القوى الثورية القادرة على الإسهام فيه من صفوف الجماهير الواسعة.

إن الشعب المعلم أراد لطلائعه الثورية أن تنضم إلى صفوف العمل الجماهيرى، وأوكل إلى جيشه الوطنى مهمة حماية عملية البناء، ثم راح يشرف بوعى وجدارة على التحول الرائد الخلاق نحو الاشتراكية الديمقراطية التعاونية.
"

..............."
 
- يتبع -
 

يحى الشاعر

 


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's

Web guest

Thank you for your visit






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US