Welcome to



جمال عبد الناصر   


الوحدة العربية

عبد السلام عارف كما رايته
عبد السلام عارف كما رأيته - صبحي نانظم توفيق 

فائز البرازي


إعلان بيروت العربي الدولي لدعم المقاومة

 

خالد الناصر

ثـــورة يولــــيو
ثـــورة يولــــيو  

مجلة الوعي العربي

موقع سامي شرف

  
سامى شرف:يتذكر كيف أدارالرئيس جمال عبدالناصر الصراع العربى الإسرائيلى بعد نكسة67
Posted on 7-8-1436 هـ
Topic: سامي شرف

سامى شرف  يتذكر كيف أدار الرئيس جمال عبدالناصر الصراع العربى الإسرائيلى بعد نكسة يونيو 1967

http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/a/ac/President_Nasser%27s_visit_to_the_Suez_front_with_Egypt%27s_top_military_commanders_during_the_War_of_Attrition.jpg
    مقدمة
بدأت سنة 1966 وكانت كل الجسور التفاهم التى بنيت مع الرئيسين الأمريكيين دوايت أيزنهاور وجون كينيدى تنهار واحدا بعد الآخر ، وفى نفس الوقت ومتوازيا مع هذا التطور بدأ الرئيس جمال عبد الناصر يفقد الأمل فى تحسين العلاقات المصرية الأمريكية فى ظل قيادة ليندون ب. جونسون بانحيازه المسبق مع إسرائيل.
ومرادفا مع هذا التطور بدات الضغوط الاقتصادية الأمريكية على مصر تبدو على السطح بشكل مباشر ( صفقة القمح ) ، وتعددت الضغوط الاقتصادية إلى دعم عسكرى لإسرائيل لأول مرة بشكل مباشر فى وقت لا توجد فيه أي مظاهر لأخطار أو توتر فى المنطقة .
وجاءت الصفقة الأمريكية العسكرية بعد صفقة عسكرية كبيرة لأتمتها ألمانيا الغربية مع إسرائيل ترتب عليها أن قطعت أغلب الدول العربية علاقاتها الدبلوماسية مع ألمانيا الغربية خلال سنة 1965 ، والثابت بشكل قاطع ، وعلى ألسنة المسئولين الألمان الغربيين أنفسهم أن هذه الصفقة تمت بناء على تعليمات من الولايات المتحدة الأمريكية
وأصبح الموقف فى المنطقة باختصار وبشكل محدد كالآتى :
تدهور الموقف بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية أى علاقات سيئة .
شهر عسل مزدهر بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية فى كافة المجالات .
خلافات عربية / عربية .
بدء قيام القيادة العسكرية العربية الموحدة فى ظل مشاكل سياسية وإدارية ومالية .
وجود عسكرى مصرى فى اليمن .

* * *

فضلا عن المخاطر السياسية التى تلحق بنا إذا حاولناه ، معنى ذلك أننا سنعطى الولايات المتحدة الأمريكية دعوة مفتوحة بضربنا بكل وسائلها ، ولا يستطيع أحد أن يفتح فمه . . .
    وقراءتى للموقف أنه لم تحدث فى الواقع حرب وحدث قتال عنيف جدا فى مناطق متفرقة ،                       وحصلت  بطولات هائلة فى الحقيقة ومات واستشهد وضحى ناس أثبتوا أنهم رجال ، فعلوا ذلك وفوقهم قيادة لا تقود لأنها فقدت أعصابها إلى درجة أنهم أخطرونى أن اليهود ينزلون بالباراشوت على الناحية الغربية للقناة فى حين أن الحقيقة أن اليهود كانوا يلقون بتموين وذخائر بالباراشوت للقوات التى وصلت إلى ضفة القناة الشرقية بأسرع مما كانت تتوقعه القيادة الإسرائيلية ، وفقدان الأعصاب هذا جعل الأوامر متضاربة ، وقد عرضت على عندما بدأ التحقيق مجموعات من الأوامر الصادرة فى نفس الوقت بعضها يأمر بالانسحاب إلى خط الدفاع الثانى ، وبعضها يطلب الانسحاب إلى غرب القناة ، وكان معنى ذلك فوضى فى الانسحاب .  وعملية الانسحاب هى أصعب العمليات فى الحرب .
فى النهاية وجدت أمامى كارثة لابد أن أوقفها عند حد ، وكان قبولى لوقف إطلاق النار ، ولم أفكر لحظة فى استعمال أسلحة غير تقليدية كالصواريخ أو الغازات ، لأنه لم يكن لاستعمالها من نتيجة سوى أننى أزوّد الاستفزاز وأعرض مرافقنا المائية والصناعية لضربات انتقامية عقابية ، وعلى أى حال فالصواريخ لم تكن مستعدة بأجهزة التوجيه ، والغازات كان يمكن أن تثير علينا الدنيا بدون فائدة لأن الفرصة راحت إلا إذا كنا نريد مجرد الانتقام وفش الغليل .
ويوجد عامل أهم ، وكان يجب أن أضعه نمرة واحد ، ولكنى تحرجت حتى لا يظهر وكأنى ألتمس الأعذار لنفسى أو لغيرى ، وهو أن الأمريكان كانوا مصممين على ضربنا مهما فعلنا . . هما حاولوا معنا بكل الوسائل أن نتوب عن العمل القومى وعن التصنيع وعن التحديث ، ونحن رفضنا واعتبروها مهمتهم أن يؤدبونا ، ونحن بتصرفاتنا جعلنا المهمة أسهل لهم بدلا من أن نجلها أصعب .  الأسباب التى عرضتها كلها هى ما سهّل عليهم مهمة كانوا مصممين عليها .
        
وعن الاتحاد السوفيتى فأنا تعاملت معاهم سنين طويلة ولم أراهم على هذا النحو من التردد والضياع . والحقيقة أننى مندهش ويمكن من أهم أخطائنا ـ وهذه أتحملها أنا ـ لم نحسب حسابا دقيقا للتغيير الذى حدث فى الميزان الدولى . فالروس فى حالة إنكماش والأمريكان فى حالة إنفلات .
وقبل أيام إتخانقت مع الماريشال زخاروف رئيس أركان حرب القوات المسلحة السوفيتية ، وهو الآن عندنا فى مصر ، وأنا طلبت منه أن يبقى وقلت له :
إننى لا أسمح له بالسفر من مصر إلا بعد أن يقدم لى تقريرا عن الموقف فى الجبهة ، وعما سيفعلوه لتعويض احتياجاتنا . وقبل أيام جاءنى بصور التقطتها الأقمار الصناعية لمطارات سيناء .
 وقلت له : الآن تجىء لى بصور لمطارات سيناء بعد أن احتلها اليهود . وسألته لماذا لم تعطونا هذه الصور من قبل عن مطارات إسرائيل قبل بدء المعركة . .
أنا طلبت السفير السوفيتى ثانى يوم القتال وطلبت منه مائة طائرة ولم يستجيبوا إلا بعد أن عدلت عن الاستقالة ،  فأرسلوا لى رسالة يقولون فيها أنهم سوف يبعثوا لنا بكل شىء طلبناه . . .
وأنا عندما تنحيت فإنى لم أكن مدفوعا بالعواطف وحدها ، وإنما كان عندى اعتبارات عملية وجزء منها يتعلق بموقف الروس فكانوا أمامى غير مستعدين للحركة . وقد قلت أن من بين أهداف الأمريكان أن يخلصوا من النظام ويخلصوا منى ، فأنا قلت أننى أسهل لهم الخلاص منى إذا كانوا يعتبرونه هدف ، واخترت زكريا محيى الدين وهو جزء من النظام وربما يستطيع أن يتفاهم معهم .
جاءنى بودجورنى وكان حديثنا معه مثبط للهمم ، فهم حتى الآن لم يقدروا أن ضرب الدول غير المنحازة هو خطوة فى سياسة الأمريكان للانفراد بالسيطرة على العالم . . وإذا وقعنا نحن فسوف يزداد الضغط عليهم وسيصل إلى بقية دول العالم الثالث ثم ينتقل إلى دول أوروبا الشرقية ثم يدخلوا عليهم فى بلادهم ذاتها . .
أنا قلت هذا الكلام لبودجورنى بصراحة .
ولقد حضر قائد قوات الدفاع الجوى السوفيتى إلى القاهرة بعد زيارة بادجورنى وبعثت معه رسالة لجريتشكو قلت فيها :
" إسمعوا . . إذا استسلمنا نحن للأمريكان فإن العالم الثالث سيذهب كله للأمريكان ، وسوف يخسروا الحرب الباردة حتى وإن كان لديكم مليون قنبلة ذرية ، وهى لن تستعمل" .

هناك اتصالات الآن فى الأمم المتحدة والأمريكان يطالبوننا بتنازلات . . والغريب أن الذى يضغط علينا فى قبول هذه التنازلات هو وزير الخارجية السوفيتى جروميكو وليس وزير الخارجية الأمريكى راسك . وفى كل هذا أنا لا أريد أن أفقد أعصابى . موقف الروس بالنسبة لنا موقف أساسى ، فإذا لم نحصل منهم على احتياجاتنا من السلاح فمعنى هذا أنه لن تكون هناك معركة . وأنا باقول علينا أن نتحمل ظروفهم وتفكيرهم ولا نيأس من إخراجهم من حالة الجمود التى تقيدهم الآن ، لكن ذلك سوف يتطلب وقتا وجهدا ، ولهذا فإن الاتفاق على خطة عمل سياسى مسألة فى منتهى الأهمية ، ولابد من الضغط على السوفيت . . كل من يستطيع الضغط على السوفيت لابد له أن يضغط . . نحن والجزائر والعراق وسوريا والدول غير المنحازة . . يوغوسلافيا والهند وغيرهم . . وكل دول آسيا وإفريقيا .
وأيضا لابد من الضغط على الأمريكان ، ولهذا فأنا أريد عقد مؤتمر قمة عربى لكى يتحرك إخواننا فى السعودية وغيرها ويضعوا علاقاتهم بالأمريكان موضع اختبار ليس من أجلى ولكن من اجل الضفة الغربية ووراء الملك حسين ، وأنا باعتبر أنه ليس هناك محظور فى العمل السياسى إلا الاستسلام .
وعلى أى حال فنحن نحتاج إلى فترة ما بين سنتين إلى ثلاثة سنوات لكى نعود إلى معركة كبيرة ، ونحن لا نريد أن تبرد الأحوال على خطوطنا مع إسرائيل . بعد وقف إطلاق النار مباشرة كنت أريد تثبيت وقف إطلاق النار ، وبعد أن تأكدنا من أن هذا حدث لم يكن لدينا مانع من قبول اشتباكات محدودة لتسخين الجبهة ولكسر حاجز الخوف عند القوات وتطعيمها بالنار ، وقواتنا فى حالة معنوية ممتازة ، لكننا نحتاج كما قلت لفترة سنتين أو ثلاثة قبل أن نكون مستعدين لمعركة واسعة النطاق لإزالة آثار العدوان ، وهذه الفترة لا يمكن أن تمر ساكتة وإنما لابد أن نغطيها بعمل سياسى نشيط يقنع أصدقاءنا وأولهم الاتحاد السوفيتى أننا فعلنا كل شىء من أجل حل عن طريق الأمم المتحدة والاتصالات الدولية .
ورأيى أن هذا لن يأتى بنتيجة ، فمن الطبيعى أن ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد بغيرها . . .
الضفة الغربية تختلف عن سيناء اختلافا كليا لأن اليهود مهما بقوا فى سيناء . . سنة . . سنتين أو ثلاثة يعرفون تماما أنهم لن يستطيعوا البقاء فيها للأبد لأنهم يريدون بالدرجة الأولى إخراج مصر من صراع المصير العربى ، وبالتالى فهم لا يريدون اشتباكا دائما مع مصر ، وإنما هدفهم باستمرار صلح منفرد معها ، ومن ناحية أخرى فإن سيناء ليس فيها إلا عدد قليل من الناس وهؤلاء الناس معظمهم من البدو ولديهم فرصة الحركة دون البقاء فى موقع ثابت رهائن للاحتلال .
معنى كلامى أنى مستعد . . وأستطيع أن أصبر على سيناء لحد ما أستعد .
أما الضفة الغربية فوضعها مختلف ، سيناء لنا مصيبة ، أما الضفة الغربية فهى مأساة ، ولذلك أنا قلت للملك حسين أن يذهب إلى جونسون ويقابله ويستجديه إذا أدى الأمر إذا كان ذلك يمكن أن يؤدى إلى خروج إسرائيل من الضفة الغربية مهما كان الثمن الذى ندفعه فى ذلك . وأنا أرى أن الملك حسين يواجه مشكلة صعبة فقد فيها نصف مملكته ، ويتحتم علينا جميعا أن نقف معه .
لابد من توافر الشروط التالية :
•    أن يتحقق وقوف الأمة العربية كلها فى خطوط المعركة .
•    أن الذين يستطيعون العمل من خلال جهد عربى موحد لهم هذا الحق . كما أن الذين لا يثقون فى إمكانية العمل العربى الموحد لشكوك تراودهم إزاء أطراف عربية أخرى فإن لهم هذا الحق أيضل بشرط أن تصب جهودهم جميعا فى النهاية فى وعاء المعركة .
•    أن الملك حسين لابد له أن يحاول سياسيا وبكل الوسائل أن يبحث عن حل سريع إذا استطاع لدفع الخطر المحيق بالضفة الغربية .
•    أن يتمكن العرب جميعا من إقامة توازن دولى حول الأزمة يمكّن من اتخاذ قرار دولى محدد يرتكز عليه العمل العربى فى المجال السياسى .
•    أن توافر هذه الظروف جميعا هو الذى يعطى العرب الوقت والفرصة لإعداد أنفسهم لاستخدام جميع أسلحتهم فى معركة ليس هناك مفر منها .

إذا كنا سنتحدث عن ضرورة العودة إلى ميدان القتال ، وضرورة إقامة توازن دولى حول الأزمة التى نواجهها فإن موقف الاتحاد السوفيتى يصبح مركزيا فى الصورة كلها ، فنحن لن نحارب بدون سلاح ولن يكون لنا مصدر للحصول على سلاح غير الاتحاد السوفيتى ، ثم إن ظهور وتأكيد موقف الاتحاد السوفيتى إلى جانبنا هو الذى يمكن أن يخلق توازن دولى مطلوب للخروج من الأزمة .
والصعوبة التى نواجهها كما رأينا من اتصالاتنا معهم فى الأيام الأخيرة أن لهم مصالح فى المنطقة يريدون المحافظة عليها ويريدون زيادتها فى نفس الوقت باستغلال الظروف الطارئة وهم أيضا فى موقف مختلف عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية وواضح لنا أنهم حريصين جدا لا يريدون أن يتورطوا بأى شكل ، ونحن لا نريدهم أن يتورطوا ، ولكن نريدهم أن يقفوا وأن يتفهموا جيدا حقيقة موقفنا ، ويعرفوا أنه إذا ضاعت المنطقة ودخلت كلها فى حضن الأمريكان فهم أيضا سوف يخسروا موقفهم العالمى كله .
لقد تلقيت صباح اليوم رسالة من تيتو ، ويفهم من الرسالة أنه توجد ثورة كبيرة داخل الاتحاد السوفيتى وفى أوروبا الشرقية لأن كثيرين يتهمون القيادة السوفيتية بالتخاذل والتردد إزاء الأمريكان ، وأن زعماء الدول والأحزاب الشيوعية قد عقدوا اجتماعا ثانيا على مستوى القمة فى بودابست وتركز هذا الاجتماع على أحداث الشرق الأوسط ، وتعرض برجنيف وكوسيجين وبادجورنى لحملة شديدة من معظم الزعماء الآخرين واتهموهم بالاستسلام للأمريكان ، وانتقدوا مسلك كوسيجين فى جلاسبورو مع جونسون ،  و أنه هناك لعب به جونسون بطريقة تؤدى إلى انكشاف موقف المعسكر الشرقى بأكمله .

لقد بعث ديجول برسالة لبومدين قال له عن حرب 67 أنها " المعركة أمريكية والأداء إسرائيلى "

( انتهى محضر الاجتماع ) .

                                     * * *
صحيح أن الطريق إلى السلام بين العرب وإسرائيل قد أصبح بعيدا أكثر من أى وقت مضى باعتبار أن إسرائيل قد حققت فى يونيو67 نجاحا عسكريا لم تكن تحلم به مما ترتب عليه أن أصبحت المصالح الإسرائيلية والأمريكية فى المجالات العسكرية والسياسية والاقتصادية متطابقة ، وتمثل هذا فى مدى المعاونة التى منحتها الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل أثناء عدوانها على الدول العربية مما أدى إلى تعنت إسرائيل فى عرقلة أى احتمالات لحل القضية الفلسطينية وتشبثها بعدم إزالة آثار العدوان على الدول العربية ، ومن ثم أصبح واضحا أن الجهود الإسرائيلية الأمريكية سوف ترتكز على محور أساسى هو إرغام الجمهورية العربية المتحدة بالذات قبل أى دولة عربية أخرى على الاستسلام للمطالب الإسرائيلية ، وكان بالمقابل لم يعد أمام الجمهورية العربية المتحدة إلا أن تختار الاعتماد على الاتحاد السوفيتى للمعاونة فى بناء القوات المسلحة وإعدادها لمعركة التحرير مما ترتب عليه تصاعد الصراع الأمريكى السوفيتى فى المنطقة لدرجة لم تشهدها من قبل ، وهذا بالتالى أدى إلى تعقد مشكلة السلام .
ولقد شهدت القاهرة ، وبدون ترتيبات مسبقة تجمعات من الرؤساء العرب لبحث الأوضاع وللمساهمة فى الإدلاء بآرائهم فى قضية إنهاء الاحتلال للأراضى العربية .
ففى الثانى والعشرين من يوليو1967 وصل إلى القاهرة الرئيس هوارى بومدين والملك حسين بن طلال بعد مقابلة الأخير للرئيس الأمريكى جونسون فى واشنطن بناء على اتفاق مسبق بين الملك والرئيس عبد الناصر الذى كان قد قال للملك حسين ما نصه : " أن مصر سوف تقسم رغيف العيش إلى نصفين نصف لنا ونصف لكم ونحن من جانبنا لن نخرج من هذه الأزمة إلا معا لأننا دخلناها معا ويجب أن نكسبها معا بإذن الله  " .
أشار كل من الرئيس بومدين والملك حسين إلى غياب الموقف العربى الموحد وأن هناك رائحة مزايدات فى الجو العربى العام ، واتفقوا فيما بينهم على ضرورة عقد مؤتمر قمة عربى .
وفى الثالث والعشرين من يوليو1967 وصل القاهرة الرئيس السورى نور الدين الأتاسى والرئيس العراقى عبد الرحمن عارف والرئيس السودانى إسماعيل الأزهرى . وكانت خلاصة المباحثات التى تمت بينهم وبين الرئيس جمال عبد الناصر وكبار المسئولين المصريين تتركز فى بحث كيفية مواجهة الموقف والذى عبّر عنه  الرئيس عبد الناصر بأن القاهرة تحتاج إلى سنوات ثلاثة على الأقل لإعادة بناء قواتها المسلحة حتى تبدأ معارك تحرير الأرض العربية ، وألمح إلى أن نهاية عام 1970 أو بداية عام 1971 قد يكون التوقيت المناسب لهذه المعركة ، كما ذكر صراحة أن مصر لن تستطيع أو تتمكن من تحديد مواقفها بشكل جدّى ما لم تحصل على متطلبات المعركة العسكرية من الاتحاد السوفيتى المصدر الوحيد لسلاحنا .
وكانت خلاصة لقاءات القاهرة هذه بين الرئيس جمال عبد الناصر والرؤساء والملك حسين هى اقتراح بأن يقوم الرئيس هوارى بومدين والرئيس عبد الرحمن عارف بزيارة لموسكو للاتفاق مع قادة الاتحاد السوفيتى على خطة تسليح القوات المسلحة العربية وعلى رأسها الجمهورية العربية المتحدة .
وعقد مؤتمر القمة العربى فى الخرطوم فى شهر أغسطس1967 ، واستقبل القائد المهزوم استقبالا لم تشهده عاصمة عربية ولا أجنبية من قبل ولا من بعد فيما أعتقد . وحقيقة كانت مفاجأة للصديق قبل العدو عندما حملت الجماهير السودانية جمال عبد الناصر بسيارته على الطريق من المطار حتى قصر الضيافة ، وعبّرت هذه الجماهير ن مشاعر وأحاسيس ونبض الأمة العربية كلها فى رفضها للهزيمة العسكرية ، وفى نفس الوقت كانت بمثابة تكليف للقائد بالاستمرار فى تحمل مسئولياته ، كما عبّرت هذه الجماهير الواعية بحس صادق عن اقتناعها بأن الهزيمة لم تكن سوى تآمر دبرته وخططت له ونفذته الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لضرب أمانى وأحلام الأمة العربية فى حريتها ووحدتها . تكلم الرئيس جمال عبد الناصر فى هذا المؤتمر شارحا الأوضاع السياسية والاقتصادية والعسكرية وركز على أن الاستعداد العسكرى سيحتاج إلى وقت ليس بالقصير وقد يمتد إلى عدة سنوات ، وأنه يفضل إذا وافق الرؤساء والملوك المجتمعين أن يكون المخطط العربى خلال هذه المرحلة هو العمل السياسى من أجل استعادة الضفة الغربية والقدس نظرا لأطماع إسرائيل فيها وقال : " إن كل يوم يمر على احتلال الضفة الغربية هو خطوة على طريق ربطها بإسرائيل . وقال أن الجمهورية العربية المتحدة لن تهدأ حتى تحرر سيناء ضمن خطة تحرير الأرض العربية كلها . وان تحرير الجولان قبل سيناء والضفة قبل سيناء وغزة قبل سيناء . فالضفة الغربية تختلف عن سيناء اختلافا كليا لأن اليهود مهما بقوا فى سيناء سنة ، سنتين ، أو ثلاثة يعرفون تماما أنهم لن يستطيعوا البقاء فيها للأبد لأنهم يريدون بالدرجة الأولى إخراج مصر من صراع المصير العربى ، وبالتالى فهم لا يريدون اشتباكا دائما مع مصر ، وإنما هدفهم باستمرار هو الصلح المنفرد معها ، ومن ناحية أخرى فإن سيناء ليس فيها إلا عدد قليل من الناس ، وهؤلاء الناس معظمهم بدو ولديهم فرصة الحركة دون البقاء فى موقف ثابت رهائن للاحتلال وأضاف قائلا : معنى كلامى أنى مستعد وأستطيع أن أصبر على سيناء لحد ما أستعد ، أما الضفة الغربية فوضعها مختلف ، سيناء بالنسبة لنا مصيبة أما الضفة الغربية فهى مأساة ، ولذلك أنا قلت للملك حسين أن يذهب إلى جونسون ويقابله ، ويستجديه إن لزم الأمر ، إذا كان ذلك يؤدى إلى خروج إسرائيل من الضفة الغربية مهما كان الثمن الذى ندفعه فى ذلك ، وأنا أرى أن الملك حسين يواجه مشكلة صعبة فقد فيها نصف المملكة ويتحتم علينا جميعا أن نقف معه ، وجونسون هو الوحيد الذى يستطيع أن يأمر إسرائيل برفع أيديها عن الضفة الغربية .
ومن خلال مؤتمر القمة بالخرطوم تعززت العلاقات العربية العربية ، كما كما وثّق الرئيس عبد الناصر علاقاته الثنائية مع القادة العرب كلهم وبصفة خاصة مع الملك فيصل ، وعادت العلاقات بينهما إلى ما كانت عليه قبل حرب اليمن التى كان البعض يتوهم ويراهن بأنها ستلقى بظلالها على العلاقات السعودية المصرية وبالتالى على نتائج مؤتمر القمة ، ولكن زال هذا الوهم بإعلان الملك فيصل المساهمة بمبلغ خمسين مليون جنيها إسترلينيا ومساهمة الكويت بمبلغ خمسة و خمسين مليون جنيها إسترلينيا ومساهمة ليبيا بمبلغ ثلاثين مليون جنيها إسترلينيا ، وتبنى الملك فيصل اقتراحا بأن تكون كلمة الرئيس جمال عبد الناصر للمؤتمر هى ورقة عمل وأن تكون أساسا لقرارات المؤتمر .
فى نفس الوقت فقد تصدى الرئيس جمال عبد الناصر فى هذا المؤتمر أيضا لعدة اقتراحات عصبية ولأغراض المزايدة منها أن تقوم كل الدول العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن وكذلك سحب الأرصدة العربية من منطقتى الدولار والإسترلينى وكذلك الاستمرار فى وقف ضخ البترول العربى . . فقام الرئيس جمال عبد الناصر بتحليل علمى وموضوعى أسباب تصديه لهذه الاقتراحات رافضا الانسياق وراء العواطف والمشاعر الغاضبة مؤكدا أن العمل السياسى يحتم علينا استمرار فتح قنوات الحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية .
وبانتهاء مؤتمر القمة العربى فى الخرطوم فتحت صفحة جديدة من العمل السياسى العربى الموحد للإعداد العسكرى من أجل معركة تحرير الأرض العربية المحتلة فى طار محاولة للبحث عن السلام العادل المزعوم.
أى سلام عادل ونحن العرب تحت المطرقة الأمريكية والسندان الصهيونى ، فمنذ سنة 1949 والعرب لم يكونوا البادئين بأى عدوان . وفيما يتعلق بثورة 23يوليو1952 بالذات فإننا نتحدى أن يثبت كائن من كان أن جمال عبد الناصر كان البادىء بالعدوان فى أى معركة خاضها ضد العدو الصهيونى ، بل كان باستمرار فى الموقف الدفاعى . فعندما ترفض إسرائيل قرارا دوليا تسارع واشنطن بتبنى هذا الرفض إما بإفشال المساعى المبذولة سياسيا ، أو باستخدام حق الفيتو عند التصويت فى المحافل الدولية . وعلى سبيل المثال فإنه قبل صدور القرار 242 فى نوفمبر 1967 ، فقد بذلت محاولات عديدة لإنهاء العدوان الإسرائيلى ، وانتهت كل هذه المحاولات بسبب رفض إسرائيل الانسحاب الكامل من الأراضى العربية المحتلة كلها ، دعمها الموقف الأمريكى . كما سبق أن تم خلال شهر يونيو1967 إتصالات ومشاورات بين واشنطن وموسكو و إتفقت العاصمتين على معادلة من أجل تسوية الموقف فى المنطقة ، وكان طرفى المعادلة انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى العربية فى مقابل إعلان الدول العربية إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل .
 
وتم خلال شهر يونيو1967 أيضا إتصالات بين عدد كبير من دول عدم الانحياز لتحقيق الانسحاب الإسرائيلى من الأراضى العربية المحتلة كلها وأنابت هذه الدول الرئيس جوزيف بروز تيتو للقيام بالدور الرئيسى فى هذا الشأن .
ونفس الشىء حدث فى شهر يوليو1967 حيث فشلت الجمعية العامة للأمم المتحدة فى إصدار قرار ينص على انسحاب إسرائيل إلى حدود الرابع من يونيو1967 فى مقابل إنهاء حالة الحرب إلا أن الفشل كان مصير جميع هذه المبادرات لتراجع واشنطن عن تعهداتها التى تمت من خلال هذه الاتصالات لمجرد رفض إسرائيل فكرة الانسحاب من الأراضى المحتلة .
ومن خلال إتصالات رسمية وغير رسمية تمت فى هذه الفترة بين واشنطن والقاهرة يمكننى أن أقول بصراحة أن واشنطن كانت تتفادى أن تبحث معنا أو مع أى طرف عربى آخر القضية الفلسطينية ، وأن تقتصر المشاورات على نتائج حرب 5يونيو1967 فقط ، وكان واضحا تماما من هذه الاتصالات أن واشنطن وبالتالى تل أبيب تريد أن تتفادى بحث قرار التقسيم 179لسنة 1947 وبالتالى المطالبة بانسحاب إسرائيل إلى الحدود التى ينص عليها هذا القرار ، وهى وراء حدود ما قبل 5يونيو1967 ، وباقى الجملة معروف طبعا وهو أن ينحصر مطلب العرب فى الانسحاب إلى خط 5يونيو1967 فقط .
كانت واشنطن تسعى أيضا ومنذ ذلك الحين إلى العمل على إصدار قرار يتضمن حلا شاملا . وقد أكد الملك حسين بأن قبول العرب بالمشروع الذى قدمته واشنطن فى 7نوفمبر 1967 يؤدى إلى الانسحاب الكامل لإسرائيل ما دمنا نوافق على أن الانسحاب  يتم مقابل إنهاء حالة الحرب تحقيقا للسلام فى المنطقة  وأن المشروع لا يحول دون عودة القوات الأردنية للضفة الغربية أو القوات المصرية إلى غزة . وأضاف الملك حسين أن أمريكا تعلم بالصعوبات التى تواجهنا لتوقيع اتفاق مع إسرائيل ، ولذا فإنهم يريدون أن يتم الاتفاق عن طريق الأمم المتحدة ، وقد رد عليه السيد محمود رياض بأن توقيع وثيقة لا يقلقنا فقد سبق أن وقعت مصر مع إسرائيل اتفاقية الهدنة ، ولكن الشىء الوحيد الذى يقلقنا هو عدم احترام إسرائيل لتوقيعها كما أوضح للملك حسين بأن المشروع لا يتضمن نصا صريحا بانسحاب إسرائيل من كافة الأراضى العربية المحتلة ويحتاج إلى تعديلات أساسية قبل الموافقة عليه من جانبنا .
وعلى جانب آخر فقد كان الجانب السوفيتى يطرح على القاهرة من خلال الاتصالات إصرار الولايات المتحدة الأمريكية على مبدأ حرية الملاحة فى قناة السويس وخليج العقبة ، إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر كان يصر على أن يرتبط ذلك بحل مشكلة اللاجئين .
هذا كله بخلاف المناقشات والمشاورات التى دارت فى شهر نوفمبر 1967 فى مجلس الأمن والتى ترتب عليها صدور القرار 242 الذى يمكن القول معه بأنه قرارا لو نفذ لأمكن تحقيق السلام فى المنطقة ذلك لأن استرداد الضفة الغربية وعودة قطاع غزة كان سيتيح للدول العربية اتخاذ خطوة عربية بحتة بإعلان دولة فلسطين على الأراضى التى يتم استردادها ،  وهذا  لا  يسقط أيضا حق الشعب الفلسطينى فى المطالبة بتنفيذ قرار التقسيم .
أما مطالبة الولايات المتحدة الأمريكية لمنظمة التحرير الفلسطينية لإعلان موافقتها على القرار ففيه تعسف لسبب بسيط هو أن هذه المنظمة لم تكن طرفا فى القرار رقم 242 ، كما أن واشنطن هى التى أصرت على استبعاد بحث القضية الفلسطينية أثناء المشاورات التى سبقت صدور القرار 242 .
وحول هذا الحق الفلسطينى فنه يجب ألا نخلط بين الشرعية الدولية وبين الأمر الواقع الذى تفرضه إسرائيل ، فإذا نظرنا إلى القضية الفلسطينية من الناحية القانونية فإن الشعب الفلسطينى من حقه الإستقلال الكامل بأرضه كبقية شعوب العالم التى حصلت على استقلالها بناء على قرارات عصبة الأمم والأمم المتحدة. فعندما انتدبت عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة بريطانيا للإشراف على فلسطين كان الهدف من الانتداب إعداد الشعب الفلسطينى للاستقلال الكامل وهو ما اعترفت به بريطانيا سنة 1939 بعد جولة المفاوضات التى تمت فى فبراير1939 مع دخول الدول العربية المستقلة فى ذلك الوقت وهى مصر والعراق والسعودية وشرق الأردن واليمن ومثل الوفد الفلسطينى جمال الحسينى وموسى العلمى وعونى عبد الهادى ، وكان الوفد الفلسطينى هو الطرف الأساسى فى المفاوضات مع الحكومة البريطانية الذى أكد رئيس وزرائها فى ذلك الوقت تشمبرلين أمام المؤتمر أن حكومته ترغب فى إنهاء الانتداب وتأسيس دولة مستقلة فى فلسطين . وفى 17مايو1939 صدر بيان رسمى بريطانى كان أساسه رفض تقسيم فلسطين وبالتالى رفض قيام دولة يهودية فوق جزء من الأراضى الفلسطينية .
كما أكدت الحكومة البريطانية بأن تفسيرها للوطن اليهودى هو قيام تجمع يهودى يحتفظ بلغته وثقافته داخل فلسطين ، كما أكدت بريطانيا بأنها ستبذل كل ما فى وسعها لإيجاد الظروف التى تمكن الدولة الفلسطينية من  الخروج إلى حيز الوجود خلال عشرة سنوات ، إلا أن بريطانيا قد تخلت عن تعهداتها بعد الحرب العالمية الثانية وقبلت بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود واستطاعت الولايات المتحدة الأمريكية برئاسة هارى ترومان أن تصدر قرار بتقسيم فلسطين سنة 1947 وقضى هذا القرار بإقامة دولة فلسطينية وأخرى يهودية تنتزع أراضيها من الشعب الفلسطينى .
وهكذا صدر القرار استجابة لمطلب اليهود بحق تقرير مصيرهم ليكون لهم دولة مستقلة فوق جزء من الأراضى الفلسطينية ، أى أن حق تقرير المصير كان مطلبا يهوديا ولم يكن فى أى وقت من الأوقات مطلبا فلسطينيا .
إذن فنحن أمام قرارين :
القرار الأول من الدولة المنتدبة وتقر فيه بقيام دولة فلسطينية مستقلة فوق كل أراضيها .
والقرار الثانى يِجبّ  القرار الأول صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ويقر فيه أيضا بقيام دولة فلسطينية مستقلة فوق جزء من أراضيها .
وما زال هذا القرار قائما وواجب تنفيذه وتطبيقه من الناحية القانونية ، وإذا كنا لم ننجح فى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ، فإنه من واجبنا التمسك بالشرعية الدولية والمطالبة بتنفيذ قرار التقسيم .
وعند الحديث عن الشرعية الدولية فذلك يفرض تسجيل حقنا المشروع . ولكن للأسف فإن هذه الشرعية الدولية  تعطينا أرضا أمام الأمر الواقع الذى فرضته إسرائيل نتيجة تفوقها العسكرى الأمريكى ، ولن نستطيع تنفيذ القرار 242 أو قرارات مؤتمر فاس أو أى خطة أو قرار يحقق السلام العادل إلا إذا حققنا التوازن العسكرى العربى مع إسرائيل لإرغامها على الانسحاب

ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة

كانت الولايات المتحدة الأمريكية قبل عدوان 5يونيو1967 تحمى الكيان الصهيونى ، ولكنها بعد يونيو 1967 تساعد العدوان وتدعم التوسع الإسرائيلى وتحميه أيضا .
فالذى حدث بعد 5يونيو1967 ـ وباختصار شديد ـ أن السياسة الأمريكية أدت إلى المزيد من النفوذ السوفيتى فى المنطقة لأننا إزاء المساعدات الغير محدودة عسكريا لإسرائيل ، أصبحت الدول العربية فى حاجة إلى التسليح أيضا لإعادة بناء قواتها المسلحة حتى تتمكن من استرداد أراضيها المغتصبة ، ومع تزايد المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية لإسرائيل لتحول دون وصول القوات العربية المسلحة إلى قدراتها العسكرية التى تمكنها من تحرير الأرض مما كان يدفع العرب باستمرار لطلب المزيد من المساعدات السوفيتية ، بل تطورت الأوضاع عندما هددت الطائرات الأمريكية التى قدمتها واشنطن لتل أبيب الأهداف الاقتصادية والإستراتيجية فى عمق مصر ، إلى طلب اشتراك وحدات عسكرية من الدفاع الجوى السوفيتى المجهزة بصواريخ سام3 بالإضافة إلى اشتراك طيارين سوفيت لحماية العمق المصرى ، ولم يتردد الاتحاد السوفيتى فى تلبية طلب القاهرة ولسوف أتولى هذا الأمر الهام من العلاقات السوفيتية المصرية بالتفصيل لاحقا .
لكن الشىء المحير حقيقة ، هو أن موقف الولايات المتحدة الأمريكية كان متناقضا ، فهى من ناحية تنفق مئات الألوف من الملايين من الدولارات لوقف ما يسمى بالتغلغل السوفيتى فى العالم ، أما فى منطقة الشرق الوسط فقد كانت السياسة الأمريكية تدفع بدول هذه المنطقة الحساسة والخطيرة إلى طلب المزيد من الوجود السوفيتى ، ولا يفسر هذه السياسة إلا شىء واحد هو أن الولايات المتحدة الأمريكية لم يكن يهمها من قريب أو بعيد أمانى واعتبارات شعوب الأمة العربية بل كانت تعمل على ما يرغم هذه الأمة على السير فى ركاب سياستها مهما كلفها ذلك دون أى اعتبار لمال تنفقه فى مساندة إسرائيل طالما أن ذلك يحقق مخططاتها :
•    تواطؤ واشنطن مع تل أبيب فى عدوانها على الدول العربية .
•    عرقلة إصدار أى قرار من المنظمات الدولية ـ المجتمع الدولى ـ يدين العدوان  الإسرائيلى وحتى بعد صدور القرار بعد مماطلات مقصودة سبق أن شرحتها ـ فقد عمدت إلى عرقلة تنفيذه
•    دعم العدوان الإسرائيلى على أرض فلسطين العربية وعلى الأمة العربية سواء فى لبنان أو بغداد أو تونس فيما بعد باعتبار أن العرب مهزومين .
•    دعم إسرائيل فى قرارها باتخاذ الإجراءات التمهيدية لضم الضفة الغربية والجولان وقطاع غزة ، كل هذه العناصر لها معنى واحد فقط هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتبر شريكا أصيلا لإسرائيل فى كل ما تقوم به .

