
**** تنويه:
عمرُ هذا النص 23 عاماً؛ قدّمته ورقةً أمام المؤتمر القومي العربي, في دورته الاستثنائية ببيروت في أكتوبر 2002, وأجده اليوم عظيم صلةٍ بما أُفرج عنه أمس من وثائق لانغلي حول اغتيال كينيدي
………………………………………………….
20 أيلول 2002
لا أقصد – من نقطة البداية – أن أبدّي ما أعتقده من جذر عربي يرتع في خلفية الحدث, ضمن حزمة من جذور.. بعضها بادٍ وجلّها ظليل, وإنما تبيان ما طال تجاهله أو إغفاله, أو ربما عدم التنبّه اليه من الأساس.
عُرف عن جون فيتزجيرالد كينيدي تأثّره الشديد بوالده جوزيف كينيدي, والذي خدم سفيراً في بريطانيا في عهد فرانكلين روزفلت, وكان من أشد المحبّذين لبقاء الولايات المتحدة على الحياد في الحرب العالمية الثانية (وهي فترة دامت من 1939 وحتى 1941), ومن أشد المعارضين للانخراط بها ضد ألمانيا النازية نصرةً لبريطانيا (قبل بيرل هاربر). بنى جوزيف كينيدي قاعدة ثرائه من تجارة الكحول الممنوعة في الثلاثينات, واشتهر بتبنّيه للقضية الأيرلندية ضد المحتلّ البريطاني. وما من شكّ في أن انخراطه في تجارة كهذه ربطته, خصومةً وتوافقاً, مع المافيا الأمريكية, مما ترتّبت عليه آثار لاحقة في عهد ابنه.
أراد جوزف كنيدي أن يزاوج امبراطورية المال بامبراطورية السياسة عبر تعهّده دخول أولاده حلبة الأخيرة, رغم فجيعته بفقدان ابنه البكر.. ومن هنا وجدنا الابن الثاني, جون, وقد وصل الى معقد السناتور عن ولاية ماساشوستس وهو في سن مبكرة, ومستمدّاً المشورة – فضلا عن الوالد – من أخيه روبرت.
في فترته كسناتور, اشتهر جون كينيدي بنصرته لقضية استقلال الجزائر وضرورة جلاء المحتلّ الفرنسي عنها, ثم بانفتاحه على حركة القومية العربية منادياً بالوفاق معها. كان في ذلك رائداً, وبعلم أن التوجّه العام للمؤسسة الحاكمة كان في مكان آخر.
مثّل جون كينيدي جيل شباب ما بعد الحرب العالمية الثانية, والذي تطلّع الى ارتياد عالم جديد قادته الولايات المتحدة بقوة المثَل, وبما أدّى بالضرورة الى هزيمة الخصم الأيديولوجي لليبرالية الغربية, أي المعسكر الشيوعي, بالنقاط, عبر توفير البديل الأفضل والأكثر حيويةً ووعداً.
كان قريباً من المدرسة الكينزية التي نادت بإزالة شوائب النظام الرأسمالي عبر حقنه بجرعات قوية من مصل العدالة الاجتماعية وتقريب الفوارق بين الطبقات, ومن ثم استشراف آفاق دولة الرعاية التي تتيح لجموع العاملين فرصة الانتفاع بمنافعها, ومن ثم التحصّن ضد احتمال التلوث بالعقيدة الماركسية.
قرّر كينيدي الترشّح للرئاسة, خلال العام 1959, وهو يعلم أن كونه من الأقلية الكاثوليكية قد وضعه على مسافة ملحوظة من منافسه ريتشارد نيكسون, سيما والأخير هو نائب الرئيس ذي الشعبية, الجنرال أيزنهاور.
إلّا أن نداء الشباب والمستقبل إضافة للكاريزما الشخصية, ثم الصفقات التي عقدها الوالد مع بعض المفاتيح الانتخابية (ديلي في شيكاغو) استطاعت أن تحقّق شبه المستحيل وأن تمكّن جون كينيدي من الفوز في انتخابات تشرين-2/نوفمبر 1960, ولو بفارق زهيد من الأصوات.
والثابت أن ملامح المؤسسة الحاكمة (وكانت أساساً شرقية التمركز) قد اتّسمت, ما بين 1942 و 1960, بكونها ممثّلةً للمجمع العسكري–الصناعي, وأجهزة الأمن القومي, وحليفاتهم من الشركات الكبرى في حقول النفط والمال والإعلام, ومن هنا قيمة التحذير الشديد – والتاريخي– والذي أطلقه الجنرال أيزنهاور, عقب انتهاء رئاسته, في كانون-2/يناير61, محذّراً من شرور ومخاطر هيمنة المجمع العسكري–الصناعي على الحياة السياسية في الولايات المتحدة.
تجلّت سياسة المؤسسة, إثر أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها, في شنّ الحرب الباردة ضد المنظومة الشيوعية بما شملته من خوض سباق تسلّح متصاعد لم يعرف حدوداً أو قيوداً.
كان من رموز دولة الأمن القومي حينها آلن دالاس, مدير وكالة المخابرات المركزية, وشقيقه جون فوستر دالاس, وزير الخارجية, (توفّي في العام 59) وادغار هوفر, مدير وكالة المباحث الفيدرالية.
في تلك الفترة, كان التحدّي المباشر للسياسة الأمريكية في حديقتها الخلفية (الأمريكيتين الوسطى والجنوبية) هو النظام الوليد في كوبا بقيادة فيديل كاسترو, والذي ابتدأ وطنياً راديكالياً, عندما وثب الى السلطة مطلع العام 1959, لكنه تحوّل شيئا فشيئا الى اعتناق الشيوعية.. وأزعم أن ذلك تمّ اضطراراً لا خياراً – أقلّه بدءاً – لهول ما جُوبه به من عداوة وكالة المخابرات المركزية منذ لحظاته الأولى.. إذ أرادته نظاما خاضعاً ومحسَّناً عن سلفه باتيستا، وأراد أن يكون مستقلّ الإرادة، فانزاح رويداً إلى الشرق, طلباً للحماية من الجار الكبير, ملتحفاً بخصمه السوفييتي الكبير.
في الشهور الأخيرة من إدارة أيزنهاور, وبعد فشل العديد من محاولات التآمر والضغط, قررت وكالة المخابرات المركزية اللجوء لأسلوب الغزو المسلّح لكوبا. لم يكن لانتقال السلطة من إدارة جمهورية إلى إدارة ديمقراطية أن يؤثّر على خطط الوكالة, إذ سارعت إلى تطمين الرئيس الجديد بأنها – الخطط- لن ترى الفشل, بل ونجاحها مضمون, وبوعد أن ليس من حاجة لتدخّل جوي أمريكي (واقع الأمر كان أنها علمت قبل أسبوع من موعد التنفيذ بعلم المخابرات السوفييتية بالغزو لكنها مضت في خطتها لكي تلبّس كينيدي وزر الفشل).
مشى الرئيس الجديد مع خطط الوكالة ظنّاً منه بأن تأكيداتها الواثقة قاطعة.. ليكتشف, في نيسان/أبريل 1961, أن غزو خليج الخنازير كان فضيحة بكل المقاييس, وليُصعَق بالوكالة تلحّ في استدعاء تدخّل جوي نصير. خبط كنيدي رجليه في الأرض ورفض الطلب, وحمّلها وزر التسبّب بهزيمة معنوية لهيبة الولايات المتحدة.
ماذا فعل الرئيس كينيدي حينها؟.. أقال مدير الوكالة, آلن دالاس, ما اعتبرته دولة الأمن القومي خطيئةً لا تغتفر, لِما مثّله الرجل من توجّهات المؤسسة الحقيقية في الهيمنة الكونية الشاملة, سواك عن الحديقة الخلفية.
جرّب كينيدي, صيف ذات العام, أن يمضي في طريق تخفيف سعار الحرب الباردة, عبر اللقاء مع نظيره السوفييتي, نيكيتا خروتشيف, في فيينا, ولم يوفّق لأن قيود المؤسسة كانت كابحة.
لكنه ارتكب خطيئة العمر- في نظر المجمّع – عندما رفض غزو كوبا واجتياحها, في تشرين-1/أكتوبر 1962, واكتفى بفرض الحصار البحري حولها, ثم عقد صفقة رفع الحصار عنها مع خروتشوف, مقابل تفكيك الصواريخ البالستية من القواعد الأطلسية في تركيا.
بعد تلك المواجهة, اتّجه تفكير الرئيس كينيدي الى ضرورة تخفيض وتائر الحرب الباردة, وتوجيهها وجهة سلمية تنافسية. عبّر عن نزوعه بجلاء في خطابه بالجامعة الأمريكية بواشنطن, في حزيران/يونيو1963, عندما تحدّث بقوّة عن ضرورة السيطرة على سباق التسلح النووي قبل أن اشتطّ ليصبح مصدر استنزاف للجميع, وبؤرة توتّر قد ينفلت من عقاله ولو بأسلوب الحرب غير التقليدية.
منذ أوائل الستينات, بدأت “المؤسسة” في التدخل المباشر, العسكري وشبه العسكري, في فيتنام ولاوس, بحجّة جبه التغلغل الشيوعي في هذه البلدين, ووصل حجم القوات الأمريكية في فيتنام الجنوبية, مع عام 1963, إلى 16 ألف جندي.
شعر كينيدي, مع صيف ذلك العام, أن فيتنام تحوّلت تدريجيا الى مصيدة استنزاف للقوة الأمريكية, وأن الانفكاك عنها ضروري, ومن هنا عزمه على سحب كل القوات إن فاز في انتخابات الرئاسة, في تشرين الثاني/نوفمبر 1964.
جملة السياسات تلك: توجيه الحرب الباردة وجهةً سلميةً تنافسية – نيّة الانسحاب من فيتنام –, رفضه غزو كوبا/1962 –, تبرّؤه من خليج الخنازير وإقالته المسؤول عنه, شكّلت جلّ حوافز قرار المجمّع العسكري-الصناعي/دولة الأمن القومي تصفية جون كنيدي قبل أن استفحل خطره عبر إرادة شعبية عادت به للبيت الأبيض, في تشرين-2/نوفمبر1964, وتمكّن عبرها من تحويل دفّة المؤسسة من وجهة الصراع الى وجهة التنافس عبر قوة المثَل.
يُضاف هنا سبب داخلي ذو قيمة, هو قرار كينيدي الرئيس, وشقيقه روبرت وزير العدل, تصفية شبكات المافيا مرة والى الأبد, وبالتالي استئصال شأفة الجريمة المنظمة, والتي جثمت عبئاً على المجتمع المدني الأمريكي لعقود طويلة.
الآن.. ما هي الأسباب العربية, والتي تنضاف الى مجموعة الأسباب الدولية والداخلية السالفة الذكر؟
لعلّ جون كنيدي هو الرئيس الأمريكي الأول والأخير الذي فتح ملف قضية اللاجئين الفلسطينيين, وحاول – من منظوره – التوصل الى حلول لها. طبيعيٌ أن رغبته لم تكن تمكين مليوني لاجئ (حينها) من العودة الى ديارهم, لكنه فكّر في حلول وسط مكّنت بعضهم من ذلك (وبما لا يسرّ, حُكماً, اسرائيل وحلفاءها الأشدّاء في واشنطن). عبّر كينيدي عن رغباته في رسائله الشهيرة لجمال عبد الناصر, خلال ربيع وصيف العام 1961, وعُرفت برسائل كنيدي–ناصر, في ملفّات التاريخ.
في العام 1957, قام غي موليه, رئيس وزراء فرنسا الاشتراكي, وأحد المتواطئين الثلاثة في الحرب على مصر عام 1956 (حليفاه: إيدن وبن غوريون), بمنح اسرائيل مفاعلاً ذرياً عالي الطاقة مكّنها, خلال عقد, من امتلاك السلاح الذرّي.
لم تعترض إدارة أيزنهاور على الخطوة الفرنسية تلك بظنّ أنه طالما الوتيرة تحت سيطرتها, وكذلك قرار الاستخدام من عدمه, فلا ضرورة لوجوب الحظر.
في المقابل, كان نهج كينيدي, من لحظة تسنّمه مقاليد الرئاسة, وقف انتشار السلاح النووي بأي ثمن, وقصرُه على مالكيه الأربعة – لحينه -: الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا, ومؤخّراً فرنسا. ركّز انتباهه على من على الطريق, وهم الصين والهند وإسرائيل, فقرّر منع الأخيرتين بما وسعه الجهد؛ وأّما الصين فالله غالب.
ومنذ أيار/مايو16, تبلّغت إسرائيل وجوب خضوعها للتفتيش الأمريكي الدوري, مرتين في العام, لكنها ولعامين ونيّف تحايلت وماطلت ومانعت وتملّصت, ما استطاعت لذلك سبيلاً, من الانصياع الأمين لذلك التبليغ, مؤيَّدةً بأعوانها الأشدّاء في دولة الأمن القومي وفي الرأس منهم جيمس جاسُس أنجلتون, مدير عمليات “الوكالة” ومسؤول الاتصال مع الموساد.
تنبّه كينيدي, مع ربيع 63, الى عصيان إسرائيل لنواهيه فما كان منه إلّا أن استدعى بن غوريون للقائه في واشنطن, في حزيران منه, لينذره فيه بحتمية الانصياع وإلّا. خرج الأخير من اللقاء ليستقيل من توّه أمام الكنيست.
كانت تلك أسباباً وجيهة إضافية, أوصلت دولة الأمن القومي للقناعة الحاسمة بأن جون كينيدي خطرٌ ماحقٌ على كل توجّهاتها القارّية, فهو مساومٌ مع الخطر الأكبر – المعسكر الشيوعي- لدرجة التسليم بضرورة سلمية الصراع وتخفيض وتيرته.. ومسالمٌ مع حركة التحرر الوطني في العالم الثالث لدرجة التعايش والتحمّل, وكلاهما هرطقة مستحيلة القبول بحالٍ من الأحوال.
نُفّذ قرار الإعدام في 22 تشرين-2/نوفمبر 1963 في دالاس, وأشرف على التنفيذ نائب الرئيس, ليندون جونسون, فقام بمسح آثار كينيدي في السياسة الخارجية, واختفت بذلك ومضة في التاريخ الأمريكي المعاصر كان لها أن تغيّر وجهه.. لولا عصف “حزب الحرب” بها بالقتل العمَد.