سـنوات وأيام مع جمال عبدالناصر
٠٩ عاما علي ميلاده و٥٥ عاما علي ثورته
ومثل جمال عبدالناصر
لا يرحل ولا يغيب
بقلم
دكتور محمد الباجس
المقال
المصدر
موقع الفكر القومى العربى
http://alfikralarabi.net/vb/showthread.php?t=2509
لا يصدق العقل أن سبعة وثلاثين عاما قد مرت علي رحيل 'عبدالناصر'.. وأن خمسة وخمسين عاما تقف بيننا وبين ذلك اليوم الذي أطل فيه علينا وعلي العالم.. وأن مياها كثيرة قد جرت في النهر.. أكثرها مياه عكرة.. أفسدتها المحاولات المتكررة للارتداد والنكوص.. ولوثها السعي لطمس الحقيقة.
ف'عبدالناصر' مازال في الضمائر والعقول.. تتوارثه الأجيال.. حيا.. شاخصا.. فعالا.. يتم استدعاؤه في لحظات الفرح الشحيحة.. وفي أوقات الشدة التي أصبحت سمة أيامنا، ومنهاج حياتنا.. يطل علي الناس عبر الوسائط الإعلامية.. ويعتلي حركات الاحتجاج والرفض.. والمسيرات المعادية للظلم والظالمين.. أعداء الحياة في كل مكان.. ومازال شاخصا يرقب كل شيء بنظرته الواثقة.. التي مازالت زادا وأملا للملايين في بيوت الفقراء.. ومآوي البسطاء.. تمتد بامتداد الأرض.. ومازال صوته يدوي في الأسماع دافعا وكاشفا ومحذرا عندما يحتاج الناس إلي كلمة حق وصدق.
لقد أصبح عبدالناصر إرثا إنسانيا وتاريخيا.. يستعصي علي النسيان.. ولا يمكن أن يطوي صفحته الغياب.. ومازالت ثورته بممارساتها في الواقع كفعل إنساني يصيب ويخطئ حاضرة في الضمائر والعقول شاخصة في التاريخ لا تبلي.. ودرسا يتجدد كلما واتته الظروف. ليس في مصر فقط.. وإنما بامتداد الأرض والبشر.. ووفق رؤية قائدها التي بثها في أولي وثائقها المكتوبة في الأيام الأولي من عمرها..' إن القدر لا يهزل، وليست هناك أحداث من صنع الصدفة.. ولا وجود يصنعه الهباء.. ولن نستطيع أن ننظر إلي خريطة العالم نظرة بلهاء، لا ندرك بها مكاننا علي الخريطة.. ودورنا في هذا المكان.
أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدا ئرة منا ونحن منها.. امتزج تاريخنا بتاريخها.. وارتبطت مصالحنا بمصالحها.. حقيقة وفعلا وليس مجرد كلام؟!
أيمكن أن نتجاهل أن هناك قارة أفريقية شاء لنا القدر أن نكون فيها.. وشاء أيضا أن يكون فيها اليوم صراع مروع حول مستقبلها وهو صراع سوف تكون آثاره لنا أو علينا سواء أردنا أو لم نرد؟!
أيمكن أن نتجاهل أن هناك علما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقربها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ..' .
كانت هذه هي رؤية عبدالناصر وثورته ومحيطها العربي والأفريقي والإسلامي.. وروابطها.. ودورها القائد الذي لا بديل عن نهوضها به.. وإذا كانت مصر هبة تاريخها وجغرافيتها، والواقع الموضوعي الذي وهبها مركزية الموقع، والأغلبية البشرية الأكثر تجانسا واستقرارا بين شعوب المنطقة.. ثم الإمكانات المتعددة التي جعلت منها القوة الحارسة والذائدة عن المنطقة.. والخازنة الصائنة لتراثها وحضارتها.. فإن ثورة يولية ٢٥٩١ هي التي أدركت كل ذلك، وحددت بوعي كامل دور مصر الحقيقي.. وكيفية النهوض به.. في فترة من أخصب وأخطر فترات التاريخ بالنسبة للمنطقة والعالم.. عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية.. وتقسيم العالم العربي وأفريقيا بين الدول المنتصرة.. وتفتيت الوطن العربي إلي كيانات.. وإمارات.. وممالك متصارعة.. والاصرار التآمري علي زرع 'إسرائيل' في المنطقة.
وإذا كانت حرب ٨٤٩١كما يعترف 'عبدالناصر' في 'فلسفة الثورة' لا تمثل سببا مباشرا لقيام ثورة يولية.. إلا أنها مثلت درسا بليغا للثورة وأكدت لها أن السبب الجوهري وراء ضياع فلسطين وهزيمة العرب كان يكمن في بعثرة العرب.. والنفوذ الاستعماري الذي بلغ العمق.. وأحال الوطن العربي إلي منطقة نفوذ تابعة.. لا تملك إرادتها.. وربما لا تعرفها.. ومن ثم كان حرص ثورة يولية علي تحويل الشتات العربي إلي تضامن واع.. وإرادة طموحة فاعلة.. وخلق قوة جديدة في المنطقة يكون لها اعتبارها ودورها.. فكانت معارك التحرر الوطني التي قادتها وساندتها مصر -والتي مازالت هاديا للكثير من شعوب العالم- حتي تتحرر الدول العربية والأفريقية من الاحتلال والتبعية لتلعب دورها داخل التضامن العربي والأفريقي.. وليس صحيحا ما يردده المرجفون من أن مصر سعت لاجبار تلك الدول علي اتباع خطها السياسي.. وبذلت في سبيل ذلك جهدا وطاقة ومالا.. في صراعات محلية.. فالواقع يؤكد أن معظم الدول العربية قد اختارت طوعا أو تلبية لرغبات الشعوب جانب مصر يولية وعبدالناصر.. واعترفت لها بالقيادة.. وإن كان هناك قادة ارتبط وجودهم بالنفوذ الأجنبي فأداروا ظهورهم لمصر.. وانكروا دورها القيادي الطبيعي.. ولجأوا إلي التحالف مع قوي الاستعمار المولًٌي، وخلق أحلاف يتم الاستقواء بها.. والتصدي لمصر ودورها.. وكانت وسيلة الزعيم الأساسية في مواجهتهم تجاوز الحدود والحواجز الرسمية.. ومخاطبة الجماهير العربية التي استجابت له.. وتفاعلت معه.. وتحركت علي وقع كلماته لتغيير تلك الأنظمة البالية المتواطئة والخائنة.
وظلت مصر الناصرية تقود الجموع العربية في معارك التحرر والاستقلال ومعارك الحفاظ علي الاستقلال. ومعارك البناء والتقدم.. طوال حياة 'عبدالناصر' لم تفقد شيئا من دورها القيادي، ولم يفقد الزعيم ذرة من نفوذه لدي الجماهير حتي في أحلك الظروف التي بلغت قمتها في انفصام الوحدة المصرية- السورية.. وهزيمة يونيو ٧٦٩١.. التي اعتبرتها الشعوب مجرد معركة لم تكن الأولي ولن تكون الأخيرة.. وهو ما أثبتت الأيام صحته وظل العالم وحتي رحيل 'عبدالناصر' يدرك جيدا أن ثمة مركز ثقل عربيا واحد.ا. وقيادة عربية فاعلة وهي القاهرة.
ولم يكن نفوذ مصر الناصرية يتحدد بالدول العربية فحسب.. بل امتد افريقيا إلي عمق القارة، وآسيويا من خلال منظمة تضامن شعوب افريقيا وآسيا.. وعالميا من خلال تكتل دول عدم الانحياز 'ناصر - نهرو - تيتو - شوان لاي' وعندما قررت 'تنزانيا' مؤخرا اختيار 'عبدالناصر' بطلا قوميا للقرن الماضي وحدث نفس الشيء بالنسبة ل'جنوب أفريقيا' فلأن 'عبدالناصر' وثورة يولية مازالا حاضرين في ضمير 'أفريقيا'.. التي قدمت مصر الناصرية كل عون لحركات التحرر التي اندلعت فيها علي ايقاعات ثورة يولية.. وحررت ٧٣ دولة أفريقية من وطأة الاستعمار.. وأصبحت أفريقيا منطقة محرمة علي النشاط الصهيوني، والاستعماري.. ولم تستطع 'إسرائيل' أن تتسلل إليها أو تجد لنفسها موطئ قدم حتي سنوات طويلة من رحيل 'عبدالناصر'.. وعندما يشيد قادة أمريكا اللاتينية الجدد بمصر الناصرية ويعلنون أنهم استلهموا مسيرة 'ناصر' وثورته.. فلأن 'عبدالناصر' وثورة يولية مازالا حاضرين في الضمير الإنساني.
وعندما دار الزمن دورة خاطئة.. وفجة.. وشائهة.. ولقيطة.. غفت مصر.. تحت تأثير ما تم دسه خلسة في نيلها وهوائها.. وتربتها.. وانكفأت داخل حدودها منزوعة السلاح.. وتجرأت الشراذم علي القول: إن المركز قد نام وقامت الأطراف.. وعاد الاستعمار يدق بأحذيته علي صدر الوطن.. بعد أن غفت القيادة.. وتفرقت الدول العربية بين محتل.. ومهدد.. وتابع.. ومستكين.. وعصفت الظروف بأبواب افريقيا فاستبيحت.. وتسرب إليها الصهاينة من كل اتجاه.. يعيدون تشكيل بنية المجتمعات الأفريقية وتوجهاتها.. ويربطونهم سياسيا واقتصاديا ب'إسرائيل' ويمرحون في آماد أمن مصر القومي..
وحلت أمريكا بثقلها الضاغط الأرعن في المنطقة.. تدير مداولات التقسيم.. وإعادة رسم الخرائط.. والنفاذ إلي صميم التفاصيل في المنطقة العربية وافريقيا ومحيطهما الذي يمثل حزام الأمن القومي لمصر.. ومصر تري وتسمع عن بعد.. بعد أن كانت صاحبة القول الفصل فيما يجري داعمة كانت أو معارضة.. وأصبح أمرا معتادا أن يفاجئ حاكم إمارة أو مشيخة العالم ومصر بالطبع متحدثا باسم العرب.. طارحا رؤيته في أخطر قضايا الحاضر والمصير.
ووسط غيبوبة تكاد تطبق علي كل شيء.. وعلي استحياء ودون المغامرة بالنطق أو القدرة نفسيا علي تحريك اللسان بالسؤال: أين مصر؟.. ويلف الصمت كل شيء.. صمت موحش كئيب.. صمت مرضي.. عصابي.. ذاهل.. وتحتدم داخل نفوس من عاصروا وشاركوا الذكريات التي مازالت ماثلة في الوجدان.. وكأنها في غفوة لا أكثر.. فمثلها لا يمكن أن يموت.. الحركة الفوارة بالنصر.. والزهو.. والاعتزاز القومي.. والعمل.. الشعور بالكرامة الذي يطغي علي الحاجات.. ويتقدم علي المطالب.. عصر الفقراء وقد انتصبت قاماتهم.. وشمخت رءوسهم.. وامتدت سواعدهم تشارك بكل العنفوان.. إيمانا بالحاضر.. وانتظارا للقادم أكثر جمالا وحسنا.. والناس الذين سوٌت بينهم ثورة يولية.. فصاروا كأسنان المشط.. وملايين العمال والفلاحين.. وأبناء الفقراء يعتلون المواقع المتقدمة، ويشاركون في إدارة الدفة كحق أصيل لهم.. والطبقة الوسطي التي تضخمت وتمددت تكاد تستحوذ علي المشهد حاضنة للتراث.. والقيم والتقاليد والأعراف.. وأين الكوابح والروادع التي كانت تقطع أيادي وألسنة تحاول التطاول.. أو التدخل والاقتراب؟ وأين ثروة مصر وقطاعها العام.. الذي شيدته الأيدي التي نزفت دما وعرقا؟
و.. وكيف تم اختصار الوطن.. في محيطه المغلق.. وركوده المميت.. وشريحة تحتكر كل شيء.. حتي الهواء .. وتشيد أهرامات الثراء والرفاهية علي حطام الفقراء الذين يزدادون فقرا.. وعنتا وارهاقا.. وتجاهلا وتهميشا لم يشعروا بمثله أيام الاحتلال؟ وقد تكالب الفقراء علي الفقراء.. آباء وأبناء يتجرعون المهانة في طرقات البطالة المذلة.. بعد أن بيعت مقدرات الوطن لأعدائه.. وأصبح من غير المشكوك فيه أن إصبعا في مكان ما تشير فيدور كل شيء مع اشارتها.. متجاوبا ومذعنا لإرادتها.. واتجاه الاشارة لا يحيد عنها..
وأفرزت الحالة افرازاتها التي لم تسمع بها مصر علي مدي تاريخها.. وما لم يتخيله مصري في يوم من الأيام.. ونضح مناخ العشوائيات وسكان المقابر، وتكدسات العاطلين في الزوايا المنسية.. والجائعين والعطشي والمحرومين.. بكل أشكال معاداة المجتمع.. والتطاول عليه، قتلا، وسلبا، واغتصابا.. وخيانة.. وتهديدا بتغييرالهوية.. وخلع الوطن الذي لم يعد وطنا.
ونتوقف شئنا أم أبينا.. والسؤال لا يكاد يبرح الشفاه: هل انتهت ثورة يولية ٢٥٩١؟ وهل انتهي زمن 'عبدالناصر' وبصمته شديدة الوضوح والتألق؟ والإجابة حاسمة لدي كل ذي عقل.. فثورة يولية وتأثيراتها وتفاعلاتها العميقة داخل مصر ومحيطها العربي والأفريقي لا يمكن أن تنتهي.. و'عبدالناصر' بطل ما يمثله عصي علي الانتهاء أو التواري.. ولم يزل في الوجدان.. بكل علينا كلما غامت الرؤية.. أو ظهرت الحاجة لاستلهام حركته الفاعلة بكل عنفوانها.. وشرفها.. وتعففها.. وسموها.. وصموده التاريخي حاكما عف اليد واللسان..
وما يحدث حولنا.. وإن كان مباغتا وشائها ووحشيا.. عديم الضمير، مجرد دورة زمنية خاطئة.. لم تمنع نقاط الضوء من الالتماع هنا وهناك.. في اصرار عنيد وثقة لا تحدها حدود في المستقبل الآتي لا محالة.. وعندما تتجمع تلك الالتماعات ولابد أن تتجمع فسوف تستحيل لهبا مروعا يحرق كل الخبث.. ويطهر كل شبر في أرض الوطن.. ليعود له وجهه الحقيقي أكثر ألقا وإشراقا ونورا.. وإن غدا لناظره قريب.
........."
إنتهى النقل
يحى الشاعر
Back to Index & proceed
الــــرجوع الى الفهـــرس للمتابعة والمواصلة
You are my today's
Web guest
Thank you for your visit
© 2007 Yahia Al Shaer. All rights reserved.
This web site is maintained by
ICCT, International Computer Consulting & Training, Germany, US