الرئيسية / مـقالات / العد التنازلي لحضارة 7 آالاف سنة

العد التنازلي لحضارة 7 آالاف سنة

264521_Large_20140901040052_20
نحن نسمع بمناسبة وبدون مناسبة أن الحضارة المصرية عمرها 7 آلاف سنة. وهذا طبعا حقيقي. ولكن المؤشرات الأخيرة تطرح تصورا غاية في الخطورة، ولا يجد من يتلمس ملامحه. أن هذا الوجود المصري العريق يدفع به رويدا رويدا في صمت مغطى بضباب إعلامي كثيف ومخادع إلى حافة هاوية النهاية. وبدأ هذا الدفع الصامت والخفي منذ بداية المشروع الإسرائيلي. وهذا الدفع يأتي من خلال قوى خارجية، وقوى إقليمية وقوى داخلية.
فكما قال التاريخ وأكده المؤرخ اليوناني هيرودوت (إن مصر هبة النيل) في القرن الخامس قبل الميلاد. وأكد هذه الحقيقة المفكر العلامة جمال حمدان في كتابه العظيم شخصية مصر، ولهذا كان الاهتمام بالنيل بتأليهه، والاهتمام الأقصى به وهذا يتأكد في ظواهر عديدة منها الاعترافات الإنكارية للمتوفي لحظة البعث أثناء مثوله للمحاكمة أنه لم يلوث مياه النيل المقدسة، حيث أن تلويث ماء النيل كان يعتبر من الكبائر. وكما كان هذا واضحا في كل سياسات مصر من البداية في عصر الأسرات حتى عبد الناصر في الاهتمام بالنيل، وتأمين منابعه، لأنه العمود الوحيد الذي تقف عليه مصر. حتى الإنجليز اهتموا بتأمين مياه النيل لمصر بعقد اتفاقيات دولية منذ عام 1929 تمنع أي دولة من بناء أية سدود على النيل إلا بعد موافقة مصر. اليوم تم إلغاء كل هذه الحصانات وتم تسليم النيل بالكامل لأثيوبيا تحت ضجيج إعلامي مخادع ومعمي عن اجتماعات بين مصر والسودان وأثيوبيا، وعن اجتماعات للجان دولية لدراسة أضرار السد.. والسد يعلو ويرتفع أمام أعيننا. ولم تنصاع السلطة في مصر إلى نصائح لتدويل قضية السد وعرضها على الامم المتحدة، التي رفضت في البداية تمويل السد لأنه غير شرعي، بل أصرت السلطة على المضي قدما في سياساتها تجاه السد بعد أن أعطته الشرعية بالموافقة وإتاحت الفرصة الكاملة لاثيوبيا بالاستمرار في بنائه وإلهاء المصريين باخبار عن اجتماعات ثلاثية وسداسية وتساعية نعلم جميعا أنها صورية ولا تفضي إلى شيء.
تم يأتي موقف السلطة المصرية من قضية القدس واعتراف أمريكا بها كعاصمة لإسرائيل. وقفت السلطة موقف الشجب الشكلي الفارغ من المحتوى. ولم تدعم الموقف الفلسطيني بإقصاء الولايات عن عملية السلام ورفض السلطة الفلسطينية لقاء المبعوث الأمريكي، في حين استقبلته السلطات المصرية كتأكيد للدور الأمريكي، والرئيس ترامب الذي وصفه السيسي بأنه أكثر رئيس أمريكي يفهم الشرق الأوسط. وتأتي تسريبات النيويورك تايمز لتكشف بلاوي نعلمها جميعا ولكنها كانت محجبة ويتم تمريرها هي أيضا في صمت وظلام. وتأتي الطامة الكبرى وهي بداية التسوسق الإعلامي لمشروع الشرق الأوسط الجديد. وهو مشوع إسرائيلي، طرحه شمعون بيريز في نهاية القرن الماضي، تحقق به إسرائيل أعلى درجات النجاح التي كانت شبه مستحيلة التحقق وهي إنشاء إمبراطورية ضخمة في منطقة النفوذ التاريخي المصري (الدول العربية) فكما كانت الإمبراطورية المصرية التي أسسها تحتمس الثالث من النيل إلى الفرات سنة 1425 قبل الميلاد مطمعا إسرائيليا في إنشاء دولة يهودية على نفس الحدود. أصبحت المنطقة العربية التي تعتبر مجالا حيويا للسياسة والثقافة المصرية مطمعا إسرائيليا لإزاحة مصر والجلوس مكانها على مقعد القيادة. فبعد انسحاب مصر الطوعي من قيادة المنطقة العربية، تأتي إسرائيل لوراثة المجال الحيوي المصري، وذلك في حالة تفكك رباط العروبة، ونجاح التطبيع ووجود روابط جديدة مثل (الشرق الأوسط الجديد) تعطي لإسرائيل شرعية الوجود بين العرب معتمدة على عدة عوامل:
• تفوق تكنولوجي يجعل الحكومات العربية تتسارع لربط نفسها بإسرائيل والاستفادة والتمسح فيها، ويسمح لإسرائيل بقيادة مشاريع تنموية تركيعية لحسابها الخاص في كل المنطقة العربية تحت ستار الشرق الأوسط الجديد
• تفوق اجتماعي إسرائيلي يجعلها محط آمال الشباب العربي المتعطش للديمقراطية والحرية، وهذا سيحول الدولة الصهيونية إلى وهم للعديد من الشباب الغارق في الإحساس بالدونية.
• تفوق سياحي من خلال الحرية المطلقة في المناطق السياحية والكازينوهات والفنادق والشوارع والتنظيم الجيد للمرافق السياحية حيث سترث إسرائيل كل السياحة العربية، بل وستقود السياحة الأوروبية في المناطق العربية من خلال مشاريع إسرائيلية في مصر وسوريا ولبنان والمغرب وتونس وربما العراق، تستطيع لإسرائيل تحقيق قدر عالي من الحرية والإباحية لا يستطيع مجاراتها فيه العرب، ناهيك عن الإدارة الحديثة، وسيكون كل ذلك تحت حماية (الشرق الأوسط الجديد)
• تفوق عسكري كاسح يجعلها في العقل الجمعي للعديد من العرب الغارقين في الإحساس بالدونية قوة لابد من الخضوع لها وعدم التحرش بها والتمسح والتشبه بها
وهكذا سيتم إزاحة مصر تماما من مجالها الحيوي التي عاشت سبعة آلاف سنة تستثمر وتبني فيه، وتجلس على قمته، ويتم إقصاء مصر بأيدي مصرية بعد أن تنجح مصر بغباء وعمى وخيانة في تحطيم آخر حاجز ضد إسرائيل، وآخر حاجز كان يضمن لها القيادة والجلوس على قمة الهرم العربي، وهو حاجز العروبة. ستحطم هذا الحاجز بيدها وبمحض إرادتها وحريتها بدعوتها للشرق الأوسط الجديد. فكما قال المفكر والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل “لو لم تكن هناك روابط العروبة كان يجب على مصر اختراعها، فمصر هي المستفيد الاول منها”. ستتوحش وتتضخم إسرائيل. في الوقت الذي ستتقزم فيه مصر وتتحول إلى كيان غارق في الفقر والضعف بعد استيلاء أثيوبيا على نهر النيل وتتسول مصر وتقبل أيادي وأقدام أثيوبيا من أجل قطرات مياه. وهو ما بدأت فيه بالفعل
لن يتبقى أمام إسرائيل سوى عقبة واحدة لبسط توسعها في مملكتها الموعودة (الشرق الأوسط الجديد)، وهذه العقبة هي إيران وحزب الله. ولكننا نرى بكل وضوح أن مصر والسعودية والأردن سيتكفلون بالتصدي لهذه العقبة وإزاحتها من طريق المشروع الإسرائيلي، وبهذا تكون إسرائيل حققت أقصى أحلامها، ليس بسبب الذكاء الإسرائيلي، ولكن عن طريق الجهل والغباء والخيانة العربية.
أن مصر تكتب في هذه الأيام، وعن طريق النظام الحالي شهادة خروجها من التاريخ الذي استمر 7 آلاف سنة.

د. ياسر شحاتة
فنان تشكيلي، مؤرخ، روائي

عن admin

شاهد أيضاً

نعم، أمريكا دولة عظمى.. ضعيفة

جميل مطر لكل منا، نحن محترفي وهواة الكتابة في السياسة الدولية، طريقته الخاصة في التحليل …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *