Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

 جمال عبدالناصر

الى

أعضاء المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية

الميثاق الوطني

الباب الثالث

جذورالنضال المصرى

 

البــاب الثـالـث

جذور النضال المصرى

منذ زمان بعيد فى الماضى لم تكن هناك سدود بين بلاد المنطقة التى تعيش فيها الأمة العربية الآن، وكانت تيارات التاريخ التى تهب عليها واحدة؛ كما كانت مساهمتها الإيجابية فى التأثير على هذا التاريخ مشتركة، ومصر بالذات لم تعش حياتها فى عزلة عن المنطقة المحيطة بها، بل كانت دائماً بالوعى - وباللاوعى فى بعض الأحيان - تؤثر فيما حولها، وتتأثر به كما يتفاعل الجزء مع الكل، وتلك حقيقة ثابتة تظهرها دراسة التاريخ الفرعونى صانع الحضارة المصرية والإنسانية الأولى، كما تؤكدها بعد ذلك وقائع عصور السيطرة الرومانية والإغريقية.

وكان الفتح الإسلامى ضوءاً أبرز هذه الحقيقة، وأنار معالمها، وصنع لها ثوباً جديداً من الفكر والوجدان الروحى، وفى إطار التاريخ الإسلامى، وعلى هدى من رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - قام الشعب المصرى بأعظم الأدوار دفاعاً عن الحضارة والإنسانية، وقبل أن ينزل ظلام الغزو العثمانى على المنطقة بأسرها كان شعب مصر قد تحمل ببسالة منقطعة النظير مسئوليات حاسمة لصالح المنطقة كلها؛ كان قد تحمل المسئولية المادية والعسكرية فى صد أول موجات الاستعمار الأوروبى التى جاءت متسترة وراء صليب المسيح؛ وهى أبعد ما تكون عن دعوة هذا المعلم العظيم، وكان قد تحمل المسئولية المادية والعسكرية فى رد غزوات التتار، الذين اجتاحوا سهول الشرق واجتازوا جباله؛ حاملين الخراب معهم والدمار، ثم كان قد تحمل المسئولية الأدبية فى حفظ التراث الحضارى العربى وذخائره الحافلة، وجعل من أزهره الشريف حصناً للمقاومة ضد عوامل الضعف والتفتت؛ التى فرضتها الخلافة العثمانية استعماراً ورجعية باسم الدين، والدين منها براء.

ولم تكن الحملة الفرنسية على مصر - مع مطلع القرن التاسع عشر - هى التى صنعت اليقظة المصرية فى ذلك الوقت، كما يقول بعض المؤرخين؛ فإن الحملة الفرنسية حينما جاءت إلى مصر وجدت الأزهر يموج بتيارات جديدة تتعدى جدرانه إلى الحياة فى مصر كلها؛ كما وجدت أن الشعب المصرى يرفض الاستعمار العثمانى المقنع باسم الخلافة، والذى كان يفرض عليه - دونما مبرر حقيقى - تصادماً بين الإيمان الدينى الأصيل فى هذا الشعب، وبين إرادة الحياة التى ترفض الاستبداد.. ولقد وجدت هذه الحملة مقاومة عنيفة لسيطرة المماليك، وتمرداً مستمراً على محاولاتهم لفرض الظلم على الشعب المصرى، وبرغم أن هذه المقاومة العنيفة والتمرد المستمر قد كلفا شعب مصر غالياً فى ثروته الوطنية وفى حيويته؛ فإن الشعب المصرى كان صامداً ثابت الإيمان. على أن الحملة الفرنسية جاءت معها بزاد جديد لطاقة الشعب الثورية فى مصر ذلك الوقت؛ جاءت ومعها لمحات من العلوم الحديثة التى طورتها الحضارة الأوروبية، بعد أن أخذتها من غيرها من الحضارات؛ والحضارة الفرعونية والعربية فى مقدمتها؛ كذلك جاءت معها بالأساتذة الكبار الذين قاموا بدراسة أحوال مصر والكشف عن أسرار تاريخها! القديم، وكان هذا الزاد يحمل فى طياته ثقة بالنفس، كما كان يحمل آفاقاً جديدة تشد خيال الحركة المتحفزة للشعب المصرى. ولقد كانت هذه اليقظة الشعبية هى القوة الدافعة وراء عهد محمد على، وإذا كان هناك شبه إجماع على أن محمد على هو مؤسس الدولة الحديثة فى مصر؛ فإن المأساة فى هذا العهد هى أن محمد على لم يؤمن بالحركة الشعبية التى مهدت له حكم مصر، إلا بوصفها نقطة وثوب إلى مطامعه، ولقد ساق مصر وراءه إلى مغامرات عقيمة استهدفت مصالح الفرد؛ متجاهلة مصالح الشعب.

