![]() |
مرور 34 سنة على إنقلاب السادات فى مايو من عام 1971
أحداث مايو 1971 : هيكل ودوره في حسم الخلافة السياسية لصالح السادات
دراسة بقلم
محمد فؤاد المغازى
ـ 5 ـ
«الجزء الخامس »
محمد فؤاد المغازي
كاتب ومحلل سياسي - المانيا
elmoghazy@gmx.de
7/6/2005
أحداث مايو 1971 : هيكل ودوره في حسم الخلافة السياسية لصالح السادات
«الجزء الخامس »
مدخـــــل:
لقد أفردنا هذا الجزء في محاولة لدراسة دور الأستاذ محمد حسنين هيكل في مرحلة ما بعد رحيل جمال عبد الناصر، وذلك للعديد من الأسباب من بينها:
- لقيمة المادة التاريخية التي أوردها محمد حسنين هيكل في مؤلفاته وتتعلق بمرحلة تاريخية لها سمات متميزة عما سبقها من مراحل تاريخية وما تبعها من متغيرات أساسية. فمؤلفات هيكل تغطي الفترات الزمنية ذات الصلة بهذه الدراسة:
المرحلة الأولى من وفاة ناصر في 28/9/1970 حتى إبعاده عن جريدة الأهرام يوم 31/1/1974.
المرحلة الثانية وتبدأ من خروجه من دائرة السلطة والصحافة إلى دائرة الكتابة حتى مقتل السادات في 6/10/1981، وظهور الحزب العربي الديمقراطي الناصري.
فكتابات هيكل هي أوسع الكتابات انتشارا وتوزيعا في العالم العربي. كذلك لم يكن دور هيكل محصورا في حدود مهنته كصحفي، وإنما كمشارك في أحداث تلك الحقبة التاريخية. لقد وصف الأستاذ هيكل دوره في تلك المرحلة التاريخية بقوله:" ذنبي أنني كنت شاهدا أتيح له أن يري ويسمع كل شئ، وكان في موقع يمكنه من هذا، والذين يخشون الحقيقة لابد لهم أن يتخلصوا من شهودها." (1)
..................
- ففي فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، لم يصدر عن هيكل كتابا واحدا، وبعد وفاة عبد الناصر صدر عنه أكثر عشرات الكتب، تحوى مادة تاريخية لاغني عنها لأي باحث يتناول دراسة الحقبة الناصرية وما بعدها، وذلك لقيمتها من ناحية الموضوع، ومن ناحية أخري لمكانة الكاتب.
- والأهم من ذلك فإن الوثائق التي وردت في مؤلفات هيكل لم يتم تكذيبها _حتى الآن_ من قبل الأطراف أو القوي التي تناولتها إلا في النادر، مثل الاعترافات التي أوردها هيكل حول قضية مصطفي أمين والتجسس لحساب الولايات المتحدة الأمريكية، أو ما يخص السادات في علاقاته السرية بالآخرين، من هنا أصبح لمؤلفاته أهمية متميزة تفوق كل من كتب حول تلك الفترة التاريخية نفسها.
- إضافة إلي كل هذا..أهمية ومحورية الدور الذي قام به محمد حسنين هيكل فيما جرى من أحداث مايو 1971..فدوره اتسم بالتميز عن بقية أدوار الآخرين الذين ساهموا بقدر ما في تثبيت السادات في منصبه.
ونتيجة لهذا الدور لقب محمد حسنين هيكل من قبل المحللين السياسيين والباحثين "بمهندس انقلاب 15 مايو 1971". هذا الدور الذي ساهم به هيكل في إسقاط القيادات الناصري وانفراد السادات بالسلطة، قد خلق عند السادات إحساسا بالحرج انعكس على علاقاته لاحقا بهيكل التي وصلت فيما بعد إلي حد القطيعة.
حول تلك العلاقة مع السادات كتب هيكل:"...كانت علاقتي بالسادات تختلف كثيرا عن علاقتي مع عبد الناصر لقد كنت طرفا في حوار مع عبد الناصر ولكن السادات الذي بدأ مرحبا بالحوار. قد انتهى بأن لم يعد طرفا في الحوار مع أحد لا معي ولا مع غيري. وربما كان يشعر بالفارق بين علاقتي به وعلاقتي بعبد الناصر، وربما كان إحساسه بأنني لعبت دورا في توليه السلطة لم يكن يعطيه سعادة. فالإنسان عادة لا يسعد بأن يكون مدينا لأحد." (2)
- وكنتيجة لكفاءة هيكل كصحفي، وعلاقته القريبة جدا بالرئيس جمال عبد الناصر، فقد ساهمت الكفاءة..والعلاقة في أن يصبح محمد حسنين هيكل واحدا من المشاركين في صناعة القرار السياسي سواء بصورة مباشرة أو بالحوار، أو بصياغة القرار، طوال فترة حكم الرئيس ناصر، ولأربعة أعوام من حكم الرئيس السادات.
وعلى الرغم من ترديد هيكل المتكرر بأن طموحه ظل مرتبطا ومحصورا في دائرة مهنته كصحفي، إلا أن هذا لا يلغي دوره السياسي في النظام الناصري. والدليل..ما ورد في شهادة الأستاذ أحمد بها الدين عن علاقة هيكل بالرئيس عبد الناصر، ودوره السياسي فيقول:" لم يكن هيكل أقرب الناس إلي عبد الناصر في أول الثورة، ولكنه صار بعد ذلك في تقديري أقرب الناس إليه على الإطلاق. وأبسط دليل أنه حين مرض عبد الناصر بأزمة قلبية عنيفة اقتضت منعه من العمل تماما، شكل لجنة تحكم البلاد باسمه كونها من شعراوي جمعة وزير الداخلية، وأمين هويدي وزير الحربية، وسامي شرف مدير مكتبه، ومحمد حسنين هيكل الذي كان لقبه الرسمي" رئيس تحرير الأهرام". (3)
- كذلك تفرد هيكل عن غيره من الوزراء الذين شاركوا في تلك المرحلة التاريخية..فهو الوحيد الذي نشرت استقالته من منصبه كوزير للإرشاد القومي المصري في جريدة الأهرام بتاريخ 19/10/1970، ونشر رد الرئيس السادات على طلب استقالة هيكل بتاريخ 19/10/1970، وتضمن رد الرئيس السادات عبارات التقدير لكفاءته ودوره:
"عزيزي الأستاذ محمد حسنين هيكل وزير الإرشاد القومي. تحية الإسلام مباركة طيبة وبعد: فلقد تلقيت كتابك وقرأته بكل عناية وتقدير، فليس أحب إلي في هذه الحياة من معني مثل معني الوفاء في كل صوره وألوانه من أجل ذلك فانه لا يسعني إلا أن أجيبك إلي طلبك أيها الصديق واثقا أن جهدك وقلمك سوف يظلان كما عودت زعيمنا الراحل أن يكونا في مكانهما من معركتنا المقدسة شاكرا ما بذلته من جهد خلال توليك الوزارة، داعيا لك المولي عز وجل أن يوفقك في مكانك الذي اخترته بإرادتك". (4)
إضافة لتقدير السادات لدور هيكل..فإن التقدير في حد ذاته حمل معني صريح أن هيكل كان له حرية الاختيار، ومن جانب السادات معني الاستعداد بالاستجابة لمطلب هيكل!!!
- إضافة إلي ما سبق، كان وما يزال هيكل يملك شبكة من العلاقات الواسعة بأهم الشخصيات (العربية والأجنبية) التي كان لها دورا بارزا في الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الثانية.
- ثم يأتي تميز الأستاذ هيكل في التحليل والتعبير، فهيكل يعتمد أساسا على المنهج التاريخي في تحليل الأحداث، مستخدما أسلوبا سلسا يبتعد عن إقحام واستخدام المصطلحات المعقدة، والتي يكثر من استخدامها فئة المثقفين من الشيوعيين والنخب الدينية، وهو أسلوب يباعد بينهم وبين القارئ العادي. كما يتجنب هيكل الدخول مع الآخرين في خصومات شخصية، مبتعدا عن أسلوب التجريح للأفراد أو الأفكار، إلا في الحالات النادرة.
