Welcome to



جمال عبد الناصر   


الوحدة العربية

عبد السلام عارف كما رايته
عبد السلام عارف كما رأيته - صبحي نانظم توفيق 

فائز البرازي


إعلان بيروت العربي الدولي لدعم المقاومة

 

خالد الناصر

ثـــورة يولــــيو
ثـــورة يولــــيو  

مجلة الوعي العربي

موقع سامي شرف

  
المشروع العربي بين إدارة الصراع مع الأعداء، وإدارة التكامل والوحدة داخل الأمة
Contributed by زائر on 26-11-1434 هـ
Topic: معن بشور


المشروع العربي
بين إدارة الصراع مع الأعداء، وإدارة التكامل والوحدة داخل الأمة  

معن بشور
دار الندوة 30/9/2013

    قيل الكثير في المناسبات التي نلتقي حولها اليوم، ذكرى الانفصال عام 1961، وذكرى رحيل الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970، وذكرى تحرير بيروت من العدو الصهيوني عام 1982، وذكرى انطلاقة انتفاضة الأقصى عام 2000، غير أن هذه المناسبات رغم تعددها وتباعدها في الزمن، وتوزعها على أجيال وأقطار، إلاّ أن ما يجمعها هو معركة وأحدة هي معركة الأمّة في سبيل استقلالها ووحدتها ونهضتها، معركة عناوينها كانت وما تزال فلسطين والمقاومة، الأمّة ووحدتها، التاريخ ودروسه...
    ولعل الاستفادة من دروس التاريخ القديم والمعاصر دون الوقوع في أسره تشّكل اليوم وأحدة من أبرز التحديات التي تواجهها الأمّة بمفكريها ومثقفيها ومناضليها وأبنائها جميعاً، لأن التاريخ إذا أحسنا الاستفادة من عبره يصبح منارة تهدينا سواء السبيل، وإذا حّولناه إلى سجن تحوّل حاضرنا إلى جحيم ومستقبلنا إلى هدر وضياع.
    فهل تمعّنا قليلاً في دروس الوحدة المصرية – السورية، وفي الانفصال المشؤوم، وأدركنا كم كانت واهية تلك الذرائع التي استخدمتها قوى استعمارية ورجعية للتآمر على الوحدة، وكم جرى استخدام شعار محّق ومطلوب كالديمقراطية لضرب أغلى الآمال العربية وأعزّها، فخسرنا الوحدة ولم نربح الديمقراطية، بل كدنا أن نخسر مصر وسوريا في مواجهات وحروب مستمرة، بشكل أو بآخر، منذ ذلك اليوم المظلم قبل 53 عاماً.
وهل تأملنا قليلاً في تداعيات رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وهو في عزّ شبابه وعطائه، قبل 43 عاماً، وتذّكرنا بتجرّد وموضوعية كم قسونا على الراحل الكبير، حكاماً وأحزاباً وجماعات، حتى إذا ما غاب أدركنا حجم "الفراغ الكبير" الذي تركه قائد مصر والأمّة، ليس في مصر وحدها، بل على مستوى الأمّة والإقليم والعالم، وهو فراغ ستملأه بالضرورة جماهير مصر والأمّة ورجال المقاومة البواسل في كل ساح.
وهل درسنا جيداً الآفاق التي فتحتها انتفاضة الأقصى أمام القضية الفلسطينية بالذات، وأمام جماهير الأمّة عموماً، حين كسر المنتفضون الأبطال حاجز الخوف من "الجيش الذي لا يقهر"، وباتوا نموذجاً لأشقائهم، وتحولت الحجارة إلى رمز لكل الشعوب المغلوبة على أمرها لكي تتحرك ضد أنظمة الفساد والاستبداد والتبعية، فتُسقط بعض هذه الأنظمة قبل أن تنجح محاولات الاعداء إلى استدراج بعضها إلى مواقع الاحتراب الأهلي والارتباط الذليل بالقوى الاستعمارية بل وتحريضها على شعوبها.
أما فلسطين، وهي أم التحديات ومدخلنا إلى مواجهتها جميعاً، فلقد أكّدت الانتفاضتان 1987 و 2000، وقبلهما وبعدهما، كما أكّدت المقاومة الممتدّة من 1/1/1965 حتى الآن، مروراً بحربي غزّة في السنوات الماضية، أنها ليست قضية ماض نترحم عليه، أو قضية حاضر نأسف لتّرديه، بل هي قضية مستقبل الأمّة التي تبني نهضتها وهي تحرّر أرضها، ومستقبل العالم بأسره الذي تحرّره مقاومة المشروع الصهيوني من آخر قلاع العنصرية والاستعمار في العالم، وتزيل وصمة عار كبرى على جبين الإنسانية التي رعت أكبر دولها قيام كيان مدجّج بالإرهاب والتمييز العنصري وانتهاك الكرامة والحقوق الإنسانية.
ولعل تحرير بيروت عام 1982 هو الذي سبق الانتفاضة الأولى ومهّد لها، ثم تحرير الجنوب والبقاع الغربي عام 2000، الذي سبق الانتفاضة الثانية وأسهم في إشعالها، هو الذي افتتح عصر الانتصارات للحق العربي والفلسطيني ليبدأ معه عصر الهزائم للمشروع الصهيوني – الأمريكي مما يجعل من معركة بيروت علامة فارقة في تاريخ صراعنا مع العدو الصهيوني، وعلامة تؤكّد أن المقاومة هي طريقنا لتحرير الأرض وحماية الإرادة والاستقلال، وأن كل تحامل على هذه المقاومة، في لبنان أو فلسطين أو العراق أو سوريا، إنما يّصب في خدمة مشروع أعداء الأمّة الراغبين في تجريدها من كل أسلحة الدفاع عن وجودها، وفي المقدّمة منها سلاح المقاومة، الذي نحرص اليوم، كما حرصنا قبل عام 1982، أن يبقى منزّهاً عن الشوائب، مصاناً من التجاوزات، لأن الانضباط الصارم هو شرط المقاومة على نفسها، قبل أن يكون شرط أحد عليها، كما قال يومها زميلنا المحامي خليل بركات في افتتاحية له نشرت في جريدة "السفير" في خريف 1981.
أيها الأخوات والأخوة
التحديات التي تواجهها الأمّة متعدّدة ومتوغلة في كل مجال، وليس المجال هنا لتعدادها تحدياً تحدياً، فهي كما تعلمون جميعاً ينتمي بعضها إلى السياسي والأمني والاستراتيجي، وبعضها الآخر إلى الاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وبعضها الثالث إلى الثقافي والعلمي والتربوي والإعلامي، ولكل عنوان من هذه العناوين فروع، ولكل فرع عناوين، مما يتطلب أبحاثاً ودراسات وجهداً اجتماعياً لا يمكن اختصاره بلقاء وأحد، وشخص وأحد، وبدقائق معدودة ومحدودة.
غير أن ما سأسعى إلى تناوله بهذه العجالة، سيركز على عناوين الاستجابة لهذه التحديات، فلكل تحدٍ، كما يقول المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي واستجابته، فكيف بأمّة تملك ما تملكه أمتنا من طاقات وموارد ومواقع إستراتيجية، ومن قدرات واستعداد للتضحية والعطاء، ومن عناصر تكامل ووحدة بين مكوناتها، ومن مصالح مشتركة وأعداء مشتركين، بحيث أن هذه الأمّة لو امتلكت القرار والإرادة للاستجابة، والإدارة لمواردها ولصراعاتها، لأمكن لنا الخروج من حالة أمتنا الراهنة.
في هذا المجال لا بدّ لنا من التركيز على ثلاثة عناوين رئيسية دون أن ننسى كل العناوين أو التحديات الأخرى:
العنوان الأول: يركز على تحدي إدارة الصراع العربي – الصهيوني الذي هو المدخل لمواجهة كل صراع آخر في المنطقة بل لفهم الكثير مما نواجهه على امتداد الأمة والإقليم، لأن الخطر الصهيوني، وخطر حلفائه وداعيميه  وشركائه، لا ينحصر بفلسطين وحدها، ولا بالأقطار المحيطة بها فحسب، بل هو خطر يتوغل في كل أقطار الأمّة من المحيط إلى الخليج، وفي كل مكونات المنطقة والإقليم، مدركاً أن لا حياة لكيان مصطنع مزور في هذه المنطقة إلاّ بفناء كل ما حوله، أو على الأقل الاجهاز على كل ما يملكه من قوة وقدرة آنية أو مستقبلية لمواجهته.
في هذه الإدارة للصراع ينبغي التنبه إلى مسألتين: أولها إدارة الصراع على مستوى الميدان، وهذا لا يتم إلاّ عبر المقاومة وسلاحها وتجهيزها باعتبارها اللغة الوحيدة التي تربك العدو وتزعزع كيانه، وعبر انتفاضات شعبية متواصلة ومتصاعدة تزج بطاقات الشعب الفلسطيني كلها في المواجهة، وتحّرره من القيود التي فرضتها عليه اتفاقيات أوسلو، وتستعيد الوحدة الوطنية الحقيقية التي تبنى في جو المشاركة في الكفاح لا في جّو تقاسم مغانم السلطة هنا وهناك.
أما المسألة الثانية فهي التنّبه لأهمية كسب البيئة العالمية للحق الفلسطيني والعربي، وهو كسب يجّرد العدو من أحد أقوى الركائز التي اعتمد عليها قبل تأسيس كيانه وبعده، وهو الرأي العام العالمي الذي أبدى هذا العدو ذعراً من خسارته التاريخية له، لاسيّما بعد المعركة البطولية لأسطول الحرية، التي كان ممكن أن تعطي ثماراً مضاعفة لو لم يتنّكر السيد رجب طيب اردوغان لشرف بلاده ودماء شهداء تركيا الأبطال على متن "مرمرة"، وعاد لينخرط في سياسة استرضاء تل أبيب وواشنطن، وهي سياسة بدأت بمنع انطلاق سفن جديدة لكسر الحصار لتنتهي في ما نراه حالياً توريطاً خطيراً لبلاده في سوريا ومصر وبلدان المنطقة بما يخالف مصالح الشعب التركي الصديق نفسه وروابط الأخوة الروحية والحضارية التي تجمعنا به.
في هذه المسألة أي في كسب البيئة العالمية للحق الفلسطيني والعربي، ينبغي التحذير من أمرين أولهما خطورة أن يتم تغليب هذا الاعتبار، أي الدولي، على الاعتبار الميداني، أي المقاومة، لا لخطورة تغليب السياسي والدبلوماسي والإعلامي على الجانب النضالي والكفاحي والمقاوم والانطلاق إلى مساومات ومفاوضات عبثية تشّوش على الصورة الحقيقية للصراع فقط، بل أيضاً لأن التغيرات في الميدان هي التي تسرّع في تعبئة الجهود والطاقات الإقليمية والدولية، ولنا في دروس المقاومة في لبنان وغزّة الدليل القاطع في هذا الأمر.
إن إدارة الصراع مع العدو الصهيوني وحلفائه وشركائه تقتضي إعادة الاعتبار لأولوية القضية الفلسطينية في الحياة العربية، ليس لمركزية هذه القضية فحسب، بل لأن هذه الأولوية هي عامل توحيد طاقات الأمّة ومكوناتها بما يؤدي إلى ما يمكن تسميته بإدارة التنوع والاختلاف بين مكونات الأمّة وتياراتها، فقد علمتنا التجارب أنه في كل مرّة نسيء إدارة هذا الاختلاف عبر الإقصاء أو التفرد أو القهر أو الاجتثاث كنّا نفشل في الاستجابة لكل التحديات التي تواجهه الأمّة، وفي كل مرّة كنا نحسن إدارة التنوع والاختلاف بيننا كنا نسير في طريق الانتصار، ولعل تجربة حرب تشرين قبل أربعين عاماً هي أسطع دليل على قدرات الأمّة إذا أحسنت إدارة مواردها وأخضعت الاختلافات القائمة بين أقطارها ومكوناتها إلى التناقض الرئيسي مع العدو، وهذا ما يقودنا إلى العنوان الثاني في هذا الحديث.
العنوان الثاني هو إدارة التنوع والاختلاف بين أقطار الأمّة ومكوناتها وتياراتها العقائدية والسياسية، وهي إدارة يمكن تلخيصها بفكرة التكامل والوحدة، تماماً كما يمكن اختصار إدارة الصراع على العدو بالمقاومة بكل تجلياتها العسكرية والسياسية، الشعبية والثقافية، الاقتصادية والتنموية، الميدانية والدبلوماسية.
وأعداء أمّتنا من صهاينة ومستعمرين وأدواتهم المحليين، إنما صنعوا كل هزائمنا حين نجحوا في التسلل غير ثغرات كامنة أو معلنة في إدارة العلاقات بين مكونات مجتمعنا والتيارات الرئيسية في الأمّة، كما عبر اختلالات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية وتربوية سادت أنظمتنا ومؤسساتنا وبنانا التنظيمية.
إن الضمانة الأولى لنجاحنا في إدارة التنوع والاختلاف في مجتمعاتنا تكمن في إقرارنا بهذا التنوع والاختلاف والإقلاع عن أي فكرة أو ممارسة تعتمد على فكرة الإقصاء أو الاستئصال أو الإلغاء بحق بعضنا البعض أياً تكن الأسباب، وأياً تكن الأحجام أيضاً.
وفي مقدمة هذا الإقرار السهل الممتنع هو أن نتجاوز في علاقاتنا مع بعضنا البعض فكرة الأقليات، أثنية كانت أم طائفية أم مذهبية أو حتى جهوية، وأن نعتبر أن في أمّتنا أكثريتان عربية تضم مسلمين بكل مذاهبهم، وغير مسلمين، وتحديداً مسيحيين بكل مشاربهم، وأكثرية اسلامية تضم عرباً مسلمين بكل أقطارهم وغير عرب بكل قومياتهم وإثنياتهم، لاسيّما الإخوة الكرد والأمازيغ والتركمان وغيرهم من قوميات تتساكن مع العرب في وطن وأحد كبير، وتجمعها بهم معارك كبرى ضد الغزاة، ومصائر مشتركة في مواجهة كل التحديات.
ولا يمكن تجاوز فكرة التمييز على أساس عرقي أو ديني أو مذهبي إلاّ بالتزام فكرة المواطنة التي يتساوي فيها الجميع، حقوقاً وواجبات، ورابطة العروبة التي هي رابطة جامعة بالتعريف، ديمقراطية بالمضمون، وحضارية بعلاقتها المميّزة بالإسلام وارتباطها بأرض خرجت منها كل الرسالات السماوية، وإنسانية بعدائها لكل أشكال العنصرية والشوفينية ضد مكونات تربطها بها الوطنية داخل الأقطار، والحضارة الإسلامية العربية التي أسهم في صياغتها عرب من كل الأديان، ومسلمون من كل الأعراق.
وهذا الإقرار بوجود تنّوع إلى حدود الاختلاف بين مكونات الأمّة الاجتماعية والعقائدية والسياسية والحزبية يتطلب كذلك إقراراً باستحالة إلغاء أي مكوّن أو اجتثاثه أو استئصاله مهما بلغت قوة الراغب بهذا الإلغاء أو الإقصاء، ولنا في التجارب العديدة التي مرّت بها أقطارنا خلال العقود الماضية ما يؤكّد صحة هذه الفكرة وسلامتها، وبالتالي ضرورة أن يسقط الجميع من حسابه مثل هذه النزعات الإقصائية والإلغائية ويغلّب لغة الحوار بين مكونات المجتمع على أي لغة أخرى.
إن الإقرار بالتنوع، والإقرار باستحالة الإقصاء، يقودان أيضاً إلى الابتعاد عن لغة يعتمدها بعضنا حين يختلف أو يصطرع أو يحترب مع البعض الآخر، وهي لغة التحريض الطائفي والمذهبي والعنصري، وهو أكبر اللغات انحطاطاً، خصوصاً إذا ما اقترنت بلغة التكفير أو التخوين (وكلاهما من جذر فكري ونفسي وأحد)، وأصحابهما يتلاقيان في المنهج وإن اختلفا في الأهداف والنوايا.
ولو عدنا إلى تاريخنا المعاصر والقديم، السياسي والديني، الحزبي أو المذهبي، لاكتشفنا كم دفعت الأمّة عموماً، وكل قطر من أقطارها، ثمناً باهظاً لهذا النهج، فالتكفير أو التخوين لم ينحصرا بمن هو من دين آخر أو تيار آخر أو حتى حزب آخر، بل طال أفراداً وقيادات وجماعات تنتمي للتيار ذاته أو حتى للحزب ذاته، والأمثلة على ذلك كثير ولا حاجة لاستعادتها، فالنهج الإقصائي هو وليد تخلّف فكري، وعجز سياسي، وجهل إنساني، ويؤدي خدمة مباشرة أو غير مباشر لأعداء الوطن والأمّة.
لذلك لم يكن غريباً أن تكون إستراتيجية الدول الاستعمارية ومعها المشروع الصهيوني قائمة على فكرة التجزئة بين الأقطار والتفتيت داخلها، وهذا ما تبلور في العقدين الماضيين باسم مشروع الشرق الأوسط الكبير بعناوينه الأمريكية والصهيونية والذي يقوم على تشجيع ما سمي (بالفوضى الخّلاقة) التي هي تغذيه لكل أشكال الاحتراب الأهلي، وتسعير للتناقضات بين مكونات الأمّة، كما بين تياراتها وأحزابها، وبالتالي لا يمكن مقاومة هذا المشروع الاستعماري – الصهيوني بأن ننخرط في صراعات رسمها لها المشروع، وفي حروب خطّطها لنا، ولا يكفي أن تكون نوايانا طيبة فالطريق إلى جهنم، وجهنم هنا هي هذا المشروع الجهنمي، معبّدة بأصحاب النوايا الطيبة.
في مواجهة ثقافة الإقصاء أو التخوين أو الإلغاء التي يقع بها كثيرون من مدارس فكرية وسياسية متعدّدة، لا بدّ من ثقافة الوحدة والتكامل، والتمييز بين الرئيسي من التناقضات وبين الثانوي منها، وهي ثقافة تتطلب مشروعاً متكاملاً للوحدة والديمقراطية، للاستقلال والعدالة الاجتماعية، للتنمية والتجدد الحضاري، وكلها عناوين المشروع النهضوي العربي الذي أطلقه مركز دراسات الوحدة العربية في يوم الوحدة المصرية – السورية (22 شباط/فبراير 2010)، بعد جهد فكري استمر أكثر من عشر سنوات، وساهم في إنجازه مفكرون بارزون من كل تيارات الأمّة، سعوا منذ أكثر من عقدين من الزمن إلى بناء كتلة تاريخية من كل التيارات الملتزمة بنهوض الأمة، لا سيّما التيارات الإسلامي والقومي واليساري العروبي والليبرالي الوطني والذي جاءت تطورات ما يسمى بالربيع العربي من اجل الإطاحة بهذه الفكرة، وتحويل الميادين العربية، ومراكز السلطة في العواصم العربية إلى ساحة صراع دامية لم تنحصر أثارها قتلا للناس، وتدميراً للأوطان فحسب، بل سعت للإجهاز على انجازات كبرى حقّقها تلاقي التيارات الرئيسية في الأمة سواء في مواجهة المحتلين والغاصبين كما في فلسطين والعراق ولبنان، أو في مواجهة أنظمة الاستبداد لا سيّما في مصر وتونس حيث لا يستطيع أحد أن ينكر إن ميادين الثورة كانت ساحات تجسّد تلاقي قوى من كل التيارات جمعتها فيما مضى سجون وملاحقات، وفرقتها اليوم صراعات التنافس المحموم على السلطة، وما أدت إليه من خسائر على كل المستويات.
إن أدارة التنوع بالتكامل، والاختلاف بالحوار هي اليوم أحد المفاتيح الكبرى لا لمعالجة الخراب الفكري والسياسي والاجتماعي والدمار المتفشي في العديد من أقطارنا، بل لاستعادة اللحمة على قاعدة بسيطة وواضحة هي مواجهة العدو الصهيوني وإسقاط كل التنظيرات التي تدعو إلى تأجيل هذه المواجهة، ولو فكريا وجهوزياً، إلى ما بعد حسم الصراع على السلطة في هذا القطر أو ذاك، أو عبر توجيه الأنظار نحو عدّو آخر غير العدّو الصهيوني وحلفائه وشركائه أي إلى إيران مثلاً، والى الفتنة السنية الشيعية تحديداً، وقد تناسى بعض هؤلاء أنهم حين تحالفوا مع شاه إيران كان الشاه فارسياً وشيعياً وصفوياً، لكن  ارتباطه بالاستعمار والصهيونية غفر له ما تقدم من ذنوبه وما تأخر، كما نسوا هؤلاء إن الرئيس جمال عبد الناصر وبعده الرئيس صدام حسين، لم يكن فارسياً ولا شيعياً ولا صفوياً، ومع ذلك اشتركوا في حروب ومؤامرات ضدهما بهدف إسقاطهما... والتاريخ يكشف حقائق دامغة في هذا الصدد..
إن إدارة التنوع والاختلاف هو المدخل الأسلم لقيام مشروع عربي مستقل يرتكز على تكامل بين الأقطار وعلى الوحدة داخل كل قطر، وهو العنوان الثالث لحديثنا اليوم.
إن هذا المشروع العربي المستقل، والذي هو الترجمة السياسية المرحلية للمشروع النهضوي العربي، هو مشروع استراتيجي وسياسي، اقتصادي واجتماعي، ثقافي وتربوي وإعلامي، بل هو مشروع قومي على مستوى الأمة، ومشروع وطني داخل كل قطر يسعى إلى وقف الانهيار الدموي الذي نشهده في غير دولة عربية ويخرج هذه الدول من النفق الذي تعيش فيه، سواء من يحترق بنار هذا النفق اليوم أو من ينتظره الحريق في أي لحظة قادمة، فحين يهّب الحريق في غرفة فلن يسلم البيت منه، وإذا هبّ الحريق في بيت فلن تنجو بيوت الحي من حوله.
وهذا المشروع العربي المستقل ليس مشروعاً معادياً أو حتى منافساً لمشاريع أمم مجاورة تجمعها مع الأمة العربية روابط ومصائر متعددة، بل انه يقوم على فكرة التكامل الإقليمي بين العرب ودول جوارهم الحضاري والجغرافي، يعّمقون ما بينهم من أواصر وعلاقات، ويعالجون مع بعضهم كل الملفات الخلافية أو السياسات على قاعدة التكامل الذي يرفض العداء بين أمم متآخية، كما يرفض هيمنة أمة على أخرى وتدّخلها في شؤونها الداخلية...
مبررات قيام المشروع العربي كثيرة وعديدة، ولعل أبرزها هذا الشعور العارم على مستوى جماهير الأمة العربية ونخبها في آن، بغياب مثل هذا المشروع فيما تحضر بقّوة مشاريع إقليمية، منها الحليف كإيران التي نعالج التباينات معها على قاعدة هذا التحالف، لا سيّما في الشأن العراقي، ومنها من نختلف بشدّة مع حكومته كتركيا وإن  كنّا نطمح إلى تجاوز هذا الخلاف، ولا سيّما في الشأن السوري، والمشروع الإسرائيلي الذي لا لغة للتعامل معه إلاّ لغة المقاومة التي أثبتت في لبنان وفلسطين أنها قادرة على صّد عدوانه، وعلى ضعضعة ثقته بنفسه، وعلى إدخاله في مأزقه التاريخي الوجودي حيث بات يتهيب من الحرب، ولا يرغب بسلام يفقده مبرر وجوده.
قد يبدو الحديث عن هذا المشروع طوباوياً وخيالياً في ظل ما نراه حالياً من ترد واحتراب وصراعات بين الأقطار العربية وداخل بعض منها، لكنني اعتقد إن الظروف مؤاتية اليوم أكثر من أي وقت أخر لبروز هذا المشروع لا سيّما إذا ارتكز على نواة ثلاثية، كانت تاريخياً رافعة كل نهوض وقوة عربية، هي تفاهم فتكامل فوحدة بين مصر والعراق وسوريا، ففي مثل هذا التفاهم التكاملي حلّ لمشكلة ضعف الأمة ووهنها وتفكك مجتمعاتها على أسس عرقية وطائفية ومذهبية من جهة، كما فيه الحل لمشكلات كل قطر من هذه الأقطار على حدة، لا سيمّا في مسألة الأمن القومي المهّدد في الأقطار الثلاثة، كما في مسألة الوحدة الوطنية والهوية العربية لها.
وهناك أمران يدعمان إمكانية قيام هذه النواة التي تنفتح عبر العراق وسوريا على دول المشرق العربي، بما فيها الجزيرة والخليج المهدد ديموغرافياً في عروبته، وعبر مصر على المغرب العربي الذي يشّكل رافداً كبيراً لهوية الأمة العربية والإسلامية، بل وتكون قادرة كقوة عربية حقيقية أن تقيم علاقات متوازنة مع دول الجوار الحضاري وفي مقدمها إيران وتركيا وصولاً إلى أثيوبيا ودول الجوار الأفريقي.
الأمر الأول نابع من دروس التاريخ القديم والجديد حيث أن المنطقة عبر وحدة هذا الثلاثي مصر وبلاد الشام وارض الرافدين كانت تتصدى بنجاح لكل الغزوات الخارجية من مغول وتتار وفرنجة. وفي تاريخنا المعاصر أن وحدة الأمة قد قامت من مخاض مواجهة العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ومواجهة الاحلاف والحشود العسكرية على أغلب الحدود مع سوريا.
أما الأمر الآخر الذي يفتح الآفاق أمام بلورة هذا المشروع فهو المتغيرات المتسارعة التي نشهدها على مستوى العلاقات الدولية من تراجع للهيمنة الأمريكية وتقدم لروسيا والصين ودول البريكس، وبروز دور للقوى الإقليمية لا سيّما إيران التي تتحول إلى قوة إقليمية عظمى، ولولا حماقة اردوغان وحساباته الخاطئة وتوّرطه الغير مبرر في الأزمة السورية لكانت تركيا مؤّهلة أيضاً لدور إقليمي كبير كان ممكناً لها الحصول عليه لو أدرك حكامها خصوصيات الأمة العربية، وتمييزها بين الحرص على أفضل العلاقات مع الأمم المجاورة، وبين رفضها، على ما فيها من اختلالات ووهن، أن تكون مجرّد دول تابعة لدول أخرى إقليمية كانت أم عالمية.
هنا لا بد من التوقف أمام نقاش جار هذه الأيام على غير مستوى، مع شعور العديد من أبناء الأمة ونخبها بمحنة غياب العرب عن المشاركة في معالجة مشكلاتهم والدفاع عن قضاياهم، لا سيّما بعد أن انحرفت جامعة الدول العربية عن دورها وميثاقها وباتت منبراً وصوتاً مهمته الرئيسية دعوة القوى الاستعمارية إلى التدخل العسكري في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء فيها بدءاً من العراق  فليبيا وصولاً إلى سوريا منذ أكثر من عامين، فيما تتخلى بوضوح كامل عن واجباتها تجاه القضية الفلسطينية ومعالجة معاناة شعبها الصامد، وإذا تدخلت فلكي تدفع هذا الشعب إلى الاستسلام أو الانقسام أو إلى الأمرين معاً.
لكن في هذا النقاش لا بّد من أن نتذكر أن الحضور العربي على مستوى قواه المقاومة والممانعة لم يكن يوماً مؤثراً على المستويين الإقليمي والدولي كما هو اليوم، رغم أن التعبير الرسمي عن هذا الحضور هو بأسوأ حالاته في ظل القوى المهيمنة على النظام الرسمي العربي منذ الحرب الأولى على العراق عام 1991.
فهل يمكن أن نفصل واقع التراجع اللافت اليوم في الهيمنة الأمريكية على العالم عمّا حققته المقاومة العراقية الباسلة على امتدد العقد الماضي، بل ألم يكن انشغال "القطب الأمريكي" الأكبر بمعالجة هزيمته المتصاعدة في العراق فرصة لنمو نفوذ أقطاب دوليين آخرين لا سيمّا في روسيا والصين، بل وحتى لتنامي  فعالية  الدور الإيراني ومشروعه النووي الذي أفسح الارتباك الأمريكي في العراق، ثم في أفغانستان، الطريق إلى قيامه وبهذه السرعة حتى باتت أمنية رئيس الولايات المتحدة الأمريكية أن يجتمع بالرئيس الإيراني بعد 34 سنة من القطيعة، بل حتى أن ينتزع اتصالاً هاتفياً منه.
وهل يمكن أن نفصل تنامي أدوار روسيا والصين دولياً، وإيران على الصعيد الإقليمي لولا صمود سوريا بشعبها وجيشها وقيادتها أمام حرب أسطورية، إقليمية ودولية، سعّت لاستغلال مطالب مشروعة ومحقّة للشعب السوري لتنفيذ مخطط خطير لتدمير سوريا، دون أن ننكر بالطبع دور الدعم الإيراني والروسي والصيني ودول البريكس وأميركا اللاتينية الكبير في صمود سوريا بوجه ما تتعرض له.
ثم هل يمكن أن نفصل ما يعيشه الكيان الصهيوني من أزمة وجودية متصاعدة، وارتباكات إستراتيجية وعسكرية وأمنية متصاعدة، لولا مقاومة اللبنانيين والفلسطينيين الباسلة والمتواصلة. ونجاحها في إيجاد ردع فعّال أمام مخططات العدو، وهي مقاومة عربية تعتمد على دعم عربي وإسلامي ممثلاً بسوريا الحاضنة وإيران الداعمة والجماهير العربية المساندة والضاغطة على حكامها مع كل عدوان إسرائيلي على لبنان وفلسطين.
بل هل يمكن أن نقرأ الكثير من المتغيرات الحالية لو لم تقم الجماهير العربية، لا سيمّا في مصر، في كسر حاجز الخوف وإسقاط كنز استراتيجي للعدو الصهيوني وإرباك الإستراتيجية الأمريكية التي حاولت الالتفاف على إرادة الشعب المصري والسعي للإيقاع بين مكونات وطنه، شعباً وجيشاً، مسلمين وأقباطاً.
وكما يقول الفلاسفة فان الحضور العربي "بالقوة" كبير وقوي، ولو كان التعبير السياسي العربي عن هذا الحضور "بالفعل" سواء عبر النظام الرسمي العربي الغارق في التبعية والفساد والاستبداد ضعيفاً بل ومعادياً لحضور قوى المقاومة والممانعة، أو عبر التنظيمات والحركات والأحزاب العربية المتصارعة والمنهكة بفعل قمع السلطات لها أو غرقها في لعبة السلطة ومتطلباتها وامتيازاتها.
إن من ابرز التحديات تكمن اليوم في السعي لترجمة الحضور العربي المقاوم والفاعل إلى حقائق سياسية في النظام الرسمي العربي، وهو أمر لا يتم بدون مشروع عربي يبدأ بنواة مصرية سورية عراقية ويمتد إلى كل دولة عربية ما تزال تمتلك الحد الأدنى من استقلالية الإرادة والقرار كالجزائر مثلاً.
طبعاً هناك تحديات كثيرة تواجه امتنا العربية وتتطلب استجابة لها سواء على المستوى السياسي في علاقة السلطة بالمجتمع، والدولة بالمواطن، أو على المستوى الاقتصادي في قيام تنمية اقتصادية مستقلة ومستدامة تعتمد على تكامل عناصر الإنتاج في وطننا العربي وعلى سوق عربية واسعة ووحدة اقتصادية عربية ما زالت قرارات تأسيسها نائمة في إدراج جامعة الدول العربية منذ عقود، أو على المستوى التربوي لتنشئة جيل مواكب لتطورات العصر ومتشبث بأرضه وهوّيته ووطنه، أو على المستوى الثقافي لقيام مرجعية فكرية وثقافية عروبية تتكامل مع مرجعيات معرفية عالمية دون أن تكون مجرد امتداد ذيلي لها، أو على مستويات عدة تتصل بحقوق المرأة والإنسان وتصون البيئة والموارد الطبيعية للأمة وتطور مراكز الأبحاث العلمية والدراسات على أنواعها، فنفهم واقعنا بشكل أفضل وندرس قوانين حركته بشكل عميق بعيداً عن الارتجال والعشوائية.
إن كل تحدٍ من هذه التحديات يحتاج إلى نقاش واسع في مؤتمرات وندوات وحلقات دراسية تشخّص مصادر الخلل والضعف وتحدّد وسائل الخروج منها، بما فيها التحدي البالغ الأهمية وهو بناء أدوات النهضة وآلياتها عبر وسائل تنظيم وتعبئة تستفيد من تجارب الأمة والعالم، كما تستفيد من التطور الهائل في وسائل التواصل والتضامن بما يحقق أوسع تفاعل بين أبناء الأمة، وبينهم وبين أحرار العالم.
إلا أن التحديات الأبرز تبقى في الاستجابة لتحدي إدارة الصراع مع أعدائنا، ولتحدي إدارة التكامل بين أقطارنا والوحدة داخل هذه الأقطار ولتحدي قيام مشروع عربي مستقل يكون جزءاً من منظومة إقليمية على غرار العديد من المنظومات الإقليمية القائمة في عالمنا اليوم.



 
روابط ذات صلة
· زيادة حول معن بشور
· الأخبار بواسطة admin


أكثر مقال قراءة عن معن بشور:
السبيل الى احياء الحركة القومية العربية


تقييم المقال
المعدل: 0
تصويتات: 0

الرجاء تقييم هذا المقال:

ممتاز
جيد جدا
جيد
عادي
رديئ


خيارات

 صفحة للطباعة صفحة للطباعة



PHP-Nuke Copyright © 2005 by Francisco Burzi. This is free software, and you may redistribute it under the GPL. PHP-Nuke comes with absolutely no warranty, for details, see the license.
انشاء الصفحة: 0.05 ثانية