
في الثاني من آذار/مارس الجاري، زار نائب رئيس مجلس الوزراء، كامل الوزير، منطقة الهشيمة في مدينة رأس الحكمة لمتابعة عمليات تنفيذ هدم المنازل في المنطقة. وقد رافقه في الزيارة محافظ مطروح خالد شعيب، ورئيس الإدارة المركزية للشؤون المالية والإدارية بوزارة النقل والمسؤول عن التفاوض مع السكان العميد حسام السيسي. وتعتبر عمليات الهدم جزءاً من المرحلة الأولى من مشروع يمتدّ على طول كيلومترين على الشاطئ الشمالي، ويندرج ضمن صفقة استثمارية كبرى، أبرمتها مصر مع الإمارات العربية المتحدة في شباط/فبراير 2024. وقد جرت وسط انتشار أمني مكثّف مع وجود جرّافات وعربات مُدرّعة، وفق ما وثّقته مقاطع فيديو
متداولة على مواقع التواصل الاجتماعي.
يُطرَح المشروع باعتباره «مدينة الأحلام»، لكن بالنسبة إلى السكان فإنه يتجاهل حقوقهم لصالح المستثمرين الكبار. والواقع أن عمليات الهدم أثارت استياء الأهالي الذين يمتلكون عقوداً قانونية تثبت ملكيّتهم للأراضي والمنازل، كما لاقت اعتراضاً من الأهالي المتضرّرين الذين وصفوا التعويضات المطروحة بأنها غير عادلة ولا تتناسب مع القيمة السوقية لأراضيهم. وقد ألقى بعضهم الحجارة على القوات الأمنية احتجاجاً على عمليات الإخلاء.
إخلاءات رأس الحكمة
وقّعت الحكومة المصرية في العام 2018 اتفاقية مع برنامج «المستوطنات البشرية» التابع للأمم المتّحدة (UN-HABITAT)، تهدف إلى تطوير مدينة رأس الحكمة كجزء من مشروعات المدن الذكية الحديثة. وبحسب الموقع الرسمي
للبرنامج، تم اختيار تحالف دولي يضم شركة بريطانية وأخرى مصرية كشركاء رئيسيين في التخطيط للمدينة الجديدة، إلى جانب الإشراف على مشروعات أخرى ضمن مدن الجيل الرابع الذكية في مصر. وشرعت الحكومة من حينها في إخلاء مساحة كيلومترين مربّعين موازية للشاطئ بعمق 25 كيلومتراً داخل المدينة، وشمل ذلك نزع ملكية أراضي نحو 3,000 أسرة.
شهد ملف إخلاء مدينة رأس الحكمة سلسلة من التعديلات على مدار الأعوام السابقة، إذ بدأت الحكومة في العام 2018 بتقدير تعويضات بقيمة 150 ألف جنيه للفدان الواحد، بينما تراوحت تعويضات المباني بين 2,000 و5,000 جنيه للمتر السكني. ومع تزايد المطالبات برفع التعويضات لتتناسب مع القيمة الفعلية للأراضي، تم في hgعام 2024 تعديل قيمة الفدان إلى 300,000 جنيه، إلى جانب إقرار زيادة بنسبة 30% لمن حصل على إجمالي تعويضات أقل من 500,000 جنيه. ومن جهته، صرّح المتحدث الرسمي باسم مجلس الوزراء، محمد الحصاني
، أن إجمالي قيمة التعويضات التي تم صرفها تجاوزت 6 مليارات جنيه.
يضع قانون
نزع الملكية للمنفعة العامة مجموعة من الضمانات والإجراءات لضمان حقوق المواطنين في حالة نزع ملكية عقاراتهم، وتشمل هذه الإجراءات تقدير التعويضات من خلال لجنة متخصّصة في كل محافظة، فتُحدد القيمة بناءً على الأسعار السائدة وقت صدور القرار، مع إضافة نسبة 20% إلى المبلغ المُقدّر لضمان تعويض عادل. كما يُلزم القانون الجهة المنفذة بإيداع كامل مبلغ التعويض في حساب مصرفي حكومي في خلال 3 أشهر من صدور القرار، وفي حال التأخير، تصبح ملزمة بدفع تعويض إضافي وفقاً لسعر الفائدة المعلن من البنك المركزي.
لا يزال «شمس الحكمة الجديدة»، وهو مشروع من المفترض أن يكون الملاذ البديل لأهالي رأس الحكمة، قيد التطوير على الرغم من بدء عمليات الإخلاء. فمنذ الإعلان عنه رسمياً في آب/ أغسطس 2024، وإلى الآن، لم يتم تجهيز المنطقة بشكل كامل، ما أثار قلق السكان الذين اضطر بعضهم إلى البحث عن سكن بديل على نفقتهم الخاصة.
ويقع الموقع الجديد الذي حدّدته الحكومة كبديل سكني للأهالي شمال الطريق الساحلي ويمتد على مساحة بطول 7 كيلومترات وعرض يصل إلى 3 كيلومترات، وقد واجه منذ البداية تحديات عدّة، أبرزها اعتراض بعض القبائل المحلية على استقبال الأهالي المهجرين. كما أن المرافق والخدمات التي وُعد السكان بتوفيرها، مثل الكهرباء والمياه والغاز، لم تُنفذ حتى الآن، ما زاد من حالة عدم الثقة بين الأهالي والحكومة.
وفي ظل عمليات الإزالة التي تشهدها المنطقة، يستند التنفيذ إلى القرار الجمهوري رقم 55 الصادر في العام 2024، الذي نصّ على تخصيص مساحة 170.8 مليون متر مربع من أراضي مطروح لصالح هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بهدف إنشاء مدينة رأس الحكمة الجديدة. ويأتي هذا القرار استكمالاً للقرار
رقم 226 الصادر في العام 2023، الذي أعاد توزيع أراضي رأس الحكمة بين جهات عدة، فقد خُصصت أجزاء للقوات المسلحة، ومحافظة مطروح، ووزارة النقل والمواصلات، لاستخدامها في مشروعات البنية التحتية، بما في ذلك القطار الكهربائي السريع.
الاتفاق المصري – الإماراتي
وصف رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، الخطوة بأنها «أكبر صفقة استثمار أجنبي مباشر في تاريخ البلاد». وقد شهد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ورئيس دولة الإمارات محمد بن زايد آل نهيان، توقيع عقد تطوير وتنمية مدينة رأس الحكمة. ووفقاً للتصريحات الرسمية
، تتضمّن الصفقة استثمارات بقيمة 35 مليار دولار في خلال شهرين، مع توقعات بأن يصل إجمالي الاستثمارات في المشروع إلى 150 مليار دولار على مدار فترة التنفيذ.
واعتبر مدبولي أن الاتفاق يمثل «شراكة وليس بيع أصول»، موضحاً أن مصر ستحصل على 35% من أرباح المشروع، كما أن الصفقة تهدف إلى تحقيق استقرار نقدي، وخفض التضخم، والقضاء على السوق الموازية للدولار.
تنقسم استثمارات الصفقة إلى دفعتين، الأولى بقيمة 15 مليار دولار تشمل 10 مليارات دولار سيولة نقدية و5 مليارات دولار تنازل عن ودائع إماراتية، والثانية 20 مليار دولار تتوزّع بين 14 مليار دولار سيولة و6 مليارات دولار تنازل عن الودائع، ليصل صافي المدخل الدولاري الجديد إلى 24 مليار دولار. كما سيتم استخدام 11 مليار دولار من ودائع الإمارات لسداد جزء من الدين الخارجي لمصر وتعزيز احتياطيات البنك المركزي، وقد تم بالفعل تحويل الدفعتين الأولى والثانية.
وقد جاء الإعلان عن مجموعة «مدن القابضة» الإماراتية من قبل الشركة الاستثمارية التابعة لحكومة أبوظبي «القابضة ADQ» كمطور رئيس للمشروع، حيث ستتولّى وضع المخطط الرئيس والتنفيذ على مراحل بالتعاون مع مطورين مصريين وعالميين. وستشرف على تطوير المرحلة الأولى، التي تبلغ 50 مليون متر مربع، وتركز على البنية التحتية السياحية، بينما سيتم تطوير 120 مليون متر مربع المتبقية بشراكات مختلفة.
تأسّست شركة «مدن القابضة»، التي كانت تُعرف سابقاً باسم «كيو القابضة»، كشركة مساهمة إماراتية في العام 2005، وتم إدراجها رسمياً في سوق أبوظبي المالي
في كانون الأول/ديسمبر 2017. يبلغ رأس مال الشركة 16.347 مليار درهم، بينما تُقدر قيمتها السوقية بنحو 47.73 مليار درهم. ويمتلك مواطنو دولة الإمارات الحصة الأكبر من أسهم الشركة بنسبة 94.13%، في حين تتوزع النسبة المتبقية بين المستثمرين الأجانب بنسبة 5.44%، ودول مجلس التعاون الخليجي 0.09%، والمستثمرين العرب 0.34%.
أبرمت «مدن القابضة» سلسلة اتفاقيات لتطوير المشروع، أبرزها في البنية التحتية مع شركة «طاقة» لتطوير وتمويل مشاريع البنية التحتية، وشركة «&e مصر» لتنفيذ البنية التحتية للمدينة الذكية، و«أوراسكوم للإنشاءات» كمقاول رئيس للبناء. وكذلك مشاريع في الطاقة والكهرباء مثل مذكرة تفاهم مع «السويدي إليكتريك» لتوريد مواد البناء والطاقة. فضلاً عن اتفاقية مع «مطارات أبوظبي» لتصميم وتشغيل مطار رأس الحكمة الجديد. وتعاون مع «مونتاج إنترناشيونال» و«أكور – ينيسمور» لتطوير الفنادق والمنتجعات، واتفاقية مع «فالديرما» لإنشاء ملاعب غولف. بالإضافة إلى مذكرة تفاهم مع برجيل القابضة» لإنشاء مرافق رعاية صحية متخصصة. كما إطلاق شركة «نيو الشرق الأوسط» بالشراكة مع «سايفن» القابضة لدعم قطاع المركبات الكهربائية في الشرق الأوسط ومصر.
مجموعة «مدن القابضة» بأنها أحرزت تقدماً في وضع المخطط الرئيس للمشروع، وذلك منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2024، في إطار خطط التطوير والاستثمار المتفق عليها بين مصر والإمارات. وبحسب المخططات الأولية، ستشمل المدينة قطاعات رئيسة عدة، وستضم منطقة سكنية تمتد على مساحة 80 مليون متر مربع، تتضمن 190 ألف فيلا وشقة، وتستوعب ما يقرب من مليوني نسمة. كما ستشمل قطاعاً تجارياً وترفيهياً على مساحة 12 مليون متر مربع، يضم مراكز تسوق ومرافق ترفيهية، بالإضافة إلى منطقة حرة واستثمارية تهدف إلى جذب الأعمال والمستثمرين الدوليين. وسيتم إنشاء 5 مراسٍ بحرية، مع تخصيص 25% من إجمالي المساحة للمساحات المفتوحة.
تدفقات مالية لم توقف نزيف العجز
على الرغم من التدفقات الدولارية الكبيرة التي شهدها الاقتصاد المصري بفضل أموال رأس الحكمة، والتي أسهمت في رفع صافي الاستثمار الأجنبي المباشر إلى 23.7 مليار دولار، استمرّ عجز الحساب الجاري في التفاقم. أظهرت بيانات
البنك المركزي المصري اتساع العجز الذي قفز بنسبة 225% خلال الأشهر التسعة الأولى من العام المالي 2023-2024 ليصل إلى 17.1 مليار دولار، كما سجل الربع الأول من العام المالي 2024-2025 وحده عجزاً بقيمة 5.9 مليار دولار، بزيادة 110.5% مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.
تكشف هذه الأرقام عن إشكالية اقتصادية بنيوية، فالتدفقات المالية على الرغم من ضخامتها لم تسهم في سد العجز أو تحسين الوضع الاقتصادي، بل استُهلكت في مدفوعات الديون، والفوائد المرتفعة، والواردات الضرورية. كما أن جزءاً كبيراً منها لم يكن استثماراً إنتاجياً حقيقياً، وإنما تمثل في صفقات عقارية مباشرة، مثل صفقة رأس الحكمة، التي تمت من دون شفافية.
بنهاية الربع الأول من العام المالي الحالي، ارتفع الدين الخارجي للبلاد إلى 155.2 مليار دولار، بالمقارنة مع نحو 152.9 مليار دولار في الربع الأخير من العام المالي الماضي، بزيادة 2.3 مليار دولار في خلال 3 أشهر فقط. بينما ارتفعت فجوة التمويل الخارجي
إلى 12 مليار دولار في العام المالي الجاري، بالمقارنة مع 8 مليارات دولار في 2023-2024.
أوجد الاعتماد المفرط على التمويل الخارجي نفوذاً سياسياً واقتصادياً للدول الممولة، ومنها الإمارات، التي أدّت دوراً رئيساً في الصفقة، وهي أكبر مستثمر عربي في مصر. هذا النفوذ الذي لا يقتصر فقط على سيطرة صناديق الاستثمار الخليجية على قطاعات حيوية في الاقتصاد المصري، بل يمتد إلى تأثير صندوق النقد الدولي على القرارات الاقتصادية للبلاد، بعد أن أصبحت مصر ثالث أكبر مقترض من الصندوق.