لكننا كنا مصرّين على المقاومة وعدم الاستسلام نتيجة معركة خسرناها ، وصممنا على مواصلة القتال حتى نحرر أرضنا العربية كلها .
وبعد صدور القرار 242 قال الرئيس جمال عبد الناصر :
" إننا نعرف منذ البداية أننا نحن الذين سنحرر أرضنا بقوة السلاح ، وهى اللغة الوحيدة التى تفهمها إسرائيل ، وأن الأمريكان والإسرائيليين يعرفون جيدا أننا لم نهزم فى الحرب طالما لم نتفاوض مع إسرائيل ولم نوقع صلحا معها ولم نقبل تصفية القضية الفلسطينية . "
وبعد صدور القرار 242 حاولت الأمم المتحدة تنفيذه ، لكن كانت إسرائيل تضع العراقيل باعتبار أن القرار هو مجرد جدول أعمال يجب التفاوض بشأنه ، وأيدتها واشنطن فى وجهة نظرها هذه متجاهلة أنها أيدت من قبل القرار للتنفيذ وليس للتفاوض ، وبعد أن اطمأنت الولايات المتحدة إلى أن الدول العربية ستنفذ القرار قامت بتأييد مناورات إسرائيل للتحلل من الالتزام الرئيسى بالانسحاب من الأراضى العربية المحتلة ، وكان رفض القاهرة للمفاوضات المباشرة والوقوع فى هذه الخيّة يرجع إلى أن التفاوض بين الطرفين سيتم فى ظل احتلال عسكرى إسرائيلى للأراضى العربية تم بعد خسارة معركة عسكرية ، وأن هذه المفاوضات لن تنجح لأننا نرفض التفاوض من منطلق نادت به إسرائيل هو أن هزيمة العرب هزيمة نهائية .
المهم أن إسرائيل ظلت ترفض ـ وبتأييد من الولايات المتحدة الأمريكية ـ تنفيذ القرار 242 ، وبدأت واشنطن من جديد تلعب من خلف الستار بالاتصال بالملك حسين فى عمان وإبلاغه بأنهم يرون عدم التمسك بعبارة " أن الأطراف مستعدة لتنفيذ القرار " من صيغة اقتراح قدم للأمم المتحدة بخصوص تنفيذ القرار 242 وطلب واشنطن رفع هذه العبارة من التوصية يعنى شيئا واحدا هو رفض إسرائيل لتنفيذ القرار242 ، وأن واشنطن تؤيدها وتدعمها فى هذا الرفض .

وهنا أجد نفسى مضطر لإلقاء مزيد من الضوء على تطور العلاقات بين القاهرة وموسكو فى هذه المرحلة الحساسة ، ولا أجد أقوى ولا أدل على أهميتها سوى الاستشهاد بما ورد فى  محضر لقاء تم بين الرئيس جمال عبد الناصر والقادة السوفيت فى موسكو خلال شهر يوليو1968 ـ النصوص كما سجلتها فى النوتة الخاصة بى بعد مضاهاتها على ما وافانى به السفير الدكتور مراد غالب عقب هذا اللقاء ـ والمحضر الأصلى الذى حرره الدكتور مراد غالب محفوظ فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى  :
الرئيس جمال عبد الناصر :
إنكم معنا فى الهزيمة سواء كنتم تريدون أو لا تريدون ، وسواء لكم دخل فيها أم لم يكن لكم دخل . لقد كنا نحن الطرف الأقرب إليكم فى المعركة ، وكنا نحمل سلاحكم سواء أحسنّا استخدامه أو أسأنا ، ومهما قلتم أو قال غيركم فإن هزيمتنا فى جزء منها هزيمة لكم ، ومهما كان أو يكون فإن الهزيمة هزيمة لسلاحكم .
إن العلاقات بيننا وبينكم لم تكن طريقا من جانب واحد ، ونحن لم نكن عالة عليكم ، وإذا كان ذلك ظن أحد عندكم فنحن على استعداد لقفل الموضوع كله ونظل أصدقاء ونعود إلى بلادنا عارفين أن المستقبل للولايات المتحدة الأمريكية وللذين يتعاونون معها .
هذا أسهل الحلول ، وأما أصعبها فهو أن نواصل ما نفعله الآن لمقاومة الاستعمار والسيطرة الأجنبية إننا لم نختار الطريق السهل أو أسهل الحلول ، وإنما أخذنا الصعب منها وكان ذلك ما أملته علينا مبادئنا ولكنى أريد أن أقول لكم أن الاتحاد السوفيتى حقق لنفسه فوائد ضخمة من مواقفنا . إن خلافنا الأول مع أمريكا كان بسبب الأحلاف العسكرية ، ونحن رفضناها حرصا على استقلال بلادنا . ولو كنا قبلناها لأدى ذلك إلى تطويقكم ومحاصرتكم من حلف جنوب شرق آسيا وحلف بغداد وحلف الأطلنطى . إن سياستنا المستقلة فتحت لكم أبواب البحر الأبيض والبحر الأحمر إلى المحيط الهندى ، وكنتم من قبل ذلك محبوسين فى البحر الأسود .
أنتم أيضا بسياستنا المستقلة استطعتم الوصول إلى إفريقيا .
إن فوائد ذلك كله لم تكن إستراتيجية فقط ، ولكن كانت سياسية ومعنوية وتجارية كذلك .
وأنا لا أقصد أى إساءة إذا قلت بأمانة أن الاتحاد السوفيتى تمكن من بلوغ مرحلة القوة الأعظم الثانية فى العالم بسياساته فى الشرق الأوسط وليس بسياساته فى أى منطقة أخرى غيره .
وهذا كله معرّض للخطر الآن إذا سمحنا للولايات المتحدة الأمريكية أو لإسرائيل بسياسة فرض الأمر الواقع بعد عدوان 1967 .
واحب أن ألفت نظركم لنقطتين أساسيتين :
الأولى ، أن هناك مصالح أمريكية طائلة فى الشرق الأوسط ، ولكن هذه المصالح مكشوفة أمام تقدم وصعود الفكرة الاستقلالية والوحدوية للقومية العربية  .
والثانية ، أن علينا ونحن نبحث عن المصالح الأمريكية فى المنطقة أن نتأكد تماما أين تقع هذه المصالح على الخريطة . فالعالم العربى ، مع الأسف الشديد ، منقسم فى هذه المرحلة من تطوره الاجتماعى والسياسى ، ثم إن سعيه إلى نوع من الوحدة هو واحد من أهم أسباب العداء الأمريكى للحركة القومية العربية .

وقد وافق القادة السوفيت على هذه الرؤية والتحليل الذى قدمه الرئيس جمال عبد الناصر وكان قرارهم باستمرار الدعم السياسى والعسكرى والاقتصادى بلا تحفظ من جانب الاتحاد السوفيتى لمصر .

                            * * * * *

لقد كانت رؤية الرئيس جمال عبد الناصر وتقديره للموقف بشكل عام فى بداية 1969 ـ حسبما  أملاه علىّ ، كما يلى :
1-    استحالة التفاوض المباشر مع إسرائيل .
2-    استحالة التنازل عن أرض عربية .
3-    من الممكن ومن الجائز التفكير فى ترتيبات للسلام وفقا للقرار 242 وعلى أساس انسحاب إسرائيل من كافة الأراضى العربية التى احتلتها فى يونيو1967 . وأنه لابد أن يحدد أطراف النزاع التزامهم طبقا للقرار242 ويسجل فى وثيقة ثم يقر مجلس الأمن الدولى هذه الوثائق ـ شكل من أشكال السلام التعاقدى ـ وإذا أصرت الولايات المتحدة الأمريكية على ورقة واحدة يوقعها الطرفان ، فإنه يمكن النظر فى صياغة وثيقة تعتمد على القرار242 توضع فى مكتب السكرتير العام للمم المتحدة وإلى هناك يذهب مندوبو الأطراف فى مجلس الأمن الدولى أو وزراء الخارجية كل على حدة فى موعد مخصص لكى يوقع الوثيقة .
4-    لا يمكن تجنب القبول بعودة قوات دولية للمنطقة على أن يكون تمركزها على جانبى الحدود .
5-    لابد من إتاحة الفرصة لعمل عسكرى نشيط يساعد على تحقيق عدة أهداف منها :
     أ – تعبئة الرأى العام العربى والعالمى لسخونة الأزمة .
     ب- زيادة الضغط على إسرائيل .
     ج- التمهيد للقيام بعمليات عسكرية كبرى . وفى هذا الشان وضع الرئيس جمال عبد الناصر التوجيه الإستراتيجى التالى للمعركة وهو ما أطلق عليه " جرانيت (1) الذى نص على ما يلى :
أولا : عبور قناة السويس بالقوة والتمسك برؤوس كبارى والوصول إلى منطقة المضايق الإستراتيجية شرق قناة السويس وتأمينها كمرحلة أولى .
ثانيا : إلحاق خسائر بشرية كبيرة فى القوات المعادية .
ثالثا : عمليات عسكرية طويلة لا تنتهى فى أيام على أساس استنزاف التعبئة للعدو ، وإثارة الرأى العام المصرى والعربى والعالمى  .

فى 9أكتوبر سنة 1968 فوجىء المجتمع الدولى أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة بقرار أصدره الرئيس الأمريكى ليندون جونسون يقضى بتزويد إسرائيل بخمسين طائرة جديدة من أحدث طراز " فانتوم" ، وهذا يعنى فى العرف الدبلوماسى أن واشنطن تدعم إسرائيل بلا تحفظ ، كما يعنى أنها تعطيها الضوء الأخضر للاستمرار فى سياستها والتعنت فى عدم تنفيذ القرار 242 ، وقد استلمت إسرائيل هذه الصفقة بالتدريج ثلاثة طائرات فى كل دفعة اعتبارا من شهر ديسمبر1968 .
وفى الثانى من نوفمبر1968 تقدم  وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية فى ذلك الوقت ـ دين راسك ـ بمشروع حل منفرد مع مصر يشمل سبعة نقاط وأساسه انسحاب إسرائيل من الأراضى المصرية بالكامل مقابل إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل ، لكن القاهرة عبد الناصر ردت بأن القرار242 يقضى بانسحاب إسرائيل من كافة الأراضى العربية المحتلة وليس من الأراضى المصرية فقط  كما أكدت القاهرة بأنها تعترض على إنهاء حالة الحرب من جانبها فى حين مازالت القوات العسكرية المعادية تحتل الأراضى العربية فى سوريا والأردن .
وأكدت القاهرة أيضا بأنها على استعداد لإنهاء حالة الحرب بمجرد انسحاب إسرائيل من جميع الأراضى العربية المحتلة .
وقد رد دين راسك بقوله أن واشنطن تستطيع أن تتقدم بمشروع مماثل لعمان ، كما أبدى استعدادهم لتقديم مشروع مماثل لدمشق إذا أعلنت الأخيرة موافقتها على القرار 242 ، إلا أنه لم يتقدم بأى مشروع مماثل للأردن لسبب بسيط هو تعارض تقديم مثل هذا الاقتراح مع أهداف تل أبيب التى تعتبر الضفة الغربية أراض إسرائيلية .
وفى هذه المرحلة قامت فرنسا بدور إيجابى لا يمكن إغفاله لأنه يجسد مصداقية سياسة تستوجب منا أن نسجلها . فقد بعثت باريس برسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر ى السادس عشر من يناير1969 كانت عبارة عن صورة من مذكرة قدمتها الحكومة الفرنسية للاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تقترح فيها عقد اجتماع فى نهاية شهر يناير 1969 يضم ممثلين عن الدول الأربع فى نيويورك للبحث عن الوسائل التى يمكن بواسطتها أن تقوم حكوماتهم بالمساهمة فى تحقيق السلام العادل والدائم فى المنطقة ، وبصفة خاصة وضع شروط تطبيق قرار مجلس الأمن رقم242 وضمان تنفيذه .
وضع هذا الاقتراح الفرنسى واشنطن أمام اختيار صعب ، حيث أنها لن تستطيع أن تنفذ ما سوف يسفر عنه هذا اللقاء لأنها تعلم مقدما أنها سوف تجد نفسها الدولة الوحيدة بين الدول الأربع التى تتبنى الموقف الإسرائيلى ـ ولذا فلم يكن أمامها من سبيل سوى المناورة للعمل على ألا تسفر هذه اللقاءات الرباعية عن أية نتائج إيجابية محددة .
وجاء رينشارد نيكسون رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية ، وقد حاول الاتحاد السوفيتى فى بداية ولاية نيكسون أن يتبنى مشروعا مؤداه أنه يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تضغط على إسرائيل من أجل الانسحاب من كافة الأراضى العربية المحتلة تنفيذا للاتفاق بين الدولتين الأعظم وعلى أساس الانسحاب فى مقابل السلام . وقد وافقت القاهرة على مقترحات موسكو التى لم تلبث أن تخطرنا بعد فترة بسيطة بأن واشنطن تراجعت فى كلامها وأصبحت أكثر التحاما مع أهداف إسرائيل ، وأنها غير مستعدة للضغط على إسرائيل لتنفيذ القرار ، ومما زاد الطين بلة أن تمكن هنرى كيسينجر من أن يسيطر على نيكسون وبدا النفوذ الصهيونى الذى كان منحسرا نسبيا عند بداية ولاية نيكسون إلى التغلغل
وفى خريف 1966 بدأت إسرائيل تجس النبض العربى بالإغارة على قرية السموع تكررت هذه العمليات ، وعقد فى القاهرة اجتماع لمجلس الدفاع العربى فى الأردنية بدعوى أن هذا العمل العسكرى انتقاما لعمليات تتحمل سوريا مسئولياتها . ثم مارس1967 لبحث ماهية هذه الاعتداءات ،   وكان أهم ما أثير فى الاجتماعات هو إلحاح الجانب السورى على ضرورة دعم سوريا بأسراب من الطائرات والمدفعية المضادة للطائرات لتقديره أن سوريا هى المعنية بالاعتداءات الأخيرة ، وقد كانت التقديرات السورية صحيحة ، ففى إبريل سنة 1967 هاجم الطيران الإسرائيلى الجبهة السورية وأسقطت ست طائرات سورية فى معارك جوية .
وفى العاشر من مايو1967 كلف أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلى سفراء بلاده فى الخارج أن يعربوا عن أن إسرائيل إزاء المواقف الراهنة قد تضطر لاستخدام القوة ضد سوريا .
وفى الثانى عشر من مايو1967 أعلن رئيس الأركان الإسرائيلى إسحق رابين أن إسرائيل سوف تشن هجوما خاطفا على سوريا ، وأنه ـ أى رابين ـ سوف يحتل دمشق ليسقط النظام الحاكم ثم يعود .
ومتوازيا مع هذا صرح رئيس وزراء إسرائيل ليفى أشكول أن إسرائيل مستعدة لاستخدام القوة ضد سوريا .
ومع تطور الأحداث هذه قرر الرئيس جمال عبد الناصر القيام بإجرائين متوازيين :
الأول : إيفاد الفريق أول محمد فوزى رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة المصرية إلى سوريا للتعرف على الموقف مع تواتر تقارير تفيد بوجود حشود عسكرية إسرائيلية على الجبهة السورية ، وتأييد السوفيت لهذه التقارير وكما أبلغ بذلك السيد أنور السادات الرئيس عبد الناصر فور عودته من زيارته لموسكو .
الثانى : إعلان حالة الطوارىء فى القوات المسلحة المصرية بهدف الضغط على إسرائيل ، مما يترتب عليه تهدئة الموقف .
فى الحقيقة لقد كان وجود قوات الأمم المتحدة فى سيناء بعد العدوان الثلاثى سنة 1956 مصدر تفكير دائم لدى الرئيس جمال عبد الناصر ـ باعتبار أن هذه القوات تشكل وضعا سياسيا وعسكريا يمس بشكل ما سيادة مصر بصورة أو بأخرى ، ولذلك فلقد كانت تتم مناقشات ودراسات حول هذا الموضوع كل فترة زمنية ، وكانت هذه الدراسات تحفظ مؤقتا لأسباب يطول شرحها فى هذا المجال .
فى الثالث عشر من مايو1967 عقد الرئيس جمال عبد الناصر اجتماعا مع المشير عبد الحكيم عامر وانضم إليهما السيد أنور السادات الذى كان قد وصل لتوه من موسكو فى وقت متأخر من هذا اليوم ، كما حضر هذا الاجتماع أيضا السيد شمس بدران وزير الحربية فى ذلك الوقت ، وذلك لبحث المسائل المتعلقة بالموقف العسكرى والسياسى وكيفية مساعدة سوريا فيما تقابله من تهديدات إسرائيلية .
كان هناك خلافا بين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عامر حول الموقف من تواجد قوات الطوارىء الدولية فى إطار هدف محدد هو : كيف تساعد مصر سوريا إزاء التهديدات الإسرائيلية . وكان الخلاف يدور حول رؤية عبد الناصر من أن يتم إخلاء قوات الأمم المتحدة من بعض مواقعها على الحدود الدولية لمصر أى إعادة توزيع تمركزها ، على أساس أن سحبها بالكامل سيؤدى إلى مشكلة دولية وإلى وضع عراقيل أمام عمل هذه القوات إذا ما فرضته الضرورة ، بينما كان المشير عبد الحكيم عامر يرى أن يتم سحب هذه القوات بالكامل من سيناء . واستمرت هذه المناقشات ـ وهى مسجلة  فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ـ حتى وقت متأخر من منتصف ليلة 13/14 مايو1967 ثم اتفقا على أن يلتقى المشير عامر بهيئة أركان حرب القوات المسلحة لبحث الأمر والوصول إلى بلورة للموقف على ضوء ما انتهت إليه المناقشات فى منشية البكرى من أن يكون الطلب المصرى هو إخلاء قوات الأمم المتحدة لمواقع خط الحدود الدولية  أم إعادة التمركز .
ورغم استدعاء هيئة الأركان المصرية فى وقت متأخر من هذه الليلة ومناقشة ما يمكن اتخاذه من إجراءات عسكرية فقد اتصل المشير عبد الحكيم عامر بالرئيس عبد الناصر يوم 14مايو1967 وأبلغه بأن الإجماع قرر ما يلى :
رفع درجات الاستعداد للقوات المسلحة .
تحريك تشكيلات تتجه إلى سيناء على الفور ، وإعداد توجيهات نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة .
إقرار إيفاد الفريق أول محمد فوزى إلى دمشق فورا لإخطارهم بما تقرر وللتنسيق مع دمشق . واصدر الفريق أول محمد فوزى فى نفس الوقت تعليمات عمليات حربية على ضوء توجيهات نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة بنفس المعنى الوارد فى البنود السابقة . فى يوم الخامس عشر من مايو1967 تشاور الرئيس جمال عبد الناصر مع كل من السادة زكريا محيى الدين وصدقى سليمان وعلى صبرى ومحمود فوزى ومحمود رياض وبعض أعضاء اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى حول قضية قوات الطوارىء الدولية .
وكانت وجهة نظر الرئيس عبد الناصر ـ كما أملاها علىّ ـ تتلخص فيما يلى :
أولا : الهدف هو مساعدة سوريا وليس إنهاء عمل قوات الطوارىء الدولية ، لأنه لم يكن يريد أن يخلق أزمة دولية تشغل العالم عن قضية سوريا .
ثانيا : فى حالة العدوان على مصر سيكون قطاع غزة هدفا أساسيا يضرب ويعزل بسهولة عند قيام العمليات العسكرية ، ولذلك فإنه من المصلحة أن تتمركز قوات الطوارىء الدولية فى القطاع لحمايته .
ثالثا وهى الأهم ، أن إنهاء مهمة قوات الطوارىء الدولية بالكامل سوف يؤدى إلى إثارة مشاكل فرعية ـ كقضية الملاحة فى المضايق مثلا ـ فى الوقت الذى كان الهدف الأساسى هو تركيز الاهتمام على احتمالات عدوان إسرائيل على سوريا وتدخل مصر لمساعدتها .
وباختصار فقد كان ما يريده الرئيس جمال عبد الناصر هو جبهة مفتوحة أمام إسرائيل لنجدة سوريا دون أن يصل الأمر إلى غزة أو شرم الشيخ ، بل أكثر من هذا فإنه كان يتمنى لو أن تتولى قوات الطوارىء الدولية حماية غزة من احتلال إسرائيلى .
واتفق على أن يوجه خطاب للجنرال ريكى قائد قوات الأمم المتحدة بحيث تتم صياغته بشكل يعطى طلب سحب القوات الدولية من الحدود الدولية لمصر دون التعرض لطلب السحب الكامل لهذه القوات .
وقام الرئيس جمال عبد الناصر بإبلاغ المشير عبد الحكيم عامر بما تم الاتفاق عليه .
صباح يوم 16 مايو1967 جاءنى سكرتير المشير عبد الحكيم عامر وسلمنى خطاب مغلق موجه للرئيس جمال عبد الناصر فقمت بتسليمه للرئيس فورا .
كان هذا المظروف يحتوى على مذكرة بخط يد المشير عامر نصها :