كل هذا وغيره، قد جعل من محمد حسنين هيكل وهو بعيد وخارج دائرة السلطة بشكلها المباشر أكثر تأثيرا وهو في بؤرتها، بحيث يمكن القول وبغير مبالغة أن آراء هيكل بالنسبة للقضايا السياسية المطروحة في المنطقة العربية ومصر، تفوق في أهميتها وتأثيرها أي مؤسسة رأى في العالم العربي.." قد تتفق أو تختلف مع هيكل السياسي، ولكنك لا بد أن تعجب بهيكل الصحافي. فهو آخر جيل من الصحافيين يعني بالشكل عنايته بالمضمون. وفي مصر اليوم حاكم و40 وزيرا…وهيكل واحد!." (5)
في دراستنا قمنا بتجميع ما كتبه هيكل حول علاقاته بالقيادات الناصرية، ساعين بالبحث عن كشف أسباب الخلاف بين طرفين ينتميان بالإخلاص لعبد الناصر ودوره، وبالتمسك والدفاع عن المشروع الناصري، معتمدين على ما توفر لدينا من مصادر عن الطرفين سواء من خلال كتاباتهم أو الأحاديث الشخصية مع عدد من الشخصيات التي كانت قريبة أو مشاركة في الخلاف.
قضايا الخلاف بين هيكل والقيادات الناصرية..قبل أحداث مايو 1971
لقد فرضت قدرات هيكل الذاتية وقربه من عبد الناصر دورا في السلطة، وبالتالي أصبح جزء من النظام، ومركزا من مراكز القوة وفقا للمصطلح الذي أطلقه عليه الرئيس السادات في حديث جرى بينه وبين الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي كتب يقول:" بدأت أشعر بأن الرئيس يكره محمد حسنين هيكل أكثر مما تصورت أول الأمر.
لم يكن هذا في الانتقادات التي يوجهها إليه والتي لم تخرج عن أن هيكل تعود أن يكون شريكا في الحكم أيام عبد الناصر، يشكل الوزارات، يصنع القرارات، في حين أنه_أي السادات_لا يقبل ذلك.
وأنه على حرصه الشديد قبل الاستعانة بكفاءة هيكل إلا أنه حاول عبثا أن يجعل هيكل يعمل معه بشروطه، لا بشروط هيكل، ولكن هيكل تصور أنه صار مركز قوة من نوع آخر غير قابل للعزل…المشكلة بأنني بدأت أشعر بأن نقمة السادات على هيكل قد تعدت شخص هيكل إلي جريدة الأهرام ذاتها. كنت أشعر بأنه يكره جريدة الأهرام فعلا…كان يعتقد أن هيكل قد جعل من الأهرام مؤسسة خطيرة ذات أجهزة غريبة…أجهزة شيطانية أسس بها هيكل ليس جريدة ولكن حزبا سريا يستطيع أن يقوم بأدوار خطيرة…كالمركز الاستراتيجي الذي يقول عنه السادات بأنه كان يغذي هيكل بمادة مقالاته ويغذي عبد الناصر بالمعلومات التي تناسب هيكل…ولم يكن (السادات :الباحث) يقرأ دراسات المركز، فلم يكن قارئا بطبعه ولكنه كان يحس أنه من مخلفات وآثار هيكل وإذن فإن من فيه هيكليون وليسوا أكاديميين." (6)
.............
سنبدأ برصد المحطات الرئيسية التي أثرت على العلاقة بين هيكل والقيادات الناصرية في إطار تسلسلها التاريخي، بغرض معرفة الدوافع التي على أساسها أختار هيكل تأييد السادات في مواجهة القيادات الناصرية:
- انفردت جريدة الأهرام بنشر خبرا مؤداه أن علي صبري رئيس الوفد المصري العائد من موسكو، قد جلب معه أمتعة شخصية لم يتم تسديد الضرائب المقررة عنها. كان لهذا الخبر صدى سيئ جدا داخل المجتمع المصري انعكس سلبا بالدرجة الأولي سمعة نائب رئيس الجمهورية علي صبري، ففي الوقت الذي يعيش فيه الشعب المصري حالة حرب، يقوم نائب رئيس الجمهورية بجلب أمتعة من الخارج، ويحاول التهرب من دفع الضرائب المستحقة عليها مستخدما مكانته ونفوذه.
وتبين فيما بعد أن الأمتعة التي جري الحديث عنها لم تكن تخص علي صبري، أو كان على علم بها، وإنما هي أمتعة تخص أحد أفراد الوفد، ونتيجة لذلك قدم علي صبري استقالته للرئيس ناصر الذي أمر بإجراء التحقيق وتابعه بنفسه.
وانتهى التحقيق إلى تبرئة ما هو منسوب إلي علي صبري وأصدرت رئاسة الجمهورية بيانا يبرئه، ويذكر على صبري" أن القائد المعلم رغم تبرئتي حملني شخصيا مسئولية الخطأ الذي أرتكبه أحد أفراد الوفد الذي أرأسه." (7)
ولا بد أن تلقي هذه الواقعة بظلالها السلبية على علاقة علي صبري بهيكل، ومن غير المتصور أن ينشر مثل هذا الخبر بغير علم هيكل وموافقته.
- عندما قدم ناصر استقالته عقب الهزيمة العسكرية في يونيو 1967، متضمنة ترشيحه لزكريا محي الدين خلفا له. وبعد وفاة ناصر مباشرة، نشرت صحيفة الأهرام نعيا لزكريا محي الدين في صدر صفحاتها الأولي، وبشكل ملفت للأنظار.
وأثناء تشييع جنازة ناصر ركزت عدسات التلفزيون المصري على شخصية زكريا محي الدين. حدث هذا في الوقت الذي كان فيه هيكل يتولى وزارة الإعلام والتي تخضع لها مؤسسة التلفزيون، إلي جانب بقاءه في منصب رئيس تحرير جريدة الأهرام، وقد فسرت تلك الأشرات من قبل القيادات الناصرية بأنها محاولة دعائية لصالح زكريا محي الدين ليكون خليفة لعبد الناصر.
ونتيجة لذلك فقد تم استدعاء محمد حسنين هيكل أمام اللجنة التنفيذية العليا.." وسئل في موضوع نشر النعي الذي كتبه زكريا محي الدين بالصورة التي نشر بها بغرض جذب الاهتمام من قبل الرأي العام لصالح زكريا محي الدين، كما سئل حول تركز عدسات التلفزيون على السيد زكريا..فأنكر هيكل انه أوصى بذلك أو أن له قصد فيما أثير من إشاعات، وقال أن رأيه الشخصي هو أن يكون السادات رئيسا للجمهورية، وأنتهي بذلك النقاش مع هيكل." (8)
في أحد مؤلفات هيكل ذكر أنه في يوم 9 يونيو 1967 قضي مع جمال عبد الناصر عشر ساعات، وكان لقاءه بعبد الناصر لعرض مشروع خطاب التنحي على ناصر. وعندما علم هيكل بأن المرشح لخلافة عبد الناصر في السلطة هو شمس بدران وزير الحربية أعترض هيكل على أسم المرشح، وأقترح مرشحا آخر هو السيد/ زكريا محي الدين عضو مجلس قيادة الثورة مبررا ذلك بقوله:" أنت وعبد الحكيم فكرتما أمس داخل غرفة مغلقة وتحت ضغوط مخيفة تحيط بهذه الغرفة المغلقة. الأمور أكبر من ذلك بكثير. هذا هو الآن مصير بلد بجيشه وشعبه.
أنت قررت الاستقالة وهذا قرار سليم، وذلك قرار لا بديل له، والحل بعده، وهو منطق الأشياء ، أن تعود الأمور بالكامل للناس، فيكون هناك رئيس مؤقت يلم أجزاء الموقف وشظاياه. ثم يقرر الناس بعد ذلك ما يريدون في استفتاء عام على أساس جديد ودستور جديد...وقلت وهنا عدم اقتناعي باختيار شمس بدران. وأحسست أنه يريد أن يسمع عن بديل مقنع- قلت لماذا لا يكون بعدك زكريا محيى الدين؟
...قلت خطر لي أنه الأقدم بين الأعضاء الباقين من مجلس الثورة، وهذا نوع من استمرار الشرعية- هو أيضا رجل عاقل." (9)
وبهذا يكون ظهور زكريا محي الدين على المسرح السياسي مرتبطا برحيل عبد الناصر عن السلطة، سواء كان هذا من خلال الاستقالة في 9 يونيو 1967، أو بالوفاة في 28 سبتمبر عام 1970، ومرتبطا أيضا بهيكل بشكل مباشر وغير مباشر. ففي الواقعة الأولي تم ترشيح زكريا محي الدين من قبل هيكل ليخلف ناصر في الحكم، وفي الواقعة الثانية جري وضع زكريا محي الدين تحت الأضواء ومن قبل أجهزة إعلامية هي جريدة الأهرام عندما نشرت النعي الذي بعث به زكريا محي الدين بشكل ملفت للأنظار، بعدها ركزت عدسات التلفزيون على زكريا محي الدين أثناء تشييع جنازة ناصر، وجريدة الأهرام ومؤسسة التلفزيون وهي مؤسسات إعلامية تخضع بصورة مباشرة لرئاسة هيكل أيضا.!!
هنا يصبح لشكوك القيادات الناصرية في شخص هيكل ودوره ما يبررها، وليست مجرد بحثا على خلاف مع هيكل. فهناك من القيادات الناصرية من كان يستأنس برأيه في كثير من الأمور كما جاء فيما بعد في شهادات القيادات الناصرية.
- ثم استدعي هيكل مرة أخري أمام اللجنة التنفيذية العليا ليسأل عما ورد في مقال له تحت عنوان "عبد الناصر ليس أسطورة". كان طرف الخصومة مع هيكل هذه المرة هو الدكتور محمد لبيب شقير رئيس البرلمان المصري وعضو اللجنة التنفيذية العليا، والذي وجد في مقال هيكل ما " يسئ إلى عبد الناصر ومن ثم لتراثنا الوطني والثوري." ([10])
- بعد وفاة ناصر أراد السادات تكوين لجنة لجمع تراث عبد الناصر وأقترح أن يترأسها هيكل، ورفض اقتراح السادات من قبل علي صبري. وبرر رفضه بأن تراث ثورة 23 يوليو وتراث ناصر " ليس قضية شخصية، وإنما قضية معلومات تملكها الدولة، وكل رجال الدولة..فمع احترامي لكل معلومات هيكل، فإن كل واحدا منا لديه معلومات كثيرة...إلا أن المسألة في جوهرها ليست معلومات، ولكنها مسألة سياسية تخص النظام ومؤسساته وحزبه." (11)
- لقد أشرنا إلي أن الخلاف بين هيكل والقيادات الناصرية حول توقيت البدء بالمعركة العسكرية ضد إسرائيل. وكان رأي هيكل _آنذاك_ أن القيادات الناصرية تتعجل الحرب بهدف حسم صراعات في داخل النظام، في وقت لم تتوفر فيه بعد الظروف الموضوعية للحرب. في حين اعتبرت القيادات الناصرية بأن كتابات هيكل في جريدة الأهرام تمثل موقفا متخاذلا وانهزاميا، وأن مقالاته تشيع روح اليأس في الشعب والجيش معا، خصوصا بعد المساجلات الصحفية التي دارت بين محمد حسنين هيكل وعبد الهادي ناصف حول الحرب ومخاطر عبور الجيش المصري إلي سيناء.
- لم يكن هيكل والقيادات الناصرية على وفاق في تقييم الدور الأمريكي. فهيكل يري إمكانية تحييد الدور الأمريكي في الصراع العربي_الإسرائيلي، ويرفض" النغمة التي تقول أن الذي نواجهه أمامنا في ميدان القتال هو الولايات المتحدة وليس إسرائيل. والصحيح أن بيننا وبين الولايات المتحدة مواجهة سياسية، أو صراعا سياسيا، وهدف هذا الصراع هو الفصل بين إسرائيل والولايات المتحدة كحد أقصى، أو تحييد الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل كحد أدنى، وذلك عن طريق توجيه ضغط دولي وعربي ومصري ضد الولايات المتحدة...هذا الضغط...يقنع الولايات المتحدة بأنها تواجه تقلصا مخيفا في هيبتها كقوة عظمى، والهيبة على رؤوس الدول العظمى كالتيجان على رؤوس القياصرة." (12)
ويتعجب د. فؤاد زكريا من الانقلاب الذي حدث في موقف هيكل تجاه الدور الأمريكي. فهيكل أيام ناصر كان يربط بين موقف الولايات المتحدة وإسرائيل، وفى بدايات حكم السادات أخذ يروج بالتدريج للتقارب مع أمريكا قائلا:
" إذا كانت إسرائيل قد انتصرت على العرب في معارك بفعل التأييد الأمريكي فإن هذا التأييد الأمريكي ليس دائما، وإنما الدائم هو المصالح الأمريكية فقط..ومن هنا فأن التأييد الأمريكي ليس سلاحا أبديا في يد إسرائيل، وهذه هي عبرة الأيام." (13)
وهنا يجب أن نشير إلي أن نقد د.فؤاد زكريا الموجه لهيكل ليس دفاعا عن الناصرية أو تحيزا للقيادات الناصرية. وإنما كان مدخلا استخدمه فؤاد زكريا في إطار نقد وهجوم أشمل على التجربة الناصرية، باعتبار أن أطراف الخلاف أو الصراع هم أركان أساسيين في النظام الناصري.
- كان هيكل يعلم موقف القيادات السوفيتية الغير ودي منه شخصيا، وكان على علم بإلحاحهم الدائم بإبعاده عن رئاسة تحرير جريدة الأهرام، سواء في حياة ناصر، وأيضا عندما تولى السادات السلطة في مصر، وأن إمكانية إبعاده تصبح أكثر احتمالا عندما تكون للقيادات الناصرية السيطرة الكاملة على مؤسسات السلطة في مصر.
- كذلك كشف موقف هيكل المؤيد للسادات في إقامة اتحاد الجمهوريات المتحدة، بأنه تأييد للانقلاب السلمي بهدف التخلص من القيادات الناصرية، ونعتقد أن هذا الموقف كان بمثابة فرز واختبارا واضحا لموقف هيكل وتوجهاته تجاه القيادات الناصرية.
- يضاف إلي ما سبق..رؤية هيكل وتحليله لدور النخب والجماعات السياسية في العالم الثالث، الذي يسعى إلي تحقيق مصالح اجتماعية لتلك الجماعات مما خلق بينهم معارك ظاهرة وخفية. ومطامع ومؤامرات. (14)
شكلت محصلة الخلافات المعلنة والغير معلنة، والتباين في الرؤية والتوجه، بين هيكل والناصريين مسافة من التباعد أثرت بدورها على اختياراته التي انتهت بالانضمام إلي معسكر السادات في مواجهة القيادات الناصرية.