إن اليابان الحديثة بدأت تقدمها فى نفس هذا الوقت الذى بدأت فيه حركة اليقظة المصرية، وبينما استطاع التقدم اليابانى أن يمضى ثابت الخطى؛ فإن المغامرات الفردية عرقلت حركة اليقظة المصرية، وأصابتها بنكسة ألحقت بها أفدح الأضرار. إن هذه النكسة فتحت الباب للتدخل الأجنبى فى مصر على مصراعيه، بينما كان الشعب قبلها قد رد - بتصميم ونجاح - محاولات غزو متوالية، كانت أقربها فى ذلك الوقت حملة "فريزر" ضد رشيد.
ومن سوء الحظ أن النكسة وقعت فى مرحلة هامة من مراحل تطور الاستعمار؛ فإن الاستعمار كان قد تطور فى ذلك الوقت من مجرد احتلال المستعمرات واستنزاف مواردها إلى مرحلة الاحتكارات المالية لاستثمار رءوس الأموال المنهوبة من المستعمرات، وكانت النكسة فى مصر باباً مفتوحاً لقوى السيطرة العالمية. وبدأت الاحتكارات المالية الدولية دورها الخطير فى مصر، وركزت نشاطها فى اتجاهين واضحين، هما: حفر قناة السويس، وتحويل أرض مصر إلى حقل كبير لزراعة القطن؛ لتعويض الصناعة البريطانية عن أقطان أمريكا التى قل ورودها إلى بريطانيا بسبب انتهاء سيطرتها على أمريكا، ثم انقطع وصولها تماماً بسبب ظروف الحرب الأهلية الأمريكية، ولقد عاشت مصر فى هذه الفترة تجربة مروعة؛ استنزفت فيها كل إمكانيات الثروة الوطنية لصالح القوى الأجنبية، ولمصلحة عدد من المغامرين الأجانب؛ الذين تمكنوا من السيطرة على أمراء أسرة محمد على، وساعدهم على ذلك فداحة النكسة التى أصيبت بها حركة اليقظة المصرية.

على أن روح هذا الشعب لم تستسلم، وإنما استطاعت تحت المحن العصيبة فى هذه الفترة أن تختزن طاقات تحفزت لإطلاقها فى اللحظة المناسبة، وكانت هذه الطاقة هى العلم الذى حصل عليه آلاف من شباب مصر الرواد ممن أرسلوا - أيام الصحوة التى سبقت النكسة من حكم محمد على - إلى أوروبا ليتمكنوا من العلم الحديث؛ فإن هؤلاء استطاعوا بعد عودتهم إلى الوطن أن يجلبوا معهم بذوراً صالحة، ما لبثت التربة الثورية الخصبة لمصر أن احتضنتها؛ لتخرج منها بشائر نبت ثقافى جديد راح ينشر ألواناً رائعة من الأزهار على ضفاف النيل الخالد، وليس صدفة أن هذه الزهور المتفتحة على ضفاف وادى النيل كانت بمثابة الومضات اللامعة التى لفتت أنظار العناصر المتطلعة إلى التقدم فى المنطقة كلها نحو مصر، وجعلت منها فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر منبراً للفكر العربى كله، ومسرحاً لفنونه، وملتقى لكل الثوار العرب من وراء الحدود المصطنعة والموهومة، ولقد أحست الاحتكارات الاستعمارية الطامعة فى المنطقة بالأمل الجديد يستجمع قواه ويتحفز، وكانت بريطانيا بالذات لا تحول أنظارها عن مصر؛ بحكم اهتمامها بالطريق إلى الهند، ومن ثم ألقت بثقلها كله فى المعرك! ة الثورية التى لاحت مقدماتها بين القوى الشعبية وبين أسرة محمد على الدخيلة المغامرة، وكانت ثورة عرابى هى قمة رد الفعل الثورى ضد النكسة، وكان الاحتلال البريطانى العسكرى لمصر سنة 1882؛ ضماناً لمصالح الاحتكارات المالية الأجنبية وتأييداً لسلطة الخديوى ضد الشعب، هو التعبير عن إرادة الاستعمار فى استمرار بقاء النكسة، ومواصلة القهر والاستغلال ضد شعب مصر.
إن قوة الاحتلال البريطانى العسكرية، ومؤامرات المصالح الاحتكارية الاستعمارية، والإقطاع الذى أقامته أسرة محمد على باحتكارها للأرض أو اقتسام جزء منها بين أصدقائها أو أصدقاء المستغلين الأجانب.. ذلك كله لم يستطع أن يطفئ شعلة الثورة على الأرض المصرية.
إن وادى النيل لم تنقطع فيه أصوات النداءات الثورية.. فى مواجهة هذا الإرهاب المتحكم؛ الذى تسنده قوى الاحتلال الأجنبى، والمصالح الدولية الاستعمارية.

إن أصداء المدافع التى ضربت الإسكندرية، وأصداء القتال الباسل الذى طعن من الخلف فى التل الكبير؛ لم تكد تخفت حتى انطلقت أصوات جديدة تعبر عن إرادة الحياة التى لا تموت لهذا الشعب الباسل، وعن حركة اليقظة التى لم تقهرها المصائب والمصاعب.

لقد سكت أحمد عرابى لكن صوت مصطفى كامل بدأ يجلجل فى آفاق مصر. ومن عجب أن هذه الفترة التى ظن فيها الاستعمار والمتعاونون معه أنها فترة الخمود كانت من أخصب الفترات فى تاريخ مصر؛ بحثاً فى أعماق النفس، وتجميعاً لطاقات الانطلاق من جديد.

لقد ارتفع صوت محمد عبده فى هذه الفترة ينادى بالإصلاح الدينى.

وارتفع صوت لطفى السيد ينادى بأن تكون مصر للمصريين.

وارتفع صوت قاسم أمين ينادى بتحرير المرأة.

وكانت تلك كلها مقدمة موجة ثورية جديدة؛ ما لبثت أن تفجرت سنة 1919 بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وبعد خيبة الأمل فى الوعود البراقة التى قطعها الحلفاء على أنفسهم خلال الحرب، وفى مقدمتها وعود "ويلسون" الذى ما لبث هو نفسه أن تنكر لها واعترف بالحماية البريطانية على مصر. وركب سعد زغلول قمة الموجة الثورية الجديدة؛ يقود النضال الشعبى العنيد الذى وجهت إليه الضربات المتلاحقة أكثر من مائة عام متواصلة، دون أن يستسلم أو ينهزم.
إن ثورة الشعب المصرى سنة 1919 تستحق الدراسة الطويلة؛ فإن الأسباب التى أدت إلى فشلها هى نفس الأسباب التى حركت حوافز الثورة فى سنة 1952.

إن هناك ثلاثة أسباب واضحة أدت إلى فشل هذه الثورة، ولابد من تقييمها فى هذه المرحلة تقييماً أميناً ومنصفاً.
أولاً: إن القيادات الثورية أغفلت إغفالاً يكاد أن يكون تاماً مطالب التغيير الاجتماعى؛ على أن تبرير ذلك واضح فى طبيعة المرحلة التاريخية التى جعلت من طبقة ملاك الأراضى أساساً للأحزاب السياسية التى تصدت لقيادة الثورة، ومع أن اندفاع الشعب إلى الثورة كان واضحاً فى مفهومه الاجتماعى إلا أن قيادات الثورة لم تتنبه لذلك بوعى؛ حتى لقد ساد تحليل خاطئ فى هذه الظروف ردده بعض المؤرخين؛ مؤداه أن الشعب المصرى ينفرد عن بقية شعوب العالم بأنه لا يثور إلا فى حالة الرخاء. ولقد استدلوا على ذلك بأن الثورة وقعت فى ظروف الرخاء الذى صاحب ارتفاع أسعار القطن فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى، وذلك استدلال سطحى؛ فإن هذا الرخاء كان محصوراً فى طبقة ملاك الأراضى، وطبقة التجار والمصدرين الأجانب، الذين استفادوا من ارتفاع الأسعار؛ وبذلك زاد التناقض بينهم وبين الكادحين من الفلاحين، الذين كانوا يروون حقول القطن بعرقهم ودمائهم؛ دون أن تتغير أحوالهم بارتفاع أسعاره، وكان هذا الحرمان فى القاعدة بتناقضه مع الرخاء فى القمة من أسباب الاحتكاك الذى أشعل شرارة الثورة.
إن المحرومين كانوا هم وقود الثورة وضحاياها، لكن القيادات التى تصدت فى مقدمة الموجه الثورية سنة 1919، بإغفالها للجوانب الاجتماعية من محركات الانفجار الثورى لم تستطع أن تتبين بوضوح أن الثورة لا تحقق غاياتها بالنسبة للشعب إلا إذا مدت اندفاعها إلى ما بعد المواجهة السياسية الظاهرة من طلب الاستقلال؛ ووصلت إلى أعماق المشكلة الاقتصادية والاجتماعية. ولقد كانت الدعوة إلى تمصير بعض أوجه النشاط المالى هى قصارى الجهد فى ذلك الوقت، فى حين أن الدعوة إلى إعادة توزيع الثروة الوطنية أصلاً وأساساً كانت هى المطلب الحيوى الذى يتحتم البدء فيه من غير تأخير أو إبطاء.