" سيادة الرئيس
مرفق الخطاب الذى يرسله فوزى إلى ريكى ويتم تسليمه لريكى اليوم فى غزة . توقيع " عبد الحكيم " .
وكان نص الخطاب كالآتى :


الجمهورية العربية المتحدة
القيادة العامة للقوات المسلحة
16/5/1967
الجنرال ج. أ . ريكى
               قائد قوات الطوارىء الدولية . غزة .
أحيطكم علما أننى أصدرت تعليمات إلى جميع القوات المسلحة للجمهورية العربية المتحدة لتكون مستعدة للعمل ضد إسرائيل فور قيامها بعمل عدوانى ضد أية دولة عربية .
وتنفيذا لهذه التعليمات تجمعت قواتنا فى سيناء على حدودنا الشرقية .
ولضمان أمن القوات الدولية المتمركزة فى نقط المراقبة على حدودنا أطلب إصدار أوامركم بسحب هذه القوات فورا .
وقد أصدرت تعليماتى لقائد المنطقة العسكرية الشرقية فيما يتعلق بهذا الشأن .
أفاد بتنفيذ هذا الطلب .
                                                        توقيع
                                                فريق أول محمد فوزى
                                       رئيس هيئة أركان حرب القوات المسلحة
                                            للجمهورية العربية المتحدة  


وقد اتصل الرئيس جمال عبد الناصر بالمشير عامر تليفونيا بعد الإطلاع على مشروع هذه الرسالة طالبا منه أن يبعث له بنص الترجمة الإنجليزية لهذا المشروع والتى وصلت فى نفس اليوم وكان للرئيس عبد الناصر ملحوظة حول عبارة " Withdrawal of all troops  "  وطلب تعديلها لتكون " Redeployment of troops  " وعندما طلب من المشير عامر تعديل النص على ضوء هذه الملحوظة كان رد ه أن الرسالة قد تسلمها فعلا العميد عز الدين مختار من المخابرات الحربية وأضاف أنه سيحاول الاتصال به ليعود ويعدل الترجمة الإنجليزية ، إلا أن المشير عامر عاد واتصل بالرئيس وقال له أن الرسالة قد تم تسليمها فعلا للجنرال ريكى دون تعديل ، وبذلك لم يكن هناك ما يمكن عمله لتدارك هذا الموقف " المتسرع " .
وعلى الجانب الآخر فإنه فى نفس الوقت الذى تسلم في الجنرال ريكى رسالة الفريق أول محمد فوزى فإنه ـ أى ريكى ـ قد تسلم رسالة أخرى من مساعد السكرتير العام للأمم المتحدة رالف بانش ـ وكان عين وأذن الإدارة الأمريكية فى مقر الأمم المتحدة ـ نبه فيها ريكى إلى أن قوات الأمم المتحدة وحدة واحدة لا تتجزأ ، وأن على الجمهورية العربية المتحدة أن تقرر إما سحب هذه القوات بالكامل أو أن تقبل بقاؤها بالكامل ، وهكذا سرنا نحو خطوة جديدة فى تصعيد الموقف .
تبادلت رسائل كثيرة فى هذا اليوم وفى اليوم التالى بين القاهرة ونيويورك ـ الأمم المتحدة ـ حول هذه القضية . كما عقد الرئيس جمال عبد الناصر اجتماعا يوم 16مايو1967 حضره المشير عبد الحكيم عامر وكل من السادة زكريا محيى الدين وأنور السادات وعلى صبرى ومحمد صدقى سليمان ود. محمود فوزى ومحمود رياض لبحث الموقف برمته وكانت الصورة كالآتى حسبما سجلت الجلسة فى سكرتارية الرئيس للمعلومات :
خطاب أرسل فعلا لقائد قوات الأمم المتحدة من الفريق أول محمد فوزى .
موقف الأمين العام المساعد للأمم المتحدة ـ رالف بانش ـ إما سحب كامل للقوات أو بقاء كامل للقوات الدولية فى مواقعها .
أن الموافقة على رأى بانش يفقد الجمهورية العربية المتحدة مصداقيتها فى حالة التراجع عن السحب الكامل وينطوى على مخاطرة إذا أقبلت القاهرة على سحب هذه القوات بالكامل .
الأفضل أن تطلب الجمهورية العربية المتحدة سحب هذه القوات بالكامل ، وأن يكون القرار هو قرار القاهرة ، وليس نتيجة ضغوط من السكرتارية العامة للأمم المتحدة ـ بانش ـ أى الولايات المتحدة الأمريكية .
أتفق على أن يبعث السيد محمود رياض وزير الخارجية برسالة للسكرتير العام للأمم المتحدة يطلب فيها سحب قوات الطوارىء الدولية المتمركزة على الحدود الدولية مع إسرائيل .
الاتصال بحكومتى الهند ويوغوسلافيا ـ صاحبتى أكبر نصيب فى قوات الطوارىء الدولية للاتفاق معهما على الموافقة على ما تقرره القاهرة فى هذا الشأن ، وقد تم اتصال فعلا بين الرئيس جمال عبد الناصر والرئيسين نهرو وتيتو اللذين وافقا على رأى القاهرة وأبلغا الجنرال ريكى بذلك .
تصدر تعليمات للسفير محمد عوض القونى المندوب الدائم فى الأمم المتحدة أن يبلغ الأمين العام للأمم المتحدة رسالة شفوية عندما يسلم رسالة السيد محمود رياض مفادها "بأن الجمهورية العربية المتحدة لن تقوم بعدوان ضد إسرائيل ، لكننا فى نفس الوقت مصممون على الاشتراك فى الدفاع عن أى دولة عربية تتعرض لعدوان من إسرائيل ."

وكانت رسالة السيد محمود رياض للسيد أوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة كما يلى :
" إن حكومة الجمهورية العربية المتحدة تتشرف بإخطار سعادتكم أنها قررت إنهاء وجود قوات الطوارىء التابعة للأمم المتحدة على أراضى الجمهورية العربية المتحدة وقطاع غزة ، وعلى هذا الأساس فإننى أطلب اتخاذ الإجراءات اللازمة لسحب هذه القوات فى أسرع وقت ممكن .
        وأنتهز هذه الفرصة لأعبر لسعادتكم عن عرفانى وأخلص تحياتى .
                                                                         إمضاء
                                                                      محمود رياض
                                                                      وزير الخارجية
18مايو1967 "

وبذلك فقد فرض هذا الوضع على مصر واقعا قديما ، أى مشكلة الملاحة فى خليج العقبة .

تلقفت إسرائيل هذا الواقع الجديد القديم ، وبدأت بالاتفاق مع عواصم غربية على رأسها واشنطن أن تستغل هذا الموقف تاركة موضوع التهديدات لسوريا جانبا بشكل مؤقت .
ومما زاد الأمور خطورة وتعقيدا أن إسرائيل بدأت تدعى أن هناك التزاما أمريكيا منذ عام 1957 بضمان حرية الملاحة لسفنها فى خليج العقبة ـ وهو التزام لم تسمع به ، ولم تره الجمهورية العربية المتحدة ، ولم تكن أيضا طرفا فيه بأى حال ، وقرر الرئيس جمال عبد الناصر إغلاق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية فى الثالث والعشرين من مايو1967 ، وفى نفس اليوم بعث الرئيس الأمريكى ليندون جونسون برسالة للرئيس جمال عبد الناصر جاء فيها :
حسن النوايا تجاه مصر وينفى أنه يكره مصر .
أشاد بدور مصر وجهود الرئيس جمال عبد الناصر فى مجال التنمية الاقتصادية .
أشار إلى ضرورة تجنب القتال بقوله : " يجب ألاّ تحل المنازعات بالاجتياز غير المشروع للحدود بالقوات المسلحة . . . "
اقترح أن يوفد نائبه هيوبرت همفرى لزيارة المنطقة .
( نص الرسالة والمذكرة محفوظة فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وكذا فى أرشيف وزارة الخارجية والقيادة العامة للقوات المسلحة والمخابرات العامة  ).
وقد أكدت هذه الرسالة والمذكرة الشفوية الملحقة بها ـ أكدتا للرئيس جمال عبد الناصر صدق تقديره من عدم الثقة بالولايات المتحدة الأمريكية ، كما لم يطمئن لتقديرات وزارة الخارجية المصرية التى اعتبرت الرسالة هى عربون لعدم قيام حرب جديدة فى المنطقة ، إلاّ أن الرئيس جمال عبد الناصر اعتبر أن هذه الرسالة كانت لصالح بلد ضد بلد آخر ، حيث لا يمكن أن ينقلب تقدير ونوايا الرئيس الأمريكى جونسون فى يوم وليلة ، من انحياز كامل لإسرائيل ومعاداتنا لحسابها ، إلى اتخاذ موقف عادل من الطرفين .
وقد تم حوار طويل بين الرئيس جمال عبد الناصر والسيد محمود رياض حول هذه النقطة واعترف السيد رياض كما قرر فى مذكراته بعد ذلك بخطأ تقديراته هذه هو ومعاونيه فى ذلك الوقت .
وفى الرابع والعشرين من مايو1967 وصل السكرتير العام للأمم المتحدة إلى القاهرة مؤيدا من الولايات المتحدة الأمريكية كما جاء فى برقية من سفارتنا فى واشنطن ، حاملا معه مشروع بأفكار لتهدئة الموقف ويتلخص فى نقاط ثلاث هى :
لا ترسل إسرائيل أى سفينة عبر خليج العقبة .
على الدول التى ترسل سفنها لميناء إيلات ألا تحمل أى مواد إستراتيجية لإسرائيل.
على مصر ألاّ تزاول حق التفتيش على السفن التى تمر عبر خليج العقبة .

وافقت الجمهورية العربية المتحدة على هذا المشروع فى مقابلة تمت بين الرئيس جمال عبد الناصر والسيد أوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة فى منشية البكرى ، تدليلا على  حسن نوايا القاهرة بأن إغلاق خليج العقبة ليس خطوة أو تمهيد للعدوان المسلح على إسرائيل .
وهذه الجلسة مسجلة وتسجيلها كان موجود فى مكتبى بسكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ويمكن الرجوع إليه لأهمية ما دار فى هذا اللقاء ، وحسبما أذكر تماما فإن أوثانت كان مترددا بعد انتهاء المقابلة وبعد إبلاغه بموافقة القاهرة على المقترحات التى تقدم بها أن استأذن الرئيس جمال عبد الناصر على استحياء فى توجيه سؤال محدد ولما أذن له الرئيس قال :
" سيادة الرئيس . . إن الإسرائيليين متخوفين لدرجة الذعر من قيامكم بهجوم عسكرى مصرى ضدهم . . فهل أستطيع أن أسألكم أن تعدونى بأن مصر لن تهاجم إسرائيل ؟
ورد الرئيس جمال عبد الناصر بدون تردد وكأنه كان متوقعا هذا السؤال :
" يا مستر أوثانت . . إننا لم نعلن أبدا فى أى وقت بأننا سنهاجم إسرائيل ، بل بالعكس فإن إسرائيل هى التى هددت رسميا وأكثر من مرة وكأنها خطة مرتبة ، هددت سوريا بالغزو . . وإن ما نقوم به بوضوح وفى العلن هو إجراء دفاعى لمنع مثل هذا التهديد من أن يصبح حقيقة . . وعلى ذلك فلن نكون نحن البادئين أبدا بالهجوم . . وأعتقد أن كلامى واضحا ومباشرا . . " وأعاد الرئيس عبد الناصر كلامه مرة أخرى مؤكدا موقف مصر .
هنا أستطيع أن أضع جملة إعتراضية طويلة نسبيا ألخصها فى أن رفض الرئيس جمال عبد الناصر لمحاولات الاحتواء السياسى والنفسى والاقتصادى بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية بدلا من الاستعمار التقليدى البريطانى والفرنسى للمنطقة كان صداعا لمخططى السياسة الأمريكية بالنسبة للمنطقة العربية بالذات ، وباعتبار مصر قوة تأثير ضخمة وقوة جذب أضخم ، فإن مصر كانت دائما هى مقياس حسابات السياسة الأمريكية للمنطقة وخاصة بعد نجاح خطة التنمية الأولى فى مصر ، وبالتالى فإنه كلما تصاعد تأثير عبد الناصر خارج حدود جغرافية تسمى مصر ـ رفض الأحلاف ورفض الاحتواء تحت أى مسمى ثم تصاعد الدور المؤثر نتيجة الانتصار السياسى الضخم سنة 1956 ، وتحرير اقتصادى ، فمؤتمرات قمة عربية وإفريقية وسياسة عدم الانحياز ، وكلها  بلا استثناء كانت ناجحة بكافة المقاييس ، وأدت إلى إتباع سياسة سيترتب عليها على المدى الطويل قيام قوة عالمية اقتصادية وسياسية ثالثة تحرم القوى الأعظم من سرقة المواد الخام وتحرمها من السيطرة على الموارد الطبيعية هى حق لأصحابها الأصليين ، وما شعار  "بترول العرب للعرب " ببعيد عن تجسيد ما أردت التعبير عنه .
طبعا وبلا جدال ستؤدى هذه السياسة إلى تطور العداء وازدياد حدته خصوصا عندما يتوج بأن يصبح أحد المحاور الرئيسية لهذه السياسات هو القضية الفلسطينية وخذلان إسرائيل أمام العالم الذى يقال عنه أنه متقدم ومتحضر من أكثر من ثلثى دول العالم .  
بهذه الجملة الاعتراضية الطويلة أردت أن أصل إلى نتيجة حتمية هى ليس فقط زيادة العداء لمن يتبناها ويؤثر على مجريات الأحداث فيها بل من حق الدول العظمى أن تصل إلى أن يكون من أهدافها الأساسية هى إسقاط عبد الناصر بل اقتلاعه من جذوره إن أمكن ، وهذا ما تجسد فى حرب سنة 1967 كما أسلفت فى فصل النكسة وكما سأبين فى الصفحات التالية . . . فالولايات المتحدة الأمريكية تريد التخلص من عبد الناصر ونظامه وأفكاره ومن تجربته الإنسانية ومشروعه الوطنى القومى لصالح إسرائيل التى تريد مبدئيا الاستيلاء على فلسطين كلها وغيرها من الأراضى العربية تمهيدا لقيام إسرائيل الكبرى من النيل للفرات ، وهذه القوى العظمى فى نفس الوقت تعرف بل وتحدد بلا عاطفة وبلا تردد من هو عدوها ومن هو صديقها ، وهذه ألف باء الإستراتيجية عندما تريد أن تبحث موضوع أو قضية سياسية عامة ، فإن أول العناصر هو تحديد من هو العدو ومن هو الصديق .
وما يتردد الآن حول الإسلام وعداء الغرب له ما هو إلا ترجمة صريحة لعداء الغرب للعروبة .
وإن الإرهاب الذى يشهده ويعيشه العالم الآن ما هو إلا نشاط مخطط وممول من أجهزة بعينها منها المخابرات المركزية الأمريكية ومنها الموساد الإسرائيلية ومنها ، للأسف ، أنظمة نفطية عربية تابعة وهذا ضمن مخطط كبير هدفه أن يكره العالم الإسلام وبالتالى العرب ، والإسلام برىء من كل هذه الأنشطة الإرهابية لأنه دين السلام . . دين التسامح . . . دين المحبة . . دين العمل . . وهو دين العلاقة الشريفة الأخلاقية بين العابد والمعبود بلا وسيط .
أعود لأقول أن تطور العداء من الرئيس الأمريكى ليندون جونسون لمصر عبد الناصر لم يكتفى بالضغوط السياسية والاقتصادية ، بل أصبح  هدف ليندون جونسون هو إسقاط عبد الناصر ، ولما  كان تحقيق هذا الهدف من الداخل ـ وهو الأسلوب الذى تعتمده الأجهزة الأمريكية ـ مستحيلا بسبب تماسك الجبهة الداخلية المصرية ، فلم يعد أمامه إلا أن يعمل على إسقاط عبد الناصر وما يمثله الرجل عن طريق العدوان الخارجى ، وهو تكرار لأهداف العدوان الثلاثى سنة 1956 .
لقد لعبت إسرائيل دورا متعاظما عن طريق نفوذها فى واشنطن ووجدت استعدادا لدى الرئيس ليندون جونسون لتأييدها فى أهدافها فهو يريد إسقاط عبد الناصر ، وهى تريد الاستيلاء على فلسطين العربية بأكملها ، وكان ذلك قمة نجاح الحركة الصهيونية التى كانت قد أتمت استعدادها مع بداية عام 1967 للقيام بعدوان بدأت واستمرت فى التخطيط له منذ العام 1957 ، ولم تكن تنتظر سوى مشاركة الولايات المتحدة الأمريكية لها ، والتى تمت معها مشاورات سابقة اشترك فيها كل من آبا إيبان ومدير المخابرات  الحربية الإسرائيلية ، وتم الاتفاق على أن يبدأ العدوان على مصر سنة 1967 وفى الشهر السادس من هذه السنة، وكانت السيدة ماتيلدة كريم * صاحبة الفضل الأكبر فى نجاح هذه المساعى .
كانت إستراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية كما حددها وأعلنها هنرى كيسينجر تقوم على عناصر ثلاثة :