في الوقت نفسه لم يكن هيكل بغافل أو غير مدرك بحاجة السادات إليه، وهذا يمثل رصيد إيجابي لصالحه، وهو يمثل بالنسبة له ضمانات أمن واستمرارا للمشاركة السياسية وتحقيقا لطموحاته المرتبطة بالصحافة وبمؤسسة الأهرام، كما أضفي إصرار هيكل على استقالته من منصبه كوزير للإعلام مصداقية بأنه لم يكن طرفا في السلطة، ولا رغب أن يكون طرفا فيها وبرر ذلك بقوله:"...في صراعات مع بعض الأعضاء البارزين في الاتحاد الاشتراكي وفى مجلس الأمة، ولن أكون في هذه الحالة إلا عائقا في طريق الرئيس الجديد، في حين أنى أستطيع من مكاني في تحرير الأهرام أن أكون سندا مفيدا له." (15)
لكن هيكل لم يذكر _وحتى الآن_ الأسباب التي جعلته متأكدا إلى هذا الحد من حدوث صراعات مع الأعضاء البارزين في مجلس الأمة والاتحاد الاشتراكي؟ في وقت لم يبدأ فيه شيئا، ولم تحدث بادرة واحدة يمكن لهيكل أن يستخدمها سندا في بناء رأيه. أم أن الحذر بالمظنة أكثر ضمانا وأمنا؟
كما أننا لا نعتقد أن ترك هيكل لمنصبه الوزاري ينهي دوره في توجيه السياسية المصرية، ويحصر دوره في إطار جريدة الأهرام، لقد ظل هيكل واحدا من بين أفراد قلائل لعبوا أهم الأدوار في توجيه ورسم الخطوط العريضة والأساسية للعمل السياسي في مصر، في الفترة محل الدراسة.
تحول الخصومة في الرأي..إلى صراع على السلطة
في وصف المشهد الأخير للذين تجمعوا حول جثمان عبد الناصر كتب هيكل:" كان السادات آخر الذين وصلوا إلى بيت عبد الناصر...لكنه كان من أوائل الذين دخلوا إلى الصالون الكبير الذي شهد اجتماع القلة التي أحاطت بفراش عبد الناصر في لحظاته الأخيرة. كان الجو شديد التوتر وكان يمكن لأي مراقب أن يجد على وجوه هؤلاء الرجال ملامح تنبئ بصراعات وانقسامات يمسك بها الحزن والمفاجأة في تلك اللحظة، ولكنها تشير وتنبئ بأمور وأمور يمكن أن تحدث بعدها." (16)
وهكذا، تنبأ هيكل ومن خلال قراءة أولية وسريعة لوجوه من التفوا حول جثمان جمال عبد الناصر أن صراعا على السلطة قادم. وتحمل إشارة هيكل تحذيرات واضحة إلي من يهمهم الأمر أن يتنبهوا إلي ما هو متواري في نوايا القيادات الناصرية التي باغتها حادث وفاة ناصر فأصاب عصب التآمر لديها بالشلل المؤقت. وعندما أفاقوا وزال تأثير الصدمة، كان هيكل أول من استشعر الخطر، وأول من نبه السادات وحذره في لقاء معه:"…إنني المح من بعيد صراعات سلطة، فإن الكل بدأ يفيق من الصدمة. وفى الأهرام _الجريدة_ أستطيع أن أكون بعيدا عن الصراعات وأن أشارك في حوار الحوادث والتطورات طليق اليد متحررا." (17)
توالت نصائح هيكل للسادات، فأشار عليه بعد أن استمع إلى شرائط صوتية مسجلة قيل فيما بعد أنها كانت أحاديث جرت بين القيادات الناصرية يستدل منها بأنهم يخططون لانقلاب ضد السادات أن يتأكد من ولاء كلا من:"…الفريق الليثي ناصف قائد الحرس الجمهوري، والفريق محمد أحمد صادق رئيس أركان القوات المسلحة." (18)
كان الغرض من وراء نصيحة هيكل للسادات هو أن يضمن وقوف الحرس الجمهوري والجيش إلي جانبه، عن طريق ضم الفريق الليثي ناصف، والفريق محمد صادق، لمعسكر السادات.
كما يعود الفضل للأستاذ هيكل في ترويج مقولة " الصراع على السلطة ". فقد تبين لنا أن مصطلح " الصراع على السلطة " قد جرى تداوله _بعد ساعات من وفاة عبد الناصر_ في حديث دار بين هيكل وعدد من القيادات الناصرية هم شعراوي جمعة، أمين هويدي، سامي شرف.
وجاء استخدام هيكل لذلك المصطلح كتعليق على ما ذكره شعراوي جمعة حول تصرفات أنور السادات وحسين الشافعي وعلي صبري الذين يتصرفون وكأنهم يمثلون حكومة ثلاثية..على غرار كوسيجين وبودجورني وبرجنيف، بينما نحن الناصريين الحقيقيين، وأقرب الناس إلي عبد الناصر لم نفعل شيئا للتنسيق فيما بيننا، أو الاتفاق علي أسلوب مشترك للعمل. وهذا ما يجعلني أرى ضرورة بحث الموقف مع بعضنا مع البعض.
فكان رد هيكل عليهم:" لنكن واضحين بشأن موقف كل منا. هناك نقطة نظام أضعها..ونصيحة صغيرة أقدمها. أما نقطة النظام فهي: أنكم إذا كنتم تريدون التنسيق فيما بينكم بصفتكم وزراء فلا تفعلوا ذلك بحضوري، لأني قد استقر رأيي على الخروج، وترك الوزارة…" أما نصيحتي الصغيرة فهي أن من الخطأ بالنسبة إليهم أن يحاولوا العمل معا كناصريين…فإن فعلتم ذلك فإنكم ولا شك ستثيرون ردود فعل تؤدي في النهاية إلي صراع علي السلطة، وإذا حدث تصادم في الآراء، فإنني سأؤدي دوري فيه كصحافي، أما إذا نشب صراع على السلطة قائم على الأشخاص، فلن يكون لي شأن به، وستعاني البلاد كلها منه".
ويواصل هيكل حديثه فيصف ردود أفعال من حضروا هذا اللقاء بأنها كانت متشنجة خاصة عندما أخذ سامي شرف يصيح ويقول:أن"عبد الناصر لم يمت". فقلت له:" أسمع..لا بد لك أن تواجه حقائق الطبيعة. إن الرجل قد مات. وسيحكم علي كل منكم فقط، من الآن فصاعدا، بما يمكن أن يقدمه من أجل مصلحة البلد. إنها صفحة جديدة فتحت أمامكم جميعا." (19)
بعد ذلك شاع استخدام مصطلح "الصراع على السلطة" إشارة إلي خروج القيادات الناصرية على السلطة الشرعية، محملا إياهم النتائج المترتبة على ذلك. بعدها كثر استخدام مصطلح"الصراع على السلطة" في مفردات الخطاب السياسي للسادات وفي مذكراته" البحث عن الذات"، وفي وسائل الدعاية والإعلام التابعة للنظام.
بعد خمس سنوات من نشر رواية هيكل أتيح لأحد الوزراء أمين هويدي* أن يدلي بشهادته في كتابه (مع عبد الناصر) الذي صدر في عام 1980، فنفي ما ذكره هيكل، وروي رواية مختلفة تماما عن رواية هيكل، فكتب:"...لم يلقي هيكل أبدا بكل هذه النصيحة عن الناصرية والسلطة والصراع..ولم يتحدث شعراوي جمعة أبدا عن السادات والشافعي وعلي صبري كما لم يتحدث عن "الترويكا" الروسية..ولم يصرخ سامي شرف أو يبكي ولا هو أنكر وفاة عبد الناصر.
أبدا لم يحدث شيء من هذا كما صوره هيكل في أسلوب غلبت عليه الإثارة الصحفية. ولكن كل ما ذكره شعراوي جمعة لهيكل هو أننا قررنا التخلي _أي الابتعاد عن السلطة_ عقب تشييع الجنازة وبعد انتقال السلطة بالطريقة الدستورية وسأله عن رأيه في ذلك.!!
رحب هيكل أيما ترحيب بالفكرة وذكر أيضا أنه سيترك المنصب الوزاري ليتفرغ لرئاسة تحرير الأهرام مضيفا أنه لكل زمن رجاله وعلي الجميع أن يعيدوا النظر في أفكارهم...كنا قد اجتمعنا مرارا وهذا أمر عادي وقررنا أن نتخلى عقب نقل السلطة بالطريقة الدستورية لنفسح المجال للسيد أنور السادات ليختار معاونيه، ولو أنني كنت مزمعا علي أن أتخلى في أقرب وقت ممكن. ورأي شعراوي أن يستشير هيكل في الأمر لأن من عادته أنه كان يستشير هيكل وسامي في كل أمر يقدم عليه." (20)
نزولا على مقترحات هيكل، جري الاحتكام إلي نصوص الدستور المؤقت 1964بشأن اعتماد السادات رئيسا للجمهورية العربية المتحدة، ثم تولي بنفسه إعداد البيان الخاص بوفاة عبد الناصر، وأقترح أن يقرأ البيان أنور السادات، حتى تشعر الناس أن السلطة قد انتقلت بسلام، بعدها تولي هيكل إدارة الحملة الانتخابية للسادات.
