Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf

 

سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر

ـ الكـتاب الـثانى ـ

ـ الباب الثانى ـ 

بقلم

سامى شرف

Gamal Abdel Nasser ..The Story and Myth by Samy Sharaf
 

أحــاديث المعمـورة 

12 - 13 أغسطس 1970

 

 كانت الأيام مشحونة بالأحداث وكانت عجلة الزمن تجرى بسرعة كما كانت هناك حالة عصبية تنتاب الأحداث نفسها لماذا ؟ الحقيقة لا أجد لهذه الظاهرة تفسيرا حتى الآن !!0

 كانت حرب الإستنزاف قد بلغت أقصى مدى لها في شدتها أو قل نهايتها ، وكان هذا بالتالي إقتضى الإنتقال لمرحلة تسخين أخرى حتى لا تهدأ روح القتال للجنود على جبهة القناة 0 لماذا  ؟ لأن الجندي إذا تخندق وطالت مدة الخندقة والإستظلال والبعد عن سماع صوت الطلقات أو المشاركة في عمليات متصاعدة عسكريا لن تستطيع أبدا أن تخرج رأسه إلى فوق وتجعله يندفع لخوض معركة يواجه فيها العدو إلا بعد فترة تسخين أخرى قد تطول وقد تقصر ، لا يستطيع أحد ان يعرف لأن الظروف والمتغيرات هي التي تتحكم في كل مرحلة 0 وكانت الفكرة بعد الدراسات الموسعة المستفيضة عسكريا وسياسيا واقتصاديا ، وبعد قياس الرأي العام الدقيق ، وبعد نجاح خدعة قبول مبادرة روجرز  وبعد لمّ العرب حول القضية لمّة يصعب أن تتكرر ، كانت الفكرة في خوض المعركة الفاصلة قد قاربت أن تصل الى بدء اتخاذ خطوات عملية للتنفيذ في خلال شهر أكتوبر أو نوفمبر 1970 0

 هذه واحدة ، أما الثانية فقد كانت هناك أحداث داخلية متلاحقة منها دوران عجلة التحضير للمعركة كما أسلفت

 مثلا لجنة متابعة إنشاء مواقع الصواريخ المضادة للطائرات على مستوى الجمهورية ، وكنا نجتمع صباح كل يوم في مكتب الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة ، وكانت هذه اللجنة مشكلة من كل من الفريق أول محمد فوزي وزير الحربية

          المهندس على زين العابدين وزير المواصلات

سأمي شرف مدير مكتب الرئيس للمعلومات ووزير الدولة فيما بعد 

المهندس على السيد 0

اللواء عبد الفتاح عبد الله مساعد وزير الحربية 0

اللواء جمال على مدير سلاح المهندسين

 

وكانت هذه اللجنة تراجع تفاصيل ما تم إنجازه من المواقع وتوفير الإحتياجات لما يتطلبه الموقف من باقي الوزارات والمؤسسات التنفيذية وشركات القطاع لعام ( مقاولات ، مواد أولية ، مستلزمات إنتاج ومواد بناء ، اعتمادات مالية ، عمالة ، إستعواض عمالة نتيجة الخسائر في الأرواح ، 000 الخ 0

 

ومن ناحية أخرى كانت هناك مؤامرة في طور الحياكة حيث كان حزب البعث في العراق قد اصدر تعميما سريا لقياداته الرئيسية ـ تمكن أحد الشباب ( ف0ر0)  الذي كان يدرس من قبل في القاهرة حيث أتم فيها مرحلتي الدراسة الثانوية ثم الجامعية ، وقد حضر جمال عبدالناصر حفل زواجه وكان شاهدا عليه ،  وتوطدت الصلة بيني وبينه وإستمرت إلى ما  بعد عودته إلى دمشق حيث إنضم إلى حزب البعث وأصبح أحد قياداته الهامة واستمرت العلاقة بالرغم من ذلك بيني وبينه دون انقطاع حيث كان يعتبرني في مرتبة ولى أمره أو الأب الروحي له ويمكن أن نقول أنه كان بعثيا ناصريا ، المهم أنه بعث لي بنسخة من هذا التعميم الذي كان يدور أساسا حول التشكيك في دور مصر ونظام ثورة 23يوليو1952 وأن هذا النظام قد شاخ ، هكذا ، على حد تعبيرهم وان البديل هو قيام نظام بعثي في مصر ليملأ الفراغ الذي حدث بعد نكسة يونيو1967 0

 

وقد دفعنا هذا التعميم إلى تكثيف نشاط المؤسسات الأمنية لجس النبض والبحث فيما وراء هذا التعميم وماذا يدور من نشاط بعثي أو مرتبط بالبعث على الساحة المصرية وفى كل قطاعات العمل السياسي وغيره من الأصعدة الأخرى وكان التكليف ينص على ضرورة الإجابة على السؤال الآتي : هل هناك تنظيم أو تنظيمات مصرية ترتبط بالبعث من عدمه ، فاذا كانت الإجابة بالإيجاب فآلي آي مدى وما هي القطاعات آلتي ترتبط بهذا النشاط وما هي التكليفات التي وصلت لهم 000 الحقيقة كانت عملية معقدة للغاية كي نصل إلى حقيقة الأمر ومدى جدية هذه التعميمات وشكلت غرفة عمليات شارك فيها عناصر من مختلف المؤسسات الأمنية للتنسيق وعدم الإزدواجية في البحث ووزعت الواجبات عليهم للربط 0

 

 أثناء إنشغالنا بهذا الموضوع الشائك المعقد الهام أبلغني أحد الضباط ( ع أ س )، وكان من تلاميذي في الكلية الحربية ، ولم أره من سنة 1949 وكان قد وصل إلى رتبة العقيد في القوات المسلحة وكان يشغل منصبا حساسا في الدفاع الجوى  كما أبلغني في نفس اليوم أحد ضباط الصاعقة ( ع س ) ، أبلغني الاثنين بأن هناك نشاط على نطاق ضيق ومحدود وبشكل مريب بين عدد محدود جدا من الضباط في القوات المسلحة ، فلما استفسرت منهما ، كل على حدة ، عن ما يدور من نشاط أو أحاديث إنطبقت أقوالهما على ما جاء في تعميم حزب البعث من آراء وأفكار وإستنتاجات وصل إليها كاتبوا هذا التعميم وجاءت عباراته مطابقة لما جاء في التعميم 0 وقد تابعنا هذه المعلومات على وجه السرعة وبدقة كما وضع الأفراد الذين ذكرت أسماؤهم تحت الملاحظة والمتابعة وكانت تشمل بعض عناصر من القوات المسلحة والمخابرات العامة 0 كانت هذه هي النقطة الثانية

