الرئيسية / أخــبار / لغة منظّمات الإغاثة في غزّة اعتراف بالإبادة وتجهيل الفاعل

لغة منظّمات الإغاثة في غزّة اعتراف بالإبادة وتجهيل الفاعل

لبيب عيد25 أيلول 2025

لطالما كانت اللغة المستخدمة لوصف الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين محل نقاش ونقد، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر ببيانات المنظّمات غير الحكومية الدولية. وهذا لا يتعلق فقط بالبيانات التي أعقبت عملية طوفان الأقصى في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بل ما قبلها بكثير، وصولاً إلى الآن بعد اتساع دائرة الإقرار بارتكاب إسرائيل الإبادة الجماعية في قطاع غزّة. فالسمة الأبرز للغة هذه المنظمات هي استخدام صفة الغائب للإشارة إلى مسؤولية إسرائيل في مقابل اللغة الفاعلة بحق المقاومة الفلسطينية. تجلّى ذلك بوضوح منذ بداية الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين، وغالباً ما تم استخدام صيغة مزدوجة: حماس تقتل وترتكب مجزرة بحق الإسرائيليين، في حين أن عدداً من الفلسطينيين يقتلون في غارات على غزة… هذه المنظمات جازمة أنّ حماس ارتكبت جرائم حرب، بينما أفعال إسرائيل هي مجرد شبهة، إذ يمكن أن ترتقي الى جريمة حرب، أو قد تكون انتهاكاً للقانون الإنساني الدولي، الأمر غير مؤكد. ولكن إسرائيل لا تخفي جرائمها، فهي تستهدف سكان غزة وتقتلهم بأبشع الطرق وتصوّرهم وتتباهى بصور وحشيتها. ما أجبر بعض هذه المنظمات على تغيير لغتها حتى لو بعد حين. لطالما كانت المنظمات غير الحكومية الدولية متأخرة في خطاباتها، وتلحق الركب بعد فوات الأوان. وبعد مماطلة طويلة في الاعتراف بالإبادة الجماعية وفظاعتها، اضطرت هذه المنظمات، تحت ضغوط خارجية وداخلية من موظفيها، إلى الدعوة للتدخّل من أجل وقف هذه الجريمة.

كان الظن أن المنظمات غير الحكومية قطعت شوطاً لا رجوع عنه فيما يخص اللغة، بعدما تبيّن أن ما يشهده العالم مباشرة على الهواء هو إبادة جماعية حقيقية ترتكبها إسرائيل في غزّة. ولكن صراع اللغة انتقل إلى مرحلة أخرى. لقد اعترفت منظمات عدّة بعد نحو سنتين بما كان جليّاً منذ البداية، وخصوصاً منظمة العفو الدولية، التي تلتها منظمات أخرى ذات ثقل. يقول المثل أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً… وإذ بنحو 22 منظمة دولية من ضمنها «إنقاذ الأطفال»، «أطباء بلا حدود»، «أوكسفام»، و«منظمة الإغاثة الإسلامية عبر العالم» وغيرها من المنظمات التي تعمل في غزة، تصدر بياناً مشتركاً في 16 أيلول/سبتمبر 2025، تطالب فيه قادة العالم بالتدخل لوقف الإبادة في غزة. حسناً، للوهلة الأولى يظن المرء أن هذا تقدّم غير مسبوق في لغة ونبرة هذه المنظمات، ولكن عندما تقرأ البيان تدرك أنه لا يوجد أي إشارة الى المجرم الذي يرتكب الإبادة! إنها إبادة تنفّذها السماء، ربما زيوس غاضب من الفلسطينيين لأنهم لم يواجهوا حماس أو فصائل المقاومة الفلسطينية، فأنزل الإبادة عليهم كعقاب سماوي. لكن لا داع للهلع، فالبيان المذكور لم يغفل مسؤولية إسرائيل كلياً، فهي مسؤولة عن طرد أهالي مدينة غزة، والجيش الإسرائيلي مسؤول عن منع المساعدات الإنسانية من الدخول، وهناك مجاعة في غزّة. من سببها؟ لا ندري. وهناك أعداد لا تحصى من الفلسطينيين الذين خسروا أضلعهم «نتيجة القصف الاسرائيلي»، وليس نتيجة استهدافهم عن سابق تصوّر وتصميم. لا إشارة مباشرة إلى مسؤولية إسرائيل عن الإبادة. إذاً، هل على قادة الدول التدخل لدى زيوس من أجل وقف الإبادة؟

للوهلة الأولى يظن المرء أن هذا تقدّم غير مسبوق في لغة ونبرة هذه المنظمات، ولكن عندما تقرأ البيان تدرك أنه لا يوجد أي إشارة الى المجرم الذي يرتكب الإبادة! إنها إبادة تنفّذها السماء

إذاً، انتقلنا إلى مرحلة متقدمة من التجهيل اللغوي لمرتكب الجريمة بحق الفلسطينيين. وهذه مرحلة لم يكن من الممكن التفكير بالوصول إليها، لأن الإبادة ليست حدثاً عادياً ومتكرراً، بل أم الجرائم، وأمامها لا مجال للضبابية أو الاختباء لأن شعب بأكمله مهدّد بوجوده، لذلك حمايته تكون أول الأولويات. ولكن ذلك لا يبدو أنه يعني المنظمات غير الحكومية الدولية. وللإنصاف، يجب التنويه أن هذه المنظّمات ليس على الدرجة نفسها من التجهيل في اللغة، فهناك منظمات متقدّمة أكثر من غيرها، وتعتمد لغة فاعلة بحق إسرائيل، مثل «أوكسفام» و«منظمة العفو الدولية» وغيرها، ولكن في البيانات المشتركة يتم الاتفاق على الحد الأدنى المشترك من أجل التوقيع على البيانات المشتركة نفسها. هل يصحّ هذا التبرير عندما يتعلق الأمر بأفظع جريمة يمكن أن ترتكبها دولة ما، أو مجموعة ما، أمّ الجرائم، الإبادة؟ كيف يمكن لمنظمات تدّعي أنه تقف إلى جانب الفلسطينيين وحقوقهم، أن تقبل بأن يتم تجهيل فاعل الإبادة وفي الوقت نفسه الاعتراف بوقوعها؟

تسوق المنظمات غير الحكومية تبريرات عدّة، معلنة وغير معلنة، للغتها المستخدمة. أبرزها الخوف من خطوات انتقامية يمكن أن تتخذها بعض الدول الداعمة للإبادة الإسرائيلية، تتراوح من وقف التمويل إلى سحب الرخص. أو الخوف من خطوات انتقامية تتخذها إسرائيل بحق المؤسسة كإغلاقها أو استهداف موظفيها، ما يمنعها من تقديم الإغاثة ويؤثّر على أعمالها. ولكن تسقط كل هذه التبريرات أمام الإبادة وتجارب منظمات أخرى أقرّت بالإبادة واتهمت إسرائيل مباشرة ولم تتحمل عواقب مختلفة عن غيرها من المنظمات. وهنا لبّ الموضوع: لماذا لم تتكلف المنظمات التي اتهمت إسرائيل بالإبادة أي كلفة نتيجة ذلك؟ الجواب واضح برأيي: لأنه تم التعامل مع الاعتراف بارتكاب الإبادة على أنه عملية لفظية أو إنشائية. يعني ذلك إعتماد آلية العمل نفسها، والبيانات نفسها مع إضافة عبارة «إبادة» الى البيانات ودعوة الدول إلى وقفها، كما تمت دعوة الدول سابقاً إلى الضغط على إسرائيل من أجل وقف انتهاكاتها للقانون الدولي. بكل بساطة، بيّنت المنظمات الدولية قصوراً رهيباً في التعامل مع الإبادة، ولم تشكّل سوى إزعاجاً إنشائياً لإسرائيل لا أكثر. وهنا يبقى السؤال، كيف كان يمكن لهذه المنظمات أن تتعامل مع الإبادة أبعد من الجهود اللغوية؟

تتبع المنظّمات الإنسانية أربع مبادئ كأسس للعمل الإنساني: أولاً، الإنسانية، أي التأكيد على وجوب الاستجابة إلى المعاناة الإنسانية مهما كانت الظروفٍ؛ ثانياً، الحياد أي عدم أخذ طرف بأي نزاع؛ ثالثاً، عدم التحيّز، أي تقديم المساعدات من دون أي تمييز ،وفق الحاجة فقط؛ ورابعاً، الاستقلالية، أي العمل بشكل مستقل عن أي اعتبارات سياسية واقتصادية وعسكرية أو أي أهداف أخرى. يمكن المحاججة أن جميع هذه المبادئ سقطت في السنتين الماضيتين، ولكن هذا ليس موضوع المقال. ولكن ما أريد قوله هو أنه معلوم أن هذه المبادئ يمكن أن تناقض بعضها، وخصوصاً مبدأ الإنسانية الذي تتمسك به منظمات الإغاثة فيما تضحي بالمبادئ الثلاث الأخرى. يمكن إعطاء مثال بسيط من غزة. إن منع إسرائيل وصول المساعدات إلى شمال غزة، بينما المنظمات الإغاثية موجودة في جنوب القطاع وتوزّع المساعدات يمكن أن يشكل تواطؤاً، غير مقصود، ويهدّد مبدأي الحياد وعدم الانحياز، إذ يصب في صالح الاحتلال الإسرائيلي الذي يريد طرد سكان شمال غزة وتكديسهم في جنوبها. فتركز المساعدات هناك يمكن أن يشكل عامل جذب لسكان شمال غزة. كما أن الشروط التي تفرضها إسرائيل والدول المانحة تحت حجة منع تمويل الارهاب يهدّد استقلالية منظمات الإغاثة. ولكن كون مبدأ الإنسانية، أي الاستجابة إلى المعاناة الإنسانية، هو الأسمى، فإنه يدفع منظمات الإغاثة إلى التضحية بجميع المبادئ، إذ أن الهدف هو إنقاذ حياة الإنسان. فلو نجحت إسرائيل بتطهيرها العرقي ودفع الفلسطينيين إلى سيناء، على الأرجح أن تتهافت المنظمات الإنسانية إلى إغاثتهم تحت حجة مبدأ الإنسانية، فتساهم بشكل مباشر في المشروع الإسرائيلي.