وبعد أن أصبح السادات رئيسا للجمهورية أقترح هيكل على السادات أن يتولى الدكتور محمود فوزي رئاسة الوزارة وقبل السادات باقتراحه، وكلفه بالذهاب إلي د. محمود فوزي لإقناعه بقبول رئاسة الوزارة.
كل شيئ تقريبا يتم بمشورة هيكل ويجري تطبيقه بغير أدني اعتراض من قبل القيادات الناصرية، مما يجعل القبول بمقولة الصراع على السلطة بين القيادات الناصرية والسادات هو إقحام متعسف من قبل الأستاذ هيكل لا يملك الدليل للأخذ به.
ونعتقد أن هيكل قد تنبه إلي التناقض الواضح في روايته، خاصة وأن القيادات لم تبدي ما يمكن أن يمثل دليل مادي على نيتها بالإطاحة بالسادات، وأن جانب الرضا من قبل الناصريين واضح، فلجأ إلي تفسير هذا القبول من قبل القيادات الناصرية بالأخذ بكامل مقترحاته بغير اعتراض أو شبهة اعتراض، بأنه لا يشكل دليلا على صفاء نية الناصريين، وإنما كانت الظروف غير مهيئة لهم للتخلص من السادات، وأن:"...معنى الأخذ بما اقترحته ووافق عليه الآخرون لأن أحدا لم تكن لديه خطة بديلة مقبولة، أو لأن أحدا لم يجد متسعا من الوقت ليخطط من جديد _أن السادات هو الذي سيصبح رئيسا للجمهورية بالنيابة...كانت للكثيرين من حضور هذا الاجتماع تحفظات مختلفة على أنور السادات، لكن ضرورات الاستمرار غلبت فيما أعتقد أي اعتبار غيرها في ذلك الموقف الحرج." (21)
تناقض آخر تكشف من خلال النصائح التي وزعها هيكل على أطراف الصراع، فلقد ثبت لنا أن تحذير هيكل للقيادات الناصرية من السادات كان أسبق على تحذيراته للسادات من قبل القيادات الناصرية.
فبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر مباشرة لم يتردد هيكل من النصيحة والتحذير إلي القيادات الناصرية _ بشكل مباشر_ منبها إياهم بعدم الاستهانة بالسادات والنظر إليه كشخصية ضعيفة يمكن السيطرة عليها، وقدم لهم مثالا جري مع مصطفي النحاس باشا الرجل الثاني بعد سعد زغلول عندما اختارته قيادات حزب الوفد"...متصورين أنه الأضعف، ثم اكتشفوا بعد فوات الوقت أن هذا الذي تصوروه الأضعف استطاع أن يطردهم واحدا بعد واحد من الوفد ويبقى هو على القمة." (22)
وللحق كانت نصيحة هيكل للقيادات الناصرية صحيحة، فقد تحقق ما توقعه هيكل بالكامل. فقد كرر السادات ما فعله مصطفي النحاس باشا وتخلص من كل القيادات الناصرية. ويستغرب علي صبري من قلب الحقائق، عندما يستبدل الخلاف السياسي إلى صراع على السلطة:" لم أكتم ألمي من محاولات الصحف وأجهزة الأعلام أن تصور الخلاف على أنه كان مجرد نزاع على السلطة...كيف يكون نزاع على السلطة، وقد كانت أطراف النزاع كلها في السلطة؟ وكان الدستور يحدد اختصاصات ووظائف كل مسئول.
فإذا ما نشب خلاف في قمة السلطة، أو نزاع حول توزيع الاختصاصات والسلطات..فكيف بالمتنازعين لا يحتكمون إلى الدستور والى المؤسسات الدستورية بالطريق الديموقراطي، ويلجئون بدلا من ذلك إلى السب وتلفيق الاتهامات؟ وإذا كان ما حدث…نزاع على السلطة فكيف يمكن تجريد هذا النزاع مما صاحبه من اختلاف واضح بين الرئيس السادات وبيني في الرأي والموقف السياسي من قضايا المصير الوطني التي طرحت وناقشناها في أعلى أجهزة القيادة السياسية؟ " (23)
كانت التهمة الوحيدة التي وجهها السادات ونظامه إلي تلك القيادات، هي محاولة الانقلاب على السلطة الشرعية، وهيكل نفسه يشكك في وجود أدلة حاسمة على ذلك:"…الحقيقة انه لم تكن توجد في الملفات الظاهرة أدلة حاسمة على الإعداد لمحاولة انقلاب، وإنما كانت هناك مجرد إشارات وتلميحات سجلتها المحادثات التليفونية بين الأطراف." (24)
كان الدليل الوحيد الذي أشار إليه هيكل وأعتبره وثيقة تدين القيادات الناصرية بتورطهم في التخطيط بالإطاحة بالسادات، هي تلك الورقة التي كتبها الفريق أول محمد فوزي بخط يده بتاريخ 21/4/1971، وفيها يأمر رئيس أركان القوات المسلحة المصرية الفريق محمد أحمد صادق _الذي احتفظ بها ولم يظهرها_ بتوزيع قوات عسكرية لتأمين مدينة القاهرة ومداخلها، والسفارات، وكذلك مبنى الإذاعة.
ويذكر هيكل أن تاريخ إصدار هذا الأمر العسكري جاء توقيته مع حدوث الأزمة بين السادات وجماعة علي صبري في اللجنة المركزية واللجنة التنفيذية للاتحاد الاشتراكي، وكان تبرير الفريق فوزي لإصداره هذه الأوامر بعد ذلك، أن هذه الأوامر الصادر عنه لم يكن وراءها أي استعداد لعمل انقلاب ضد الرئيس السادات. ولكنه كان إجراء في إطار الاستعدادات للمعركة العسكرية ضد إسرائيل. وعند مراجعة الوثيقة المكتوبة بخط الفريق فوزي، والواردة في صفحة 102 من كتاب خريف الغضب " الطبعة المصرية " لم نجد وجودا لهذا التاريخ. (25)
ويشكك هيكل في حجة الفريق فوزي ويراها بأنها غير مقنعة، فهي حجة قائمة على عنصر الصدفة بين تاريخ إصدار أمر الفريق فوزي وبين بدأ المعركة العسكرية ضد إسرائيل. ويتساءل هيكل:"...هل كان للقوات المسلحة _بتوجيه من الفريق فوزي_ دور مرسوم يكاد يصل إلى حد الانقلاب؟ ويجيب بنفسه على سؤاله…كل هذه الأسئلة واحتمالات قابلة لكثير من الظنون والتساؤلات." (26)
إن إلصاق تهمة التخطيط من قبل القيادات الناصرية للقيام بانقلاب ضد السادات أمر يصعب تصديقه لكثرة التناقضات التي وردت في شهادة هيكل نفسه، فضلا عما تكشف فيما بعد من حقائق تؤكد على استبعاد هذه الفكرة.
فالقائد العسكري محمد فوزي الذي كان يتمتع بالكفاءة العالية كجنرال محترف بشهادة أعدائه وخصومه، أن يقوم بالتخطيط والمشاركة في عملية انقلابية سوف يلعب فيها الجيش المصري الدور الأول والأساسي، ثم يقوم هذا القائد العسكري الكفء بتقديم استقالته، وهو يعلم أن تقديم الاستقالة يلغى وعلى الفور كل ماله من سلطات وصلاحيات بالجيش المصري، ثم يكتفي هذا القائد الكفء فقط بعقد اجتماع لكبار القيادات العسكرية وتبليغهم بأن رئيس الجمهورية يبيع البلد للأمريكان..ثم يذهب إلى منزله!!
وهنا نستشهد بما ورد على لسان الأستاذ هيكل المتعلقة بتقييمه لكفاءة الفريق فوزي فكتب يقول:" على أن إعادة بناء الجيش لم تكن بطبيعة الحال مجرد مسألة الحصول على مزيد من المعونة من الروس. كان لابد من إجراء تغيير شامل في جهاز الضباط من أكبرهم إلي أصغرهم. وقد كلف هذه المهمة بصفة رئيسية اثنان من الرجال، أولهما الفريق محمد فوزي القائد العام الجديد، وهو رجل لم يكن واسع (الأفق؟؟) لكنه كان يتمتع عن جدارة بسمعة أنه رجل ضبط وربط قاس..ربما شديد القسوة، لأنه كان يدوس على كل الاعتبارات الإنسانية، وكان عبد الناصر يصفه "برجل الضبط والربط القاسي" لكن صفاته كانت هي الصفات المطلوبة لجمع شمل جيش انحطت معنوياته نتيجة عدم الكفاءة والمحسوبية إبان فترة المشير عامر…وكان عبد الناصر يقول دائما أن الفريق فوزي ليس القائد الذي يمكن أن يختاره لخوض غمار الحرب.
وكان يقول أيضا أنه يحتاج للحرب إلي رجل كمونتجومري لا كرومل، وكان الرجل الذي يفكر فيه لهذا الغرض هو ثان الرجال..الفريق عبد المنعم رياض الذي عينه عبد الناصر رئيسا للأركان. كان الفريق رياض، على عكس الفريق فوزي تماما، مرحا لطيف المعشر، واستطاع في دقائق أن يفوز بحب مرؤوسيه واحترامهم، لكنه لم يكن موضع ثقة بعض معاوني عبد الناصر المقربين الذين كانوا يخشون أن تثير شعبيته التي لم تكن موضع شك بين رجال الجيش طموحا سياسيا في نفسه". (27)
بعد ما يقرب من تسع سنوات عاد هيكل لينفي في كتابه "الصحافة والسياسة" ما قد سبق ورواه في كتابيه "الطريق إلى رمضان" و"خريف الغضب"، فنراه ينفي عن جميع من حضروا لحظة وفاة عبد الناصر شبهة التآمر أو الصراع على السلطة، وإنما أظهر من حضروا لحظة وفاة ناصر عن عزمهم في تخطى الكارثة بروح الجماعة، هذا ما أعاد هيكل كتابته.." كنا في غرفة الصالون الصغير مجموعة متباينة المواقف والأهداف، لكن مفاجأة ومأساة الرحيل رفعت الكل -إنصافا للتاريخ- إلى مستوى يستحق التسجيل.
كان هناك أنور السادات وحسين الشافعي وعلى صبري وشعراوي جمعة وسامي شرف واللواء الليثي ناصف وأنا...وكانت هناك فترة صمت ثقيل، وأحسست أنني أستطيع أن أتكلم فقد كنت أمام الكل من أقرب الناس إلى جمال عبد الناصر ثم أنني كنت من أبعد الناس عن صراعات السلطة، فالكل يعرف أنني أحصر طموحي كله في إطار مهنتي..قلت أن أهم شئ هو الاستمرار وأن نحاول قدر ما نستطيع ملء الفراغ بعده..ثم قلت لابد أن نختار رئيسا يتولى السلطة _ولو مؤقتا_ على الفور...وإذا اتفقنا على ذلك فان القاعدة الوحيدة التي أعتقد أنها تحكم موقفنا هي الاحتكام إلى الدستور...وأحسست أن أنور السادات استراح لما قلت. وللأنصاف فأن أحدا لم يعارض. كان الكل على مستوى المسئولية في تلك اللحظة الحرجة." (28)
والغريب أن القاعدة التي قدمها الأستاذ هيكل لتحكم خطوات العمل السياسي بعد رحيل ناصر، والتي تضفي على استمرار العمل السياسي من بعد جمال عبد الناصر هي " الاحتكام إلي الدستور " وهي المقولة التي رددها علي صبري، إضافة إلي ذلك أن كل ما جري تطبيقه في إطار المؤسسات السياسية والدستورية والتنفيذية جاء في سياق ما قرره الدستور ولم يعترض عليه أحد من القيادات الناصرية!!
غير أن ما لفت نظرنا، هو تلك اليقظة التي كان عليها أستاذنا الكبير محمد حسنين هيكل بعد وفاة ناصر مباشرة، فقد استطاع في لحظة تاريخية أن يفصل بين ثلاثة، هيكل السياسي الذي يمارس دوره في لعبة السلطة بحسابات دقيقة للغاية فهو لم يزل وزيرا للإعلام، وهيكل الصحفي الذي يمسك بلحظة تاريخية نادرة تمثل سبق صحفي لم يسبقه إليها أحد، وأخيرا هيكل الإنسان والصديق وأقرب الجميع إلي ناصر الذي فارق الحياة منذ دقائق !!
فيتوارى هيكل الصديق، ليفسح المجال أمام هيكل السياسي وهيكل الصحفي، والاثنان بذهنية صافية، فهيكل السياسي يوجه السياسة المصرية في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، وينجح في تثبيت السادات رئيسا بالنيابة، أما هيكل الصحفي أخذ يسجل كل شئ متعلق باللحظة التاريخية ولم يفته تسجيل ما ارتسم من علامات على وجوه من حضروا لحظة وفاة ناصر، قرأها واستوعب مدلولاتها، فهي علامات توحي بصراعات قادمة على السلطة، وانقسامات سوف يشهدها النظام الناصري، لكنها مؤجلة بسبب الحزن على وفاة ناصر.!!
النعوت التي أطلقها هيكل على القيادات الناصرية..ودلالاتها
ومثلما روج هيكل لمقولة الصراع على السلطة، أطلق هيكل على القيادات الناصرية تسمية "جماعة علي صبري"، وقد لفت نظرنا تكرار استخدامه لذلك المصطلح في كتاباته وصفا للقيادات الناصرية. فلفظ الجماعة يضفي عليهم أنهم يمثلون أقلية، التفت حول شخصية مركزية هي شخصية علي صبري. وهو توصيف يطلق في الغالب على المجموعات الخارجة على القانون.
بعدها اتسع استخدام مصطلح "جماعة علي صبري" في وسائل الدعاية المصرية، كما ورد في أول بيان صدر عن المؤتمر العام للاتحاد الاشتراكي بتكوينه الجديد يؤيد فيه الرئيس السادات. فجاء وصف القيادات الناصرية في البيان بأنهم مجموعة خارجة عن القانون، وليس لهم علاقة لا بالناصرية ولا بالاشتراكية.
غير أن هذه الجماعة التي تمثل أقلية كانت تسيطر على أغلبية الأعضاء في مجلس الأمة، وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي، وهما أكبر المؤسسات الجماهيرية في النظام الناصري، بل ويذكر هيكل أن سيطرتهم امتدت إلى أبعد من المؤسسات الشعبية، فوصلت إلى جهاز المخابرات، وتنظيم الطليعية في الاتحاد الاشتراكي.
ورغم وجود خلافات بين أفراد هذه الجماعة، فإن هيكل قد أوجد لهم أرضية مشتركة توحدهم وهي:"...المصالح المشتركة في الحيلولة دون أي شخص من خارج جماعتهم تكون له سلطة حقيقية في اتخاذ القرارات. كانوا يريدون أن تبقى كل السلطة داخل الحكومة والحزب والجيش في أيديهم.
كانوا سكارى بحب السلطة وان لم يكونوا مرتشين، لكن السلطة التي أرادوها بعد وفاة عبد الناصر كانت أبعد ما تكون عن مضمون اجتماعي. كانوا يرددون مبادئ وأقوال عبد الناصر بطريقة عمياء. وكانوا يريدون أن يجعلوا من الزعيم الراحل هرما رابعا، وأن يكونوا هم أنفسهم الكهنة الأوائل الدائمين والوحيدين لضريحه." (29)
لم تتوقف النعوت التي أطلقها هيكل على القيادات الناصرية، فزاد عليها بأن نعتهم بأنهم كانوا يمثلون وجه الإكراه في التجربة الناصرية:"...كان لنظام عبد الناصر وجهان، وجه الإنجازات العظيمة، ووجه الإكراه. ولست أعتقد شخصيا أن هذه الإنجازات _ ومنها تحقيق الاستقلال، وتأميم قناة السويس، والدور الذي قامت به مصر في عالم عدم الانحياز وضد النفوذ الإمبريالي
في الشرق الوسط كحلف بغداد، والإصلاحات التي تحققت لظروف العمال والفلاحين، ومجانية التعليم، والإصلاح الزراعي، وعملية التحول الاشتراكي الذي شمل بناء دولة الرفاهية رغم الهجمات المستمرة من جانب قوي الاستعمار وإسرائيل _ كان يمكن أن تتحقق من دون قدر معين من الإكراه.
لكن الإنجازات الايجابية توقفت بعد هزيمة العام 1967 لأن موارد البلاد كلها وجهت للمعركة المقبلة، بينما بدأت أعمال الإكراه تظهر أكثر وضوحا. وعندما توفي الرئيس عبد الناصر أخذ دعاة الإكراه ومنفذوه على عاتقهم أن يجعلوا منه أيديولوجية للنظام الجديد. وقد كانوا يشغلون كل المناصب الرئيسية في الدولة تقريبا. وقد أحس الشعب بهذا وأصبح يكره من رأي فيهم طغاة جددا. كذلك فإني واثق من أن جماعة علي صبري لم تقدر حق التقدير قوة الشرعية في بلد كمصر اعتمد طوال تاريخه على النظام في الري وما يستتبعه من حاجة إلي سلطة مركزية لتوزيع المياه لا تقل عن الحاجة إلي المياه نفسها.
لقد كان المصريون دائما حساسين جدا بالنسبة إلي موقع السلطة الشرعية، وهم يعرفون أن أنور السادات هو رئيسهم الشرعي المنتخب، وكان مصدر قوة عظيمة له.(30)
بمراجعة..حساب المدة الزمنية من وفاة عبد الناصر وحتى دخول القيادات الناصرية السجن، كانت سبعة شهور وبضع أيام فقط. في هذه الفترة، ومنذ أن تولى السادات سلطاته الدستورية في 15 أكتوبر 1970 وحتى مبادرة 4 فبراير 1971، لم نجد أن هناك خلافا ذو أهمية قد حدث بين السادات وبين القيادات الناصرية، أو بين هيكل وبينهم. أو جري ارتكاب مخالفات اشتركت فيها أحد أفراد تلك القيادات الناصرية.
إذن فعمر الخلاف الحقيقي بين السادات والناصريين لا يتجاوز ثلاثة شهور ونصف، يمكن لنا أن نؤرخ له أنه بدأ مع مبادرة 4 فبراير وانتهي ليلة القبض على الغالبية منهم في 13 مايو 1971.
لقد أردنا من وراء ذكر عمر الفترة الزمنية للخصومة بين السادات والناصريين، كي نبين صعوبة أن تتم ممارسات من الإكراه بالقدر الذي يدفع الأستاذ هيكل بأن يتوقع تكرار حدوث حالات من الإكراه ترتكبها القيادات الناصرية في المستقبل، ويصبح معها الإكراه سمة من سمات الحكم، وظاهرة يتوقعها ويخشاها الشعب المصري!!
أم أن هيكل قصد أنهم كانوا يمثلون وجه الإكراه في ظل وجود عبد الناصر، هنا تتوجه الاتهامات بالدرجة الأولى إلى عبد الناصر، قبل القيادات الناصرية؟ وإذا حدث ذلك فلماذا لم يكتب هيكل عن هذا _في وقتها_ وهو يتمتع بالقرب وبالحماية المباشرة من الرئيس عبد الناصر. ليسهل تحديد بداية التاريخ الذي ارتكبت فيه جماعة علي صبري أعمال الإكراه؟ وضد من مورس هذا الإكراه؟ وما هي دوافعه؟ ولماذا لم يتقدم هؤلاء المواطنين الذين مارست ضدهم جماعة علي صبري السيطرة والإكراه إلي القضاء المصري أو الرأي العام، في وقت أفسح فيه نظام السادات وشجع خصوم القيادات الناصرية، وأعداء عبد الناصر وتجربته بالهجوم عليها بالحق وبالباطل، وكانت القيادات الناصرية على رأس القائمة المطلوب تلويث سمعتها؟
لكنهم لم يجدوا من جرائم الإكراه ما يدين هذه القيادات الناصرية، كجرائم التلاعب بالأموال العامة، أو قيامهم بأعمال يعاقب عليها القانون ضد المواطنين، أو استغلوا مواقعهم الوظيفية في أغراض شخصية أو استخدام نفوذهم في إثراء أسرهم أو أقربائهم.
كما لم يذكر هيكل بالتحديد، ما هو نوع السيطرة؟ وما هي وسائل تلك السيطرة؟ وهل هي سيطرة بالتسلط من خلال أدوات السلطة؟ أم اتفاقا حول قضايا اتفقت الغالبية وبالقناعة على التمسك بها؟ وما هو المقصود من وراء أن السلطة التي أرادوها أبعد ما تكون عن مضمون اجتماعي؟
المثبت تاريخيا أن هذه الجماعة وقائدها علي صبري تولت بإسهاماتها في بناء التجربة الناصرية وما أنجزته من مكاسب اجتماعية للطبقات الفقيرة، ويندر في التاريخ المصري على اتساعه أن نجد تجربة سياسية قد اهتمت بالمشكل الاجتماعي للغالبية العظمي من الشعب المصري كالتجربة الناصرية.
أما رئيس هذه الجماعة علي صبري فقد كان أول رئيس وزراء لمصر ينفذ أول وآخر خطة اقتصادية واجتماعية خمسية في الفترة من 1959/ 1960 إلى 1964/ 1965.
إضافة أخري استخدمها هيكل فوصف القيادات الناصرية "بالكهنة"، فهم يصرون أن يجعلوا من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر هرما رابعا، وأن يكونوا هم أنفسهم الكهنة الأوائل الدائمين والوحيدين لضريحه.. فذكر هيكل:" أن شعراوي جمعة وسامي شرف وغيرهم..كانوا يعقدون جلسات استحضار أرواح يوجهون إلى الروح المفترض أنها لعبد الناصر مختلف الأسئلة التي تتعلق بقضايا أساسية، هل يهاجمون إسرائيل أم لا؟ هل سيصبح شعراوي جمعة رئيسا للوزراء أم لا؟ "...وكانت لحظة حزينة في تاريخ مصر، إذ يرى ساسته الكبار يتصرفون بهذه الطريقة. لكن الحقيقة أنهم كانوا تعودوا على تلقى الأوامر من عبد الناصر إلى درجة أفقدتهم القدرة على التفكير." (31)
وعندما استخدم هيكل مصطلح الكهنة توصيفا لجماعة علي صبري لم يجري تداوله من قبيل السخرية منهم أو رغبة في التجريح. إن تاريخ مصر القديم يروي لنا أنه عندما حاول أمنحتب الرابع الملقب بإخناتون القضاء على إمتيازات الكهنة وتسلطهم على الحكم في دولته الجديدة، كانت النتيجة هي أن أطاح الكهنة بإخناتون ودولته، وذهب اخناتون ضحية لمحاولته، وبقي الكهنة في مواقعهم الحصينة.
لكن كهنة الناصرية قد قدموا استقالتهم طواعية، وهي سابقة تاريخية لم يعرفها تاريخ الكهانة في مصر. وعندما تآمر الكهنة على اخناتون، راح كهنة الناصرية يقدمون استقالاتهم إلي الرمز الذي يمثل الشرعية بالنسبة للمصرين وهو الرئيس السادات، ولم يقدموا استقالاتهم إلي جهة أخري، كمجلس الأمة ( البرلمان المصري)، أو إلي المؤتمر العام للإتحاد الاشتراكي..وجميعها مؤسسات جاءت بإرادة الشعب المصري في انتخابات عامة، شأنها في ذلك شأن ما جري بالنسبة للسادات الذي أصبح رئيسا للجمهورية العربية المتحدة في انتخابات عامة أشرف عليها كهنة الناصرية بأنفسهم!!!
كذلك عرف عن الكهنة في كل الأديان بأن الغالبية منهم من المرتشين، وهذا لم يثبت صحته مع كهنة الناصرية..بشهادة الأستاذ هيكل نفسه.
لقد أراد هيكل من خلال نعوته التي تحمل في مجملها صفات سلبية، ولها دلالات تشمل الجوانب الفكرية والأخلاقية والسياسية والسلوكية لتلك القيادات، وهي تمثل بالنسبة لهيكل المدخل إلي إضعاف موقف ودور تلك القيادات أمام الرأي العام، وبالتالي فإن مثل تلك المجموعة لا يحق لها ولا تستحق أن يوكل إليها بناء أو المشاركة في قيادة دولة عصرية، لأنهم لا يمتلكون مؤهلات ومواصفات المطلوبة للقيادة، بل إن ارتباطهم بالناصرية يسئ إلى الناصرية ولعبد الناصر.
ولكي يؤكد هيكل على أن ما قاله في حق تلك الجماعة لا يصدر عن خصومة أو عداء شخصي تجاه تلك الجماعة. راح هيكل يستشهد بشخصيات لها مكانة عالمية ليدعم على صحة رؤيته وصواب رأيه، وكان شاهده هذه المرة هو رئيس وزراء الصين شواين لاي. ففي حديث جري بينهم عام 1973، وورد فيه ذكر القيادات الناصرية، عندها أخبره الزعيم الصيني :"لقد حزنت لأن بعض الذين عملوا معه (المقصود هنا القيادات الناصرية التي عملت مع جمال عبد الناصر) لم يستطيعوا أن يتعلموا منه". (32)
فمثلا..اجتمعت القيادات الناصرية وهيكل على حتمية المعركة العسكرية ضد إسرائيل وجاء موقف الاثنين متوحدا حول الهدف، واختلفا حول التوقيت.
التقى الطرفين حول الناصرية بوصفها مشروعا للنهضة، قادرا على قيادة التطور الحضاري في المنطقة العربية.
توحد الطرفين في ولائهم وإخلاصهم لمؤسس الناصرية جمال عبد الناصر.
تطابقت رؤية الطرفين حول أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة العربية. وأنحصر الخلاف بينهم في إطار كيفية إدارة الصراع معها. فعندما سأل السياسي السوفيتي باناماريوف هيكل عن الموقف الرسمي الأمريكي..وعن الأهداف الحقيقية التي تسعى أمريكا إلى تحقيقها في المنطقة العربية، أجاب هيكل:" أن أمريكا تريد _أساسا_ حلا سلميا لمشكلة الشرق الأوسط، بشرط أن يكون الحل أمريكيا. ويعنى هذا أن الحل لابد أن يتضمن ثلاثة شروط:
- أن يؤدى إلى طرد النفوذ السوفيتي من المنطقة كلها.
- أن يترك مصر ضعيفة غير قادرة على التأثير بأي نفوذ على الإطلاق في العالم العربي.
- أن تظهر التجربة الثورية المصرية في مظهر التجربة الفاشلة. ووافقني باناماريوف على هذا التحليل." (33)
كانت مساحة التقارب بين هيكل والقيادات الناصرية حول الغايات والمصالح القومية للأمة العربية متطابقة تقريبا حيث يسعى الجميع إلي تحقيق..سلاما قائما على العدل، وأن تصبح مصر حرة مزدهرة، وأن يتوحد العالم العربي فيتحقق حلم أمة.
على الجانب الآخر، فقد توحد موقف القوي المعادية للناصرية من هيكل والقيادات الناصرية على حد سواء. فكان هناك شعور بالرضا والارتياح لدي الإدارة الأمريكية، عندما تم استبعاد هيكل عن مؤسسة الأهرام، وهو نفس الارتياح والرضا وإن كان بدرجة أعلي عندما أصبحت القيادات الناصرية خارج السلطة.
يروي هيكل كيف استقبلت الإدارة الأمريكية سقوط القيادات الناصرية:" كان الأمريكيون بطبيعة الحال سعداء بسقوط جماعة علي صبري، لكنهم حاروا في تفسير توقيع معاهدة مع السوفيت بمثل هذه السرعة." (34)
انحصر الفارق بين القيادات الناصرية وهيكل في أن هيكل توفرت له فرصة إيصال رأيه إلي أوسع قطاع للرأي العام العربي، وحتى الدولي المهتم بقضايا الصراع في المنطقة، بحكم مكانته وموقعه. بينما لم تحظى القيادات الناصرية بهذه الإمتيازات.
-----------------
(1) محمد حسنين هيكل. بين الصحافة والسياسة. بيروت. 1984.
(2) محمد حسنين هيكل. أحاديث في العاصفة. القاهرة. 1987
(3) أحمد بهاء الدين. محاوراتي مع السادات. القاهرة. 1987.
(4) أنور السادات . رد على رسالة محمد حسنين هيكل حول إعفائه من منصبه في الحكومة . الأهرام. القاهرة.
(5) مجلة الوطن العربي.
(6) أحمد بهاء الدين. حوارات مع السادات. الفصل السادس. مجلة المصور المصرية.
(7) علي صبري. مجلة 23 يوليو.
(8) مجلة 23 يوليو. لندن.
(9) محمد حسنين هيكل. عام من الأزمات! 2000- 2001.
(10) مجلة 23 يوليو. لندن.
(11) مجلة 23 يوليو. لندن.
(12) د. فؤاد زكريا. كم عمر خريف الغضب.
(13) د. فؤاد زكريا. كم عمر خريف الغضب.
(14) محمد حسنين هيكل. بين الصحافة والسياسة.
(15) محمد حسنين هيكل. الطريق إلي رمضان.
(16) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
(17) محمد حسنين هيكل. بين الصحافة والسياسة.
(18) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
(19) محمد حسنين هيكل. الطريق إلي رمضان.
(20) أمين هويدي. مع عبد الناصر.
(21) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
(22) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
* شغل أمين هويدي العديد من المناصب التنفيذية، فقد كان سفيرا لمصر في بغداد ، شغب منصب وزير الحربية بعد حرب يونيو 1967، شغل منصب رئيس المخابرات العامة المصرية، وكان آخر منصب له في ظل قيادة ناصر، وزير دولة. قدم إلي المحاكمة في أحداث مايو بتهمة التآمر علي قلب نظام الحكم باعتباره واحدا من جماعة علي صبري، أو من مراكز القوة. وهي صفات رفض أمين هويدي صحتها، أو الانتماء إليها. له العديد من المؤلفات السياسية، ويكتب بصفة دورية في جريدة الأهالي التابعة لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي. في لقاء مع الأستاذ أمين هويدي في مدينة "فينا" قد ذكر تصحيحا لما قال به هيكل الذي يروي أنه أول من قدم قيادات فتح ياسر عرفات للرئيس ناصر، فهذه الواقعة ليست صحيحة، فأمين هويدي هو أول من قدم قيادات فتح إلى الرئيس عبد الناصر.
(23) على صبري. مذكرات. مجلة 23 يوليو. لندن.
(24) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
(25) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
(26) محمد حسنين هيكل. خريف الغضب.
(27) محمد حسنين هيكل. الطريق إلي رمضان.
(28) محمد حسنين هيكل. بين الصحافة والسياسة.
(29) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
(30) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
(31) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
(32) محمد حسنين هيكل. أحاديث في آسيا.
(33) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
(34) محمد حسنين هيكل. الطريق إلى رمضان.
-
![]()
Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
Web guest
Thank you for your visit
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US