والقضية الثالثة كانت البوادر آلتي بدأت من جانب الملك حسين ملك الأردن للإصطدام والتخلص من المقاومة الفلسطينية في الأردن وهذا الموضوع سأتناوله في فصل آخر

كل هذه أمثلة وليس حصرا لما حواه أو إحتواه شهر أغسطس سنة 1970 من أحداث 0

قرر الرئيس جمال عبد الناصر السفر للإسكندرية لعدة أسباب :

 

الأول أنه كان يريد أن يبحث ويفكر تفكيرا هادئا مع اقرب مستشاريه ومعاونيه بعيد عن ( دوشة )القاهرة ومشاغلها  اليومية التي لا تنتهى ولا تهدأ 0

والثاني أنه كان يريد أن يفكر في المستقبل لسنوات خمسة قادمة في كل الأوضاع الداخلية من عدة نواحي:

التنظيم السياسي أو الحزب

القوات المسلحة ، وعلاقة المؤسسة العسكرية بالنظام ومؤسسات الدولة 0

الوضع الاقتصادي وما يرتبط به من تركيبات إجتماعية كانت قد بدأت تحتاج لإعادة دراسة و إعادة ترتيب وصياغة إعمالا لإرادة التغيير التي كان الرجل يؤمن بها أيمان صادقا ليضع ويصيغ الأوضاع وفق المتغيرات والبعد عن الجمود آو القولبة للأوضاع

والثالث أنه كان يريد أن يعقد لقاءات مطولة خاصة بعيدة عن الرسميات مع كل من السفير سامي الدروبى سفير سوريا في القاهرة وكان الرئيس جمال عبد الناصر يثق به ويحترم آراؤه ويحب أن يتناقش ويبحث معه أدق المسائل السياسية وبصفة خاصة العربية منها 

كما كان يريد أن يعقد عدة لقاءات مع دياللو تيللي سكرتير عام منظمة الوحدة الأفريقية 0الذى كان أيضا موضع ثقة وتقدير الرئيس جمال عبدالناصر 0

كان الهدف من هذه اللقاءات خارج نطاق الرسميات وفى إطار شخصي محض ليتحدث معهما ـ كل على إنفراد ـ في المسائل التالية كما ذكر لي الرئيس :

تاريخ ثورة 23 يوليو1952 00 ما سبقها وما تبع قيامها

تقييمه لعناصر هذه الثورة 00

تقييمه للمراحل آلتي مرت بها الثورة 00

رأيه في أعضاء مجلس قيادة الثورة فردا سواء الذين تركوا أم الباقين ( لم يكن باقيا سوى  أنور السادات وحسين الشافعي ) .....

عملية التوازنات آلتي كان يستخدمها في تنفيذ سياساته وتعاملاته مع الأشخاص أو الأحداث خصوصا الفترة ما بعد 1956 حتى 1970 .. 

رأيه في المستقبل .. والصورة آلتي يمكن ان ترسم بالنسبة للمجتمع المصري في إطار قومي عربي وإفريقي ...

رأيه في تجربة الوحدة ..

 

الحقيقة حسبما فهمت من كلام الرئيس جمال عبد الناصر معي تمهيدا لهذه اللقاءات أنه كان يريد التحدث مع الرجلين حديث من القلب إلى القلب ليقينه أنهما سيكونان شاهدا حق وصدق لثقته في أمانتهما وإخلاصهما ويقظة ضميرهما عند التأريخ أو سرد ما كان يدور في خلد القائد العظيم في المستقبل ، وكأنه كان يعلم ما يخبؤه القدر بعد شهر ونصف من هذه اللقاءات التي سأتعرض لها في موضع آخر من هذه المذكرات 00

 

لقد إستغرقت هذه اللقاءات بين الزعيم والرجلين عدة جلسات على مدار حوالي الأسبوع

 أعود لأصل الموضوع

.....

 في يوم 12 أغسطس 1970 أمرني الرئيس جمال عبد الناصر أن أدعو لعقد إجتماع في إستراحة المعمورة بالإسكندرية يحضره كل من السادة :

شعراوي جمعة وزير الداخلية وأمين التنظيم

سامي شرف وزير الدولة

محمد حسنين هيكل وزير الأعلام

محمد حافظ إسماعيل رئيس المخابرات العامة

محمد فتحى الديب الوزير برئاسة الجمهورية ومسئول الشئون العربية 

 دار الحديث حول الأوضاع العربية بصفة عامة وخططنا ورؤانا للمستقبل مع تقييم شامل حقيقي لدور تنظيم طليعة الإشتراكيين والطليعة العربية في العالم العربي وإستمرت المناقشات ليوم كامل أصر الرئيس على أن يدلى كل منا برأيه وتقديره للوقف تفصيلا منتهيا بمقترحات كل منا

كان هناك إتفاق بشكل عام على التقييم والتشخيص والتخطيط للمرحلة القادمة لما تبلورت عنه المناقشات وإستعراض المواقف والآراء وتشخيص الأوضاع السياسية والعسكرية و الإجتماعية وإن إختلفت الآراء بعض الشيء حول أسلوب التنفيذ وتحقيق الأهداف التي ألخصها في الآتي

1-  اختيار قومي عربي حاسم بالنسبة للروابط المصرية العربية وذلك لضمان أمن وإستقلال مصر من ناحية وبإسم مسئوليات مصر من ناحية أخرى وذلك إنطلاقا من الإيمان بأن هناك أمة عربية واحدة وأن مصر جزء لا يتجزأ من هذه الأمة

 2-   أن تكون سياستنا العربية امتدادا مرنا واعيا لسياستنا الداخلية أي أن الإستقلال السياسي لا دلالة له ما لم يكن سبيلا لتحقيق الاستقلال الاقتصادي  ( حرية 0 اشتراكية 0 وحدة ) 0

3-  مصر قاعدة سليمة تملك كل مقومات مركز الجذب 00 فمصر الوحدوية هي ضرورة حيوية للاستقرار والسلام  في المنطقة ، وبدون مصر ، يفتح المجال أمام الصهيونية ومن وراءها لتقسيم المنطقة والأقطار المحيطة بإسرائيل  لكي تضمن بقاءها ووجودها قوية على حساب دول ضعيفة متفرقة 0

4-  متابعة ومحاصرة الأنشطة الانفصالية والمراهقة سياسيا عن طريق طرح المفاهيم الأصيلة وشغل الساحة العربية وعدم خلق مناطق فراغ عقائدي ن وبصفة خاصة في البؤر الحساسة المؤثرة على العمل العربي الوحدوى0 ( وكانت بالمناسبة الإنشقاقات قد بلغت حدتها بين الفصائل المختلفة لحزب البعث العربي الإشتراكي في كل من سوريا والعراق وفى الساحة العربية بصفة عامة 0 وكان البعث العراقى يعتبر نفسه في هذه المرحلة البديل لعبد الناصر وما يمثله من مبادئ وقيم ) 0

 5-  متابعة ومحاصرة النشاط المعادى للقومية العربية وبصفة خاصة في لبنان والأردن بإعتبارهما كانتا من مراكز النشاط الميداني والإعلامي ، هذا علاوة على متابعة باقي الأنشطة على إتساع الساحة العربية مع وضع أولويات جغرافية لمجالات نشاطنا عربيا 0

 6-     متابعة النشاط السعودي على الساحة العربية خصوصا النشاط الموجه نحو اليمن وسوريا والذي كان ينسق مع الأردن 0

وإنتهى الاجتماع على أن يقوم كل منا في مجال اختصاصه بإعداد الخطط والدراسات التفصيلية لهذه التكليفات خلال أسبوعين على أكثر تقدير من تاريخ هذا اللقاء ، مع إستمرار عقد لقاءات أخرى جانبية  وفرعية للتنسيق ولضمان التنفيذ الجيد بعد إقرار الخطط من الرئيس جمال عبد الناصر مع وضع أسلوب واضح ومحدد للمتابعة ومتابعة المتابعة و  يتولى مسئوليته وزير الدولة سامي شرف بعد أن تقوم كل جهة بإبلاغه به 

أثناء خروجنا من إستراحة المعمورة أومأ الى الرئيس لأبقى حيث قال لي :

"بكرة حانقعد هنا في نفس التوقيت ويحضر معنا شعراوي وهيكل فقط والباقين يعودوا إلى القاهرة اليوم لتحضير وتنفيذ ما كلفوا به  "

يوم الخميس 13 أغسطس1970 الساعة العاشرة صباحا إلتقينا شعراوى جمعة ومحمد حسنين هيكل وأنا حسب الاتفاق وجلسنا في البلكون الذي يطل على البحر الأبيض المتوسط وبعد قليل دخل الرئيس جمال عبد الناصر قائلا :

" إنتو فطرتم أم لا ؟ " 

فلما أجبنا بأننا أفطرنا بدأ الكلام مباشرة عن الأوضاع الداخلية في البلد وأثار النقاط التالية :

1-   ضرورة العمل على تماسك الجبهة الداخلية خلف القوات المسلحة من أجل المعركة

2-   تأمين قوت الشعب والعمل بإصرار وبعنف على ضرب عناصر التلاعب بقوت الشعب

3-   محاولة عمل قياس صحيح للرأى العام بقدر الإمكان 0

4-   المزيد من العمل السياسي في الداخل بتنشيط الإتحاد الإشتراكي والتنظيم الطليعي في مجابهة العناصر الإنهزامية أو المتآمرة سواء من الداخل أو من الخارج 0

 وهنا إلتفت الرئيس جمال إلى شعراوى جمعة وكانت تعابير وجهه جامدة وجادة بشكل حاد وقال له :

" إزاى يا شعراوى حزب البعث ينجح في تجنيد ضباط من القوات المسلحة المصرية والمخابرات العامة ؟!"

فوجئ شعراوى بالسؤال 00 ولكنه رد بأنه لا دخل له بأمن القوات المسلحة وأن المسئولية تقع كلية على عاتق المخابرات الحربية 0

ولم يقتنع الرئيس بهذه الإجابة وقال لشعراوى أن هناك طرف مدني وافد على مصر بالتعليمات ومكلف بعملية تجنيد عناصر مصرية وكان من المفروض أن تتابعه أجهزة وزارة الداخلية ( المباحث العامة ) التي تتبع شعراوى جمعة ، وقال :

 "أنه إذا كانت هذه الأجهزة صاحية كانت إكتشفت هذا النشاط مبكرا أو لاحقا ولكانت نسقت مع المخابرات الحربية عمليات المتابعة والكشف ، ولو أن هذا لا ينفى مسئولية المخابر الحربية أيضا لكن المسئولية تقع من وجهة نظري (الرئيس ) على شعراوى جمعة  0 "

حاولت أن أتتدخل  كما حاول شعراوى أن يذكر الرئيس بأن هناك إتفاق بعد مؤامرة المشير عبد الحكيم عامر 1967 أن كل جهة مسئولة عن أمنها وأن نبتعد عن القوات المسلحة وأن يتم التنسيق فقط بين الأجهزة المعنية إذا تداخلت القضايا بمعنى أننا لم نكن نتدخل من قريب أو من بعيد في شئون القوات المسلحة ولا عمل أي تنظيمات فيها بل يترك الأمر لوزير الحربية بإعتباره المسئول السياسي والعسكري عن القوات المسلحة و هو في نفس الوقت القائد العام للقوات المسلحة 000

 إلاّ أن الرئيس جمال عبد الناصر أصر على مسئولية شعراوى جمعة حيث أن الطرف الإيجابي الملقن والناقل للتآمر كان طرفا مدنيا وافد من الخارج وهذه مسئولية أجهزة الأمن المدنية وليست العسكرية 0