إسقاط جمال عبد الناصر وما يمثله .
إنهاء الوجود السوفيتى فى مصر و المنطقة .
القضاء على المقاومة الفلسطينية والقوة العسكرية للفدائيين .
كانت إسرائيل قد استكملت تعزيز قوتها العسكرية مع بداية العام 1967 بعقد صفقات الطائرات الميستير  و الميراج مع فرنسا ، وإتمام صفقة أسلحة ضخمة مع ألمانيا الغربية تمثلت فى دبابات ومدفعية  ثم كان ختام الاستعدادات إعلان الرئيس جونسون عن قراره بيع الأسلحة لإسرائيل ، وبذلك أصبحت واشنطن شريكا كاملا وعلنيا فى الاعتداءات بعد أن كانت فى السابق تمتنع عن الظهور كمورد للسلاح لإسرائيل مكتفية بالضغط وتشجيع دول أوروبا على تسليحها .
وفى نفس الوقت فإن اللقاء الذى تم بين جونسون وأبا إيبان فى يوم 26مايو1967 ، وما ذكره جونسون لمساعديه بعد هذا اللقاء . . . " سوف نضربهم . . " ـ يقصد عبد الناصر ـ .
بل أكثر من ذلك فقد قدم جونسون لإسرائيل أكبر خدمة يتطلبها أى جيش يخوض المعركة وأعنى تزويده بالمعلومات العسكرية الدقيقة عن طريق طائرات الاستطلاع والأقمار الصناعية ـ ولقد كان لدى إسرائيل بذلك أدق المعلومات عن المواقع العسكرية التى ستتعامل معها فى الدول العربية .
ولم يتوقف جونسون عند هذا الحد بل رأى أيضا أن يقود أكبر خطة لخداع الجمهورية العربية المتحدة بالذات ليعاون إسرائيل فى كسب الحرب عن طريق توفير عنصر المبادأة لها ومنع مصر من القيام بضربة وقائية ، وحقق هذا الهدف بتأكيده للرئيس جمال عبد الناصر أن الولايات المتحدة ستقف ضد أى عدوان ، كما أكد على ضرورة أهمية تجنب القتال ـ 23مايو1967 ـ وأشار إلى اتفاقيات الهدنة وضرورة احترامها ثم ما جاء فى نهاية رسالته من أن على القاهرة أن تعتمد على واشنطن لأنها ضد أى عدوان . . . ( نص الرسالة ) .
وأعقب هذه الرسالة ، وإكمالا لخطة الخداع الكبرى ، أوفد الرئيس جونسون السفير تشارلز يوست لمقابلة السيد محمود رياض فى الأول من يونيو1967 وأبلغه بأنه مكلف من وزارة الخارجية الأمريكية للتأكيد على أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تكون ضد أى طرف يبدأ بالعدوان المسلح ، هذا فى الوقت الذى كان الرئيس عبد الناصر يقابل فيه روبرت أندرسون ـ وزير المالية فى عهد أيزنهاور والذى
===========================================================
* ماتيلدة كريم
ـ من مواليد 1927 من أب سويسرى يدعى " جالاند " وأم إيطالية ، انفصل والدها عن أمها ودخلت مدرسة للراهبات الكاثوليك  ثم اختفت وظهرت فجأة فى روما ثم اختفت منها لتظهر فى تل أبيب والتحقت بمعهد وايزمان .
ـ وقعت فى غرام شاب كم جماعة " شتيرن " يدعى دافيد دانون ـ من الذين خططوا لاغتيال اللورد موين فى القاهرة سنة 1949 وعمل بعد ذلك مع " الهاجاناه " ثم فى مجال الدعاية الصهيونية ، وتزوج منها فتركت المسيحية واعتنقت اليهودية ثم أصبحت يهودية مقاتلة صهيونية متحمسة .
ـ مات دانون فى ظروف غامضة ، وظهرت ماتيلدة فجأة فى نيويورك بعد ذلك حيث تزوجت من رجل أعمال أمريكى يكبرها سنا بكثير يدعى آرثر كريم الذى كان صديقا حميما لليندون جونسون نائب الرئيس الأمريكى كينيدى والذى أصبح الصديق المقرب لعائلة كريم ، وتحولت هى إلى سيدة مجتمع .
ـ بعد إغتيال كينيدى قال ليندون جونسون لماتيلدة كريم : " إننى أعرف أنكم كنتم تعتبرون كينيدى صديقا لإسرائيل وهذا صحيح ، لكن قولى لأصحابنا فى إسرائيل أنهم فقدوا صديقا فى البيت الأبيض لكنكم ربحتم صديقا أفضل منه فى نفس المكان  " .
ـ الرئيس جونسون كان يقول كل شىء لماتيلدة ،  كل  شىء ، وهى بالتالى كانت تستطيع أن تتصل به فى أى وقت وفى أى مكان حتى وهو فى دورة المياه .
ـ ماتيلدة كريم كانت تحذر جونسون من رجال وزارة الخارجية الأمريكية الذين يعملون معه وكانت تقول عنهم : " أنهم رجال ليست لديهم مقومات المقاتلين فى الأزمات وأعصابهم مستهلكة " .
ـ قالت لجونسون  : "  إنك تستطيع أن تكسب فى الشرق الأوسط ما خسرته فى الشرق الأقصى " .
ـ الثابت أن محضر لقاء الرئيس جونسون لآبا إيبان وزير خارجية إسرائيل والتى تمت فى البيت الأبيض يوم 27مايو1967 والذى حرره والت روستو مستشار الأمن القومى الأمريكى ، أرسل للرئيس جونسون فى مزرعته بتكساس حيث كان يمضى عطلة نهاية الأسبوع ومعه ماتيلدة كريم وبعض الأصدقاء الآخرين .
=================================================================






كان قد وصل إلى القاهرة عن طريق المهندس سيد مرعى ـ كان صديقه ـ وأبلغ الرئيس عبد الناصر بنفس الرسالة التى حملها السفير يوست والذى عاد فى الثالث من يونيو1967 وأبلغ السيد محمود رياض بأنه تلقى أوامر من واشنطن باستعداد الرئيس جونسون لاستقبال السيد زكريا محيى الدين نائب رئيس الجمهورية فى واشنطن فى أى وقت ، ولما أبلغه السيد محمود رياض أن الموعد المناسب هو الخامس من يونيو1967 وافق السفير يوست على هذا الموعد دون الرجوع إلى واشنطن .
وفى السابع والعشرين من مايو1967 نجح الرئيس جونسون فى إشراك موسكو  فى خطة الخداع الكبرى حيث طلب السفير السوفيتى فى القاهرة مقابلة عاجلة لإبلاغ الرئيس جمال عبد الناصر برسالة عاجلة من القادة السوفيت يطلبون فيها  أن لا تكون القاهرة هى البادئة بالهجوم على إسرائيل ، وقد برر القادة السوفيت هذه الرسالة بقولهم أن الرئيس الأمريكى ليندون جونسون أبلغهم بأن مصر سوف تهاجم إسرائيل فجر هذا اليوم السابع والعشرين من مايو 1967 . وفى نفس الليلة تلقى الرئيس جمال عبد الناصر رسالة بنفس المعنى من الرئيس جونسون ،  الذى أضاف أيضا بأن على مصر أن تتحمل نتائج عملها إذا بدأت هى  بإطلاق النار على إسرائيل ، ومرة أخرى أكد الرئيس جمال عبد الناصر  للسفير السوفيتى كما أكد من قبل للسيد أوثانت السكرتير العام للأمم المتحدة  أن مصر لن تكون البادئة بإطلاق النار ـ وبذلك أصبح هناك تأكيدات من جانب مصر على لسان رئيسها لكل من أوثانت والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى بأنها لن تكون البادئة بإطلاق النار .
وعندما اطمأن الرئيس ليندون جونسون إلى أن الجمهورية العربية المتحدة لن تكون البادئة بإطلاق النار بقى احتمال فشل إسرائيل فى عدوانها ، واحتمال أن تتحول المعركة ـ إن قامت ـ لغير صالحها ، ولذلك فإن وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية أعلن عندما بدأ العدوان الإسرائيلى بأن واشنطن لا تعلم من الذى بدأ أول طلعة ، وهذا يبرر للرئيس جونسون أن يدعم إسرائيل عسكريا ويساندها عن طريق إتهام القاهرة بأنها هى التى بدأت بالعدوان ، وهذا ما حدث تماما من تحرك الأسطول السادس والسفينة ليبرتى ـ سفينة التجسس التى أغرقتها إسرائيل بعد ذلك ـ نحو شرق البحر الأبيض وبذلك أصبحت واشنطن شريكا كاملا علنيا فى الاعتداءات .
على الجانب الآخر لم يحدث أن استكملت الدول العربية استعداداتها تنفيذا لقرارات القمة العربية سنة 1964 ، بل حدث أن تصدعت الجبهة العربية عام 1966 نتيجة أسباب كثيرة بعضها ـ أو بصراحة كان أكثرها مفتعلا ومتمشيا مع تصعيد الأمور لصالح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل . . . ( الجبهة الشرقية ـ اليمن ـ المقاومة الفلسطينية ) من جانب العراق والسعودية والأردن ، ولا داعى للدخول فى تفصيلات حرصا منى على التماسك العربى الهش ، ولكن فقد كان لكل هذه الأمور أثرها على عدم قدرة القيادة العربية القيام بدورها وبالتالى غاب مفهوم الأمن القومى العربى الذى أخل بأمن مصر وباقى الدول العربية خصوصا تلك التى تشكل الطوق حول العدو الإسرائيلى .
ولئلا نكون كالنعام ، فإنه ومن باب النقد الذاتى ولكى نستفيد من أخطائنا فإن الأوضاع داخل الجمهورية العربية المتحدة كانت تنحصر فى نقطتين أساسيتين من الناحية العسكرية :
الأولى : الصراع بين الرئيس جمال عبد الناصر والمؤسسة العسكرية ، مما ترتب عليه فقدان السيطرة على القوات المسلحة وعدم معرفة قدراتها الحقيقية ، الأمر الذى أحدث خللا فى اتخاذ القرارات السياسية.
الثانية : عدم قدرة المشير عبد الحكيم عامر على قيادة القوات المسلحة ، فلم تكن لديه الخبرة العسكرية أو متابعة التطورات العسكرية الحديثة ، كما أن القيادات الكبرى بل حتى بعض القيادات الميدانية كانت خاضعة لضوابط أمنية وليس للخبرة أو الكفاءة أو التجربة العسكرية دورا فى تولى هذه القيادات أو أغلبها لمواقعها .
ولقد حرص الرئيس جمال عبد الناصر على تجاوز هذا الصراع ـ حيث أن تفاصيله ومبرراته وأسبابه ودوافعه وتطوراته امتدت من سنة 1954 حتى 1967 ـ ليتفادى تصدع النظام ، كما حرص المشير عبد الحكيم عامر من جانبه أيضا على عدم الكشف عنه حتى يستطيع الاحتفاظ بصلاحياته التى كانت تتضخم مع مرور الزمن ليحكم سيطرته على القوات المسلحة مما جعله يكاد يكون مستقلا استقلالا تاما عن باقى مؤسسات الدولة .
ولقد حاول الرئيس جمال عبد الناصر مرة بعد العدوان الثلاثى سنة 1956 ثم مرة أخرى بعد الانفصال مع سوريا سنة 1961 أن يصحح الأوضاع ، لكن حسابات التوازن فى السلطة العليا كانت تنتهى بتأجيل اتخاذ القرار لقناعة عبد الناصر بأن الصداقة والعلاقات الوثيقة القوية وأنا أسميها علاقة التوأمة بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر ـ التى كانت تجمع بينهما تحول دون تفكير عبد الحكيم عامر الإقدام على القيام بانقلاب ضد الشرعية .
إلا أنه ولاشك يبقى عامل تهديد مستمر وهو سيطرة أعوان عبد الحكيم عامر على قيادات القوات المسلحة وهى قوة برزت على السطح عندما قدّم عبد الحكيم عامر استقالته فى ديسمبر 1962 ( أزمة مجلس الرئاسة حول تحديد اختصاصات القائد العام للقوات المسلحة ) .
لقد خاض المشير عبد الحكيم عامر معركة 1967 دون أن يشرف على تدريب قواته ، ودون اختبار قدرة القوات المسلحة على تنفيذ الخطة التى وضعتها القيادة العامة للقوات المسلحة ، بل اتضح أنه أدخل تعديلات كثيرة على الخطة الدفاعية فى شهر مايو سنة 1967 ، كما دفع بقوات لم تحصل على أى شكل من التدريب إلى سيناء فى شكل مظاهرة عسكرية مما ترتب عليه إرباك للقيادات العسكرية القتالية .
وبالرغم من كل هذه الأخطاء فإنه كان بإمكان قوات محدودة من القوات المسلحة المصرية إنشاء دفاعات على خط المضايق شرق قناة السويس ، وهو خط دفاعى طبيعى قوى درسناه فى الكلية الحربية سنة 1948 ، وأجمعت الدراسات العسكرية الفنية على أن خط المضايق هو أنسب خط للدفاع عن مصر شرق القناة .
وللتاريخ وكشهادة أمام الله  وأمام الضمير ، فإن الرئيس جمال عبد الناصر كان فى مساء الخامس من يونيو 1967 يعتقد بل يجزم بأن القوات المسلحة المصرية سوف تتراجع إلى هذا الخط الدفاعى لتتمسك به لوقف أى تقدم للقوات الإسرائيلية . وهذا التقدير مسجل بصوت جمال عبد الناصر فى منزله فى منشية البكرى فى لقائه مع السيد عبد العزيز بو تفليقة وزير خارجية الجزائر ( محضر اللقاء محفوظ فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ) ، إلا أن المشير عامر أصدر أوامره شخصيا مساء يوم 6 يونيو1967 بالانسحاب الكامل الشامل للقوات المسلحة إلى غرب قناة السويس ، وكانت أوامره تقضى بأن يتم الانسحاب صباح يوم 7يونيو1967 أى خلال اثنتى عشر ساعة ـ وهذا طبعا مستحيل بكل المقاييس بل يشكل أمرا بالإعدام على القوات المنسحبة مما ترتب عليه إصابة تحرك القوات بالشلل التام ، وهكذا أصبحت القوات المسلحة المصرية صيد ثمين و سهل للطائرات المعادية مما أحدث خسائر ضخمة فى الأفراد والمعدات .
   وعندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر قراره بالتنحى عن السلطة واستعداده لتحمل المسئولية الكاملة ، كان صادقا مع نفسه وصادقا مع الشعب المصرى والأمة العربية ، فلا يعقل أن تعفى قيادة سياسية من مسئولياتها إزاء الأمن القومى مهما كانت الأسباب ، وفى الحقيقة فقد كان الرجل مقتنعا بأنه ارتكب خطأ عندما قبل بتأكيدات المشير عامر عن مدى استعدادات القوات المسلحة ولن يتبين بنفسه مدى قدرة القوات المسلحة ، كما أنه لم يكن يتصور ، فى الوقت نفسه ، أن تفقد القيادة العسكرية قدراتها ويصيبها الشلل خلال الساعات الأولى من المعركة ، وتصدر الأوامر العشوائية بالانسحاب إلى غرب القناة بدلا من الصمود عند خط المضايق والتمسك به .
وبدأ الرجل بعد يوم 10يونيو1967 ، وبعد الرسالة التى وجهها إلى مجلس الأمة فى الإعداد لمعركة التحرير فأعلن أننا خسرنا معركة وكننا لم نخسر إرادتنا ، وأن علينا أن نعمل سويا من أجل استرداد ما فقدناه ، وألقى بثقله فى القوات المسلحة فعزل عبد الحكيم عامر والقيادات الغير صالحة ، وعين الفريق أول محمد فوزى قائدا عاما للقوات المسلحة يوم 11يونيو1967 والفريق عبد المنعم رياض رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة  ، ولم يعد واجب القوات المسلحة هو تأمين النظام ، وإنما أصبح أداة تحرير الأرض العربية المحتلة كلها . وقام بعد ذلك ومتوازيا مع جهوده المركزة على القوات المسلحة ، بتعبئة الجبهة الداخلية من أجل معركة التحرير .
ثم دعا إلى التضامن العربى لتحقيق الأمن القومى العربى ، وتجاوز الخلاف

فى كافة أجهزة الإدارة الأمريكية ومن بينها البيت الأبيض .
ولم يكن غريبا أن تتقدم واشنطن فى هذه المرحلة بمشروع جديد لحل منفرد بين القاهرة وتل أبيب ، ولم ينص هذا المشروع على الانسحاب إلى حدود مصر الدولية كما سبق أن جاء فى مشروع دين راسك فى نوفمبر1968 ، بل أضاف مقترحا جديدا هو نزع سلاح سيناء . وطبعا رفضت القاهرة هذا الهراء .
ثم عادت واشنطن وقدمت مشروعا آخر فى منتصف يوليو أساسه تعديل حدود مصر الدولية مما يتيح لإسرائيل الإبقاء على قوات لها فى منطقة شرم الشيخ . وطبعا رفضت القاهرة أيضا هذه المشاريع باعتبارها غير قابلة للمناقشة أصلا .
وأعلن الرئيس جمال عبد الناصر فى خطابه فى عيد الثورة فى يوليو1969 ، الانتقال إلى مرحلة الردع ، وكان علينا مواصلة حرب الاستنزاف لمقاومة الأمر الواقع الذى تريد أن تفرضه إسرائيل على الجمهورية العربية المتحدة .
وقد ترتب على هذا الموقف من القاهرة ما يلى :
1-    فشل سياسة فرض الأمر الواقع .
2-    قيام عمليات عسكرية مصرية على طول الجبهة أدى إلى خسائر يومية للعدو .
3-    تزايد الوجود السوفيتى فى المنطقة مما اضعف الموقف الإستراتيجى الأمريكى فى المنطقة .
4-    عدم موافقة أغلب الدول الغربية على السياسة الأمريكية فى موقفها من الصراع العربى الإسرائيلى ، وكانت فرنسا على رأس الدول الغربية المناهضة لسياسة واشنطن .

وعليه فقد ترتب على هذا الوضع أن حاول ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى أن يعيد النظر فى سياسة بلاده فى شكل تخفيض نسبى من الانحياز الكامل لإسرائيل ، فبعث فى التاسع من نوفمبر1969 بمقترحات جديدة للقاهرة أساسها :
1-    انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضى المصرية التى تم احتلالها خلال حرب 1967 مقابل إنهاء حالة الحرب بين مصر وإسرائيل .
2-    يوافق الطرفان على أن يتم تسليم الاتفاق النهائى إلى مجلس الأمن للتصديق عليه .
    ( وهذه الفقرة تعنى اعتراف واشنطن بضرورة الإشراف الدولى على تنفيذ الاتفاق )
وتقدمت واشنطن بمشروع مماثل لعمان فى التاسع من عشر من ديسمبر 1969 ، إلا أنه فيما يتعلق بالحدود التى تنسحب إليها إسرائيل وتصبح حدودا دائمة فقد اقترحت واشنطن أن خط الهدنة ( أى خط 4يونيو1967 ) هو الأساس فى تحديد الخط النهائى للحدود مع إجراء تعديلات يتفق عليها الطرفان لأغراض إدارية واقتصادية .
وكان رد القاهرة على هذه المقترحات يتلخص فى الآتى :
1-    لم نرفض الاقتراحات .
2-    سجلنا على واشنطن موقفها الإيجابى الذى يتمثل فى عدم الفصل بين ما يتعلق بمصر عن سائر الجبهات الأخرى .
3-    أن التسوية يجب أن تكون شاملة .
4-    أن موقف القاهرة النهائى لا يمكن تحديده إلا عندما تطلع على الصورة المتكاملة لتنفيذ القرار242
وعندما أعلن روجرز مشروعه بادرت إسرائيل بإعلان رفضها له فى اليوم التالى مباشرة .
وانتهت المحاولة لتحقيق حل شامل إلى الفشل لعجز ريتشارد نيكسون عن الوقوف أمام قوى الضغط الصهيونى التى قامت بحملة عنيفة ضد ويليام روجرز فى وسائل الإعلام وفى داخل الكونجرس الأمريكى.
فى السابع من يناير1970 قامت إسرائيل بسلسلة من الغارات الجوية فى عمق الأراضى المصرية واستخدمت فى هذه الغارات الطائرات الأمريكية الحديثة التى حصلت عليها مؤخرا ، والتى كانت مزودة بأحدث وسائل التشويش الإلكترونى لتعطيل وسائل الدفاع الجوى المصرى ، وبعد هذه الغارات نشرت وسائل الإعلام الأمريكية ما يفيد بأن سياسة إسرائيل فى هذه المرحلة ستستند على الحرب النفسية لتصل الحرب إلى الشعب المصرى وصولا لتقويض القيادة المصرية وخلق انقسامات داخلها مما يؤدى إلى نتائج تخدم إسرائيل .
ثم أعلنت جولدا مائير فى الثالث عشر من يناير " أنها لا ترى فرصة للسلام ما دام عبد الناصر فى الحكم ، وبالتالى فإن سقوط عبد الناصر والنظام الذى يمثله يجب أن يسبق أى حديث عن السلام .
كما صرح آبا إيبان أن بعض الجهات الأمريكية ـ وكان يعنى المخابرات المركزية الأمريكية       C I A  ـ طلبت من إسرائيل أن تركز جهودها على ما يؤدى إلى إسقاط عبد الناصر ـ أى أن الإدارة الأمريكية كانت متفقة مع إسرائيل على ضرب مصر والقضاء على عبد الناصر ونظامه .
أما مقترحات ويليام روجرز التى تقدم بها لمصر وللأردن فلم تكن سوى تغطية لسياسة أمريكا الحقيقية لإيهام الرأى العام العالمى وبعض الحكام العرب ـ الدول النفطية بالذات ـ أن أمريكا تتبع سياسة متوازنة .
وقد أدت الغارات الإسرائيلية ـ والتى تمت بتأييد وربما بتخطيط مشترك بهدف إسقاط عبد الناصر إلى أمرين فى غاية الأهمية  :
الأول : مزيد من التماسك فى الجبهة الداخلية المصرية والدعوة للثأر ، وكان فى مقدمة أصحاب هذه الدعوة ضباط القوات الجوية المصرية وضباط الدفاع الجوى المصرى .
الثانى : موافقة الاتحاد السوفيتى على المطالب المصرية التى تقدم بها الرئيس جمال عبد الناصر للقادة السوفيت فى زيارته السرية لموسكو يوم23يناير1970 ، تلك الزيارة التى كانت نقطة تحول تاريخية فى العلاقات الدولية وبصفة خاصة فى العلاقات المصرية السوفيتية . وكان يصحب الرئيس جمال عبد الناصر فى هذه الزيارة الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وتولى كتابة محاضر الاجتماعات الدكتور مراد غالب سفير الجمهورية العربية المتحدة فى موسكو فى ذلك الوقت ، وأن المباحثات التى تمت فى هذه الزيارة تعتبر من أهم المباحثات التى جرت فى القرن العشرين على المستوى الدولى ، والمحاضر كانت محفوظة فى مكتبى بسكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى وهى من وجهة نظرى تستأهل الدراسة العميقة والمستفيضة ، ويكمل هذه المباحثات تلك التى تمت فى أول يوليو1970 .

وسأوجز فيما يلى أهم النقاط التى سجلتها فى النوتة الخاصة بى عن هذه المباحثات :
تحدث الرئيس جمال عبد الناصر عن الحل السلمى الذى لم يأت بنتيجة ، وحتى إذا كانت هناك احتمالات نتائج موجودة فإنه لابد من القيام بعمليات عسكرية تمثل الضغط الحقيقى على إسرائيل وأمريكا وإلا فما الذى يدفعها للانسحاب أو يدفع واشنطن للضغط على إسرائيل .
 وقال أن العمل الدبلوماسى الثنائى والرباعى وجهود الأمم المتحدة ومبعوثها جونار يارينج لم تصل إلى نتيجة تبشر بشىء .
كما قال أيضا أن الموقف المشتعل الآن على جبهة القتال ينبىء بانفجار كبير فى أى لحظة لأن الجمود واليأس من الوصول إلى حل سلمى غير منظور ، والوضع الآن يتمحور فى إمدادات أمريكية لإسرائيل تشمل طائرات متقدمة ومتطورة مكنت إسرائيل من إختراق العمق المصرى وضرب أهداف اقتصادية كما تصيب المدنيين مستخدمين الطيران المنخفض الذى نجح فى تفادى الصواريخ سام 2 .
وعليه فإن المعارك الدائرة الآن على جبهة القتال فى منطقة قناة السويس ومضاعفاتها لن تقرر مصير الجمهورية العربية المتحدة فقط وإنما سوف تقرر مستقبل المنطقة كلها وربما تمتد إلى التوازن العالمى .
وقد وافق القادة السوفيت على إمداد مصر بصواريخ سام3 التى تستطيع أن تواجه الطيران المنخفض إلا أن تدريب الأطقم المصرية سيستغرق حوالى ستة شهور ، كما سيتم التدريب فى الاتحاد السوفيتى ، وهذا يعنى حسبما شرح الرئيس جمال عبد الناصر أن مصر ستصبح فى حالة عرى كامل أمام الطيران الإسرائيلى لمدة ستة شهور . فدارت مناقشات على مائدة المفاوضات حول هذا الموضوع وحاول القادة السوفيت أن ينصحوا بتهدئة الأمور على جبهة القتال حتى يتوافر جو يسمح بحل المشكلة .
إلا أن الرئيس جمال عبد الناصر قال :
" إن جبهة القتال لا يمكن أن تتحول إلى لعبة بين الساخن والبارد على هذا النحو . فهناك معنويات جيش وشعب . . وهناك آمال أمة ، ولو هدأ الموقف دون سبب يقنع الجميع بأن هناك تقدم أمكن إحرازه ، فإن النتيجة سوف تكون ضياع للثقة وللروح المعنوية للقوات المسلحة . .
وقد رد السيد برجنيف قائلا :
طيب . . هل هناك حل آخر يا سيادة الرئيس ؟
الرئيس جمال عبد الناصر :
تعالوا إنتم بقوة صواريخ من طراز سام 3 وتولوا مهمة حماية العمق حتى يتم تدريب الأطقم المصرية على هذا النوع من الصواريخ عندكم .
برجنيف :
هل تقصد صواريخ سوفيتية تشارك فى الحرب ! !
الرئيس جمال عبد الناصر :
نريد قوات صواريخ سوفيتية . . لكننا لا نريدها تشارك فى الحرب . . فالقوات المصرية كفيلة بحماية نفسها إذا تم بناء حائط الصواريخ ، وما أطلبه هو المشاركة فى حماية العمق المدنى وهو بعيد عن جبهة القتال .
كوسيجن:
هذا العمل سيادة الرئيس ناصر يعتبر تصعيدا ، ويمكن أن يؤدى إلى صدام بيننا وبين الولايات المتحدة الأمريكية . . .
برجنيف ـ مقاطعا كوسيجن وبعد أن قدم له الماريشال جريتشكو ورقة  ـ :
إن المسألة أيضا ليست مسألة صواريخ ، فإن قواعد الصواريخ تحتاج لحماية جوية ، فإذا فكرنا فى إرسال صواريخ فمعنى هذا أن نفكر فى إرسال قوات جوية فى نفس الوقت لحماية هذه الصواريخ .
الرئيس جمال عبد الناصر :
إننا نوافق على أن تجىء طائرات سوفيتية لحماية قواعد الصواريخ سام 3 .
برجنيف :
إن هذا يعتبر تحديا من جانبنا للولايات المتحدة الأمريكية عسكريا .
الرئيس جمال عبد الناصر :
طيب . .  ولماذا تعطى الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها حق التصرف بدون خوف من أحد فى مساعدة إسرائيل ، فى حين أنكم تترددون باستمرار قبل الإقدام على خطوة واحدة ؟ !
إن كل الإخوان هنا يعلمون أننى فى يوم 9يونيو1967 أعلنت التنحى عن السلطة فى مصر ، ثم اضطررت للعدول عن هذا القرار تحت ضغط شعبى مصرى وعربى ، وأتصور أنى أستطيع أن أتحمل المسئولية حتى تتم إزالة آثار العدوان ، وبالمنطق الذى سمعته منكم ونتائجه على جبهة القتال فإن هدف إزالة آثار العدوان لن يتحقق ، وبالتالى فمن واجبى أن أعود إلى الشعب فى مصر وإلى الأمة العربية واضعا الحقيقة أمامهم  وأصارحهم بأن الدنيا فيها قوة واحدة قادرة هى الولايات المتحدة الأمريكية ، وعليهم أن يقبلوا هذا حتى لو اضطروا إلى الاستسلام  . . . وبما أننى لن أكون الرجل الذى يقبل الاستسلام ،  بل ولا يقبل منه الاستسلام ، فإنى  سوف أترك مكانى لشخص آخر يستطيع ذلك ويقبل منه.

وهنا تكهرب الجو فى القاعة وحاول القادة السوفيت فرادى ومجتمعين ـ تداخلت الأصوات ـ أن يردوا على ما قاله الرئيس عبد الناصر الذى أصر على موقفه وتمسك  برأيه ، فاضطر المجتمعون إلى طلب رفع الجلسة تفاديا للوصول إلى نقطة لا عودة فى المواقف .
 وفى عصر نفس ذلك اليوم وحوالى الساعة الخامسة مساء طلب القادة السوفيت عودة الرئيس عبد الناصر للاجتماع بهم وعندما بدأت الجلسة ،  قال السيد برجنيف :
أيها السيد الرئيس جمال عبد الناصر ، لقد اجتمعت المؤسسات القيادية والمجلس الأعلى خلال الساعات القليلة الماضية ، وناسف للتأخير حيث اضطررنا لاستدعاء بعض الأعضاء الرئيسيين والعسكريين من خارج موسكو للإدلاء برأيهم فيما نواجهه ، وإنى أعلن لكم أن القيادة السوفيتية بمؤسساتها توافق على تنفيذ مطالبكم كاملة ، وقد فوضنا الماريشال جريتشكو لتولى المسئولية ، فنرجوكم اقتراح من ترونه من جانبكم للبدء فورا فى بحث التفاصيل .
الرئيس جمال عبد الناصر :
الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة هو الذى سيتولى من جانبنا بحث وسائل التنفيذ لما اتفقنا عليه .
( انتهى هذا الجزء من محضر الاجتماع ـ والأصل كاملا محفوظ فى أرشيف سكرتارية الرئيس للمعلومات بمنشية البكرى ) .

وفى الحقيقة فلقد تم فعلا تنفيذ كل ما اتفق عليه من ناحية الإمدادات ، ومن ناحية التوقيتات والتدريب وما كاد شهر إبريل 1970 ينتصف  حتى امتنعت إسرائيل تماما عن الغارات على العمق المصرى ، وتحركت واشنطن من جديد لبحث إمكانيات الحل السلمى .
وهكذا يتكشف الدور الأمريكى بسرعة
 ففى شهر ديسمبر 1969 يتقدم ويليام روجرز بمقترحات لمصر والأردن حول التسوية الشاملة .
وفى شهر يناير 1970 يتنكر نيكسون لمقترحات وزير خارجيته ،  وأعلن أن السلام لا يمكن أن يقوم إلا على أساس الاتفاق بين الأطراف من خلال مفاوضات بينها ، فأنهى بذلك أى بحث يدور حول مقترحات روجرز ، ثم  من ناحية أخرى تنكر نيكسون أيضا لقرار مجلس الأمن وكرر التفسير الإسرائيلى بأنه مجرد جدول أعمال لمبادىء يتم التفاوض بشأنها .
وفى الثانى والعشرين من فبراير1970 بدات مرحلة أمريكية تتمثل فى استفزاز مصر ، حيث طلبت الإدارة الأمريكية من القاهرة فى شكل نصيحة بأن تعلن عن قبولها إيقاف إطلاق النار وألا يرتبط ذلك بالانسحاب الإسرائيلى ، وأنه إذا لم تقبل القاهرة هذه الرسالة فإن الغارات الإسرائيلية فى العمق المصرى وضد المدنيين أساسا سوف تستمر ، وربما تتزايد بصورة أكبر لتشمل أهدافا تضر بالاقتصاد المصرى بصورة أساسية .
كانت هذه الرسالة تهديدا صريحا وتطورا خطيرا فى موقف الولايات المتحدة الأمريكية التى تتقدم لنا بإنذار عسكريا ولم تعد تتستر وراء مشروعات سلمية لخداع الرأى العام العربى والعالمى .
و الأدهى من ذلك فقد بعث ويليام روجرز برسالة أخرى فى نهاية فبراير1970 للسيد محمود رياض جاء فيها ما يلى بالنص :
" . . . نحن لا نعرف كيف نستطيع أن نجعل الإسرائيليين ينفذون الأسس التى يقوم عليها المشروعان الأمريكيان "
ومعنى هذه  العبارة أن الولايات المتحدة الأمريكية التى لا تضمن قبول إسرائيل لمقترحاتها تصر فى السعى لضمان موافقتنا على تنازلات جديدة ، مستخدمة فى ذلك كل الوسائل بما فى ذلك التهديد العسكرى ، وفى حال موافقة مصر عليها يأتى الرفض الإسرائيلى فتعلن الولايات المتحدة الأمريكية أنها لا تستطيع إرغام إسرائيل على تنفيذ مقترحاتها ، ثم تكرر اللعبة حتى تحصل على تنازلات إضافية من مصر وهكذا . . . ( لعبة الورقات الثلاثة ) .
وقد بادر الرئيس جمال عبد الناصر بتكليف السيد محمود رياض بإرسال مذكرة لمجلس الأمن الدولى جاء فيها ما يثبت امتناع إسرائيل عن تنفيذ قرارات الأمم المتحدة وبصفة خاصة القرار242 ، كما أوضحت النوايا التوسعية وآخرها ما صرحت به جولدا مائير أمام الكنيست الإسرائيلى فى الخامس من نوفمبر1968 حيث أعلنت :
" إننا عندما نقول أن حدودنا الآمنة هى نهر الأردن ، فإننا نعنى أنه عند توقيع اتفاقية سلام فلن تعبر هذه الحدود أى قوات أجنبية ، بل حتى بعد توقيع اتفاقية سلام لن تتواجد أى قوات أردنية أو عربية غرب نهر الأردن فى ظل أى تسوية سلمية . " .
كما أعلن ليفى أشكول رئيس وزراء إسرائيل فى التاسع من فبراير1969 :
"  أن إسرائيل لن تتخلى عن الجولان " .
وبناء على هذا قام مبعوث الأمم المتحدة جونار يارينج فى مارس 1969 بتوجيه ورقة أسئلة لكل من مصر والأردن وإسرائيل وهى تدور حول الموافقة على تنفيذ بنود القرار242 ، وقد ردت القاهرة وعمان بالإيجاب فى 24مارس1969 ، لكن إسرائيل ردت بالسالب فى الثانى من إبريل1969 .
ولقد كان السؤال الموجه لإسرائيل على وجه التحديد هو :
" هل توافق إسرائيل على سحب قواتها من أرض الأردن التى احتلتها فى نزاعها الأخير ؟ "
وكانت إجابة تل أبيب :
"  أنه عندما يتم الاتفاق وتقرر الحدود الآمنة سيتم سحب القوات من الحدود " .
 وفى رد إسرائيل على مفهومها للحدود الآمنة أجابت :
"  أنه لا يوجد حتى الآن حدود آمنة ومعترف بها بين إسرائيل والدول العربية " .
وهكذا أصبح واضحا أمام الدول الكبرى أن إسرائيل ترفض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة أو الانسحاب من الأراضى التى احتلتها .

ولتحريك الموقف تقدمت فرنسا فى التاسع من ديسمبر 1969 بورقة عمل تشمل اقتراحات تسوية بين الأردن وإسرائيل باعتبار أن سيناء لم تكن تشكل مشكلة أمام انسحاب إسرائيل حيث يتحقق بذلك ـ إن تم ـ الحل المنفرد ، ولكن المشكلة كانت فى الأردن التى كانت إسرائيل تتمسك باعتبار نهر الأردن هو الحد الآمن ، وهذا ما رأت فرنسا أن تقترحه بالانسحاب الكامل لإسرائيل مع تواجد قوات دولية فى المناطق التى يتم الانسحاب منها على أن يتم الانسحاب على مرحلتين ، وفى هذه الحالة ستعتبر خطوط الهدنة هى خط الحدود لتطبيق مبدأ عدم اكتساب أراض عن طريق القوة .
وفى مواجهة المشروع الفرنسى تقدمت الولايات المتحدة الأمريكية باقتراح فى التاسع عشر من ديسمبر 1969 أقرت فيه باعتبار الحدود الآمنة مقاربة لخط الهدنة سنة1949 باستثناء القدس باعتبارها حالة خاصة وضرورة بقائها مدينة موحدة وهو موقف لم تتمسك به واشنطن إطلاقا إنما اقترحته كمناورة قبل اجتماع القمة العربية فى الرباط لتهدئة العرب أو على الأصح قادة عرب معروفين ، ومن ناحية أخرى كمحاولة للتمشى مع المشروع الفرنسى الذى كانت باقى الدول الكبرى تؤيد خطوطه العريضة .
وفى الثلاثين من ديسمبر1969 اجتمع مندوبو الدول الأربع الكبرى فى نيويورك وكان موقف الولايات المتحدة الأمريكية المعلن بالنسبة للحدود وعلى ضوء المشاريع التى قدمتها لكل من القاهرة وعمان :
بالنسبة للقاهرة :
1-    الحدود الدولية لمصر هى الحدود الآمنة مع إسرائيل .
2-    عدم عودة غزة للإدارة المصرية ، وتدخل فى نطاق المباحثات مع الأردن .
3-    عدم عودة شرم الشيخ للسيطرة المصرية ، مع عدم استبعاد وضعها تحت إشراف قوات دولية .
بالنسبة لعمان :
1-    تصب خطوط الهدنة سنة1949 هى خطوط الحدود بين إسرائيل والأردن مع إجراء تعديلات غير جوهرية .
2-    بقاء القدس مدينة موحدة .
واقترحت واشنطن إتباع أسلوب رودس فى المفاوضات بدلا من المفاوضات المباشرة .
واتفقت كل من القاهرة وعمان على رأى موحد ملخصه :
1-    الإبقاء على الحوار مع واشنطن وعدم غلق الباب .
2-    عدم رفض المشروع .
3-    يتقدم الأردن بملاحظاته ويطلب من واشنطن تفسير النقاط الغامضة وخاصة بالنسبة للانسحاب ، مع  التأكيد على أهمية الانسحاب من كافة الأراضى العربية المحتلة ومنها الأراضى السورية .
وقد قبر هذا المشروع عندما رفضت إسرائيل كل بنوده .
واستمرت واشنطن فى سياستها برفضها الاعتراف بالعدوان الإسرائيلى واستمرارها فى إمداد إسرائيل بالأسلحة المتطورة مع عدم قبولها بمبدأ الانسحاب الكامل ، وترى أن مصير غزة وشرم الشيخ مرتبط بالقرار الإسرائيلى ، أى أن الولايات المتحدة الأمريكية  أصبحت ملتزمة بمراعاة ما تقبله إسرائيل . ومن الغريب أن واشنطن تقدمت للقاهرة بمذكرة فى أوائل إبريل1970 سبق أن أشرت إليها ، والتى جاء فيها أنها لا تعلم ما إذا كانت تستطيع أن تصل مع إسرائيل لمحادثات على أساس الوثيقتين الأمريكيتين من عدمه .
ودارت الأمور بعد ذلك فى حلقات مفرغة إلى أن تيقن الكل من استحالة الاتفاق الرباعى .
وأصبح الموقف العام كالآتى :
1-    تزايد الشعور المعادى لأمريكا فى الوطن العربى .
2-    قيام ثورة السودان فى مايو1969 ثم ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 فى ليبيا بما حقق دعم وعمق جديدين للمعركة .
3-     الجمهورية العربية المتحدة تواصل حرب الاستنزاف بنجاح وبتصميم على مواصلة القتال من أجل تحرير الأرض العربية كلها .
4-    تعاون وثيق بين القاهرة ودمشق توج بتوقيع اتفاق عسكرى فى أغسطس1969 ، وانبثق عنه قيادة سياسية للمعركة مشكلة من رئيسى الدولتين وعضوية وزراء الدفاع والخارجية فى البلدين .
5-    تدفق الأسلحة السوفيتية إلى مصر ، وهو ما تراه واشنطن تزايد للوجود السوفيتى فى المنطقة الأمر الذى سبب الإزعاج للولايات المتحدة الأمريكية .
6-    تيقن الرئيس جمال عبد الناصر بأن تحرير الأرض العربية لن يتم عن طريق الأمم المتحدة بل إن الطريق الوحيد لاسترداد الأرض العربية المحتلة هو القوة المسلحة ، ولكن كان علينا فى الوقت نفسه ـ ولإعطاء أنفسنا فرصة للاستعداد ، أن  نطرق الوسائل السلمية لنثبت للعالم حقيقة نوايا إسرائيل التوسعية ـ وهذا ما تقرر فعلا فى اجتماعات مجلس الدفاع العربى الذى قرر فشل الحلول السلمية نتيجة لتعنت إسرائيل ، وما تلقاه من دعم أمريكى مادى وعسكرى وسياسى ، وقرر المجلس دعوة لمؤتمر قمة عربى يعقد فى الرباط فى العشرين من ديسمبر1969 من أجل تحقيق قومية المعركة واشتراك جميع الدول العربية فيها .
وكان لإعلان فشل الحل السلمى هذا أثره على الإدارة الأمريكية التى سارعت بتقديم مقترحات بغرض إقناع الدول العربية بعدم إغلاق الباب أمام التسوية الشاملة ، ولعدم اتخاذ مواقف تسىء للمصالح الأمريكية الواسعة فى العالم العربى كذلك .
ولكن وفى الوقت نفسه كان هنرى كيسينجر قد تولى مسئولية المن القومى فى البيت الأبيض وعمل منذ اللحظة الأولى التى تولى فيها هذه المسئولية على تجميد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية التى نادى بها ويليام روجرز ونجح كيسينجر فى إقناع الرئيس نيكسون بتبنى وجهة النظر الإسرائيلية وعدم الضغط على تل أبيب .
ويحضرنى فى هذا المجال واقعة تدل على الانتهازية السياسية وسوء نوايا هنرى كيسينجر الذى طلب مقابلة السيد محمود رياض وزير الخارجية أثناء وجود الأخير فى نيويورك خلال شهر أكتوبر1969 واشترط كيسينجر أن تتم المقابلة سرا ولن يعرف بها أحد سوى الرئيس نيكسون فقط ، وأن وزير الخارجية الأمريكى ويليام روجرز لا ولن يعلم عن هذه المقابلة شيئا ، وهكذا يتضح أنه هناك صراع  يدور على أعلى مستو للسلطة فى أكبر دولة فى العالم ، فكيف تثق الدول فى ثبات السياسة الأمريكية واحترامها لتعهداتها ، وكان محور اللقاء يدور حول الحل المنفرد بين مصر وإسرائيل الذى أصبح الهدف الأساسى للسياسة الأمريكية والذى كان فى نفس الوقت موضع رفض كامل من القاهرة وغير مقبول مناقشته أصلا .
 وبعد الجهود الرباعية كانت القوات المسلحة المصرية قد وصلت إلى حد الحرب الحقيقية مع إسرائيل فقد كانت القوات الجوية المصرية تضرب فى عمق سيناء ، وكانت المدفعية المصرية تكاد تشل حركة القوات الإسرائيلية ، كما كانت القوات الخاصة المصرية تعبر قناة السويس ووصلت إلى مستو راق من حيث النوع والكم والأداء لم يسبق له مثيل فى العمليات الخاصة .
وفى الاحتفال بعيد العمال فى الأول من مايو1970 وجه الرئيس جمال عبد الناصر خطابا مفتوحا إلى الرئيس ريتشارد نيكسون يطلب منه تحديد موقف بلاده إزاء أحد موقفين :
إما أن يضغط على إسرائيل كى تنسحب من كل الأراضى العربية المحتلة  .
وإما أن يوقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل .
وإلا فإن الولايات المتحدة الأمريكية بذلك تكون شريكا فى احتلال الأراضى العربية باعتبار دعمها للعدوان الدائم والمستمر منذ يونيو1967 .
وقد ردت الإدارة الأمريكية بمجموعة من المبادىء لتسوية سلمية يتم تنفيذها فى ظل وقف لإطلاق النار مع تكليف مبعوث الأمم المتحدة بالاتصال بالأطراف المعنية ( مصر وإسرائيل ) .
وقد قبل الرئيس جمال عبد الناصر بهذه المبادىء على أساس منح الفرصة لتسوية السلمية حقها ، وهو فى الوقت ذاته يثق تماما أن نجاح هذه الفرصة لا يتعدى النصف فى المائة فقط  ، ومن ناحية أخرى كان يعتبر الموافقة هى نوع من اختبار للنوايا ، وفى هذا كسب للرأى العام العالمى ، ومن ناحية أخرى ـ وهى الأهم ـ أخذ الفرصة للمزيد من الاستعداد لمرحلة قتالية سبق الإعداد لها كحرب شاملة ضد إسرائيل هدفها تحرير سيناء والجولان بالتعاون مع القوات المسلحة السورية  فى وقت واحد  . وذلك فى توقيت لا يتأخر عن ربيع عام 1971 .  
وعلى الطرف الآخر ، والأهم فقد بدأت فى هذه المرحلة قوة صاعدة مشتركة من القوات الجوية المصرية والدفاع الجوى المصرى تمكنت من إسقاط أعداد من الطائرات الفانتوم والسكاى هوك الحديثة ، ففى الأسبوع الأول من شهر يوايو1970 أسقطت ثلاثة عشر طائرة إسرائيلية وتم أسر خمسة من الطيارين الإسرائيليين مما ترتب عليه أن قامت إسرائيل بإبلاغ واشنطن بأن سلاح الطيران الإسرائيلى قد بدأ يتآكل.
أدى التصعيد الناجح للعمليات العسكرية المصرية ضد إسرائيل إلى تعبئة الجماهير العربية بشكل واضح ضد سياسة الولايات المتحدة الأمريكية ، ومما زاد فى هذا الشعور المعادى ما ترتب عن الأضرار التى أصابت أطفال المدارس والمدنيين نتيجة للغارات الإسرائيلية على العمق المصرى .
وإزاء هذا التطور وجد الرئيس الأمريكى نفسه فى موقف صعب ، فهو يسعى من جهة أن يحسّن صورة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الدول العربية لتفادى تهديد مصالح بلاده ، ومن ناحية أخرى كان حريصا على تبنى السياسة الإسرائيلية ، وعندما حاول الاقتراب من المطالب العربية العادلة وجد نفسه مضطرا للتراجع تحت الضغط الصهيونى ، إلا أن نيكسون قرر أن يتحرك استجابة لنداء الرئيس جمال عبد الناصر فامتنعت واشنطن فى هذه المرحلة عن البت فى مطالب إسرائيل للحصول على صفقات جديدة من الطائرات وإن كانت قد استمرت فى تسليم الطائرات التى سبق التعاقد عليها بمعرفة الرئيس جونسون  ثم بعث ويليام روجرز وزير الخارجية الأمريكى فى التاسع عشر من يونيو1970 برسالة إلى وزارة الخارجية بالقاهرة تتضمن المقترحات التالية :
1-    أن تتعهد كل من مصر وإسرائيل بإيقاف إطلاق النار لمدة محدودة .
2-    أن تتعهد كل من مصر وإسرائيل بإخطار الأمم المتحدة بالموافقة على ما يلى :
    أ –الموافقة على تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم242 بكل أجزائه وتعيين ممثلين عنهما فى المناقشات التى ستدور تحت إشراف ممثل الأمم المتحدة جونار يارينج .
   ب – الموافقة على أن الهدف من المناقشات هو التوصل إلى اتفاق على إقامة سلام عادل ودائم يقوم على :
(1)    الاعتراف المتبادل بين كل من مصر وإسرائيل ( وبين الأردن وإسرائيل ) بحق كل منهما فى السيادة والإستقلال السياسى .
(2)    الانسحاب الإسرائيلى من أراض احتلت فى نزاع 1967 بما يتمشى مع القرار242 ، كما بعثت الخارجية الأمريكية برسالة توضيحية وتأكيدات إضافية فى مذكرة أخرى تتضمن عدة نقاط ـ النص فى الملحق ـ :
      (أ) أن وقف إطلاق النيران يعنى وقف كل النيران فى الأرض والجو ، وعدم تغيير الواقع العسكرى فى منطقة يتفق عليها غرب قناة السويس ، ومنطقة مماثلة شرق قناة السويس ( تم الاتفاق على أن تمتد لمسافة خمسين كيلو مترا شرق وغرب قناة السويس ) .
      (ب)أن الولايات المتحدة الأمريكية ستطلب من إسرائيل ما تعتبره تنازلات سياسية وهامة للغاية بالنسبة لما يلى :
أ – الموافقة على الدخول فى مفاوضات غير مباشرة لتنفيذ القرار 242 .
ب- قبول مبدأ الانسحاب سابقا على المفاوضات .
ج – أن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية متأهبة للبقاء فى العملية بمجرد أن تبدأ المفاوضات مع الاعتقاد بأنه لا إنسحاب بغير سلام ، ولا سلام بغير انسحاب .
د- تتعهد الولايات المتحدة الأمريكية بعدم تقديم طائرات لإسرائيل عما سبق الارتباط به خلال الفترة التى تجرى فيها المفاوضات للتسوية السلمية ، وأن مجموع الطائرات هى خمسين طائرة فانتوم ومائة طائرة سكاى هوك تم التعاقد عليها فى الأعوام 1968 و1969 وقد تم تسليم إسرائيل حتى يونيو1970 أربعة وأربعون طائرة فانتوم وثمانية وثمانون طائرة سكاى هوك .  

ثم بعثت واشنطن بإضافة شفوية بعد هذه الرسالة ـ بناء على استفسارات من القاهرة ـ جاء فيها :
" أن الولايات المتحدة الأمريكية تعترف بأن الفلسطينيين يمثلون طرفا مهما يجب أن تؤخذ اهتماماته فى الحسبان عند أية تسوية . "
وبذلك فقد عادت واشنطن إلى التفسير السليم للقرار242 باعتباره يتضمن حلا للمشكلة وليس مجرد مبادىء يتم التفاوض بشأنها ، كما عدلت عن تبنى الرأى الإسرائيلى الذى ينادى بالإصرار على إجراء مفاوضات مباشرة ، ونبذ محاولة الحل المنفرد مع مصر .
جاء هذا التحول فى الموقف الأمريكى نتيجة تأكد واشنطن بطريقة لا تقبل الشك أن مصر جادة تماما فى تحرير الأرض العربية المحتلة بالقوة المسلحة ، علاوة على أن التواجد العسكرى السوفيتى كان تحذيرا كافيا ببداية انقلاب فى موازين القوى فى المنطقة ـ أول مرة فى تاريخ الاتحاد السوفيتى يقوم بإرسال طيارين مقاتلين لدولة غير شيوعية ، خاصة بعد أن تبين أن الولايات المتحدة الأمريكية قد أرسلت طيارين أمريكان إلى إسرائيل يحملون جنسية مزدوجة اشتركوا فعلا فى الغارات على مصر وتم أسر بعضهم بعد إسقاط طائراتهم .
أصبح واضحا أن العامل الأساسى الذى دفع الولايات المتحدة الأمريكية للتحرك بسياسة متوازنة هو فى الدرجة الأولى الرغبة فى المحافظة على المصالح الحيوية الأمريكية فى المنطقة بعد احتمالات تزايد  الأخطار ضدها نتيجة تصاعد حرب الاستنزاف من ناحية ، ومن ناحية أخرى فعالية التنسيق العسكرى بين دول المواجهة الذى استند إلى دعم عربى لهذه الدول ، ومن ناحية ثالثة للندّية التى تعاملت بها القاهرة مع الإنذار الأمريكى ( إنذار فبراير1970 ) الذى لوّح بمزيد من التصعيد العسكرى الإسرائيلى فى غارات العمق ضد المنشئات الحيوية لم يؤدى إلى نتيجة ، بل لقد قرر الرئيس جمال عبد الناصر رفض هذا الإنذار وتحداه باتخاذ قرار بتصعيد عسكرى وسياسى وإعلامى مما جعل الموقف يتحول فى هذه المجالات فى السياسة الأمريكية الإسرائيلية  .
كان تقدير الموقف كما يراه الرئيس جمال عبد الناصر فى أوائل شهر يوليو 1970 و حسبما أملاه علىّ:  
1-    مبادرة أمريكية تبدو متوازنة ، وإن كانت تحتاج لدراسة متعمقة للوصول إلى قرار حول مدى جديتها ، ومدى قدرة واشنطن على تنفيذها بواسطة إسرائيل .
2-    تأثير قبول هذه المبادرة على أوضاعنا العسكرية فى جبهة القتال النشيطة ، فى ذلك الوقت خصوصا إذا طلب من القوات المسلحة إيقاف إطلاق النار ، وأثر ذلك على المعنويات المرتفعة ثم العودة إلى القتال من جديد فى حالة فشل تلك المبادرة .
3-    ماذا عن حائط الصواريخ لتقوية الدفاع الجوى فى منطقة قناة السويس ، وبالتالى على العمق المصرى ، حيث أن إيقاف إطلاق النار سيترتب عليه استكمال المواقع التبادلية والاحتياطية المطلوب إنشاؤها فى منطقة قناة السويس وغيرها ، مما يتيح لهذه الصواريخ إمكانية تغطية عملية عبور القوات المسلحة لقناة السويس لتحرير سيناء .

ومع رؤية الرئيس جمال عبد الناصر هذه ، ومع استمرار تساقط الطائرات الإسرائيلية بشكل ملفت للنظر فى خلال هذه الفترة ، قرر أن يقوم بزيارة للاتحاد السوفيتى لسببين رئيسيين :
الأول : أن الاتحاد السوفيتى ، طبعا ، له حساباته وأن على الجمهورية العربية المتحدة أن تراعى ذلك فى قراراتها الخاصة بالمعركة .  
الثانى : لابد أن يكون هناك تلاقى بين الرؤى المصرية والسوفيتية .
وفى اللقاء الأول مع القادة السوفيت شرح الرئيس جمال عبد الناصر الموقف كما يلى :
1-    أن العدوان الإسرائيلى لم يحقق أهدافه السياسية بسبب التأييد الوطنى والعربى والسوفيتى ، هذا بالرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل قد حققا هدفهم العسكرى .
2-    فى نفس الوقت فإن قوى العدوان تباشر علينا ضغوطا سياسية وعسكرية واقتصادية لفرض الاستسلام .
ثم شرح الرئيس جمال عبد الناصر مطولا المواقف الأمريكية الداعمة لإسرائيل فى كافة المجالات ، وكذا ضغوط واشنطن وتأثيرها على جهود الأمم المتحدة بقصد تمويعها وقد تفاقمت الأوضاع بعد ثورة الفاتح من سبتمبر الليبية والتى غيرت موازين القوى الإستراتيجية فى المنطقة كلها وفى حوض البحر الأبيض المتوسط مما أضطر بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية للجلاء عن قواعدهما هناك .
وقال الرئيس : " لقد حاولوا أن يحتووا الثورة الليبية لكن تنبه قادتها ودعمنا لهم أبطل هذه المحاولات  ونحن لدينا قوات برية وبحرية وجوية فى ليبيا لأننا لن نسمح بسقوطها فى أيديهم مرة ثانية وهذا يزيد الحرب ضدنا . "  .
وشرح الرئيس عبد الناصر الأوضاع تفصيلا فى ليبيا ، وبيّن الأهمية السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية لها إلى أن قال : " أن ثورة ليبيا معناها الآن شىء آخر إلى جانب ما شرحت ، معناها أن التيار القومى مستمر فى اندفاعه بقوة وأنه برغم النكسة قادر على تحريك الشعوب العربية .
وباختصار كان إسقاط النظام فى مصر قبل الثورة الليبية هدفا ، والآن أصبح إسقاط النظام المصرى بعد الثورة الليبية ضرورة ، وهذا ما يجعل المعركة ساخنة الآن  " .
وقال أن تصريحات قادة إسرائيل الأخيرة تؤكد هذا التحليل . فقد كانوا يقولون من قبل أن النظام فى مصر هو النظام الوحيد الذى لا نستطيع الاتفاق معه ونضمن تنفيذ الاتفاق معه . . وهم يقولون الآن أن أى اتفاق مستحيل ما دام هذا النظام موجود فى مصر .
وقال الرئيس جمال عبد الناصر أنا أرجوكم أن تضعوا فى حساباتكم جانبا آخر من الصراع ، وهو أن كل محاولات إظهار عجز العرب عن الصمود هى فى نفس الوقت بداية لمحاولة واسعة تستهدف ضرب الاتحاد السوفيتى وإخراجه من البحر الأبيض ومن الشرق الأوسط كله .
إن آبا إيبان يقول فى حديث له لجريدة الهيرااد تريبيون الأمريكية : " إن الروس لأول مرة سواء فى عهد القياصرة أو فى عهد الدولة السوفيتية وصلوا إلى الشرق الأوسط وإلى البحر الأبيض ، وإذا فتحت لهم قناة السويس فإنهم واصلون إلى البحر الأحمر والمحيط الهندى . "  .
وعلّق الرئيس عبد الناصر بعد ذلك على ما قام بشرحه وقال : ولذا فإن المعركة الآن ليست معركة تحرير أرضنا فقط ، ولكنها أيضا معركة تصفية الوجود السوفيتى فى الشرق الأوسط والبحر الأبيض وفى البحر الأحمر وفى إفريقيا ، وإذا لم تستطع مصر ـ لا سمح الله ـ أن تصفى آثار العدوان عليها وعلى الأمة العربية واضطرت إلى الاستسلام ، فإن الاتحاد السوفيتى سوف يكون مرغما على التراجع والخروج تماما من الشرق الأوسط والبحر الأبيض والبحر الأحمر وإفريقيا . وختم الرئيس عبد الناصر تحليله للموقف بقوله : هذا ما أردت أن أقوله فيما يتعلق بكم  .
ثم انتقل الرئيس جمال عبد الناصر بحديثه إلى شرح مبادرة روجرز وقال :
إن مبادرة روجرز كما تعلمون وصلتنى عندما كنت أزور ليبيا مؤخرا ، وهناك وصلتنى معلومات ونصوص مبادرة أمريكية جيدة يعرضها علينا ويليام روجرز ، وأنا أشعر الآن أن فى وسعى أن أقبلها لأسباب ثلاثة :
الأول : أن نتائج زيارتى الأخيرة لكم فى يناير الماضى قد أحدثت تغييرا فى الموازين الإستراتيجية بيننا وبين إسرائيل ، فالعمق المصرى كله أصبح مدافع عنه ، والجبهة فى وضع أفضل بكثير ، ولقد تلقيت صباح اليوم تقريرا بأننا أسقطنا أربعة طائرات إسرائيلية .
فقال الماريشال جريتشكو وزير الدفاع : سيادة الرئيس . . إنكم  أسقطتم هذا الصباح تسعة طائرا وليس أربعة طائرات ، هذا ما جاءنا من خبرائنا  .
      الرئيس عبد الناصر : والسبب الثانى : لقبول مبادرة روجرز ،  هو أننا لا نريد أن نتسبب فى مواجهة بينكم وبين الأمريكان ، فنحن لا نريد لأنكم أعطيتمونا سلاحا أكثر ووضعتم رجالكم فى خدمة حماية العمق المصرى أن تصل المسائل إلى درجة من التوتر تفلت من زمام سيطرتنا .
والسبب الثالث : هو ، أننا بقبولنا مبادرة روجرز وما تنص عليه من وقف إطلاق النار المحدد بثلاثة شهور نريد أن نعطى لقواتنا المسلحة فرصة للحشد والتركيز والتقاط الأنفاس لأننا  حين تنتهى هذه الشهور الثلاثة لابد أن نكون فى وضع يسمح لنا بنوع آخر من العمليات العسكرية . . شىء أكبر من عمليات المدفعية ، وعمليات الاستنزاف والدوريات المحدودة وعبور الوحدات الصغرى .
ثم هناك عامل آخر أحب أن أقوله بصراحة ، وهو أننا نريد أن نستكمل إعداد وتنسيق وضبط فاعلية الصواريخ لتقدر على حماية قواتنا فى أى عمليات على الضفة الشرقية لقناة السويس ، ولهذا كله سوف نقبل مبادرة روجرز . "
برجنيف :
أيها الصديق الرئيس جمال عبد الناصر ، هل  تقبل مبادرة روجرز وهى تحمل علما أمريكيا ؟ !
الرئيس جمال عبد الناصر :
إننى أقبلها بالتحديد لأنها تحمل علما أمريكيا . . فهذه أول مرة تدخل فيها الولايات المتحدة الأمريكية بخطوة تبدو جادة ، وهذه أول مرة تتحرك فيها الولايات المتحدة الأمريكية تحت ضغط أوضاع متغيرة على جبهة القتال فى قناة السويس .
ثم هذه أول مرة ترد فيها كلمة الانسحاب صريحة فى وثيقة أمريكية " .
 
ثم انتقلت المباحثات بعد ذلك إلى متابعة تحديد المطالب العسكرية المصرية من الجانب السوفيتى حيث طلب الرئيس جمال عبد الناصر بإمدادات جديدة ومتطورة خصوصا فى مجال الحرب الإلكترونية والقوات الجوية المتطورة ومعدات القتال الليلى والدفاع الجوى ومطالب القوات المسلحة من خطوط الذخيرة الاحتياطية .
وقبل الرئيس جمال عبد الناصر مبادرة روجرز التى لم يكن لديه أملا فى نجاحها بأكثر من النصف فى المائة ، لكن الواجب هو الذى فرض بقبولها .
وفى الحقيقة فإنه من قبل مبادرة روجرز ومتوازيا مع تساقط الفانتوم الإسرائيلى ونجاح قوات الدفاع الجوى والطيران المصرى فى التصدى للطيران الإسرائيلى بفاعلية مع بوادر القدرة للقوات البرية والقوات الخاصة والمدفعية فقد كانت هذه كلها دلالات على تحول فى النظرة للقدرة العسكرية المصرية الجديدة بقيادة جمال عبد الناصر ، فهل ستسمح الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل أن ينجح جمال عبد الناصر فى المعركة ويعبر قناة السويس ليحرر الأرض ؟
كان سؤال أجابت عليه الأجهزة الأمريكية بإصدارها الأوامر بإنهاء جمال عبد الناصر قبل أن يخرج المارد من القمقم وقرروا ألّا يسمح له بالانتصار بأى حال من الأحوال كما سنرى فى السطور القادمة .
وكان قرار الرئيس جمال عبد الناصر بقبول مبادرة روجرز بعد لقاءات ومشاورات ودراسات شارك فيها مختلف أفرع القوات المسلحة و وزارة الخارجية والمخابرات العامة والمخابرات الحربية وأجهزة مؤسسة رئاسة الجمهورية المتخصصة والتنظيم الطليعى والاتحاد الاشتراكى وبلورتها لجنة خاصة على أعلى مستوى سياسى ثم أقرتها اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكى العربى  .  
وقرر الرئيس جمال عبد الناصر أن يعطى الأولوية لتقوية الدفاع الجوى وتدعيم وحداته على طول الجبهة وفى العمق .
وتم إبلاغ واشنطن بقرار القاهرة الذى سلمه السيد محمود رياض للقائم برعاية المصالح الأمريكية فى القاهرة دونالد بيرجس وهو موافقتنا على مبادرة روجرز مع الإشارة إلى ضرورة انسحاب إسرائيل من الجولان السورى ـ وقد رد بيرجس بأن واشنطن لا تستبعد سوريا ، وأن قبولها للقرار 242 سيؤدى إلى إجراء تسوية معها على أساس عدم جواز اكتساب أراض عن طريق الحرب . وقد أكد السيد محمود رياض للقائم بالأعمال الأمريكى من جديد على نقطتين جوهريتين مرتبطتين بالموافقة المصرية على المبادأة وهما :
1-    الانسحاب الشامل من جميع الأراضى العربية المحتلة .
2-    التمسك بحقوق الشعب الفلسطينى كما حددتها قرارات الأمم المتحدة .
وقد ألحت الولايات المتحدة  الأمريكية على سرعة تنفيذ وقف إطلاق النار قبل الثامن من أغسطس سنة 1970 .
وأذكر فى هذا السياق أن الولايات المتحدة الأمريكية أخطرتنا بأنها سوف ترسل بطائرات استطلاع على ارتفاع عشرة كيلومترات لمساعدة إسرائيل فى الرقابة ، كما أبلغتنا أنها تتصور أن الاتحاد السوفيتى سيفعل نفس الشىء لمساعدة مصر ، إلاّ أن الرئيس جمال عبد الناصر رفض الاعتراف بحق الولايات المتحدة الأمريكية فى إرسال طائرات ( يو2 u2 ) للتجسس علينا لحساب إسرائيل .

ولقد تمكن الفريق أول محمد فوزى وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة وقادة ورجال الدفاع الجوى وسلاح المهندسين وشركات القطاع العام  من استكمال تجهيز المواقع الأساسية لشبكة الصواريخ قبل الثامن من أغسطس1970 ، وكانت قد شكلت لجنة على مستو عال برئاسة الفريق فوزى وعضوية المهندس على زين العابدين صالح وزير المواصلات وسامى شرف وزير الدولة و الفريق محمد على فهمى و المهندس على السيد على رئيس مؤسسة التشييد والبناء واللواء مهندس جمال محمد على مدير سلاح المهندسين واللواء عبد الفتاح عبد الله من مكتب القائد العام للقوات المسلحة لمتابعة التنفيذ يوميا ، وبذلك أصبحت إسرائيل تواجه شبكة كاملة من الصواريخ المصرية حيث لم تكن تتوقع كما لم تتوقع واشنطن أيضا أن تتمكن مصر من القيام بهذا العمل الخارق فى هذا الزمن القياسى وقبل سريان إيقاف إطلاق النار هذا العمل الذى تكاتفت فيه الإمكانيات المادية والبشرية والمعنوية من رجال مصر وعمالها .
ثارت إسرائيل وقامت بتوجيه جام غضبها وثورتها نحو المبادرة الأمريكية ذاتها ، ولم يستطع ويليام روجرز الصمود أمام ثورة إسرائيل وضغوط أنصارها وعلى رأسهم هنرى كيسينجر ( راجع كتابه سنوات فى البيت الأبيض ) حيث كان منذ البداية ضد هذه المبادرة على أساس أن التسوية الشاملة سوف تساعد على التغلغل الشيوعى فى المنطقة .
وتقدمت الإدارة الأمريكية لوزارة الخارجية المصرية بمذكرة فى الثالث من سبتمبر 1970 تتضمن اتهام مصر بمخالفة اتفاقية وقف إطلاق النار .
كما أعلنت إسرائيل فى السادس من سبتمبر1970 رفضها إجراء أى اتصالات مع حونار يارينج مبعوث الأمم المتحدة لوضع الترتيبات الكفيلة بالإشراف المحايد على الاتفاقية ، فانهارت مبادرة روجرز وكسب كيسينجر هذه الجولة التى  كان يرى أنه كان يتحتم على  واشنطن قبل أن تتحرك  نحو الحل الشامل فى الشرق الأوسط فلابد من حدوث تطورات ثلاثة رئيسية وأساسية هى :
أولا : إسقاط جمال عبد الناصر .
ثانيا : إنهاء الوجود السوفيتى فى مصر والمنطقة كلها  .
ثالثا : القضاء على القوة العسكرية للفدائيين الفلسطينيين  .

ولم يكن فشل مبادرة روجرز مفاجأة لنا جميعا ، وبالتالى فلم يتأثر الاستعداد للمعركة ، بل أمكن أن يتحدد بصفة مبدئية موعد معركة التحرير ـ بعد وصول الصفقة السوفيتية الأخيرة ، وأغلبها أجهزة ومعدات إلكترونية ، بما لا يتجاوز ربيع عام 1971 ، كما تم فى هذه المرحلة الإعداد للتصور العام للمعركة بتطوير الخطة " 200 " الدفاعية لتكون خطة هجومية مع قدرة القوات المسلحة على تنفيذ المرحلة الأولى منها " جرانيت 1 " ، أى عبور قناة السويس ثم الوصول إلى خط المضايق فى سيناء ، كما كانت القوات السورية قد استكملت  استعداداتها  لتحرير الجولان أيضا .
ومع اقتراب موعد انتهاء وقف إطلاق النيران تطورت الأمور والأحداث بشكل سريع لم يكن فى الحسبان ولا كان يتخيله بشر . فقد حدث الصدام الدموى بين الجيش الأردنى والمنظمات الفلسطينية فى الأردن ـ وهناك ظلال وأضواء حول هذا الحدث يجب أن تلقى عليه ، وليس هذا مكان بحثها الآن ـ وإن كان فى كلمتين أستطيع أن أٌول بضمير مستريح أن هناك عمالة وخيانة وتآمر لعبت دورا مهما فى هذه الأحداث فى ذلك الوقت .
والحدث الثانى هو انعقاد مؤتمر القمة العربية التى دعا إليه الرئيس جمال عبد الناصر وحضره جميع القادة العرب والتى ترتب عليه قرارات جماعية تنص على إيقاف إطلاق النار فى الأردن وانسحاب الجيش الأردنى  والمقاومة من كافة المدن الأردنية وتكليف ممثلين عن المؤتمر للتوجه إلى عمان يوم 28سبتمبر1970 لمتابعة تنفيذ هذه القرارات .
لقد بذل الرئيس جمال عبد الناصر فى هذه الفترة جهودا خارقة حقق بها احتواء أضخم أزمة تعرض لها العالم العربى منذ 1967 ، كما أنه ارتفع إلى مستوى الأحداث وتغلب على كل المتناقضات إلا أن جسد عبد الناصر لم يستطع أن يتحمل الجهد غير العادى الذى بذله لمواجهة هذه الأزمة ، ورحل الرجل وبقيت الأفكار والمبادىء متمثلة فى مشروعه فى الحرية والاشتراكية والوحدة مشروع الماضى والحاضر والمستقبل .  
وكان يوم 28 سبتمبر 1970 هو يوم الحداد الأكبر ، فقدت فيه مصر والأمة العربية والعالم الإسلامى والعالم كله الزعيم الخالد جمال عبد الناصر .
وفى يوم الخميس الأول من شهر أكتوبر1970 شهد العالم مشهدا لم يحدث من قبل فى التاريخ ، حيث شيع جثمان أطهر الرجال ، عدد من رؤساء الدول والحكومات والمؤسسات والهيئات الشعبية ، لم تشهده جنازة من قبل ، ولم تكن جماهير مسلوبة الإرادة فيما تعبّر عنه حتى بعد غياب القائد والزعيم والمعلم .
لقد رحل جمال عبد الناصر وهو على قناعة كاملة بحتمية المعركة لاسترداد الأرض العربية المحتلة بالقوة ، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة ، كما كان على قناعة كاملة بضرورة التعاون مع الاتحاد السوفيتى بقدرته على مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية وتزويد الأمة العربية بالسلاح لخوض معركة التحرير . وكان على قناعة كاملة برفض الحل المنفرد وتعريض الأمن القومى للخطر فى حالة قبوله ، مع ضرورة التمسك بالحل الشامل لضمان استتباب السلام فى المنطقة .
إن عبد الناصر سيبقى أبد الدهر فى قلوب الملايين ، وستظل مبادئه مشعل يضيء الطريق لكل الثورات .
وستبقى حياته درسا فى النضال وزادا فى الكفاح ومثلا فى الصمود واجتياز التحديات على طريق الثورة . . على طريق الحرية والاشتراكية والوحدة ، وسنواصل المسيرة لأن هذا هو قدرنا الذى لا مفر منه .
لقد كان ولسوف يظل هناك صراع قائم بين القومية العربية ككل وبين قوى السيطرة العالمية ، وأن إسرائيل مخطط  لها أن تلعب الدور الرئيسى لهذه القوى ، وفى نفس الوقت فإن مصر هى القوة الطليعية للعالم العربى ودورها أساسى لأنها القوة الوحيدة المؤهلة والقادرة على إدارة الصراع للأمة العربية ومع شعوبها ـولذلك فإن مصر مستهدفة من هذه القوى ومن إسرائيل بالذات . . مصر مستهدفة أكثر من فلسطين ، وأى طرف عربى آخر بقصد عزلها عن القضية العربية وإن عزل مصر سيحقق لأى قوة عالمية ـ تريد السيطرة ـ حرية الحركة وحرية العمل واللعب فى وبالمنطقة كما تريد .
وإن فى مصر رجال كتب عليهم الرباط إلى يوم الدين بإذن الله  .

سامى شرف
مواطن قومى عربى مصرى ناصرى




 
روابط ذات صلة
· زيادة حول سامي شرف
· الأخبار بواسطة admin


أكثر مقال قراءة عن سامي شرف:
سنوات مع عبد الناصر 1 - سامي شرف


تقييم المقال
المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة



PHP-Nuke Copyright © 2005 by Francisco Burzi. This is free software, and you may redistribute it under the GPL. PHP-Nuke comes with absolutely no warranty, for details, see the license.
انشاء الصفحة: 0.07 ثانية