ثانياً: إن القيادات الثورية فى ذلك الوقت لم تستطع أن تمد بصرها عبر سيناء، وعجزت عن تحديد الشخصية المصرية، ولم تستطع أن تستشف - من خلال التاريخ - أنه ليس هناك صدام على الإطلاق بين الوطنية المصرية وبين القومية العربية.

لقد فشلت هذه القيادات فى أن تتعلم من التاريخ، وفشلت أيضاً فى أن تتعلم من عدوها الذى تحاربه، والذى كان يعامل الأمة العربية كلها على اختلاف شعوبها طبقاً لمخطط واحد.

ومن هنا فإن قيادات الثورة لم تنتبه إلى خطورة وعد "بلفور" الذى أنشأ إسرائيل لتكون فاصلاً يمزق امتداد الأرض العربية، وقاعدة لتهديدها؛ وبهذا الفشل فإن النضال العربى فى ساعة من أخطر ساعات الأزمة حرم من الطاقة الثورية المصرية، وتمكنت القوى الاستعمارية من أن تتعامل مع أمة عربية ممزقة الأوصال مفتتة الجهد.

واختصت إدارة الهند البريطانية بالتعامل مع شبه الجزيرة العربية ومع العراق، وانفردت فرنسا بسوريا ولبنان، بل وصل الهوان بالأمة العربية فى ذلك الوقت إلى حد أن جواسيس الاستعمار تصدروا قيادة حركات ثورية عربية، وكانت بأمرهم وبمشورتهم تقام العروش للذين خانوا النضال العربى، وانحرفوا عن أهدافه.

كل هذا والحركة الثورية الوطنية فى مصر تتصور أن هذه الأحداث لا تعنيها، وأنها لا ترتبط مصيرياً بكل هذه التطورات الخطيرة.

ثالثاً: إن القيادات الثورية لم تستطع أن تلائم بين أساليب نضالها وبين الأساليب التى واجه الاستعمار بها ثورات الشعوب فى ذلك الوقت.

إن الاستعمار اكتشف أن القوة العسكرية تزيد ثورات الشعوب اشتعالاً؛ ومن ثم انتقل من السيف إلى الخديعة، وقدم تنازلات شكلية لم تلبث القيادات الثورية أن خلطت بينها وبين الجوهر الحقيقى، وكان منطق الأوضاع الطبقية يزين لها هذا الخلط.

إن الاستعمار فى هذه الفترة أعطى من الاستقلال اسمه وسلب مضمونه، ومنح من الحرية شعارها واغتصب حقيقتها.
وهكذا انتهت الثورة بإعلان استقلال لا مضمون له، وبحريه جريحة تحت حراب الاحتلال، وزادت المضاعفات خطورة بسبب الحكم الذاتى الذى منحه الاستعمار، والذى أوقع الوطن باسم الدستور فى محنة الخلاف على الغنائم دون نصر.

وكانت النتيجة أن أصبح الصراع الحزبى فى مصر ملهاة تشغل الناس، وتحرق الطاقة الثورية فى هباء لا نتيجة له. وكانت معاهدة سنة 1936 التى عقدت بين مصر وبريطانيا، والتى اشتركت فى توقيعها جبهة وطنية تضم كل الأحزاب السياسية العاملة فى ذلك الوقت؛ بمثابة صك الاستسلام للخديعة الكبرى الذى وقعت فيها ثورة سنة 1919، فقد كانت مقدمتها تنص على استقلال مصر؛ بينما صلبها فى كل عبارة من عباراته يسلب هذا الاستقلال كل قيمة له وكل معنى.
"


..............."
 
- يتبع -
 

يحى الشاعر

 


Graphic by Martin

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

You are my today's

Web guest

Thank you for your visit






© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.

This web site is maintained by

ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US