 ثم أثار الرئيس في نفس الوقت نقطة سياسية  أخرى  وهى :

أنه لو كان التنظيم الطليعي يملأ الساحة بشكل فعال لما استطاعت بعض عناصر حزب البعث أو غيره من النفاذ إلى الساحة المصرية 0

حاولنا أن نرد على هذه النقطة بأن الواجبات الملقاة على عاتق التنظيم الطليعي في المرحلة الحالية ضخمة جدا وهى تفوق إمكانيات التنظيم البشرية ولكونه سريا وليس علنيا   

وكان التركيز في الواجبات في هذه الفترة على زيادة الإنتاج والجهود الذاتية وما إلى ذلك من دعم الجبهة الداخلية ذاتيا بقدر الإمكان ، ومن ناحية أخرى فان السرية المفروضة على التنظيم الطليعي وأعضاؤه تعتبر عائقا بمثل ما تعتبر عنصر قوة للتنظيم 0

احتدت المناقشة ودافع كل عن موقفه وحجته وكان هيكل متفرجا 00

 

قال الرئيس جمال عبد الناصر بعد ذلك : " على العموم قوموا دلوقت وفكروا في كلامنا ده .. ولنا لقاء آخر..  

 قمنا آنا وشعراوى وتوجهنا إلى مكتبي في المعمورة ـ وكان يشغل إحدى استراحات الإصلاح الزراعي بالأسكندرية وكانت تقع في أعلا ربوة تبعد عن إستراحة الرئيس وعن البحر بحوالي نصف كيلومتر تقريبا ـ ، وتخلف هيكل بحجة أنه سيعرض بعض الموضوعات على الرئيس ..

 وصلنا الى مكتبي وبعد حوالي ربع الساعة وصل هيكل وعندما دخل وجدنا جالسين نفكر فيما دار من حديث عاصف وكنا في الواقع نبحث عن حلول لمشكلة قائمة ، ولم نكن نفكر أبدا في أنفسنا ولا في مناصبنا ولا في أي حاجة شخصية بل إعتبرنا أنفسنا جنود و أبناء لعبد الناصر وأننا نجابه قضية تآمر وافد وصل إلى القوات المسلحة مما دفع بالرئيس أن يشدّ علينا  ـ بلغة العسكر ـ كي نصحو والكل يفيق حتى لا تفلت الأمور في غفلة 0

 وكما تعلمنا في الكلية الحربية وفى حياتنا العسكرية وفى علم الإدارة عموما عندما نلمس تراخ أو أن الأمور ستفلت من قيادتك لسبب أو لآخر سواء كان السبب مفروض عليك أو غصب عنك أو عفوي أو طارئ ، فأن عليك أن تشدّ على الصف الثاني وهذا يشد على الجنود وهكذا تبقى النتيجة أن ينشط الكل في الاتجاه الصحيح ويصحح إتجاه البوصلة ، وأعتقد أن هذا الأمر ثابت كيميائيا أيضا بإستخدام     المنشطات ، المهم أننا إعتبرنا أن حديث الرئيس لنا كان بمثابة المنشط لحركتنا وعملنا وليس آي شئ آخر ..

دخل هيكل علينا وقال :

 "   إنتم بتعملوا إيه ؟ ده الريس زعلان  لأنه كان شديد قوى معاكم في الكلام 00" ولم يكمل هيكل كلامه حيث ضرب جرس  التليفون في مكتبي وقمت بعد أكثر من رنين ، حيث كان التليفون الذي يضرب الجرس هو الخط العادى وليس الساخن ومن ناحية أخرى كنت أريد أن أسمع من هيكل باقي كلام الرئيس ... ورفعت سماعة التليفون لأقول 00 أيوة 00مع إن عادتي أن أرد على أي تليفون بقولي : أفندم ..

 كان الرئيس جمال عبد الناصر على الطرف الآخر ،وابتدرني قائلا بمنتهى الرقة :

" ما دام بتقول أيوة ، تبقى زعلان .."

 قلت : " أبدا يافندم .. حاز عل من إيه ؟ .. الشغل ما فيهوش زعل .. والموضوع اللي كنا بنناقشه فيه وجهات نظر ، واختلاف وجهات النظر ما يزعلشى ... وكون سيادتك تحتد أو تقرص علينا في المناقشة ده أحسن وبأعتبره وضع طبيعي وتعليمي .. وده من حقك كقائد ومعلم .. "

فقاطعني قائلا :

 " بلاش فلسفة يا أستاذ ... هو شعراوى زعل   ؟"

 فقلت : " أبدا .. إحنا قاعدين بتناقش في كيفية حل المشكلة وحصرها ..

 قال : " وهل وصلتم إلى حل ؟ "

 قلت : " لأ لسة .. لكن هناك فكرة عامة لم نبلورها بعد .."

قال : " هيكل جاء لكم ؟"

 قلت : " أيوة يافندم وبلغنا إن سيادتك زعلان علشان إحساسك بأننا زعلنا .. وده غير وارد إطلاقا . "

 فطلب الرئيس أن أكلمه بعد ما نصل إلى قرار ..

وقبل أن ينهى الرئيس الحديث قال :  إبقوا زوروا أنور السادات الليلة ، علشان هو وصل من ميت أبو الكوم للإسكندرية بعدما كان غضبان  ( موقفه من مبادرة روجرز ) .. ونبقى نتقابل هناك ..

 قلت : " حاضر يافندم "

قام هيكل بعد ذلك واستأنفنا بحث الموضوع ووصلنا إلى قرار إبتدائي هو حسم القضية بدلا من ترك المسائل تتشعب وتتسع وتجرجر آخرين ـ وهى السياسة آلتي علمنا إياها الرئيس عند اتخاذ موقف من قضايا التآمر ـ00 قمت وطلبت الرئيس وقلت له : " إحنا يافندم وصلنا لقرار 00 وأرجو إذا سمحت سيادتك أن تسمعه  من شعراوى 00" فوافق الرئيس وتحدث مع شعراوى حديث لطيف ورقيق وعرض شعراوى قرارنا ، فوافق الرئيس وقال له أنه كان قد وصل الى نفس القرار لكنه كان منتظر ليعرف رأينا وفعلا تم القبض على ضابطين من القوات المسلحة وأحد ضباط المخابرات العامة وكان أحدهم زوج إبنة  كمال الدين رفعت ( ك 0ز0 ) ..

 ( يمكن الرجوع إلى تفاصيل هذا الموضوع إلى الوثائق المحفوظة في أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات في منشية البكري و أرشيف المخابرات الحربية ).

 في حوالي الثامنة مساء توجهنا في سيارتي وكنت أقودها بنفسي ، شعراوى جمعة وأنا ، إلى الفيلا التي كان السادات يقيم بها في المصيف بالإسكندرية في حي لوزان ، وقابلنا الرجل بترحاب كبير ـ علما بأنه لم يحضر حفل زفاف ابنتي ليلى قبل ذلك بأسبوع ولم يعتذر ولم يجاملني لا هو ولا حرمه كما لم يرسل أبنائه أيضا .. ما علينا ، إنما الشئ بالشيء يذكر ، ـ وأصر السيد أنور أن نبقى لنتعشى معه " فتة كوارع " .. جلسنا نتحدث في مسائل كثيرة عامة وخاصة وبعد حوالي الساعة دخل من يهمس في أذنه ولكن بصوت سمعناه أن الرئيس جمال في طريقه لزيارة السيد أنور السادات ... فنظر الرجل إلينا نظرة بما معناه إتفضلوا قوموا وان الزيارة إنتهت .. ولم نشأ أن نقول له أننا نعرف أن الرئيس سيزوره ومثّلنا دور أننا سنستأذن من باب الذوق واللياقة والأتيكيت وقلنا له : إحنا حانقوم 00 ولم يحاول الرجل أن يسترجع أنه دعانا للعشاء ولم يحاول أن يمسك فينا بعدما ألح علينا من عشر دقائق فقط أن نمضى السهرة معه ... 

خرجنا وظللنا نسير على غير هوى على الكورنيش وفى شوارع وميادين الإسكندرية ثم عاد كل منا الى بيته. وفى حوالي الواحدة صباحا رن جرس التليفون بجوار رأسي فرفعت السماعة وآنا شبه نائم قائلا : " أيوة ." للمرة الثانيةفى يوم واحد.. ، ولدهشتي كان المتحدث الرئيس جمال عبد الناصر الذي قال لي ضاحكا ..: "هو إنت لست زعلان ولّا إيه الحكاية ؟"

 فقلت "أبدا يافندم .. سيادتك تؤمر بحاجة "

 فقال لي : " أيوة .. " ثم سكت

 وسكت أنا بالتالي انتظارا لأوامره ، أو يبدأ هو بالحديث حتى لا أقطع تفكيره ـ وكانت هذه هي طريقة الحديث بيننا  . 

فقال الرئيس : " آنت يعنى ما بتسألنيش أنا قلت لك أيوة ليه ؟"

 فقلت له : " هو سيادتك زعلان !! ؟ "

 وضحكنا نحن الاثنين ... ثم قال لي : " يا خبيث 00 أيوة أنا زعلان منك أكثر ما أنا زعلان  من شعراوى .. عارف ليه ؟ قلت : " ده موضوع الصبح خلاص فيما أعتقد يافندم ."

 قال : " لأ أنا زعلان من موضوع بالليل لأنك لم تفهمني لا إنت ولا شعراوى عارف ليه ؟ .. ثم استطرد قائلا لأنك لو كنت دققت في ألفاظ مكالمتي لك في الصبح لكنت فهمت إني مرتب قعدة بالليل عند أنور ـ ووصفه بما كان متداولا بيننا على نطاق ضيق بصفة معينة لا داعي لذكرها علنا هنا ـ علشان نبقى مع بعض ونفتح المواضيع كلها وندى له درس علشان يتعلم أن الإختلاف في وجهات النظر في مسائل الحكم والأمور العامة ما دامت في الإطار الشرعي والدستوري أو لا يكون مقصود بها الإضرار فإنه مسموح به لأقصى حد حتى ينتج عنه صراع الأفكار والآراء ونستخلص من ذلك الحقائق ونصل بذلك الى القرارات السليمة بقدر الإمكان في إطار سليم وبلا إنشقاقات . 

( كان الرئيس جمال عبد الناصر يريد ان يلقنه درسا في موضوع غضبه من تعنيفه إياه على معارضة مبادرة روجرز وموقف مصر منها )

واستطرد الرئيس قائلا : " وأنا لما قلت للسكرتارية أن يبلغوا أنور أنى في الطريق لزيارته قصدت أن تعرفوا أنى قادم فتبقوا معه وما تر وحوش 00 لكن يا أستاذ آنت نسفت الفكرة دون أن تدرى ..-"

 فاستأذنت الرئيس في المقاطعة لأشرح له ما حدث وكررت عليه ما حدث تفصيلا معلقا على تصرف السيد أنور السادات بأنه " جليطة " لأنه كاد يقول لنا صراحة : قوموا بقى وأنه ما صدّق إن الرئيس حايزوره خصوصا في هذا الظرف الحساس بما معناه أن الجلسة لم تعد على هذا المستوى بل على مستوى أكبر منكم !!!

 وختمت وجهة نظري بقولي : أن وضعنا أصبح حرجا جدا إزاء الطريقة التي كان يتصرف بها وأصبح الوضع وكأنه موضوع كرامة الواحد الشخصية ... فأيدني الرئيس على وجهة نظري وقال ما إنت عارف انه ...!! وضحكنا .

صباح اليوم التالي الجمعة 14أغسطس1970 أبلغني الأخ محمد أحمد السكرتير الخاص للرئيس أن اطلب الرئيس في تليفون غرفة نومه فورا .. وطلب منى الرئيس أن أتصل بالسفير  سامي الدروبى سفير سوريا في القاهرة لأبلغه بدعوة الرئيس له للإستجمام  لمدة أسبوع هو وعائلته بالإسكندرية حيث سيلقاه الرئيس في جلسة خاصة

طلبت الأخ العزيز الراحل سامي الدروبى وأبلغته برغبة الرئيس ، وحضر فعلا للإسكندرية هو وعائلته  فى إحدى سيارات رئاسة الجمهورية وكان قد أعد لهم جناح خاص في فندق فلسطين بالمنتزه ، وأبلغت الرئيس بأن السفير سامي الدروبى موجود بالإسكندرية وقد أعد له برنامج ترفيهي لحين لقاء الرئيس له كما صاحبته منذ وصوله .

حدد الرئيس موعدا للقاء السفير سامي الدروبى الذي كما ذكرت من قبل أنه كان يعتز به كشخص ويحترم رأيه ويقدره تقديرا عاليا فتوجهت بسيارتى الخاصة بدون سائق  لأصطحبه من الفندق إلى إستراحة الرئيس بالمعمورة  حيث إلتقاه الرئيس بترحاب فتذكرت فى هذه اللحظة كيف كان الرئيس يقول لى أن سامى الدروبى انسان مثقف واع ، ووحدوى أصيل شريف ، لا يسعى إلى جاه أو سلطان أو منصب بل كان يسهم ـ وهو مريض ـ بكل قواه الفكرية والجثمانية بما يخدم القضية وبإعتباره جندى قومى عربى قبل أن يكون سفيرا وقبل أن يكون سوريا 

.

بعد الترحيب به من قبل الرئيس الذى بادر وقال :

" يا سامى .. "

فضحكنا ثلاثتنا فى نفس اللحظة ،لكونه سامى الدروبى ولكونى سامى شرف ، وكلانا يعلم أن الرئيس جمال يحبه بصدق 0

 عاد الرئيس فقال : " يا أخ سامى أنا الحقيقة أحببت أولا أن أرفه عنك من عناء العمل فى حر الصيف بالقاهرة، وثانيا أن نلتقى بعيدا عن الرسميات وعن جو القاهرة والأضواء لأنى أريد أن أحكى لك إنت بالذات أمور كثيرة لتكون أحد الشهود على ثورة 23 يوليو1952 000 ولثقتى فيك ثقة لا حدود لها فأنا عايز أقعد معاك جلسة وإثنين أو أكثر لو إقتضى الأمر لأشرح لك بالتفصيل الكثير من القضايا والأسرار والمواقف العامة والخاصة ...

ثورة 23 يوليو1952 ... كيف ؟ ولماذا ؟ وأين نحن الآن ؟ وإلى أين ؟ مواقف الناس كلهم فردا فردا مسئولين وغير المسئولين ... الخلافات وأسبابها ونتائجها ما قبل الثورة وما بعدها ... التوازنات والظروف التى فرضت نفسها لإتخاذ قرارات مصيرية وقرارات قد تبدو غريبة أو غير متوقعة سواء بالنسبة لأحداث أو بالنسبة لأشخاص .. قضية الوحدة .. والإنفصال ، كيف ، ولماذا ، والمسئوليات ... المؤسسة العسكرية والوضع العسكرى ...العلاقات مع الغرب والعلاقات مع الشرق ... التنظيم السياسى .. الإتحاد الأشتراكى وكيف سيكون شكل خريطة العمل السياسى فى السنوات الخمس القادمة حتى سنة 1975، وهل سنفتح العمل السياسى لتكون هناك تعددية سياسية وأحزاب ...مؤمرات حزب البعث المتكررة منذ قيام الوحدة 1958 حتى الآن .. أربعة مؤامرات كبيرة غير النشاط الفردى وغير ما لم يكتشف ( الإنفصال .. ما حدث أثناء مباحثات الوحدة الثلاثية " الإشارة الملتقطة " ... التآمر على ثورة ليبيا " الإشارة الملتقطة بالشفرة من بغداد للوفد العراقى بطرابلس " ...وأخيرا العملية الأخيرة .... ) ...كيف يعمل الرئيس وبمن ؟ ...التصور بالنسبة للنوايا المستقبلية وشكل الحكم ... وأخيرا تصوره للمعركة العسكرية وبالتالى بعد ذلك للمعركة الأقتصادية ...

كانت تلك هى النقاط الرئيسية التى طرحها الرئيس جمال عبد الناصر على السفير سامى الدروبى لتكون محور النقاش والحوار  والمناقشة ..

كنت أجلس على كرسى فى مواجهة الرئيس ، وكان الأخ سامى الدروبى يجلس بجوار الرئيس ، وبحكم العادة ركزت على متابعة إنفعالات الأخ سامى وتعبيرات وجهه وهو يستمع  ـ وكان رحمه الله  ـ  يحسن الإستماع ، مقل فى كلام لا داعى له ، مستطردا ومستفيضا فى الكلام المفيد ، مرتب الذهن والتفكير ، صافى العقل هادىء ، متزن ، رزين 0، حالم بعلم ، شاعرى ... 

وكما رايت فقد بدأت الإنفعالات بابتسامة عريضة لأن الثقة تأكدت من خلال هذه العناوين ورؤس المواضيع  التى طرحها الرئيس جمال 0

ثم تدرجت الإنفعالات من فرح إلى دهشة إلى ذهول لدرجة أنى فى لحظة أحسست أنى سأقوم من مكانى لأهزّه لكى أطمئن أنه معنا 000

وعندما إنتهى الرئيس جمال عبدالناصر من إستعراض العناوين قال :

"  إيه رأيك يا سامى ؟ "

فلم يرد سامى !!

 ضحك الرئيس وقال له إنت نمت ولّا سرحت 000 وهنا تنبه الأخ سامى وقال برقة متناهية :

"  عفوا سيدى الرئيس أنا معك 00 معك بقلبى وبروحى وبوجدانى وعقلى وبكل ما أملك 00 لكن لا تؤاخذنى سيدى الرئيس 00 لكى أكون أمينا وصريحا معك فإن أذناى لا تصدقان ما أسمع 00 وهل أنا فى هذه المنزلة والدرجة من الثقة عندك بالدرحة التى تسمح أن أشارك فى هذه الأمور الجسيمة الخطيرة التى نعتبرها ملك عبدالناصر ، وعبدالناصر فقط000 الحقيقة سيدى الرئيس أنا على إستعداد لأن أقيم أمام باب هذه الإستراحة طوال الفترة اللى تراها وترتضيها حتى ننتهى من الإستماع إلى بحث هذه المسائل الحيوية والمصيرية خصوصا فى هذه الفترة العصيبة التى يمر بها عالمنا العربى والقطر المصرى بصفة خاصة

قال الرئيس جمال : " لا .. أنا أحببت فقط أن أنقل إليك عناوين رئيسية لكي تفكر فيها لتكوّن نظرة شاملة حتى تكون المناقشة مثمرة ، ولكي لا نحرث في الماء كما يقولون ، ولكي لا نحكى فقط زي ما بتقولنا في سوريا ... واستطرد الرئيس قائلا ، عايزك تأخذ يومين راحة واستجمام في هدوء وبعدين أبعث لك سامي يجيبك لنبدأ حديثنا التفصيلي   . 

بعد يومين وفى الصباح الباكر أبلغنى أحد أفراد السكرتارية الخاصة للرئيس أن اتصل بالرئيس فى غرفة نومه ، فأدرت قرص التليفون على رقم الرئيس الخاص ورد بعد أول جرس وقلت :

" صباح الخير يا فندم "

" صباح الخير يا أستاذ .. أنا قلقتك بدرى ؟ "

" أبدا يافندم .. أوامر سيادتك ."

" إزاى سامى الدروبى ؟ مستريح فى إقامته ومخصصين له عربية والا لأ ؟ "

 " أيوة يافندم ... هو مستريح تماما مما جميعه 00 لكنه قلق جدا نتيجة تفكيره فيما دار من حديث مع سيادتك وقال لى مساء أمس أن الرئيس ألقى على ضميرى وعلى عقلى تبعة ومسئولية خطيرة للغاية ، أرجو أن أكون موفقا فيما سأقوله  وأتناقش فيه مع الرئيس .."

" هو فاكر أن تحمل المسئولية ومصير أمة شىء هين أو بسيط أو يتقرر بالكلام بس .

التعامل مع البشر لا يحتاج لزراير تدوس عليها فى ماكينة لتعطيك حاصل ضرب أو عملية طرح أو قسمة أو جمع التعامل مع البشر عملية غاية فى الصعوبة والتعقيد لأنك لن تستطيع أن ترضى كل الناس طول الوقت ، ولن تستطيع أن تحقق رغباتهم وطموحاتهم كلهم مرة واحدة

إنت فاكر كلام ديجول فى إحدى خطبه لما قال  إن أى حاكم لهذا البلد لن يستطيع يرضى شعب يأكل مائة وخمسين نوع من الجبن

ثم إن الكمال لله ، ولن تستطيع قوة بشرية أن تعدل كل العدل أو تهيىء للمجتمع كله ما يريد ويحلم به ... لابد أن تحدث أخطاء ولكن لابد أن نمر بمراحل التجربة والخطأ إذا اردنا أن نتقدم ، وإلا سنصاب بالجمود ونقف محلنا فى الوقت الذى يتقدم فيه العالم كل يوم خطوات وخطوات ... شوف الصين بدأت تجربتها سنة 1949 والنهاردة وصلوا لإيه ... أنهم يقومون بإنتناج الأبرة والصاروخ ... وشوف عملوا إيه فى الزراعة ... شوف عملوا إيه فى القضاء على العصافير اللى كانت تأكل القمح عندهم ولّا الذباب وغيرها ... انهم يجربون ويضعوا أنفسهم على أول الطريق ثم يتقدموا ولا يتجمدوا وإلا ضاعوا فى زحام طفرة التقدم التى يلهث العالم كله جريا ورائها للحفظ على بقائهم ... نهايته .. تجيب لى سامى الدروبى النهاردة الساعة 11 الصبح .. 

ثم استفسر بعد ذلك عن أخبار الداخل والخارج فعرضت عليه موجز سريع للموقف على جبهة القتال و أهم الأخبار العالمية والداخلية ...

فى تمام الحادية عشر دخلنا سامى الدروبى وأنا إستراحة المعمورة وقدته إلى المكان الذى يفضل الرئيس أن يقعد فيه فى هذا الوقت من النهار وبعد تقديم المرطبات والقهوة سمعت صوت الرئيس نازلا على الدرج من الدور العلوى إلى الصالة ، فنبهت الأخ سامى بإيماءة من رأسى بأن الرئيس فى طريقه إلى حيث نحن نجلس ... وأقبل الرئيس بقامته المرفوعة مرتديا قميصا أبيض اللون بنصف كم وبنطلون رمادى وصندل من الجلد البنى ..0 دخل علينا مبتسما محييا قائلا:صباح الخير .. إنتم قاعدين فى المكان المضبوط والظاهر إنكم جايين مستعدين ومذاكرين كويس .. وضحك ..وضحكنا كلنا .. .

 رد الأخ سامى الدروبى : " سيادة الرئيس .. أنا بأكرر الشكر بإسمى وبالنيابة عن حرمى على حسن وكرم الضيافة والترتيبات الكاملة والإمكانيات الموضوعة تحت تصرفنا 00 وها الشىء كتير كتير قد لا تستاهله ..وتعبنا الأخ سامى شرف معنا ، لكنه هو معتاد على كدة كما نعلمه عنه وضحك ... 

ضحك الرئيس ونظر إلىّ نظرة رضاء ، فهمت معناها من لمعان عينيه ..

 بدأ الرئيس جمال عبدالناصر إعادة سرد رؤوس المواضيع التى سيتناولها النقاش بنفس الترتيب ويكاد يكون بنفس الألفاظ التى سبق أن عرضها فى الجلسة السابقة ، وقال لنبدأ بالنقطة الأولى

...

ثورة 23يوليو1952 00 لماذا  ؟  وكيف  ؟  أين نحن الآن ؟  إلى أين ؟ 

 كان لابد من إحداث تغيير جذرى فى الخريطة الإجتماعية لمصر التى كانت قد وصلت إلى أقصى إنحدار لها سنة 1952 نتيجة  لكون أن القضية الأساسية فى إحداث التغيير تتبلور حول قضايا عامة أساسية لدوافع وطنية بالدرجة الأولى وإلا لما تمكنا من الوصول إلى  إجماع حول القرار  وبالتالى إلى نجاح التنفيذ

ولو كنت طرحت منذ البداية قضية التحول الإجتماعى أو قضية الإنتماء القومى العربى لما قامت الثورة ولدار جدل كان سيستمر يمكن للآن ، ولحدثت إختلافات ولما نجحنا 0

لكن القضايا التى كانت مطروحة أساسا هى :

الملك وحاشيته .

الإستعمار الإنجليزى والوجود العسكرى الأجنبى على تراب الوطن 0

الفساد .

الإقطاع، وسيطرة رأس المال على الحكم .

الأحزاب

وهى كلها قضايا لا يختلف عليها إثنين لضرورة حسمها والقضاء عليها مهما كانت الأفكار والميول والإتجاهات لأى مصرى وطنى 000 وكان هذا هو عنصر الضمان فى القدرة على التحرك لتحقيق الهدف .. 

كانت التركيبة فى حقيقتها غريبة

...

كان فيه عناصر يمينية وعناصر يسارية ... كان فيهم إخوان مسلمين كما كان هناك شيوعيين وناس لهم فكر باتجاهات معينة وآخرين لا يفكروا فى شىء الا حاجة واحدة فقط هو طرد الإنجليز من مصر وناس إنحصر إهتمامهم وتفكيرهم فى طرد الملك وتصفية الأحزاب السياسية ...

وناس كانت مؤتلفة معنا وهى تنفذ مخطط محدد يحقق أهداف تنظيمات كانوا مرتبطين بها وكان هدف هذه التنظيمات هو إحتواء الثورة والإستفادة بناتج التحرك لهذه التركيبة لتحقيق أهدافهم التى كانوا فى ذلك الوقت لا يستطيعون تحقيقها بمفردهم

...

والغريب أنه كانت هناك عناصر معروفة فى الجيش بأنها عناصر " فاقدة " ( وهى كلمة فى القاموس العسكرى وتعنى أن الشخص الفاقد لا يهمه ان يقوم بأى عمل أو تحرك دون أن يحسب الحسابات السليمة التى توصله الى بر الأمان ولكن يجازف بالمشاركة فى أى عمل ما دام هو مقتنع به بغض النظر عن النتائج والمكاسب أو الخسائر ومن ناحية أخرى هناك عناصر تعتبر فاقدة من زاوية أخرى وأعنى بها أنه شخص لا يكون سوى أو يكون سلوكه فيه بعض الشوائب ،يقامر أو يعاقر بعض الأعمال التى يرفضها المجتمع ... الخ  )

 وهذا ساعد لحد ما فى التعمية وتحقيق عنصر المفاجأة ..

 إنتقل الرئيس بعد ذلك للحديث حول موقف الأفراد والأنتماءات الفكرية لكل منهم وبدا فى تحليل شخصية أعضاء مجلس قيادة الثورة ، وأهم عناصر الصف الثانى 00 كان يسرد ويتكلم عنهم فردا فردا دون أن ينسى أى منهم وكان فى حديثه يرتبهم وفق كل مجموعة مع بعضها مرتبة بالأقدمية وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه وكانت عناصر تقييمه تتم على الوجه التالى :

فلان ... إسمه بالكامل .. تاريخ ميلاده ونشأته ... اسرته وتركيبتها الأجتماعية ... تفكيره ... وبمن أو بماذا يتأثر . .. إنتماؤه الفكرى ... إنتماؤه الطبقى ... آماله وطموحاته ... قدراته الحقيقية ومداها ... مواقفه فى الأزمات ... دوره فى القوات المسلحة  ... دوره فى الثورة ... التغييرات التى طرأت على شخصيته بعد نجاح الثورة ... إمكانياته بعد إتمام دوره ... الأمل فى المستقبل وما يرجى أو لا يرجى منه ... الأستنتاج ... 

 كان واضحا فى سرده وتحليله .. صادقا فى التقييم ... لم يدخل إنطباعاته الشخصية فى هذا التقييم بالنسبة للجميع بدون إستثناء ...

كانت الساعة قد تجاوزت الرابعة ولم نحس بمرور الوقت وكأنها دقائق مرت سريعا ... 

تناولنا بعد ذلك طعام الغذاء العادى والذى كان عبارة عن أرز وفاصوليا خضراء وقطع من اللحم ثم الفاكهة

ملحوظة : تقييم الرئيس جمال عبد الناصر  لأعضاء مجلس قيادة الثورة ورجال الصف الثانى مدون عندى بالتفصيل وهو محفوظ فى مكان أمين للوقت المناسب الذى أرى أنه بعد وفاتى حيث سيتولى أبنائى وضعه تحت تصرف المسئولين فى الدولة ...

 اضطرتني الظروف والأحداث آلتي توالت بعد هذا اللقاء الى العودة الى القاهرة ولم أحضر باقي الجلسات  كما اني لم أحضر اللقاء الذي تم بين الرئيس جمال عبد الناصر والسيد دياللو تيللي 0 وللأسف فأن هذه اللقاءات من اللقاءات النادرة آلتي لم تسجل وقد حاول السفير سامي الدروبى وأنا أن ندون تفاصيل ما دار فى اللقاءات بعد رحيل الرئيس جمال عبدالناصر  لكن الأحداث والتطورات حالت دون إتمام هذه المهمة ودخلت أنا السجن ورحل الصديق سامى الدروبى إلى جوار ربه ، وقد حاولت وما زلت أحاول مع أبناء المرحوم سامى الدروبى أن يبحثوا فى أوراقه التى دون فيها هذه اللقاءات كما ذكر هو لى ذلك

 


 

Graphic by Martin
A Man ... A Nation ...

 

Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة

شـكرا لزيارتكم للموقع

أنتم الضيف

 





© 2007  جميع الحقوق محفوظة لكل من سامى شرف ويحى الشاعر
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
 
This web site is maintained by
ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US