تختار منظمات الإغاثة إيهام نفسها بأنها ستبقى حريصة على تحقيق مبدأ الإنسانية، لأنها حتى الآن تستطيع تقديم فتات من الإغاثة في بعض مناطق غزة

مع الإبادة والاعتراف بها، تكون إسرائيل قد أرست الظروف لاستحالة احترام أي من المبادئ الأربع. ولكن تختار منظمات الإغاثة إيهام نفسها بأنها ستبقى حريصة على تحقيق مبدأ الإنسانية، لأنها حتى الآن تستطيع تقديم فتات من الإغاثة في بعض مناطق غزة. بالتالي فهي تحرص على ألا تتحمل أي عواقب جراء الإقرار بحصول الإبادة. مثلاً، أصدرت إسرائيل شروطاً جديدة لتسجيل المنظمات الدولية، وطلبت من هذه الأخيرة إعادة طلب التسجيل لتتمكن من الاستمرار بالعمل داخل الأرض المحتلة. فهذه الشروط تنزع التسجيل عن المنظمات التي تسعى «إلى نزع شرعية إسرائيل»، أو تلك التي تدعو إلى العقوبات والمقاطعة، وتشترط إسرائيل على المنظمات طالبة التسجيل أن تقدّم معلومات دقيقة ومفصلة عن الموظفين الفلسطينيين لديها وعوائلهم. ما يعني أن إسرائيل تطلب من منظمات الإغاثة العمل كمخبرين لها. أصدرت المنظمات بياناً مشتركاً لرفض الشروط الجديدة ولكنها لم تعلن عما إذا كانت ستتقيّد بها. ما سيحصل على الأرجح، أو ربما حصل، هو أن بعض المنظمات ستتقدّم بالمستندات المطلوبة كتلميذ نجيب، وستتقدّم أخرى ببعض المتطلبات وليس جميعها خصوصاً فيما يتعلق بالموظفين الفلسطينيين، يمكن أن ترفض بعض المنظمات تقديم أي مستندات، ولكنها ستكون نادرة جداً. السبب الرئيس لطواعية هذه المنظمات هو حرصها على عدم إغلاق مكاتبها في فلسطين كي تبقي على فتات المساعدات، وأن تبقى «شاهدة» على الانتهاكات، وأن تبقي تمويلها المرتبط بالإغاثة للفلسطينيين.

ختاماً، نعود للسؤال الأساسي: كيف كان يمكن لهذه المنظمات أن تتعامل مع الإبادة أبعد من الجهود اللغوية؟ كما ذكرنا آنفاً تعتبر جريمة الإبادة أم الجرائم. وحين يتم الإقرار بها من قبل منظمات الإغاثة، يصبح الإنشاء من دون معنى. للدول مسؤولية قانونية تحت اتفاقية منع الإبادة، ولكن للمنظمات غير الحكومية مسؤولية معنوية، وهي تبدأ بالإعلان عن موت مبادئ العمل الإنساني الأربع، أو بالأحرى الإعلان عن أن اسرائيل قتلت العمل الإنساني. ثانياً، مقاطعة الدولة التي تبيد، أي إسرائيل، والدعوة الصريحة إلى المقاطعة وفرض العقوبات وسحب الاستثمارات، ليس بما يتعلق بالمستوطنات فقط بل بكل دولة إسرائيل. ثالثاً، تنفيذ هذه المقاطعة وتحديداً بحق الشركات التي تساهم في جهود إسرائيل في الإبادة، أولها تلك المتعلقة بالتكنولوجيا والمعلومات التي تستخدمها هذه المنظمات في عملها اليومي. وغيرها من الخطوات التي يمكن اتخاذها، ولكن هذه الخطوات الثلاث هي أضعف الإيمان. 

أمام إبادة شعب بأكمله بهذا الشكل تسقط كل الاعتبارات والحساسيات. فإذا لم تتخذ هذه المنظمات خطوات ملموسة ضد الإبادة، فان الأمر لا يعود مجرد قصور بل يصبح تواطؤاً مع أمّ الجرائم.

عن admin

شاهد أيضاً

في ذكرى رحيل القائد جمال عبد الناصر – بقلم احمد الحبوبي

في 28 من هذا الشهر (أيلول/سبتمبر) يمر 55 عاماً على رحيل القائد جمال عبد الناصر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *